في ذكرى المفكر اليساري العراقي
النصوص الفلسفية العراقية الاصيلة كثيرة في القرن العشرين الا ان معظمها تعرّض للضياع او الاندثار او السرقة بفعل الاهمال والجهل وتدهور مكانة الهيئات العلمية والاكاديمية المستمر دون توقف منذ اربعين عاما.
وتقف في مقدمة تلك النصوص مؤلفات فلسفية رفيعة المستوى نال بعضها شهرة عالمية لمفكرين وعلماء مبدعين مجهولين في بلادهم اجمالا، يمثلون ايضا تيارات فلسفية عراقية مختلفة، اذكر من بينهم اساتذتنا الكبار (مصطفى كامل الشيبي) في فلسفة التصوف، (ومحسن مهدي) في فلسفة التاريخ، (وحسام الالوسي) في فلسفة الكلام، (وياسين خليل) في منطق الرياضيات، (ومدني صالح) في فلسفة الجمال، (وكريم متي) في الفلسفة الغربية، (وصالح الشماع) في فلسفة اللغة وغيرهم.
بيد ان مبدعا عراقيا مجددا في البحث الفلسفي ينبغي ان يذكر بجدارة ضمن هذه النخبة من العقول النيّرة هو الدكتور الراحل (عبد الرزاق مسلم) الذي تمثل مؤلفاته الفلسفية العديدة اول محاولة في العالم العربي لدراسة (نظرية ابن خلدون في علم التاريخ) من وجهة نظر مادية تاريخية، معمقا ومواصلا تيارا فلسفيا عالميا في هذا المجال تؤكده مؤلفات تكشف عن موهبة علمية واثقة وطموحة لديه في مجال دراسة الفكر الفلسفي لا سيما عند (ابن خلدون) الذي خصه الى جانب أطروحته باللغة الروسية بعدة دراسات بالعربية من بينها كتاباه المنشوران (مذاهب ومفاهيم في الفلسفة وعلم الاجتماع) و(دراسة ابن خلدون في ضوء النظرية الاشتراكية) (بغداد – 1976).
ولد الدكتور (عبد الرزاق مسلم ماجد) (اوالماجد) عام 1929 في الناصرية وفي عائلة ثقافة، اذ كان والده معلما في المدينة تلك المعروفة بعطائها الادبي والفني والسياسي المبكر والخلاق في القرن العشرين. وبعد اكمال الدراسة التمهيدية والتخرج من معهد المعلمين العالية (1947- 1951) عمل اولا استاذا للعربية في ثانويات الناصرية والخالص وبعقوبة ثم في بغداد بعد ثورة 1958، قبل ان ينتقل الى دراسة الفلسفة في جامعة موسكو(1960 – 1966) ليعود استاذا للفلسفة في جامعة البصرة لنحوستة اشهر فقط قبيل اغتياله غدرا في يوم الخميس المصادف 21/3/1968.
ففي الساعة السابعة من مساء ذلك اليوم، كان الباحث الراحل واستاذ آخر للفلسفة في جامعة البصرة يجتازان شارع كورنيش شط العرب في الطريق لزيارة زميلهما رئيس قسم الفلسفة المريض في بيته. الا ان زيارة المجاملة تلك تحولت الى فاجعة للفكر العراقي والعربي عندما انطلقت رصاصات عدة كانت لهما بالمرصاد تركت عبد الرزاق مسلم مضرجاً بدمه على الرصيف نازفا حتى الموت عن عمر لم يبلغ الاربعة عقود، فيما نجا منها زميله الدكتور موسى الموسوي، وهوجامعي ايراني معارض وحفيد مرجع روحي شهير، الذي نقل الى التدريس في قسم الفلسفة من جامعة بغداد اثرئذ حيث كنا طلابا بعد.
ورغم اتهامات بارتكاب الجريمة وجهت الى اجهزة اغتيال بعثية اورجعية اومخابراتية اوالى السافاك الشاهنشاهي الايراني، ورغم اثارتها لمظاهرات احتجاج واسعة لا سيما لطلبة وأساتذة الجامعات العراقية الذين خرجوا في البصرة وفي بغداد مطالبين بالقصاص من القتلة، الا ان تلك الجريمة السياسية ظلت دون تحقيق جنائي لحد الآن. الموسوي من جانبه امتنع عن ان يروي لنا شيئا عن الحادث ومعلوماته المحتملة عنه رغم اسئلتنا اللجوجة بشأنه كما لم نسمع بأنه كتب عنه شيئا رغم انباء متضاربة افاد بعضها ان الجهة التي نفذت الجريمة هي المخابرات العراقية واستهدفت المفكر الراحل لنشاطه اليساري والديمقراطي فيما قال غيرها انها مخابرات اجنبية كانت تستهدفه اوالموسوي الذي صار لاحقا شخصية مثيرة للجدل والاتهامات السياسية والفقهية قبل ان يوافيه الاجل قبل عقد ونصف من الزمان في الولايات المتحدة الامريكية حيث كان المقام استقر به فيها هربا من ملاحقة السلطات الايرانية.
ولعل دراسة نشرتها له في عام 1968 مجلة «المورد» الصادرة عن جامعة البصرة عن "نظرية المعرفة عند ابن خلدون" تعبر بشكل واف عن منظورات المفكر عبد الرزاق مسلم في مجال الفلسفة الخلدونية، وهي منظورات كانت لولا اغتياله ستأخذ ربما لديه منحى اكثر خصبا وتوسعا وتأثيرا في مصير ذلك المنظور الذي اراد ان يثبت علاقة قوية بين ابن خلدون والفلسفة، وان يجد في "المقدمة" افكارا تدعم التفسير الماركسي للتاريخ وتكون جذرا لنظرية ماركس حول تطور قوى الانتاج، وهوتفسير كان قد أسسه في اوربا قبلئذ عدد من ابرز المهتمين بدراسة ابن خلدون لا سيما ايف لاكوست في كتابه (ابن خلدون - مؤسس علم التاريخ" (باريس - 1954 )، وفرانز روزنتال في ترجمته لمقدمة ابن خلدون الى الانكليزية (نيويورك 1958)، وكتابات سفتيلانا باتسييفا في "العمران البشري في مقدمة ابن خلدون" و"نظرية فلسفة التاريخ عند ابن خلدون" "الاسس الاجتماعية لنظرية ابن خلدون في لفسفة التاريخ" و"البحث التاريخي الفلسفي لابن خلدون"، و"مقتطفات مختارة من ابن خلدون" نشرت بين 1958 و1965.
وهكذا، فبعد ان يلاحظ ان معظم الذين بحثوا ابن خلدون حتى الستينات أهملوا التطرق الى دراسة أفكاره الفلسفية، ينتقد عبد الرزاق مسلم موقف هؤلاء واستنتاجهم بان ابن خلدون يرفض الفلسفة منطلقين من فصل في "المقدمة" تحت عنوان «إبطال الفلسفة» حاول فيه تأكيد تهافت منطق الفلاسفة المسلمين المتأثرين بالفلسفة اليونانية. فبالنسبة للباحث العراقي الراحل ان ابن خلدون هوواحد من "الشخصيات الفذة في تاريخ الفكر الفلسفي" وان هذا موضوع «إبطال الفلسفة» تحديدا وعكس ما يوحي به عنوانه، "لم يكن في جوهره الا انتصاراً للفلسفة وابطالاً للافكار الميتافيزيقية والتأملية الشائعة في ذلك العصر"، معتبرا انه لا ادل على تثمين ابن خلدون للفلسفة اعتباره العلم الذي ابدعه (علم العمران البشري) فرعاً من فروع الفلسفة وتأكيده على الصدق المطلق للعقل على اساس قوله بأن «العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية لا كذب فيها».
أما لماذا اختار ابن خلدون تلك تسمية «إبطال الفلسفة» للفصل المشار اليه فليس من الصعب تبيانه حسب عبد الرزاق مسلم "اذا أخذنا بعين الاعتبار الحالة السياسية والفكرية التي كانت تسود المغرب في القرن الرابع عشر الميلادي". فقد ظهر ابن خلدون برأيه في عصر "كانت السيادة فيه في الحقل الفكري للنظر الميتافيزيقي، اذ منذ الضربة التي وجهت للفلسفة في شخص ابن رشد في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، لم يعد للبحث في ظواهر الطبيعة والمجتمع على أساس علمي أي محل في دراسات مفكري العصر، وقد ساعد على تعميق هذا الاتجاه انتشار المدارس الصوفية في بلاد المغرب انتشاراً واسعاً".
كما يعتقد عبد الرزاق مسلم ان أولى موضوعات مذهب ابن خلدون الاجتماعي تشير الى ان التطور التأريخي يخضع لاحكام قوانين الضرورة، وان مهمة العلم تقوم في اكتشاف هذه القوانين على اساس استقراء الحوادث، أي على أساس تجريبي. أما الاخلاق فقد عدها ابن خلدون اجتماعية المنشأ، فليست هنالك غريزة يميز بها الانسان الحسن من القبيح تعمل قبل التجربة، وانما تقام القواعد الاخلاقية على المصلحة وتتعلق بالظروف التي تعيش فيها الجماعة.
وهكذا فالهدف الرئيسي لفلسفة ابن خلدون كان برأيه "البحث عن قوانين التطور التاريخي في طبيعة المجتمع ذاته، وهوأمر يقتضي أولاً وقبل كل شيء سلوك اتجاه مغاير تمام المغايرة للاتجاه السائد في البحث آنذاك، والاستناد الى اساس فلسفي محدد في المعرفة. ولهذا كما يرى عبد الرزاق مسلم، بدأ ابن خلدون من التمييز بين مسائل العلم ومسائل العقيدة وحدد مصدر كل منهما كما نفى أية امكانية للتداخل بينهما. فالمعرفة العلمية عنده ممكنة فقط بالنسبة للعالم الواقعي –الطبيعة والمجتمع- لأن هذا العالم –على حد تعبير ابن خلدون- «وجداني مشهود في مداركنا الجسمانية والروحانية»، أما الروحانيات وغيرها من مسائل العقيدة فليست مما يدخل في اطار المعرفة العلمية لانها ليست مما يقع تحت طائلة الحس والتجربة ولا مما يخضع للعقل، ومصدرها وبرهان صحتها الشرع فقط". من هنا يستنتج ان المنطلق الحسي المادي في المعرفة كان الاساس الذي اعتمد عليه صاحب "المقدمة" في صياغة مذهبه في الاجتماع والاخلاق".
وهواستنتاج تبسيطي من وجهة نظر فلسفية في نظرنا فرضته ربما منهجية ميالة الى التعميم والنظرة الواحدة وهي المادية التاريخية هنا. فجوهر هذه الاراء هونفسه الذي كان قد دافع عنه عدد من الباحثين السوفييت الذين سعوا لجعل فكر ابن خلدون دعامة لمنطلقاتهم الماركسية بأي ثمن احيانا برأينا كما تعبر عن ذلك بحوثهم الرئيسية التي نشرت خاصة في مجلة الاستشراق السوفييتي ومنهم قبل سفتيلانا باتسييفا، بلاييف في دراسة عن نظرية ابن خلدون التاريخية الاجتماعية نشرت في 1940، وكذلك بي ليفن في دراسته عن "ابن خلدون العالم الاجتماعي العربي" (1926) وغيرهم.
كما ان هذا الاستنتاج نفسه نجده عند معظم الباحثين الماركسيين الذين تناولوا نظرية المعرفة عند ابن خلدون فاعتبروا انه ينطلق في من مواقع (حسية مادية)، تعتبر الاحساس نقطة البدء في المعرفة العلمية وتعتمد التجربة الخارجية أساساً لنشوء هذا الاحساس. كما اعتقدوا ان ابن خلدون قد حل المسألة الاولى في الفلسفة – أي علاقة الفكر بالطبيعة – حلاً في صالح المادية ناسبين لابن خلدون اعتبار الانسان ووعيه أعلى نتاج للطبيعة، والاقرار لموضوعية الحركة والسببية والضرورة وغيرها من صفات الواقع الجوهرية قبل ان يكتشفها الفكر الانساني.
هذا العرض الموجز قد لا يقدم صورة وافية عن الاطروحات الرئيسية في كتابات عبد الرزاق مسلم، بيد ان هذا هدف يتطلب دراسة اعمق اكبر لم يكن هذا المقال الا بمثابة دعوة لأجرائها كما هودعوة لاعادة نشر مؤلفاته المنشورة وغير المنشورة ضمن مشروع نشر يهدف الى تكريم كافة المؤلفات الفلسفية العراقية الحديثة وجعلها بين يدي اوسع جمهور ممكن من الباحثين والقراء.