غاري سوتو حلم ينتاب القطن
ابن الطبقة العاملة في القرن العشرين، غاري سوتو، لم يكن انتماؤه بمعزل عن شعره، فقد تناول حياة الفقراء وتحدث باسم مواطنيه وأبناء جلدته، إنه الجوال في الحانات وشوارع المعدومين والمغيبين، وهو الذي نشأ في حي مكسيكي سيء في أميركا.
ولد غاري سوتو عام 1952 في كاليفورنيا، ومنذ طفولته عمل مزارعاً في حقول البرتقال والقطن والعنب، وحين بلغ الخامسة قُتل أبوه في حادث لتنتقل العائلة التي دُمر وضعها الاقتصادي والمعنوي إلى حي أكثر سوءاً في منطقة صناعية، وحين دخل سوتو إلى المدرسة كان وضعه سيئاً وصعباً لأنه لم يزل مستمراً في العمل الصعب والضاغط الذذي يستهلك قواه ووقته كمزارع، ما أودى به إلى حياة التهتك والتسكع في الشوارع وملاحقة الفتيات، لم تكن ثمة فرصة ليحقق سوتو أي نوع من الثقافة سوى ثقافة الحياة في تلك الفترة، فبين البيت الخالي من أي كتاب وبين المدرسة التي لم يهتم بها، قضى معظم وقته في العمل أو هائماً على وجهه في الشوارع.
بعد هذه الفترة الصعبة بدأ غاري سوتو يتردد على مكتبة المدرسة ويطالع كتب المؤلفين الأميركيين، لاسيما إرنست همنغواي، ثم بدأ يتردد على مكتبات المدينة.
اشترك سوتو مع زملائه في العمل بالثورة ضد أصحاب رؤوس الأموال بغية الحصول على أجورهم التي يستحقونها، وعلى العناية الطبية والرواتب التقاعدية وسواها، وقد وجدت هذه الثورة صدى فيما بعد حيث حصل العمال على تحسين في الرواتب وضمانات وعدم إلحاق الضرر بهم باستخدام بعض أنواع مبيدات الحشرات، ومنحهم فترات الراحة اللازمة، وقد تناول سوتو هذه التجربة في إحدى رواياته فيما بعد.
أراد سوتو أن يخرج من حالته المعيشية الصعبة بأي ثمن لذلك قرر بعد مطالعاته المكثفة أن يدخل الجامعة فسجل في جامعة نيويورك،لم يخطر بباله وقتها أنه سيصبح شاعراً، فقد أراد أن يصبح كاهناً أو عالم دراسات قديمة،حتى عثر وهو في السنة الثانية من دراسته الجامعية على كتاب للشاعر إدوارد فايلد التي غيرت رؤيته للشعر حيث كان يعتقد أنه لا يتعدى أن يتناول الطبيعة من أشجار وطيور وجداول، أما في هذه المجموعة وجد إدوارد مجسداً لحياة المدينة والناس بكل تفاصيلها، بعد ذلك عثر على مجموعة الشاعر بابلو نيرودا(أنا عُضضت)، فتفتحت رؤاه الشعرية ليترك فرعه ويسجل في قسم اللغة الانكليزية، فقد أراد أن يصبح كاتباً.
بدأ بنشر قصائده أثناء الدراسة، وأصدر مجموعته الأولى(عناصر سان جوكين)، التي تناولت حياة اللمكسيكيين البائسة في كاليفورنيا، وبعد هذه المجموعة التي عُدت نقطة تحول في تجربته على صعيد الانتشار بدأ بحصد الجوائز، فقد حازت هذه المجموعة على الجائزة الأولى لمنتدى الشعر الدولي عام 1976، وأعادت(نيويورك تايمز) طباعة ست قصائد منها فيما بعد.ثم تتالت مجموعاته الشعرية (حكاية نور الشمس-1978)، (كلية صغرى-1997)، (نوع واحد من الإيمان-2003)، (سجل الكتب-2007)، وفي عام 1995 حازت مجموعة من قصائده المختارة على جائزتي لوس أنجلس تايمز وجائزة الكتاب الوطنية، كما حاز على جائزة باتريسيا بيتي، والوسام الفضي من نادي كومنولث في كاليفورنيا، وجائزة الأدب من مؤسسة التراث الإسبانية.
بالجوائز التي نالها غاري سوتو، وبما حققه من انتشار، لا نعده مغبوناً لأنه مكسيكي ابن طبقة عاملة، إذ إن الوقت الذي يعيش فيه يهيء من الديمقراطية ما يمحق التمييز العنصري الذي عانى منه الأميركيون لسنوات طويلة.
اتجه سوتو إلى كتابة شعر اليوميات، ومع أنه تأثر بالسوريالية إلا أنه لم يكن بالغ الهلامية والغموض، وأكثر ما نجد سورياليته في الصورة المباغتة والمدهشة وغير الواقعية، فالصورة في شعره ليست ربطاً بين شيئين من العالم لا يخطران على بال المتلقي، بل هي انحياز نحو المطلق تمزج بين الحسي والذهني بعمق ومهارة فائقين.
أكثر ما كتبه هذا الإنسان العصامي المدهش كان من ذاكرات الطفولة البائسة، كمرآة لحياة المساكين المكافحين، وحتى بعد قطعه لمراحل عمرية طويلة يستحضر طفولته بشفافية وهو العامل المزارع الفقير، لم يؤهل شيء غاري ليصبح كاتباً سوى جده وإصراره وثقافته وحبه للحياة، أكثر ما كتب عن حياة المكسيكيين بشكل ساخر ولاذع أحياناً، كما كتب للشباب والأطفال (قصته الأشهر البيسبول) بالإضافة إلى شعر الأطفال، وجميع كتبه تتحدث عن حياة الجالية المكسيكية من المتكلمين بالإسبانية في كاليفورنيا، وحتى لغته كانت مزيجاً من الانكليزية والإسبانية لكنها ذات طابع عالمي.
يعايش غاري سوتو كتاباته بشكل دائم، فهو لا ينعزل وراء طاولته بغية الكتابة فحسب،بل بعد أن حقق ما حققه من الشهرة والإصدارات والجوائز حتى الآن فإنه يزور مدارس الأطفال ويخرج مع الشبان ويتفاعل معهم بالغناء والرياضة، إنه كاتب حياة،لا يعيش لأجل الكتابة من منظور ضحل وضيق كما يفعل الكثيرون ممن وصلوا إلى مرحلته، يقول: من الأفضل أن يكتب الشاعر الشعر وأن يعيش كشاعر أيضاً.
كتب غاري سوتو الرواية والقصة مع الشعر، ومن رواياته (جامعة مكسيكو الجديدة-2003)،(حبيب الشعر-2001)، (نيكل ودايم-2000)، (مذكرات تعيش فوق الشارع-1985)(مجموعة قصصية) والتي حصدت جائزة كريستوف كولومبوس في نفس العام.
لغاري سوتو أكثر من عشرين كتاباً في الشعر والنثر للكبار، وأكثر من ثلاثين للأطفال.
وفي قصيدته التي قمنا بترجمتها يتحدث عن العالم المُعدم، عن مشاكسة الواقع ووحشته وخلوه من غير الفراغ والفقر والانزواء،لدرجة أن الخوف يسيطر على من يتجول معه في هذا النص غير الواقعي والمليء بما يخص الواقع، وسوتو يطرح نفسه كحلم ساحر للقطن في وجه المعزقة، إنه منام ليس إلا ولكنه منام محسوس.
النخلة الحمراء/غاري سوتو
ها أنتَ تحلُّ في هذا الحلمِ الذي ينتابُ نباتاتِ القطن
ترفعُ رأسَ المعزقة ثم تتفحص الأرض
لتحشَّ الأعشاب الضارة التي تتساقط متأوهة
تتقدم خطوة أخرى، تعاود قطعها، لتتصاعد التأوهات ثانية.
حتى تكونَ أنتَ نفسك
تنفَّس عبر ذلك الطريق مع كل خطوة تخطوها
مع كل خطوة ستتبعك تأوهات الأعشاب باتجاه المدينة.
بعد ساعات، الشمسُ سوفَ تكونَ كالقَرح الأحمر
تأتيْ وتحلِّقُ فوقَ نخلةٍ حمراء، إن ظهركَ قويٌّ وفتي،
ولكن لا يكفي لكسر كرسيٍ في مدرسة مهجورة من غير العناكب الجافة
الغبار يستتب على جبهك، ابتسامات الوسخ تحت كل ظفر من أظافرك
وعند نهاية الصف الأول تستطيع أن تشتريَ سمكة رائعة لزوجة وثلاثة أطفال
عند صف آخر تشتري سمكة أخرى
إلى أن تتوقف عن الحركة لتناول الحليب، الخبز، اللحم، عشر ساعات من صرير دواليب السيارات، تستطيع أن
تأخذ استراحة في الفناء الخلفي تحت شجرة، ويداك ترتجفان في حضنك كسمك على رصيف أو في قاع
مركَب، تشرب الشاي المجمد والدقائق ترتج وتئزُّ مثل الذباب.
إنه الغسق، لقد حل الليلالأضواءُ ما زالت ساطعةً في منزلكإن ذلك يكلفك مالاًالضوء الأصفر في المطبخهناك ثلاثون خطوة أمامك لتبلغهتقول ليديك اللتين تحولتا إلى منظارين ترفعها إلى عينيك:كنتُما حمقاوتين في المدرسة، والآنَ انظرا إليكماكنتما عملاقتين بين نباتات القطنوالآنَ تريانِ طفلكما القديمتريانِ المطريقول أبو الطفل: آن لك أن تأتيْدفعتماه ليسقط في حضنيكماالريح تسالم الأشجار خارجاًالنجوم شديدة الاضطراب في الظلاموأنت تنهض وتتبع ما قالته نباتات القطنثم تذهب إلى النوم مع الشمس الحمراء في نخلتكإنها جرح الضوء الذي تلمحه كلما تحركتَ فوق السرير.