الأربعاء ٢٦ تموز (يوليو) ٢٠١٧
بقلم هاتف بشبوش

صادق الزعيري حين يكتبُ على الأرض(1)

في العام 1948 أكرمتنا السماوة بصادق صاحب الزعيري حيث ولد واكتمل عوده فيها حتى أصبح مدرّساً للغةِ العربية ثم شاعراً فحلاً تلتفتُ لهُ الرقاب. كتب الشعر متأثراً بأخيه الشاعر اليساري (يحيى صاحب الزعيري) الذي كنا نحفظ له ديوانه البديع الذي مازال عالقا في الذاكرة (قبعات لشمس العصر). بدأ الشعر في المدرسة المتوسطة حيث عملَ نشرة أدبية مع الشاعر العالمي الشهير زميله الشاعر يحيى السماوي أسمياها (الشذى). توقف عن الكتابة في زمن البعث لأسباب سياسية. تتلمذ في كلية الآداب على يد أساتذة معروفين (نازك الملائكة) و عاتكة الخزرجي والدكتور علي جواد الطاهر وله من الدواوين..ظهور وسياط...زنزانة ذات خمسة نجوم.. ثم ديوانه قيد محور دراستنا هذه (الكتابة على الأرض). من عنوان الديوان يشير صادق الزعيري ويريد أن يقول لنا بكل صراحة وجرأة عاليتين من انه الشاعر الكوني والأممي فراح يوسم ديوانه (الكتابة على الارض) ولم يحدد أي أرض، فهل هي من باب لاتسألني عن عنواني... لي كل العالم عنوان..حيث أغنية جعفر حسن الثوري المناضل المعروف؟. فهو يكتب على خارطة الكون التي يعيش عليها البشر بمختلف مشاربهم وأجناسهم حيثُ يحلم صادق الزعيري أن يسودها السلام وهذا هو الحلم الذي مات من اجله الكثيرون من المناضلين والعلماء والفلاسفة.

صادق الزعيري كرّس نفسه في خدمة الفضيلة والإنسان ونيل الحرية كما قالها يوما ديستويفسكي((انّ الإنسانية ستجد لنفسها القدرة على انْ تحيا للفضيلة سواء آمنت بخلود الروح أم لم تؤمن !ّ لسوف تجدها في استلهام لمعاني الحرية والمساواة والأخوّة)، وتحمّل صادق الكثير من المضايقات والسجن من قبل الجلاوزة البعثيين وظل صامدا حتى اليوم في حبه اللامنتهي وعطائه لأبناء وطنه (أن الطبيعة الإنسانية تستطيع أن تحتمل تعذيبا كذاك التعذيب دون أن تهوي الى الجنون....ديستويفسكي).

صادق الزعيري بشِعره الوسيم كما وسامته التي بقيت تتأنقُ حتى اليوم، كان المرفأ الوطني والشعري والثقافي الذي نحلم أن نصله ذات يوم لما فيه من مكانة مرموقة أيام الصبا والعنفوان الثوري الجميل. أتذكر تلك الأبيات التي حفظناها عن ظهر قلب في السبعينيات أيام كان صدى شيلي وسلفادور الليندي وما جرى من مأساة في ذلك البلد الشيوعي المغدور من قبل أمريكا عدوة الشعوب ذات الجين القاتل الذي تتسم به شعوبها. فراح صادق صاحب يكتب تلك الكلمات التي ظلت في مخيلتنا حتى اللحظة، تلك الكلمات الصارخة من فم الشيوعي بابلو نيرودا وهو على نقالة الموت (تعالوا انظروا الدمَ في الشوارع) فأنشد الشاعر صادق الزعيري بكلمات غناها جعفر حسن بصوته الرخيم (سانتياغو..سانتياغو..) والبعض منها لاتسعفني الذاكرة على تذكرها بالضبط (في شيلي ممنوعُّ أن تضحك.. ممنوعُّ أن تفرح... لكنك ليس ممنوعا أن تبكي...... شيلي دمُّ في الشوارع). وها انا اليوم أدركت إحساس الشاعر الحقيقي صادق الزعيري بقضيته الوطنية والرفاقية كما إحساس الشاعر الشيوعي الشيلي بابلو نيرودا، حيث في يوم وفي المكسيك جاء الروائي العالمي الشهير (غابرييل غارسيا ماركيز)، طالبا اللجوء السياسي في السفارة الشيلية لدى المكسيك حيث كان هاربا من بلده ومن قبضة البوليس الكولومبي الذي نشر صوره وطارده حتى في المكسيك، ولما سمع السفير الشيلي بإسم هذا الرجل اليساري طالب اللجوء، قال لهم سأعطيه جواز سفري كي يسافر به الى بلد آخر كي ينجو وسط دهشة العاملين بالسفارة من التصرف الجريء والخطير للغاية، وبالفعل حصل غارسيا ماركيز على جواز السفير الشيلي وطار به كسفير لشيلي وبهذه الطريقة نجا غارسيا ماركيز بعد أعظم تضحية في التأريخ الدبلوماسي من قبل السفير الشيلي الذي عرّض نفسه وسمعة بلده للمساءلة فيما لو مسكوا غابرييل ماركيز بجوازه المزور. ولكن من هو هذا السفير الفدائي الذي قدم هذا العون بدون مقابل بل من الممكن أن ينال جزاءه وعقابه الكبيرين؟ هو (بابلو نيرودا) العظيم...نعم هو بابلو الذي كان سفيرا لبلاده في ذلك الوقت في المكسيك وكان إسمه الحقيقي أنذاك (ريكاردو نفتالي..... نقلا عن الكاتب القدير حمزة الحسن). فهل هناك أعظم من هذه التضحية التي لم تحصل شبيهتها على الإطلاق ولن تحصل. هذا هو بابلو نيرودا الذي حزنَ حزناً مميتا على صديقه الشاعر الشيوعي الأسباني لوركا شهيد غرناطة. لذلك اليوم ونحن في القرن الواحد والعشرين وبعد كل الذي مضى وجرى على الشيوعيين استطعتُ أن أدركَ الوجع الوطني والحزبي لدى صادق الزعيري من خلال نصه (يا أبا الصفاء) لصديقه ورفيقه المناضل الناقد (شاكر رزيج) الذي كان مثالا للروح الوطنية التي فارقتنا إثر موتٍ كلاسيكي، حيث قال فيه:

رفيقي كم شكوتُ اليك سراً
وجهراً من سلاطين البلاء
رفيقي كيف تتركني وحيدا
وستيني تصارعُ في البقاء

حين اٌقرأ شعر صادق أندهش وأنذهل كما الأطفال الذين تروق لهم الفنون بشتى صنوفها، فأزداد حبا وولعا. صادق يمنحني السعادة الشيوعية الكبيرة ويدخلُ فيّ السرور الذي ألفته منذ سنين. أنه يعيدني الى هناك في السماوة وفي السبعينيات حيث كان مقر أحفاد عروة بن الورد في زقاق بسيط من الغربي وكيف كان يدخله صادق الزعيري والمرحوم المناضل رؤوف الحلاوي وكلاهما كانا وسيمين ومحبوبين من الجميع بحيث يجعلانني منتشيا بالخدر الرهيب الذي أتذكره الآن بعد هذا الكبر والسنين التي تعدو بنا على عجل دون درايةٍ منا.

صادق الزعيري هو النشيد والأغنية بكل مافيهما من جمال الروعة والطلّة والنغمة الموسيقية التي تحكي قصص العراق وجدائل نسائه الجميلات الحنونات وما يخطه اللون الأحمر في أبجدياتنا كيساريين منذ زمنٍ طويلٍ وحزينٍ وجميل ومؤلم لكنه الشجاع الذي إستطاع أن يقف بوجه الطغاه بنفس الوقت. هو المقدام الذي إستطاع أن يفتخر بنفسه من باب)أنا موجود (مع التماهي بالحب لعالم المرأة الذي لامفر منه بالنسبة لروح شاعر فياض بالبوح والأحاسيس إتجاه هذه المخلوقة اللطيفة الجنس التي تصطاد ألبابنا وإبداعنا وأقلامنا فتجبرنا أن نكتب عنها في كل شاردة وواردة ولذلك راح الشاعر صادق الزعيري في بداية أوراق ديوانه وقبل أن ندخل الى نصوص الديوان الرئيسية أن يكتب لنا عنها ويعترف بها من أنها الشغل الشاغل والمنازعات الكبرى التي تشغل أوراق المبدعين والكتّاب رغما عنهم أو طوعا لما فيها من السحر الذي يفتك بقلوبهم ويأسرهم... ولذلك ليس إعتباطا أن تدخل المرأة في أول صفحات صادق عند الإهداء (الى أمه..زوجته..إبنتيه رؤى وتيجان) لما فيها من مكانة خاصة كبيرة لدى الشاعر فراح يقول بهذا الخصوص:

سيدتي....
هل سيكون العالم
أسوأ من دوني
ويكون العالمُ أجملَ بوجودك

المرأة كالمحيط لايمكننا سبرأغوارها لكنها القنوعة للغاية إذا ما أحبت وعشقت حد الجنون ولذلك نرى ماركس وزوجته جيني وكلبين وثلاث قطط وعصفورين عاشوا في شارع (دين) في بيت قرب مجاري المدينة في لندن وبقناعة تامة بينما هي بنت الأثرياء. و في يوم قالت لماركس هل تريدني أن اذهب معك الى النار؟ ليكن ذلك.

(ليزي) عاشقة إنجلز وزعيمة في الحركة الآيرلندية وصديقة (إيلانوار) إبنة ماركس كانتا تشربان النبيذ حتى تسقطان وتنامان. (ليزي) هذه لم تكن تعرف اللغة لكنّ انجلز يعرف تسعَ لغات ورغم ذلك كانوا عاشقين حميمين تخلّدوا عبر التأريخ بحبهم هذا الذي أصبح مضربا للأمثال.

المرأة أكثر قرارا وحسما من الرجل..فلسنا نحن معشر الرجال سوى عبيد مساكين للوهم..اما حين تقرر إمرأة مضاجعة رجل فليس هناك من حاجز الا وتجتازه، ولاحصن الاّ وحطمته، ولا اعتبار اخلاقي الاّ وتكون مستعدة لخرقه من أساسه وليس هناك ثمة رب ينفع. هذه هي جمالات المرأة ووجودها في العالم الإفتراضي او الواقعي الجميل لدى صادق الزعيري، فراح يكتب لنا شذرته العاشقة الرائعة والتي إستوقفتني لجمال صياغتها ومعناها اللذيذ وشكلها الذي ينساب مع حلاوة النساء والتنقل بينهنّ:

الشيبُ في الفودين يفضحُ كبرتي
والقلبُ بين منىً وشيرينِ

لكنّ صادق بروحه المثقفة والشاعرة والعاشقة والتي تحترم المرأة راح يعذل النفس المتذبذبة في إعترافها بالمرأة في أحد ثيماته لما في العقل الباطن من ترسبات والتي تنط أحيانا وترجع الى بدويتها القادمة من صحراء العربي المتغطرس في كل شيء، لنقرأ حول ذلك:

ثمة بدويُّ ملثم في دواخلنا
ينتضي خنجراً
كلما سمعَ كلمة إمرأة

صادق الزعيري يعيش في المدينة وماتحويه من ورود ولوتس وياسمين وليس في تلك القفار وعاداتها البدوية بأشواكها اللاذعة كما نرى أدناه:

تستطيع ان تقتلَ وردة
لكن ليس باستطاعتكَ ان تؤجلَ الربيع
قد تغتال انسانا ما
لكن ليس بمقدورك َان تغتالَ الشعوب

(من المريح أن تنظر الى الأزاهير فهي ليست لديها صراعات ولاعواطف..سيغموند فرويد) فلاداعٍ أن تحاول قتلها فلايمكنك أن تعبث بالفصول الربيعية فهي قادمة لامحال مهما طال زمن الصقيع والزمهرير.

في تونس الخضراء إستطاعوا أن يغتالوا (البوعزيزي) الشغيل المعدم والذي أحرق نفسه منتحرا لإهانته بالطريقة المذلة ومن جرّاء ذلك ثار الشعب بأكمله وأسقط الدكتاتور (زين العابدين بن علي). في المغرب إستطاعوا أن يقتلوا بائع السمك وثرمه في مثرمة اللحم والأسماك مما أدى الى تأجيج الشعب المغربي وتظاهراته المستمرة بين الحين والآخر حتى اليوم. وهناك من الأمثلة العديدة التي تسطرها الشعوب في دفاعها عن الحرية ومن أجل قوتها ورفاهيتها ونضالها ضد الطغاة. الإنسان على مر الحياة الأزلية لم يستطع الإنفصال عن تراب مولده والذي سوف يدفن فيه في غالب الأحيان وتبعا لهذا تتشكل العلاقة المتينة بينه وبين الأرض التي تحمله وفقا للجاذبية الأرضية الخاصة في موطنه ولذلك حينما يُنفى المرء أو يسافر رغما عنه تختل موازينه ويزداد قلقه وحنينه لأرضه الأم وذلك لأن الجاذبية الأرضيه قد اختلفت لديه في البقعة الغريبة عن أرض بلاده وصباه ومنبع حليبه الصافي وهذا الرأي يتفق معه الكثير من علماء الإجتماع وعلى رأسهم الكاتب العراقي الشهيرعلي الوردي. لنمعن النظر في ماقاله الشاعر صادق بخصوص ذلك في (قصائد قصيرة جدا):

ثمة علاقة جدلية

بين قدميّ والأرصفة

هذه العلاقة ليست جدلية فقط وانما أزلية تتجه صوب السرمد، ولذلك نرى في بلدان الغرب وخصوصا في الأيام الحارة المشمسة نراهم يخلعون أحذيتهم ونعلهم ويسيرون حفاة فوق الأرصفة الترابية او الإسفلتية التي أعتادوا أن يسلكوها يوميا في أرض وطنهم كي يلتصقوا مباشرة بالأرض الأم وهذه كما يزعمون من أنها تزيدهم حبا نقيا لأوطانهم و تقيهم من شر أمراض الكآبةِ والعقد النفسية. ولذلك أصبحت لديهم هذه العلاقة نوعا من الحب الخالص والذي تتحكم به القلوب والعيون في مرآها لتلك الأرصفة والتي تعطي الإيعاز الخبري لتلك الأقدام التي أدمنت المسير ولايمكن لها أن تغادر أرصفة أوطانها الاّ هربا من السلطات الطاغية فتذهب الى المنافي البعيدة كما اليوناني الشهير (كافافيس) وماسطره لنا من أحزان المنفى. أو حال أغلب العراقيين في هروبهم من جحيم البعث وصدام، أو من وطنٍ أصبح اليوم وكر ذئابٍ وعصابةٍ من السرّاق والخونة. يهاجر العراقي من أرض النعي لا الموسيقى ولا المسرح العراقي الأصيل ولا السينما ولا داخل حسن يغني..انها أرض الشاي في عز الظهيرة الحارة دون الخمر والخمارات في الليالي الباردة والنسائم العليلة التي كنا نعيشها، وليس هناك من تغييرٍ يلوح في الافق لأن العمائم لايمكنها أن تصبح حمائم..انها باقية لدورة أخرى مثلما الدورة التي قضاها البعث المجرم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى