وصولاً إلى نصٍ في الريح
إذا كانَ موت المؤلف أهم فكرة اشتهر بها رولان بارت،فإن البحث عن اسم المؤلف أهم ما يُشتهر به القراء العرب،حتى أن أكثر من يطالعون الجرائد اليومية-ممن يقرأون النصوص الثقافية-يبحثون عن الأسماء دون النظر إلى عنوان النصوص،ويقرأونها تبعاً لذلك.
ومع أن النص المشتركَ يلغي خصوصية المؤلف وأسلوبه المستقل أحياناً،إلا أنه خطوة فعالة في إبعادنا عن وهم الاسم،وفي الاندماج الإنساني عن طريق الكتابة بحثاً عن شيء جديد يصل إليه كل فردٍ من كتاب النص،هذا البحث يمنح لذة لكل من كتبه بما يشبه الحوار وتبادل المشاعر،حتى يجد كل منهم ما ينقصه في الآخر،فالمبدعون ليسوا متشابهين بقدر ما هم مختلفون ومتكاملون.
النص المشترك يشبه ورشة عمل إبداعي،تختلف باختلاف الفكرة ومدى انسجام كتاب النص من حيث اندماجهم بحالته،والشعر له خصوصية كبيرة في هذا الأمر،هناك من يكتبون قصائد مشتركة اليوم على الشكل التالي:يعلنون عن موضوع ما ويطلبون من أي شاعر كتابة أبياتٍ من قصيدة على بحر واحد متفق عليه يتصل بالموضوع،ولكن هذا غير مجدٍ،لأنه لا بد من أن تُعاش حالة معينة،فالأمر ليس طرح فكرة وبحر فقط.
الغاية الأبعد التي يسعى إليها كتاب النص المشترك ترسيخ كل من الحالة/الصورة/الإدهاش أكثر في أعماق القارئ،فالنص المشترك يجذب القارئ ويدخله في البحث عمن كتب كلاً من مقاطعه،ووضع القارئ هنا يشبه من يبحث عن الطريق الموصل إلى قرية،وأثناء البحث يجد الكثير من اللؤلؤ مصادفة،فينسى القرية/الاسم ولا يهمه عنوانها.
لكن القارئ الواعي يجب أن يتعرى من كل شيء خارج النص:اسم المؤلف،العنوان،ربط النص بمؤلفه،وسوى ذلك سواء كان النص مشتركاً أم لم يكن.
أكثر النصوص التاريخية الخالدة كانت بلا أسماء،أو اختلف على اسم من كتبها،الكتب الأكثر شهرة:العهد القديم و العهد الجديد والقرآن الكريم مجهولة القائل عند من لا يعدها كتباً سماوية،ورباعيات الخيام قيل فيها ما قيل من الزيادة والنحل بما ليس فيها من قبل آخرين،ومع ذلك ظلت الرباعيات من أجمل الأعمال الإبداعية في كل العصور،ومن يدرس التاريخ الأدبي في العصر العباسي يعلم أن الراوية (خلف لأحمر)الذي روى معظم أشعار الجاهليين ومنها المعلقات كان كثير النحل،وكان –كما يقول الأصمعي-يكتب الأبيات وينسبها إلى غيره،أو ينسب أبيات إلى شاعر قالها شاعر آخر،فاختلط الأمر ولم يُعرف القائل الحقيقي كما ذكر الأصمعي أيضاً،ما يعني أن المعلقات ومنها معلقة امرئ القيس قد لا تكون لأصحابها كلها،وهو ما أكده طه حسين في كتابه(في الشعر الجاهلي)،وإذا نظرنا من منظار إنساني لا يرجو إلا الوصول إلى التفاعل مع النص كحالة إنسانية لن يهمنا اسم الكاتب،من امرؤ القيس؟ولنفترض أنه صاحب المعلقة الخالدة بشكل قطعي،هذا لن يقدم ولن يؤخر شيئاً بالنسبة لقيمتها.
كثيراً ما نقع تحت سطوة تأثير الاسم،بل إننا قراء أسماء أحياناً،من منا لا يقرأ قصيدة كُتب تحتها اسم(محمود درويش)مثلاً،مع أنها قد لا تكون في المستوى المطلوب،ولكنَّ وهم الاسم يوقعنا في شرَك تبجيل النص ويبعدنا كثيراً عن التجرد والتماهي معه بحياد،لذلك كان كتاب عالميون ينشرون بأسماء مستعارة خوفاً من أن لا يكون النص في المستوى الذي يرغبون به،ومنهم دوستويوفسكي،من منا يفعل ذلك اليوم؟.
النص المشترك مغامرة أبعد غوراً ومليئة بالمفاجأة والاكتشاف،ونحن بحاجة إلى المغامرة فيما نكتب حتى نصل إلى المغاير،لأن المغاير أكثر إدهاشاً ومتعة.
هل سنصل يوماً إلى نصٍ برائحة البحر والموز دون لافتات؟دون عنوان أو اسم مؤلف ودون جنس يقننه؟ نص في الريح لا يدفعنا إلا إلى البحث عنه وعنا بلا رتوش وأبواب ومنمقات،فهذه الأشياء لا تهم حقيقة،خصوصاً إذا علمنا أن النص ليس إلا تجسيداً لشيء ما لا نعرف اسمه،وهو تجسيد قاصر دائماً،أما ما لا نعرف اسمه فإنه يبقى الأجمل والأنقى.
أذكر الآن (نشيد الإنشاد)،ترى من صاحب هذه التحفة الخالدة؟لا يهم الأمر...