الخميس ٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم عبد الرضا علي

شيخ المشردين

[ تنبيه: لمناسبة حلول الذكرى التاسعة والثلاثين لرحيل شيخ المشرّدين في العراق المرحوم حسين مردان إلى عالم الخلد(في 4/10/ 1972م) رأينا من المناسب أن نوفّر للقارئ الكريم ما كنّا قد دوّناه عنه في كتابنا الموسوم بـ"الذي أكلت القوافي لسانه وآخرون" فقد يجد في دراستنا بعض ما نزعم من فائدة، لذلك اقتضى التنويه.]

الصورة:

لا يعرف حسين مردان هو نفسه متى ولد، حتى أنه يشكك في تاريخ ولادته المدون في دفتر النفوس (1927)، أما الأرض التي شاهدت وجهه لأول مرة فهي تقع في قضاء طويريج، وتدعى اليوم الهندية.. وقد قضى السنين الأولى من طفولته متنقلاً مع والده بين مدن الفرات الأوسط. حتى انتقل إلى قضاء الخالص، وهناك ترعرع، ودخل المدرسة الابتدائية.

وفي المدرسة كان يود كافة الدروس عدا درسي اللغة الإنجليزية، والحساب، وتمضي السنون ويضطره شظف العيش أن يعمل في مختلف المهن بما فيها عامل بناء يحمل الطين إلى الطابق الثاني، أو الثالث.

وفجأة يقرر هجر المدرسة، والمجيء إلى بغداد، وكان حين ذاك في العشرين من عمره، فتلقفهُ شارع الرشيد.. الفساتين الملونة والزجاج، فقال في نفسه: من هذا الرصيف الرمادي ستبدأ مسيرتي الصعبة نحو قمة الجبل.

وفي تلك الأيام الرهيبة التقى بوجه الجوع الأصفر،: فكان لا يتناول في اليوم أكثر من وجبة واحدة [صمونة نصف سمراء مع كأس من الشربت ].. أما النوم فهو المشكلة الأساسية الرئيسة التي كانت تشغل أكبر مساحة من ذهنه.

وقد وجد الحل أخيراً في عدم النوم، فكان يذرع المدينة عرضاً، وطولاً إلى أن يبزغ الفجر، وعندما كان يهيمن النعاس على عينيه يلتجئ إلى اقرب بستان للحصول على غفوة صغيرة.. وكان عدوه الوحيد في تلك الفنادق الهوائية هو البعوض (كما ذكر عبد المجيد الونداوي).
وكانت الدهشة في بغداد تشده من كل جانب، حتى وصل إلى "مقهى الزهاوي" حيث يجلس بعض الأدباء فكان حماسه، وولعه الشديد في المناقشة والجدل، وأفكاره المتطرفة في الشعر والأدب قد وضعته تدريجياً في المكان اللائق بين أصدقائه الجدد.

وظلت مشكلته الرئيسة (النوم) تشغله باستمرار، وبوساطة صديقه الشاعر صفاء الحيدري استطاع أن ينتقل من الحدائق العامة إلى شقة محام كان يعمل عندهُ صفاء، فكان هذا المحامي يؤوي حسين مردان في الليل ويتركهُ ينام في شقتهِ، ثم تهيأت له فرصة العمل في جريدة "الأهالي" مخبراً، ومصححاً، فأتخذ من عريشة عجيبة في مطبعتها قريبة من سقف غرفة صف الحروف بيتاً يصعد إليه " لا يتذكر عبد المجيد الونداوي" ما إذا كان فراشه من قماش أو قش.

لقد ألف حياة التشرد.. بل أحبها بتلذذ وارتياحٍ تامين، لكونه كان عبد حرية لا تطاق.. حرية ترفض أن تربط حتى بشعرةٍ رفيعة، إلى جانب شعور مركز ومرعب بالوحدة..

فتوصل إلى حقيقة مخيفة، مفجعة هي انه محكوم بالركض وراء المستحيل، وان الموت هو الدرب الوحيد الذي يصل إلى الهدوء، لذا فكر بالانتحار! ولما كان يخجل من تهمة الهزيمة تخلى عن هذا الاتجاه فكان لابد له أن يزج بنفسه في صميم الحياة فأبدع في كل المجالات (والحديث يطول فيها) الأدبية التي مارس فيها فنون القول: الشعر، والمقالة، والنقد الأدبي، والنثر المركز، وغيرها. فكان واحداً من أبرز أدباء العراق المحدثين.. وظل كتلة من نار حتى توقف قلبه عن الخفقان في فجر يوم 4/10/1972 م في مدينة الطب.

في المحاكم

في أواخر سنة 1949م صدر ديوانه الأول " قصائد عارية " فأثار عاصفة من النقد، وأحدث (ضجّةً) في الأوساط الأدبية في العراق، وكان أشبه بالزوبعة في التحدي، والتمرد.
فأمرت السلطات بمصادرة الديوان وتقديم الشاعر إلى المحاكم، وقد استمرت المحاكمة أكثر من شهر، وشُكلت لجنة أدبية من كبار الأدباء فقررت اللجنة أن ما جاء في ديوان الشاعر لا يشكل جريمةً ما، فقررت المحكمة الإفراج عن الشاعر، وديوانه.

وفي الرابع والعشرين من حزيران العام 1950م أصدر الشاعر مجموعته "اللحن الأسود" في كراس خاص، فأمرت السلطات بمصادرته، وتقديمه إلى المحاكم بالتهمة عينها التي حوكم بموجبها حين نشر "قصائد عارية" وقد أفرج عن الشاعر والمجموعة للمرة الثانية.

وفي نهاية العام 1952م، ألقت الشرطة السرية القبض عليه، وبعد توقيف طويل في معتقل أبي غريب قُدم إلى المجلس العرفي، وحكم عليه بكفالة على ألا ينشر كتاباً لمدة سنة واحدة، ولما لم يقدم الكفالة المطلوبة قضى سنة في سجن الكوت الرهيب، وهناك بدأ التحول الكبير في مجرى حياته الأدبية، فقد اقسم مع نفسه على السير في خدمة الشعب والعمل على قلب ذلك النظام الذي يستل شوق الإنسان للحرية، بالسجن والحراب، علماً أن مبلغ الكفالة كان مئة دينار، فتصور!

وفي ليلة ما.. وكانت الساعة الرابعة قبل شروق الشمس، غادر حسين مردان إحدى البؤر المضيئة بعد أن شعر أن كل شعرة في رأسه قد انتفخت من الكحول.. فرآه حارس ليليّ، ظنه لصاً فصوب إليه ماسورة بندقيته.. وحين لم يستطع حسين مردان إقناعه بأسباب وجوده في ذلك الزقاق قام بحركة مفاجئة، وانتزع البندقية من الحارس، فانطلق الحارس ينفخ بصفارته.. فكانت معركة، انتهت بتحطيم البندقية وتوقيف الشاعر، وفي الصباح حضر صديقه الشاعر بلند الحيدري وتكفل حضوره أمام محكمة الجزاء، وترافع عنه صديقه المحامي عبد المجيد الونداوي، وبعد الاستماع إلى الشهود قرر الحاكم الإفراج عنه وتغريمه أجرة تصليح البندقية (كما ذكر الونداوي).

للتشبيه عند حسين مردان محاور متعددة (سمها ما شئت) يمكن للدارس أن يزيد على ما سنذكر، أو ينقص تبعاً لذوقه وحسه، ونباهته، لان العمدة في معرفة أغراض التشبيه الذوق السليم، وسياق الكلام "كما يرى د. احمد مطلوب في البلاغة العربية" 174.
لذلك فإنَّ المحاور – في ظننا – ستتوزع على أهميتها وتوكيدها عند الشاعر أولاً، ولنسبة استخدامها ثانياً وهي وان بدت تميل إلى القسمة العقلية حسابياً، فإنها تؤشر استقراءً لأخطر ديوان شعر ظهر له في نهاية الأربعينيّات، وأثار ما أثار من ضجة ثقافية، وفكرية(1). وقد وجدنا أن هذه المحاور يمكن إجمالها في:

1- اللهاث:

إذا كان موقف حسين مردان من الحب لا يخلو من غرابة، فان موقفه من المرأة لا يخلو من حيرة.

فعلى الرغم من انه كان يخاف الحب ولم يتمسك به على ما صرح به في مقدمات بعض قصائده ومقالاته، فإنه ظل هاجسه في أكثر ما كتب(2).

وليس أخطر على شاعر من أن يعترف بإخفاقه في الحب، وخوفه منه حتى إنْ قّدمَ عشرات التبريرات للقارئ، لأنَّ من يقول: "إن الخوف من الحبِّ هو مصدر هذا العذاب الذي أغرقُ فيه "(3) يدرك تماماً ما ينطوي عليه تصريحه هذا من مغزى نفسي، وقلق فكري، فكيف إذا كان القائل هو حسين مردان؟!.

إن الأمر ليبدو أكثر غرابة، لأنه يجيء من رجل يقول عن نفسه: "أنا رجل شارع حقيقي، بل أكثر من ذلك، إنني شيخ المشردين في العراق وفي العالم "(4).

ومن هنا فإنَّ من يستقري ما كتبه الشاعر من شعر ونثر يلحظ تناقضاً في العاطفة، واضطراباً في الموقف الواحد المعبر عنه، الأمر الذي يدعو الباحث إلى محاولة كشف ما وراء حجب الشاعر النفسية للوصول إلى ظنٍّ مقنع يفسر له ذينك الجانبين، فيتبيّن أسباب تلك السلسلة من الهروب، والملل، والقلق، والعذاب، ويعرف إذ ذاك معللاً أنَّ من يقول: "إني لم ابتسم لفانوس الحب، ولم اغمس شفتي في نوره.. ولذلك كانت إصاباتي بالقلق بسيطة وقصيرة"(5): يناقض نفسه بنفسه حين يقول: "فالحبُّ تفجير ذريّ لا خلاص منه إلا بالذوبان فيه"(6). ناهيك عن مناقضته لمقولاته الأولى التي ذكر فيها أن الخوف من الحبِّ هو مصدر العذاب الذي غرق فيه.

ولسنا نريد هنا أن نعجّل بطرح الظنّ، فما زال في الوقت متسع.

أما موقفه من المرأة فعلى الرغم من انه كان يلمح أحياناً بأهميتها لكونها عنوان الخصب والتجدد، من مثل: "لن ينهض الشرق، ولن ينزل المطر المقدس من السماء بدون اكف النساء "(7)، وإنه كان يذهل لرؤية جمالها فيستحيل من خلله إلى عاشق للكون بكل ما فيه مثل: "إن الجمال لا يجذبني فقط، بل يدفع بي إلى الصرع! وعندما استفيق أجد نفسي في حالة متناهية من الشفافية، والصفاء، وخلال تلك اللحظات التي لا توصف تورق الأشجار العتيقة في روحي، ويولد ذلك النوع الغريب من الشوق لاحتضان الكون بكل ما فيه"(8)، فان بعض ما صرح به في مقدمات بعض قصائده، ومقولاته، وجل شعره، يكشف بوضوح موقفاً معاكساً غريباً يتبدّى في كون المرأة عنده مطفأة للّهاث الجنسي ليس غير.. مما جعله يبدو نرجسياً معها على نحو عنيف.. حتى قادته نرجسيته في كثير من الأحيان إلى أن يبدو ساديّاً مغرقاً في الساديّة حد التباهي الملذِّ. معترفاً (بلا اكتراث للقيم والتقاليد الاجتماعية) بأنه لن يحب إلا المرأة التي تحتقر جميع الرجال، وتسجد تحت قدمه وحده(9) لأنَّ المرأة في تجربته "لا تعبد.. إلا الرجل الذي يخضعها لشهوته بالقوة"(10). لذلك كانت جل تشبيهاته في هذا المحور تنصب في هذا الفهم.

ففي قصيدة "ثدي أُمي"(11) يشبه المرأة بالشهوة الملتهبة التي لا تكتفي بالتهام شبابه، لكونها كالجحيم تلظيةً، تظلُّ مستعرة حتى بعد فنائه فيها:

أنتِ من أنتِ! شهوةٌ تتلظّى

وجحيمٌ أحرقتُ فيه شبابي

واضح أن وجه الشبه الذي أراده بين المرأة والشهوة، هو ذلك الاستعار الدائم، حيث تظل كالجحيم لا تكتفي بشيء في حين يقوده اللهاث الجنسي في قصيدة "سافرت(12) إلى تشبيه جسم عشيقته بالفجر نضارة:

وهي عريانةٌ كفجرٍ نضيرِ

تتغنى بكل لحن ٍ مثــيرِ

فقد بدا له جميلاً وكأنَّ بريقه الفجر النضير من حيث الرونق والإثارة والجمال. ولا ندري كيف يقود العري إلى تداعي صور الفجر الباهر فيشبه به الشاعر جسم بائعة للهوى! لا يثير في النفس غير الاشمئزاز والقيء والقرف.

إن لهاث الشاعر، وشبقه جعلاه يعود إلى مثل هذا التشبيه في كلِّ حديث عن العري.. ففي قصيدة "نهاية قبلة"(13) يشبه جسد بائعة للهوى بالفضة نقاء:

فمزَّقــت أثوابـها فجأةً

عن جسدٍ كالفضةِ الطاهرةْ

إنَّ الشاعر هنا يعمد إلى أن يجعل ما كان دنساً، شبيهاً بما تنزه عن الأدناس طُهراً، وتلك غرابة ليس غير.

ثم يعود في هذه القصيدة ليؤكد تشبيهه المستخدم "ثدي أمي" فيشبه لهاث المرأة بالجحيم استعاراً:

تبسمتْ هازئةً ساخرةْ

جهنّمٌ لا تنطفي نارها

فاحرق بها حياتك الخاملةْ

أما في قصيدة "راقصة"(14) فيشبه جسم راقصة وهو يتحرك وثباً بالحلم البهي الجميل:

وانبرت فجأة ًكحلم بهيٍّ

تتنزّى في رقصة ٍ مجنونةْ

ثم لا يكتفي بهذا التشبيه، وإنما يعمد إلى تشبيه دمها بالخمرة التي تجعل كل ذرّة في جسمها سكرى حركة، وانثناء، ليتوصل التشبيه إلى تكوين صورة فنيّة للحركات المجنونة التي يثيرها الجسد في تموّجه واهتزازه:

جسدٌ كلُّ ذرةٍ فيه نشوى

فكأنَّ الدمَ الذي فيه خمرُ

إنّ المراد هنا ليس تشبيه الدم بالخمرة حسب، إنما حركة الجسد بكل أعضائه وقد أصابه خمارٌ من السكر فانتشى لياً، وتموجاً واهتزازاً.

ويبلغ حسين مردان قمة اللهاث في قصيدة "العروق الزرق"(15) حين يشبه نفسه وهو في أتون الرغبة بالكلب في صفتي قلة النوم، واللعق:

كم ليـلةٍ قضّيتُـها متسهداً

كالكلبِ يلعقُ مرشفي قدميكِ

فيفاخر ببوهيميّة لا تجدها إلا عند من وضع اللذة هدفاً في حياته فبات يبحث عن كل جديد في إثارة الغريزة، والتفنن في عرضها بتلذذ، ومباهاة. فهل ثمة غرابة أكثر من مباهاة إنسان باستنشاق ما خبث رائحته في جسد المرأة كما يفعل شاعرنا حين يقول:

أما أنا فكـما اختبـرتِ فلم اجدْ

أشهى وأجملَ من شذى أُبطيكِ(16)!

لعلنا لا نبالغ إن قلنا إنّ غرابة مردان في تصويره للهاث لا تعادلها غرابة.

ويبدو أن تلك الرغبة في الاستنشاق تطورت عنده تدريجياً، ففي قصيدة "سافرت"(17). شبّه خد العشيقة وكفها بشذى الورد في قوة ذكاء الرائحة:

خدها،
كفّها اللطيفُ حديثٌ
كشذى الوردِ في ضفاف الجنانِ

ثم ترك صور التشبيهات تلك ليبحث عما يزيد التشبيه إثارةً ولهاثاً، لهذا وجدناه يقول: "لقد حاولت في قصائدي الأولى والتي ظهرت في ديوان (قصائد عارية) أن أكشط الجلد، وأرفع جميع طبقات اللحم مخترقاً العظام للوصول إلى حركة الدم لمعرفة العلاقات التي تربط بين المرأة والرجل. فلقد ظل الحب خيمة مغلقة ينظر إليها الشعراء كشيء له علاقة ما بالسماء" (18).

2- الإحباط:

يعمد حسين مردان في بعض تشبيهاته إلى رسم صورة الشاعر المحبط المأزوم، وصولاً إلى غرض يرمي منه إلى جعل المتلقي يلقي بأسباب ذلك الاحباط على المجتمع الذي عاش فيه الشاعر في الأربعينيّات، وعلى سياسة الدولة، وحكامها الذين قيدوا حركة المثقفين الأحرار، وأفرغوا الثقافة من محتواها الأصيل.

والإحباط كالتثبيط يعوق الفرد عن الوصول إلى هدفه فهو " حالة للعضوية تحدث حين يصعب، أو يستحيل إرضاء دوافع العضوية أو حوافزها" (19).

والمحبط سوداوي النظرة متشائم، حزين، يعيش مع أزمته بتوحدٍ، واتصال دائمين، حيث تستقر الهزيمة في أعماقه لتصبح قدره الذي رضي به وبرره، غالقاً جميع النوافذ التي تفتح أمامه منعزلاً عن حركة المجتمع من حوله"(20).

ففي قصيدة "براكين"(21). يشبه حسين مردان وجوده في عالم الحياة بلطمة عار سوداء في جبين الزمن الذي يعيش فيه:

يا ليالــيَّ لم أكنْ غير خطٍ

أسود اللونِ في جبينِ الدهورِ

ومثل هذا التشبيه يجعل المتلقي يحس بمعاناة ضيق الشاعر من الحياة، ورغبته في تدمير نفسه، الأمر الذي يجعل حياته لا معنى لها، لكونها لا تشكل غير لعنة ليس إلا. سواء أكانت في الحياة، أم بعدها، لذلك يشبه مجيئه للحياة باللعنة التي تظل كذلك حتى في حالة انطفاء حياته:

لعنةً جئتُ للحياةِ وأمضي

مثلما جئــتُ لعنةً للقبورِ

إن المحبط قد يحس بانعدام التوازن مع مجتمعه، وبانفصالية عنه،لكون أزمته قد خلقت منه إنساناً مشوهاً من الداخل، عاجزاً عن تجاوز الأزمة، أو إيجاد حل مناسب لها (22)، فيذهب إلى تصوير حالته بكل الصفات السلبية، راضياً مختاراً، فيطمئن حالة القلق التي تعتريه، كما فعل شاعرنا في قصيدة "النشيد الحقير" (23). حين شبه نفسه بالوحش الحقير دناءة في القول والعمل:

هكذا قد خلقتُ: وحشاً حقيراً

فتغنيــتُ بالنشيدِ الحقيــرِ

على الرغم من أنه أسبغ على نفسه من صفات الخزي، والعار في قصيدة "ميلاد شيطان"(24) ما لم يسبغْه على نفسه شاعر محبط في كلِّ ما قرأناه من شعر:

يا يوم مولدي المشؤوم ما فتئتْ
ذكراكَ تزعجُ أهل الأرضِ أحيانا
فهلْ أتيــتُ إلى الدنيا لأملأها
خزياً، وعاراً، وأحزاناً،وكفرانا؟
وغيرها كثير(25).

3- المازوشيّة:

في بعض تشبيهات حسين مردان نزوع إلى تصوير المرأة المازوشيّة، وهي تلك المرأة التي لا تشعر باللذة إلّا حين يقع عليها الأذى، سواء أكان ذلك الأذى قولاً أم فعلاً. بمعنى أن حالة الانتشاء لن تحصل عندها بغير تعرض للألم: فيقترنُ إذ ذاك وقوع الألم بحصول الراحة.
والمازوشيَّة كما يعرفها علم النفس هي: "انحراف جنسي يتميز بالسرور، وبخاصة السرور الجنسي، نتيجة للتعرض للألم الجسدي"(26).

ويبدو أنَّ كثرة وجود المواخير في الأربعينيّات، وتردد الشاعر وبعض أصدقائه عليها، واتخاذ بعض بائعات الهوى من بعض الأشقياء عشاقاً، وما رافق تلك الأيام من قصص عن البغايا وأشقيائهنَّ، ونزوع بعض الشعراء والمغنين إلى ترديد أشعار البغاء قد سوّغ لشاعرنا أن يصور بعضاً ممن كنَّ مازوشيّات جنسيّاً.

ففي قصيدة "زرع الموت"(27). يشبه الشاعر وقع السياط على أرداف البغي بالنغم الذي يفجر في أوردة الجسد فزع النشوة:

وقعُ السياطِ على أردافِها نغمٌ

يفجرُ الهولَ في أعراقِها السودِ

وليته اكتفى بذلك فلم يذهب إلى أبعد منه، لكنه لا يستطيع، فتصاعد بالتشبيه، ليجعل من أنينها شبيهاً بأنين الوحش الطعين، وصولاً إلى تحقيق ما ينتظره المرض من حصول الألم، ليصبح الأنين رغبةً، ونشوة، وسروراً، بعدما كان في الطعين دليلاً على الانطفاء، والموت ذبحاً:

تئن كالوحشِ مطعوناً إذا اشتبكتْ

ساقٌ بساقٍ ومحمومٌ بمحموم ِ

ثم يعمد في خاتمة القصيدة إلى تصوير الحب في مفهوم المازوشيّة فيجعله جراحاً فاغرة تحدثها أيد خبيرة بالضرب، وصراعاً يعلك الأعصاب.. فتصور!

هذا هو الحب: جرحٌ غائرٌ ويدٌ

خبيرةٌ، وصراعٌ يهلكُ العصـبا

إن أمثال تلك المرأة ليست إلا نماذج سيئة خطيرة، وهنَّ إن وُجدنَ في مجتمع الأربعينيات فإنهن لا يشكلن في معجم المرأة المناضلة، العاملة على بناء وطنها ظاهرة خطيرة، لأنَّ ظروف الأربعينيّات وما رافقها من تفسخ مقصود هي التي أنبتت خضراوات الدمن.
ومثل تلك التشبيهات لا تخدم مجتمع المرأة، ولا تقدم علاجاً حتى لمن كُنَّ مريضات، إن موقف حسين مردان من المرأة يتّسم بالتعسف في أبسط صوره، وإلا كيف نُفسّرُ رأيه حين يقول:
"فالمرأة مخلوق مريض! مريض منذ عشرين ألف سنة! وإنها الآن في مرحلة النقاهة، فهي بحاجة ماسّة إلى الرعاية، والتوجيه"(28).

4- الغرابة

يقيناً أنَّ التشبيه متى كان غريبًا في نقل إحساس الشاعر وعواطفه، واخيلته كان أكثر إثارة في المتلقي من غيره.

لهذا فإنَّ بناء التشبيه في هذا المحور يتطلب خيالاً مولّداً وإحساساً مصوراً فاعلاً يتلاءم مع اختيار الشاعر الدقيق للصورة التي يسعى إلى تكوينها.

والمستقري لشعر حسين مردان لا يعدم وجود هذا التشبيه، لكون الرجل يتمتع بخيال خلاق في عملية ابتكار الصور المثيرة، ويمتلك قدرة موحية في إثارة العواطف، واستخدام المفردة المشحونة بالحركة، والمنسجمة في البناء العام، وتشبيهاته في هذا المحور غريبةً كغرابته: شاعراً وإنساناً، ومكشوفة ً كما كان يحيا عارياً من غير قناع.

ففي قصيدة "لعنة إبليس"(29) يشبّهُ ارتعاشة أعصابه حين سرى فيها اللهاث، ونبّهَ الوحش الذي يسكن في داخله، بارتعاشة نهد تلك الفتاة الجامح الفتي:

ومشت بأعصابي القويةِ رعشةٌ

مثل ارتعاشةِ نهدهــا المتمردِ

ولا يخفى أن هذا التشبيه على ما فيه من تباعد في حركتي المشبه، والمشبه به، فإنه صورة فنيّة توضح قدرة الشاعر على تطويع أدق الحالات النفسية للجنس، واللذة. وتلك غرابة جديدة كما نظنُّ.

أمّا في قصيدة "نهاية قبلة"(30) فإنَّ غرابة التشبيه تبلغ نضجها حين يشبّه فتاته وقد اضطجعت على سريرها بلوحة جميلة أطّرتها وسائد ذكية الرائحة:

واضطجعتْ كأنّها صورةٌ

إطارهــا وسائدٌ عاطرةْ

إنّ تشبيه فتاة (أياً كانت) وقد توسطت الوسائد باللوحة المؤطّرة، من خلل التداعي لهو تشبيه جديد لم يستخدم سابقاً كما نظن إلى جانب ما يثيره هذا التشبيه في ذهن المتلقي من قبول للصورة لا للحال.

ومن الغرابة أيضاً ما وجدناه في قصيدة "الليل والغليون"(31) حين شبه الزمن الماضي بالطفل الميت:

لا تذكري ما فاتْ

الماضي طفلٌ ماتْ

ومكمن الغرابة هنا أنَّ الزمن الماضي لا يمكن عده ميتاً، بدليل تواصله، واستمراره، وديمومته، حتى يأذن الله له بالتوقف ليبدأ ثانية عند البعث والقيامة، وإلاّ كيف يفسر الإنسان حاضره إذا لم يكن ملتصقاً بماضيه وتراثه؟

إن الخلاص من الماضي وهم، لكونه ميراثاً ولغةً وإشراقاً، وعن طريقه يُبنى المستقبل، عبر الحاضر وليده الأمين.

أما قصيدة "عواء" (32) فإنَّ الشاعر يشبه اضطجاع ليلاه عاريةً بالنهر المتجمّد نعومة:

وتمددي عريــانةً

كالنهر جمَّدهُ الشتاء

ومثل هذا التشبيه وإن بدا شبقي الحال والخيال، فإنَّ غرابته تكمن في اتخاذ الشاعر للنهر المتجمد مشبهاً به على غير ألفة واعتياد.

وبعدُ فإنَّ ما مر يوضح بلا لبس أنَّ الشاعر لم يكن تقليدياً في تشبيهاته، ولم يعمد إلى تقليد غيره في تكوين صوره، سواء أكانت مكشوفة أم غير مكشوفة، لأنه كان ذا أسلوب خاص كونته ثقافة موسوعية(33)، وإطلاع حياتي، وتجارب فردية، ومكتسبة مكنته من أن يمارس ألواناً من الإبداع! شعراً ونقداً ونثراً مركزاً ومقالات، حتى شبهَهُ بعضهم ببودلير العراق(34).
وعلى الرغم من اتساع ثقافته وممارسته لمختلف أنواع الإبداع ودعوته للاهتمام بالمفردة الشعرية(35)، إلا أنه كان يعمد أحياناً إلى استخدام مفردات شعبية، لا سيما في "طراز خاص"(36). تلتصق عنده بموضوعات اللهاث من غير أن يكلف نفسه عناء تغييرها إلى مفردات فصحى، إنَّ الظنَّ يذهب إلى أن حسين مردان لم يكن يكتب لنساء معينات بقدر ما كان يكتب للمثقفين من الرجال، لكن الدكتور محسن أطميش فسر ظاهرة شيوع العامية في شعره بقوله: "ويبدو أن الذي صرفه عن هذا (يعني تغيير المفردات العاميّة) هو أنه كان يحاول تقريب معانيه الشعرية من نساء عراقيات معيّنات تعلق هو بهنَّ، وقد لا نكون بعيدين عن الصواب لو أننا قلنا أيضاً، "إنهنَّ أنصاف أميّات" أو "أميات" لأنهن بحاجة إلى مثل هذه اللغة لكي يفهمن شعر شاعرهن، إن هذا هو التفسير الوحيد لشيوع هذه الظاهرة في شعر حسين مردان، وفي شعره الغزلي بالذات "(37).

أما أفكاره العدمية وصور السأم التي وردت في بعض إبداعه وتركيزه على اللهاث الجنسي في جل شعره، فإن ذلك يعود لسببين نرى أن الوقت قد حان لعرض ظنِّنا فيهما، وهما:
الأول – تأثر الشاعر بالفلسفة الوجودية:

من خلال ما كان يكتبه سارتر وغيره آنذاك، وما كانت تروجه بعض المجلات من أفكار لبعض من تأثر بتلك الفلسفة أسلوباً وفكراً، حتى غدا أول مدافع عنها علانية، واصفاً الذين يرونها فلسفة إباحية مدمّرة بأنصاف المثقفين، كما جاء في ردِّه على القاص عبد الرازق الشيخ على حين قال: "فالوجوديّة ليست فلسفةً إباحيّة مدمرة كما يصفها أنصاف المثقفين، وإنما هي مرحلة فكرية، هدفها تحرير العقل من القيود والتقاليد التي فقدت قابليتها للبقاء، وخلق قيم جديدة تناسب تطور الفكر البشري، ورفع الإنسان إلى قمة البطولة ليتحمل مسئولياته وأخطاءه وحده"(38).

الثاني - هزيمة الجسد:

إن إكثار الشاعر من الحديث عن بطولاته مع المرأة، وتعمده ذكر ما يتمتع به من قدرات، وخزين جنسي، وترديده نغمة اللهاث، والشبق في شعره، وتوصيف أساليب بائعات الهوى، وسكنة المواخير، واضطراب موقفه من المرأة، وإظهار نرجسيته أمامها، وتباهيه الملذ بساديّته معها في بعض ما كتب، يدعو الفاحص المتتبع إلى أن يعجب كيف أن من يمتلك كل تلك القدرات الجنسية لم يحالفه الحظ في الزواج، ولم يستطع أن يكوّن له أسرة حتى في أيام استقراره ودعته؟ بل لم يفكر في ذلك مطلقاً؟!

إنَّ وراء هذا الحديث عن الخزين الجنسي، والطاقات الكامنة يكمن شيء آخر، هو إحساسه الحقيقي بعدم القدرة (كما نظُنُّ) , لأن العجز الجنسي، وحصول العنّة يؤدّيان إلى هزيمة الجسد، ومثل تلك الهزيمة لا يرتضيها حسين مردان، لأنها تحمل معنى الانطفاء، ولا بد له من أن يقاوم الموت، ولا سبيل إلى مقاومته بغير المرأة، حتى إن كان ذلك في الوهم(39).

الهوامش

"قصائد عارية" وقد صدر في سنة 1949، فأمرت السلطات بمصادرته وتقديم الشاعر إلى المحاكم، ثم أفرج عنه بعد محاكمة مثيرة، أعيد طبعهُ ثانية، 1955م.

وهم السيد عبد الجبار كريم حمادي، حين قرر مؤكداً أن الشاعر كان يؤمن بالحبِّ إيماناً كبيراً، ينظر: الصحافة العراقية وأثرها في تطور الشعر العراقي الحديث (د.ت) ص149، وهي رسالة ماجستير غير مطبوعة.

"الحب والحرب وما بينهما" مقالة ضمن كتابه (الأزهار تورق داخل الصاعقة)، 22.

(الثورة والنعومة) نفسه، 36.

(الحب والمرأة) نفسه، 31.

(الصاعقة ورأس الشمعة)،198.

(الاحتفال المرح)، 218.

(الصعود إلى الواقع)،50.

مقدمته لقصيدة "للطين " في ديوان "قصائد عارية"، 17.

مقدمته لقصيدة "قبلة"، 26.

"قصائد عارية"، 11.

"قصائد عارية"، 16.

نفسه، 28.

"قصائد عارية"، 31.

نفسه، 37.

"قصائد عارية"، 36.

نفسه، 15.

من مخزن الذكريات، في كتاب " الأزهار تورق داخل الصاعقة"، 156.

د. فاخر عاقل، معجم علم النفس، 47.

ينظر: صبري مسلم، صورة البطل في الرواية العراقية،119 رسالة دكتوراه، بغداد، كلية الآداب، 1984.

"قصائد عارية"، 2.

ينظر: د. صبري مسلم، صورة البطل في الرواية العراقية، 199.

"قصائد عارية"، 25.

نفسه، 20.

من تشبيهات هذا المحور أمثلة أخرى في " ميلاد شيطان" و "النشيد الحقير" و "قصة شاعر" ينظر "قصائد عارية": 21، 24، 62.

د. فاخر عاقل: معجم علم النفس، 76.

"قصائد عارية"، 5.

البلابل مقدسة الغناء، 148.

"قصائد عارية"، 8.

نفسه، 28.

"قصائد عارية"، 47.

نفسه، 56.

يبدو من مقالاته التي نشرتها (ألف باء) وضمها كتابه " الأزهار تورق داخل الصاعقة " أن الرجل قرأ كثيرا، وحفظ مقولات لبعض من قرأ لهم: أمثال: جاك لندن، وجاك بريفير، ودستوفسكي، ونيتشه، ودنيس ديدرو، وكافكا، وتولستوي، وشكسبير، وكانت، وجان بول سارتر، وبريتون، وابو لينير، وبودلير، ورامبو، وملارميه، وجان كوكتو، وأدغار ألن بو، وفرويد، وبول فاليري، وأفلاطون، ولويس أرغون، واليوت، وأديث سيتويل، وغيرهم.

قالت عنه مجلة أوريان الفرنسية: " إن حسين مردان هو بودلير العراق والخليفة لشعر الغزل العباسي " ينظر: طراز خاص 5.

مقالات في النقد الأدبي، 64، 65.

المكتبة العصرية، بيروت.

دير الملاك، 179.

مقالات في النقد الأدبي, 51.

حالة حسين مردان تشبه حالة السيّاب في أخريات حياته، فارتباطه بالمرأة في حالة العجز الجنسي حتى إن كان في الوهم يطمئن عنده غريزة البقاء، ينظر للباحث: السيّاب يتحدث عن تجربته الشعرية، 82.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى