عليّ عبّاس علوان في ذمّة الخلود
تلقيتُ عصر يوم (الثلاثاء: 16 نيسان / إبريل 2013م) مكالمة هاتفيّة من صديقي الدكتور حيدر معاذ التدريسي في كليّة الهندسة في جامعة البصرة أعلمني فيها بنبأ انتقال أستاذي الدكتور عليّ عبّاس علوان إلى الرفيق الأعلى بعد عودته من أربيل التي أجريت له فيها عمليّة جراحيّة تكلّلت بالنجاح، لكنّ صحّته العامّة تعرّضت بعد عودته إلى البصرة إلى مضاعفات لم يقوَ قلبه النبيل على تحمّلها ففارق الحياة يوم الاثنين:15 نيسان 2013م.
وأستاذي المرحوم الدكتور عليّ عباس علوان من مواليد البصرة العام 1938، وقد أكمل الدراسة الجامعيّة الأولى في آداب بغداد، وتخرّج في قسم اللغة العربيّة العام 1960م، وحصل على الماجستير من جامعة القاهرة العام 1966م، كذلك حصل منها على الدكتوراه في العام 1974م، وقد درّس في أكثر من جامعة عراقيّة وعربيّة، وشغل مناصب إداريّة عديدة كان آخرها رئاسته لجامعة البصرة منذُ: 2005 م، إلى العام 2009م، وأشرف على العديد من الرسائل العلميّة، وناقش بعضها الآخر، وأصدر: (الزهاوي الشاعر)، و(تطوّر الشعر الحديث في العراق اتجاهات الرؤية وجماليّات النسيج)، و (نقد الرواية العراقيّة)، وله أبحاث نقديّة عديدة.
كان أستاذي من أصحاب المواقف المشهودة، وقد تعرّض إلى مضايقة كتّاب التقارير من أزلام جمهوريّة الخوف، فآتتْ تلك التقارير اللئيمة أكلها بعد حين من الزمن، فجرى فصله من الجامعة لمدّة خمس سنوات هو و الدكتور عبد الواحد لؤلؤة، فضلاً عن فصل الدكتور قحطان التميمي (معاون عميد كليّة التربية آنذاك) من الجامعة ونقله إلى المتحف العراقي بسبب تقرير أستاذ سوري يعمل معه في الكليّة نفسها.
حين أردتُ نشر كتابي الموسوم بـ"الذي أكلت القوافي لسانه وآخرون" في العام 2009م، هاتفته (وكان لمّا يزل رئيساً لجامعة البصرة) راجياً أن يقرأ نسخة الكتاب الرقميّة، ويكتب كلمةً لغلافهِ الأخير إن وجده يستحق التعريف، وسرعان ما أجابني كاتباً: "سفرٌ متميِّز بقلم ناقد حاذق موهوب،يقدِّمُ للقارئ الجاد عصارة تجارب ورؤى نقديّة وفنيّة على مدى نصف قرن من الزمن تقريباً، عاشها الأستاذ الدكتور عبد الرضا عليّ معايشة ً حقيقيّة،فأنتجت- وجميل ما أنتجت – فصولاً ممتعة ومثيرة ً وكشوفا ً في حياة أولئك الشعراء المبدعين، ممّن أكلت القوافي ألسنتهم؛ عرباً وعراقيين.
نعم،هو الأكاديميّ في التدقيق والرصد وغور الأحداث والنفوس،ولكنه الأكاديميّ الذي طرح الجفاف والتزمّت َوالتكرار، ليقدِّمَ تعليقاتهِ الذكيّة، ولقطاته الموفّقة مع شيء من التحليل وكثير ٍمن الإثارة. لقد قرأت ُ هذا الكتاب في جلسة ٍواحدة ٍ، ولذا، أدعوك َ – أيّها القارئ الجاد – أن تدخل َعوالمه متمتّعاً بالجمال والفنّ والسيرة، ولن تخسرَ أبدا ً."، فشكرته ممتنّاً، وتوّجتُ بما كتب غلاف الكتاب.
وحين أرادت كليّة التربية في جامعة القادسيّة أن تحتفي بمنجزه النقدي صبيحة يوم الأربعاء 28/11/ 2012م، كتب إليَّ الأستاذ حسن مجّاد التدريسي في جامعة القادسيّة رسالة كريمة على نافذتي في الفيسبوك طلب فيها منّي ليلتها أن أكتب عن أستاذي شيئاً، فكتبتُ هذه الشهادة العجلى بلقطاتها الأربع، فتكفّل بقراءتها نيابةً عنّي أخي الدكتور كريم المسعودي مشكوراً،فكان وقعها (كما أخبرتُ) جميلاً على شيخي ومعلّمي وصديقي، لهذا كلّه وجدتُها خير ما يُشاركني في هذه الفجيعة.
رحم الله أستاذي، وشيخي، وصديقي الدكتور عليّ عباس علوان، وألهم أهله وأصدقاءه، وطلبته السلوان، وعزاؤنا في ما تركه من أثر نقديّ حصيف، وما غرسه من وعي فكري مستنير، وما أشاعه من خلقٍ تربوي رصين.
لقطة أولى – كان هو أستاذي في مادّة العروض في ستينيّات القرن الماضي ، واشهدُ أنّ الدرسَ كان صعباً للغاية في أيّامه الأولى، لكوني جئتُ إلى قسم اللغةِ العربيّة من الفرع العلمي، لكنّ أستاذي عليّ عبّاس علوان، بذكائهِ الفطريّ، وطريقته الهادئة في تنظير مادّة العروض و تطبيقِ التقطيعِ على اللوحة، وعلاقته الحميمة مع طلبته، سهّلت الدرس، وما أن انتهى العام الجامعي إلّا وكنّا من المبرّزين في هذه المادّة، ولعلّ كتابي " موسيقى الشعر العربي قديمه وحديثه" يُشير إلى أنّني بعضُ غرس الأستاذ.
لقطة ثانية – حينَ قدتُ إضراباً (مع بقيّة زملائي طلبة المرحلة الثالثة) على أستاذنا(رحمة الله عليه) الدكتور محسن غياض، بسبب أسلوبه الخشن، وإهانته للطلاب على نحوٍ دائم في درسي " الشعر، والنثر في العصر العبّاسي" واستمرّ هذا الإضرابُ أكثر من أسبوعين (على الرغم من كلّ محاولات قسم اللغة العربيّة متمثّلاً برئيسه الدكتور هادي الحمداني في ثنينا عن الإضراب) فوجئتُ بصوت عليّ عباس علوان يناديني في أحد الأيّام، وبعد أن خرجنا إلى ساحة الكليّة طلب منّي إنهاء الإضراب قائلاً : نعم ، ربّما خيّل إليكم أنّ الرجل خشن، أو هو كذلك، لكن ما ذنب عائلته؟ ... أريدُ اليومَ إنهاء الإضراب، واللقاء بالدكتور، وكلّ الأمور ستحل بعد ذلك، وأنا الضمين بها، وهكذا أنهينا الإضراب نزولاً عند رغبة من غرسَ فينا المحبّة (وقد أصبحتُ من أصدقاء الدكتور محسن غيّاض بعد حينٍ من الزّمن.)
لقطة ثالثة – توطّدت علاقتي به بعد التخرّج، فزرته في القاهرة(أيام دراسته للدكتوراه)، وكان يحثّني على بذل الجهد في مرحلة تمهيدي الماجستير، وقد حضر شخصيّاً يوم توزيع النتائج، ليتأكّد من أن بعض غرسه يجب أن يكون من المتفوّقين في دروس: سهير القلماوي، وحسين نصّار، ويوسف خليف، ونبيلة ابراهيم،وغيرهم من الأساتذة الأعلام.
وحين علمَ أنّ الدكتورة سهير القلماوي وافقت على الإشراف على رسالتي للماجستير، ورفضتِ الإشراف على رسالة عبد الإله أحمد للدكتوراه، هنأني، مذكّراً إيايَ أن الدكتورة سهير القلماوي تحترم الزمن، وتريد أن ترى طلابها أسبوعيّاً، لتقف على ما ينجزون من محاور فصول رسائلهم، مشيراً إلى أنّها هي التي أشرفت على رسالته للدكتوراه التي طبعت بعد حين بعنوان" تطوّر الشعر العربي في العراق اتجاهات الرؤية وجماليّات النسيج"، فقلتُ له: أعرفُ ذلك يا سيّدي، فقد حضرتُ المناقشة،ورأيتُ كيفَ تجلّيتَ فيها.
وقد قرأتُها قراءة دقيقة، واستشهدتُ ببعض ما جاء فيها، لاسيّما حين عرّف العقم بأنّه : "خلو الفن من الأصالة والإبداع والتوليد وإحداث الجديد، فهو لا يمتلك القدرة التامّة، ولا البذور الحيّة لتجاوز الموروث وتخطّيه، وحتّى الانقضاض عليه أحياناً " وهذا التعريف قد أغلق الباب على المصطلح، وجعله مستقرّاً منذ ما يقرب من أربعينَ عاماً.
كانت رسالته المخطوطة قبل الطبع تحمل العنوان الآتي "التطوّر في الشعر العراقي الحديث"، وقد نوقشت في العام 1974م، في المدرج الكبير في كليّة الآداب / جامعة القاهرة، وحضرها جمعٌ غفير من الأساتذة وطلبة الدراسات العليا.
لقطة رابعة – حين بدأ العراق يفرغ كتّابه، وأساتذة جامعاته،ومبدعيه في تسعينيّات القرن الماضي استقرّ بي الحال في اليمن، واستقرّ الحال بأستاذي في الأردن، واستقرّ غيرنا في ليبيا، أو في سلطنة عُمان، لكنّنا كنّا نلتقي في العاصمة الأردنيّة في الإجازات الصيفيّة، وكنتُ أحرصُ على لقاء أستاذي وصديقي عليّ عباس علوان هناك، واشهدُ أنّ الشاعر الكبير المرحوم عبد الوهاب البياتي كثيراً ما كان يجمعنا حوله، سواء أكان ذلك في الهورس شو، أو في اتليه الفينيق، أو في أماكنَ أخرى.
وحين نزلتُ في صيف العام 1998م، إلى عمّان، رغبتُ في (اليوم نفسه) أن ألتقي البياتي في أتليه الفينيق لأقف على صحّته، وأستفسر منه عن أحوال بقيّة الأصدقاء، فقال باسماً: حسناً وصلتَ اليوم، فغداً يكون الدكتور عليّ عباس علوان في مقهى السنترال في العاشرة صباحاً،لأنه بصدد الإشراف على الكتاب الموسوم بـ "فتوحات البياتي" الذي سيصدر بمبادرة من أصدقاء بلغ عددهم ثمانين شاعراً وكاتباً، فإنْ رغبتَ في المشاركة بشهادة، فينبغي كتابتها الليلة، وتسليمها غداً للدكتور عليّ عباس علوان، وسيكون بمعيتهِ هناك الدكتور سعيد جاسم الزبيدي بوصفه واحداً من المشرفين على الكتاب، والشاعر الشاب هادي الحسيني الذي سيعنى بإعداده وتحريره.
فانتهزتُ الفرصة، وكتبتُ في تلك الليلة شهادتي التي كانت بعنوان "الرائي"، وحملتها صباحاً لأبي زيد بعد أن عانقته مقبّلاً، واكتشفتُ أنّ أستاذي عليّ عباس علوان قد كتبَ مقدّمةً ولا أروع عن الكتاب، تناول فيها تحوّلات الرؤية عند البياتي ونتائجها، وتوصّل إلى " أنّ الفن عند البياتي لا يرتبط بالأيدلوجيا عن طريق ما يقوله، ولكن عن طريق مالا يقوله، فنحن لا نشعر بوجود الأيديولوجيا في دواوينه الأخيرة، وقصائده المتميّزة... ولكننا نشعر بايديولوجيّة الشاعر الكونيّة الخاصّة من خلال الجوانب الصامتة الدالة، وفي فجوات النصوص وأبعادها الغائبة. إنّ الشاعر لا يقول ولا يكشف عما يقال، وعلى المتلقّي أن يعيد الكشف والتأويل والقول."
وبدهي إنّ هذه النتيجة التي توصّل إليها عليّ عباس علوان لم تأتِ إلّا بعد أن قرأ كلّ تجارب البياتي الشعريّة، ووقف عند منجزاته الفنيّة في توظيف الأسطورة، أو اجتهاداته الدراميّة في قصيدة القناع تحديداً.
تحيّة لأستاذي وشيخي ومعلّمي، وصديقي الدكتور عليّ عباس علوان، راجياً أن يعلمَ أنّ تلميذه الوفيّ الأستاذ حسن مجّاد التدريسي في كليّة التربية / جامعة القادسيّة قد طلب منّي هذه الشهادة قبل ساعات، فحرصتُ أن أشارك بها قبل بزوغ الفجر، مثلما شاركتُ بشهادتي عن البياتي يوم أشرف أستاذي علوان على"فتوحات البياتي" وكأنّ القدر أراد لي ألّا أحرم من تكريم الكبار.
بعضُ غرسك