قراءة نقدية لديوان نجمة الخزاف
وانت تعبر نصوص الشاعر جمال عمائمي تلهبك نصوصه لذة، وتقودك في رحلة ممتعة تتزين بأزياء متباينة، تتجاوز فيها اللغة، المألوف واليومي إلى صورة تتغير في الطبيعة الذهنية للمدلول ليحقق الشاعر من خلالها وظيفة الشعر ليتحول المعيش المنقضي إلى مقروء يكشف الكثير من تحولات الذات الشاعرة. ويقرع أجراس الواقع الذي يعيشه في تلك اللحظة ليولد من رحم هذا الصراع، حين يقلب طين الكلمات مجموعة شعرية اختار لها الشاعر من الأسماء "نجمة الخزاف" الصادرة عن دار الثقافية للنشر والتوزيع فيفري 2022. يصور فيها الصراع الوجداني الذي يعيشه بما له من إحساس مرهف يدفعه إلى التعبير عما يحيط به باعتماده على قوالب إبداعية مختلفة.
وقد تنوعت القصائد من حيث الغرض، فنجد العاطفي، والوطني، والسياسي، والاجتماعي، كما تتناسق وتجتمع الأغراض في بعض القصائد بانسيابية مدهشة. فالشاعر يُعبر عن كوامن النفس، ويتحدث عن تجربة ذاتية، تُعبر عن تجارب وأحاسيس جماعية. فالكتابة الشعرية لدى جمال عمائمي تستوجب تنوعا في الأسلوب والإيقاع إلا أنها تختلف في تصنيفها من حيث مواضيعها مهما تنوعت الأشكال وتعددت المواضيع فهي تجربة حياتية غير مخصوصة منفتحة على القارئ.
فـ (نجمة الخزاف) وما يضفيه هذا العنوان من الكآبة والانعزال بالإضافة إلى مشاعر الحزن والقلق قبل أن نغوص في محتوى وكوامن المجموعة الشعرية، لتخرج لنا نصوصا تزدحم فيها المشاعر بالإيقاع والوجع بالألم والغربة بالحلم والظلمة بالضياء، حين يستباح دم القصيدة فوق جثمان الوطن، ولينحت على شفة القصيدة أصوات الغياب، حين يصيب بسهم القصيدة قلب الرصيف، وقد همس الشعر لأجنحة القلب والحرف، أنشودة الوطن، ويتسلق شفة الفجر، ويعلن ميلاد مملكة القصيد.
فبتصفحنا للمجموعة الشعرية نتبين من العناوين الفرعية أن الشاعر جمال عمائمي يضع نصب أعييننا الحالة النفسية التي يعيشها لحظة الكتابة حيث أنه يعيش حالة صراع بين الألم والحزن والقلق من جهة والسعادة والفرح من جهة أخرى، فالشاعر يحاول ألا يتملص من واقعه، إذ إن الوظيفة الأولى للشعر –لاسيما المعاصر-هي التعبير عن الواقع بما فيه من أحداث ونقل معاناة الناس وطموحاتهم من خلال صوت الشعر، فجاءت معظم أغراضه كما أشرنا إنسانية اجتماعية وطنية.
"شاعر صلبته الحياة
وألقت بجثته في مروج العراء
يشذب أغصان غربته كل يوم
ويسقي منابت أحزانه بانتظام
شاعر
ماهر في الرماية جدا
يصيب بسهم القصيدة
قلب الرصيف"(ص13)
ليتحول النص من لغة ضوئية -إن جاز وصفها-إلى لغة تتلاشى تحت سلطة الظلمة فعبارة مثل (الليل) تكررت في المجموعة 38 مرة، دون اعتبار الألفاظ التي تدل على معنى الظلمة، فاستخدامه مثل هذه الكلمة بكل ايحاءاتها وبكل هذه الكثافة هو أمر لا يمكن أن يكون مصادفة، أو نتيجة ضعف، بل نتيجة التجارب الشعورية التي مر بها الشاعر من شعور بالقلق والحزن، فالليل هو الأسرار والعتمة والاختفاء، وهو الظلام الذي يخفي كل شيء وهو الغموض والكتمان والظنون، ليصبح الليل بحكم الواقع هو الزمن المشبع بالحرية، والملبي لطموحات الذات ورضى النفس، فصارت مفردة الليل تتسلل من بين أنامله لتستقر في ثنايا النص معبرة عن عدة دلالات ومعاني.
"في غسق الليل في شهقة الصبح
في الساعة العاشرة
نموت ونطوى سريعا
ونبقى حديثا يذاع على شاشة الليل
في نشرة عابرة
نموت على مسرح عبثي بلا معمدان
كأنا أتينا هنا صفقة خاسرة"(ص48)
في حين أن عبارة (الضوء) بجميع مشتقاتها قد وردت 25 مرة، بالإضافة إلى تكرار ثيمة (الشمس) حوالي 17 مرة. ليكون التكرار عند الشاعر جمال عمائمي من خلال مجموعته الشعرية (نجمة الخزاف)، له أهمية بالغة، بما أن التكرار في الشعر الحديث يهدف لاستكشاف المشاعر الدفينة وتبيين الدلالات النفسية والوجدانية لدى الشاعر، حيث يؤدي إلى دلالات معينة ليعبر عن همومه ولإثارة إحساس المتلقي.
فهذه الثنائية (الليل ≠ الضوء/ الظلال≠ الشمس) استعملها الشاعر للتعبير عن الألم والوجع الذي رافقه وعبر عنه بصورة جلية فهو يحاصرنا بنمطية فرضها على طول المقاطع الشعرية.
"أتت من الليل
قطعان مخربة
فأفسدت زرعها واستوطنت فيها
جريحة
من سموم الغدر كم شربت
جلادها هو بالتحديد راعيها
لم يبق للفجر
تسبيح وأدعية
أو للنوارس ألحان تغنيها
أو للفراشات أضواء تراقصها
أو للعصافير أوطان تغنيها" (ص37)
ليخرج النص عن سياق المألوف لكشف الفكرة وتعرية مراميها، بتقنية التكرار والتي عبر عنها الدكتور صميم إلياس كريم بقوله: "وتكمن شاعرية التكرار وقيمته الإيقاعية والدلالية بخاصة في أن مبدع النص/ الشاعر يحاول الاتكاء على تقنية التكرار أن يكشف لنا عن الأمور والأشياء والنوازع التي يعني بها أكثر من غيرها، فهي عباراته لأنه تشكل مرآة صادقة تعكس ما يخالج الشاعر ويعتري وجدانه "(1).
وبما أن التكرار في الشعر الحديث يهدف لاستكشاف المشاعر الدفينة وتبيين الدلالات الداخلية للنص كما يعد أحد المسالك المؤدية بالضرورة إلى إفراغ المشاعر المكبوتة، وهو رغم تنوعه لم يأت عشوائيا كما قلنا ولكنه جاء لإثراء القصيدة إيقاعيا وكذلك لإثارة المعنى بتراكيب جديدة لم تكن دارجة أو شائعة الاستعمال في الشعر الحديث، كما يحفز المتلقي للنظر والبحث في دلالات القصيدة ومراميها، فالتكرار يعد من الأسس الأسلوبية التي تعمل على التماثل في النص الشعري خاصة وأنه يساهم في تمتين وحدة النص وتماسكه بالإضافة إلى أنه مرتبط بالحالة النفسية للشاعر بشكل مباشر، وما يريد أن يبعثه من رسائل ومضامين فكرية، خاصة مع أنسنه لفظ (الريح) التي تكررت 15 مرة، والتي ترمز إلى الشوق والحنين، والحبيبة، كما أن الريح ترمز لغضب الشعب وثورته وانفعالاته، حيث بدت أفعال الريح أفعال إنسانية فهي (تعري، وتكيد، وتغتال، وترقص، وتخاتل ...).
"رغم تحريف النصوص
ورغم كيد الريح للشجر اليتيم
يلوذ بي
قمر تمزق ظله
شفق تداعى للغياب
تحط فق ذراي أجنحة
تهاجر من سباخ الملح
نحو مدينتي(ص27)
ولكن هنا لنتوقف عند لفظ الريح، التي وردت بصيغة المفرد، لماذا لفظ الريح وليس الرياح إذا نظرنا للمنظور القرآني الذي يشير أن لفظ الرياح يدل على موضع الرحمة في القرآن، والرياح يأتي منها الفوائد الكثيرة، مثل إصلاح الهواء، وإثارة السحاب، ونزول المطر، ومنها أيضاً الرياح المُبشرات التي وردت في القراًن بلفظ "المبشرات" مرة، وبلفظ ” بُشراً " مرةً أخرى حسب المفسرين. أما لفظ الريح فيدل على معنى العذاب والهلاك، حيث ورد عن النبي صلة الله عليه وسلم، أنه كان يفزع إذا رأى الريح ويقول " اللهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت به"، وسُميت لفظ الريح في القراًن بالعاصف، في قوله تعالى "ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره ".
"فوق هذي الأرض
زيتون وأعناب ورمل باسق الطلع
وأنهار من الأعياد والذكرى
وقمح يطعم الرؤيا
ونخل يحجب الغيم
وملح يرضع الريح
وأفق من رماد
هذه الأرض تعرت من دمي
هاجرت منها الأغاني
وارتدت ثوب الحداد"(ص81).
وربما أراد الشاعر من خلال هذه العبارة التعبير عما تعانيه البلاد، وما عصفت به من ريح، فالريح في شعره له دلالة على القلق، لتقلبها وتعدد اتجاهاتها، فهي لا تبقى على حال، وشأنه في ذلك شأن البلاد. ويظهر ذلك جليا من خلال تكرار ثيمة البلاد أكثر من (24 مرة) بالإضافة إلى تكرار ثيمة الوطن (5 مرات)، ليكون ارتباط الريح بخراب هذه البلاد.
"في بلادي كل شيء جائز
يطرح الزقوم وردا
ناعما بين الأيادي
ويصير الديك صقرا
ويغني "الطهر" في عرس الفساد
جائز أن ترقص الغربان زهوا
فوق حقل من رماد
في بلادي
جائز أن تشرق الأنوار
من جبة دجال
ويغدو الوحل مسكا"(ص50)
وما يعصف بها من خطوب ومحن، فهي هنا مصدر الحزن والألم والقلق الدائم والخوف من الماضي والخوف من المجهول، فيغدو الحزن والقلق حزنا يبحث عن الأمل وعن الذات المفقودة، وهو ما يوحي بمدى حاجة الشاعر إلى تعميق الارتباط بالمكان الذي يمثل الوطن.
"أحب بلادي
كما يعشق النهر دمع الغمام
ويهوي الفراش الربيع
وتهوى الطيور الحقولا
يبرغعم في دفئها عشب قلبي
ويصبح ظلي أنيقا طويلا
أحب بلادي
إذا ابتسم اللوز في حقلها
إذا لمع البرق في نخلها
........................."(ص34)
فحين يكرر الشاعر مفردة واحدة في صورة شعرية مكثفة، كـ: [الشعر (13مرة)، والقصيدة بجميع اشتقاقاتها (19 مرة)، والشاعر (11 مرة)]، تكون القصيدة مثل قبس من نار في ليل بهيم، يستفز المتلقي ويرشده ويبعث في داخله إحساس موسى " إني آنست نارا".
"أنا شاعر لا غير
إلا أنني
أوقدت من منفاي شعلة أنجمي
طبع القصيدة
جامح كغزالة
نفرت لواذا من براثن ضيغم
وأنا أراقصها
وأهصر خصرها
حتى نراق معا بكون ملهم"(ص86).
وكأن الشاعر جمال عمائمي يخترع الصورة قبل أن تأتي إليه، فيستل المفردة من موقعها المعجمي ويمنحها وهجها الشعري المناسب لها. ليطفو على السطح حلم التفرد حين تنسل القصيدة من قلب الشاعر وتأخذ ركنا قصيا ليحمل الشاعر أوزار قصيدته.
"وحين يداهمك الليل
تأوي إلى خيمة النص
تفرش تفعيلتين
وتغفو على نجمة في تخوم الشفق
وتندس
في ريش أحلامك المشتهاة"(ص72).
الخاتمة:
فمن خلال تسليط الضوء على جملة من مميزات التكرار في مجموعة (نجمة الخزاف) نلاحظ أن هذه الانفعالية المعتمدة بتقنية التكرار (تكرار الكلمات) أدت دورها الوظيفي في تنامي الإيقاع داخل النص الشعري. والتي طرح من خلالها شكواه وآلامه لبث أفكار وقضايا يريد الشاعر نقلها للمتلقي بطريقة مختلفة مع الإيحاء والترميز واعتماد تقنية التكرار، لما لها من قدرة على إيصال المعنى عندما يمنحها وهجها الشعري المناسب لها. ليحفز من خلال هذا الأسلوب الذي يعد من الأسس الأسلوبية التي تعمل على التماثل في النص الشعري خاصة وأنه يساهم في تمتين وحدة النص وتماسكه، وهو ما يجعل المتلقي في نظر وبحث دائم في دلالات القصيدة ومراميها.
(1)- صميم إلياس كريم: التكرار اللفظي و أنواعه و دلالاته قديما وحديثا (رسالة دكتوراه)ص138، جامعة بغداد كلية التربية ابن رشد،1988.