الخميس ٢٩ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم صبحي فحماوي

قصة عشق كنعانية

ضمن نشاطات الزرقاء مدينة الثقافة الأردنية، عقدت في مركز الملك عبد الله الثاني الثقافي ندوة نقدية بعنوان مبدع وناقد، أدارها الناقد الدكتور عمر الخواجا، بحضور مدير المركز السيد نعيم حدادين، والشاعر عبد الله رضوان المنسق العام، وعدد كبير من أدباء وكتاب وشعراء الزرقاء، قال الروائي صبحي فحماوي:

 لا أعرف كيف نبتت شخصيات هذه الرواية كما تنبت في الشتاء أزهار النرجس والحنون والزنبق بين أعشاب غابة كرملية! وأنا حتى الآن أتساءل كيف تمت قصة العشق الكنعانية هذه بين الأمير دانيال بن عال، ملك غزة، وبين أخته إيزابيل ابنة بسمة ملكة بيتسان؟ وكيف نتفهم هذا اللغز؟ أمير وأميرة كنعانيان يعشقان بعضهما البعض، دون أن يعرفا أنهما أخوان؟

 ولكن المخطوطات التي اكتشفها عمر أوضحت كل ذلك، واضطرتني لمتابعة رحلة الأمير دانيال من غزة إلى الخليل، والتجول هناك.. أدهشني قطف العنب الخليلي العملاق، الذي لم يستطع دانيال حمله، فحمله شابان قويان.. لم يكن الكنعانيون وحدهم هم العماليق، بل كانت قطوف عنبهم أيضاً عملاقة!

 ولقد وصلت إلى قمة النشوة عندما سألني روائي عربي كبير، ما إذا كانت هذه الرواية هي مخطوطة مكتشفة فعلياً، أم إنها رواية أدبية؟ عندها اقتنعت بأنني قد نجحت فنياً في إبداع رواية كنعانية مدهشة!

 ومن المخطوطة فهمت أن (حبرون) مدينة الملك خليل، صارت تسمى (الخليل)، مثلها مثل (القدس اليوم)، (يبوس الكنعانية) وهي مدينة الملك سالم، فصار اسمها( أورسالم ).

 لم أعرف- بصفتي شاهداً على العصر الكنعاني - كيف جاءت السيدة بسمة الكنعانية الأصل من أعالي البحار، فإذا بها أم الأمير دانيال أمير مملكة غزة، وفي نفس الوقت هي ملكة على بيسان(بيت سان)؟

 اليوم فقط صرت أقارن بين قصص وحكايات المخطوطة، التي لا يعرف فيها دانيال من هي أمه، ولا من هي أخته، ولا من هو أبوه، فيتمرد على وضعه ويخرج من مملكته باتجاه باقي الممالك الكنعانية... وبين" أوديب ملكاً" لسوفوكليس الإغريقي، ذلك الأمير التائه الذي لم يعرف من هو أبوه، فيتمرد على وضعه ويخرج من مملكته باتجاه مملكة طيبة الإغريقية المجاورة، فيجد نفسه وقد تزوج أمه، مقترفاً خطئية لا تغتفر!
ولكن هل يقترف دانيال الخطيئة؟ ذلك ما ستوضحه الرواية...

 اليوم صرت أتساءل، هل هناك تناص بين النصين، إذ أن كلتاهما في نفس العصر الكنعاني الإغريقي الواحد؟ وهل هناك علاقة بين دانيال وأخته إيزابيل، حيث يحب الأخ أخته، وهما يلتقيان في بيتسان، وبين أوريس وأخته إلكترا، التي تلتقيه بعد حين من عودته الى المدينة الإغريقية، وتضع الأمل فيه؟

 في مخطوط قصة عشق كنعانية، نفهم من الأمير دانيال أنه كلما مر تاجراً من هناك، ليشتري خمور بيتسان المميزة، كان يذهب فيسبح في برك ينابيعها، وبالصدفة التقى الأميرة الجميلة إيزابيل هناك، فتحادثا تحت الشلالات الفضية الساقطة على جسديهما، وعرف منها أنها ابنة ملك بيسان. وبعدها تطورت علاقتهما، لدرجة أنه صار يذهب معها في رحلات إلى بحيرة الجليل الساحرة الجمال، وأحياناً كانا يصعدان على حصانيهما إلى سفوح جبل حرمون، ولو أنهما لم يصلا إلى قمته المكسوة بالثلوج صيفاً شتاءً.

 ومثل قمة جبل حرمون، صار حبهما شامخاً، ومثل نصاعة بياض ثلجه، كان حبهما طاهراً ونقياً، ذلك لأنه راودها ذات مرة عن نفسها، فقالت له إنها تحبه على مذهبالربة الطاهرة عناة، وليس على مذهب عشتار، البغي المقدسة."

 بعد كل هذا، أدرك دانيال أن حبه لإيزابيل كان مُحرّماً، وغير قابل للزواج.. فجيعة كبرى تتم خلف الستائر! ترى ماذا حدث، وكيف تناسخت قصة العشق الكنعانية هذه.
 ما يزال الفلاحون حتى اليوم يقولون: زرعنا ( بعل) ترى ما هو البعل ؟ أو من هو بعل؟ ذلك ما توضحه الرواية.

 منذ عهد الكنعانيين وحتى اليوم، كل واحد منا يقول إنه ابن عشيرة، ترى من هي عشيرة؟ تعلمنا المخطوطة الكنعانية أن عشيرة هي زوجة إل، إله الكنعانيين.. وأن الكنعانيين هم أول الموحدين بالله، ويعبدون إله الكون كله، وهو المسمى( ال)، والذي تعرّف الناس مع السنين على أنه اسم (الله) جل جلاله..

 وبعد عودتهما من مسرح الحكواتي في أورسالم، إلى المأدبة الملكية المقامة في قاعة الطعام، يشاهد دانيال فتاة رقيقة تلبس ثوب أميرة، يزنره حزام رقيق مرن، يبرز امتلاء حوضها الأوسط دون إفاضة، ولكن خصرها الرقيق تكاد أصابع يده الطويلة أن تطوقه، ممشوقة الطول، وشعرها الحريري المفروق بنعومة من منتصف الرأس، يتدلى على ظهرها طويلاً غزيراً كذيل فرس، تشير إلى الجواري والخصيان والخادمات بكيفية ترتيب المائدة الملكية الكبيرة، وإلى أماكن وضع أطباق اللحوم المشوية، المحشوة بالفريك، وإلى جوارها ما لذ وطاب من المأكولات. فقال له الكاهن جبريل : إنها الأميرة فرح، ابنة الملك سالم.

 وعلى مائدة الطعام وقد بقيا وحدهما على أضواء شموع زيت الزيتون تسأله الأميرة فرح: ماذا قال الحكواتي في مسرح أورسالم؟ فقال دانيال:

 كان الربيع أخضر ندياً مزركشاً بالألوان، وأزهار الحنون الحمراء تصبغ خديّ الأميرة الهيفاء، والأميرة تسير بين أزهار اللوز البيضاء، وحيدة بلا رفيق، تائهة لا تعرف الطريق، وكان الضباب يداهم الحقول، ويغلف الأميرة الصغيرة، ويأخذها بالأحضان، ويطير بها من مكان إلى مكان، يلفها، يعصرها، ينثرها ندى على أوراقه الخضراء، فتنتشي بشمها الظباء."

 فانتشت الأميرة فرح بكلامه الجميل.. وفي الليل، كان الشاب يتقلب مستغرقاً في أحلامه الوردية بالأميرة فرح، وقبل أن يمسك بها، تقوم ربة الفجر بدرية!

 وفي الرواية يتقدم القميء النتن موت وهو في هذه الحالة من الهزال والضعف.. فيتذلل ويتحايل على بعل الجبار قائلاً:"بينما أنت تصارع الثيران الهائجة، وتقتل الأفعى الناشبة شاليط، وترض رؤوسها السبعة، تبرق السموات، وتتصدع الأرض."

 وفي الرواية هبطت سفينة شوح فوق قمة جبل عالٍ! وبعد تدقيق وتمحيص، عرفوا أنه قمة جبل الكرمل الفلسطيني!

 وفي بيسان تهجم الأميرة إيزابيل على أمها:" أمي! أمي! لقد جاء خطيبي دانيال! أنا أحبه يا أمي! فلتخرجي لاستقباله والترحيب به! إنه في انتظار أبي وفي انتظارك في صدر قاعة القصر!".. لم تكن الملكة بسمة تدرك أن دانيال خطيب ابنتها، هو طفلها الذي تركته فطيماً بين أحضان جواري الملك العال. تقدمت فرِحةً لتقابل الخطيب، فشاهدت شاباً عمليقاً يقف أمامها بشعر مُنسدل طويل يتضاءل على قمة رأسه، ووجه يذكرها بوجه أخيل!

 وفي ساحة هيكل الإلهة يم ، الأم، يفاجآن بظهور السيدة العذراء عناة في سماء الغابة، وفي نقده للرواية، قال أ. د. أحمد العرود نائب عميد كلية الآداب- جامعة جرش:

 تأتي رواية صبحي فحماوي" قصة عشق كنعانيّة" في إطار الرواية التاريخيّة التي تبحث في تاريخ الحضارات والشعوب، ولعل هذا النوع من الروايات يكون هدفه الوقوف على حقائق القيم التاريخيّة التي تحمل في وجودها صورة الوجود الحقيقي لشعب من الشعوب على رقعة من الأرض وذلك من خلال المخطوطات والبقايا التاريخيّة في صورها المتعددة لهذا الشعب.

ويؤرخ صبحي فحماوي في روايته قصة"عشق كنعانيّة" لحقبة التأسيس الكنعاني الفلسطيني في أرض فلسطين، ويقف على أرض صلبة من الحقائق والقيم التاريخيّة التي تدحض الادعاءات الصهيونيّة بأسبقيّة الوجود الصهيوني على أرض فلسطين، ومن هنا فان الروائي يقدم روايته من خلال ما يمكن تسميته" بالمركزيّة الثقافيّة
"لأرض فلسطين، هذه المركزيّة التي تنطلق من تأصيل المكان وتجنيس ثقافته القائمة على حقيقة صورة المكان والزمان اللذين يشكلان في النهاية صورة التاريخ.
إن حالة العشق التي يعيشها الإنسان في أي زمان لا يمكن لها أن تأتي في حالة عبور ومرور، بل حالة من الاستمرار والبقاء الأزلي بينه وبين الآخر، هذا ما يؤكده صبحي فحماوي في صورة العلاقة بين الفلسطيني ومكانه، ومن هنا فقد جاءت صورة المخطوطة التي اكتشفها عمر بطل الرواية تعبيراً عن لحظة التيقّن من هذه العلاقة العشقيّة بين المكان وصاحبه أو قل" عاشقه"..." أنا خلد أحفر تحت الأرض، باحثاً عن تاريخي المسكّت، فأضيف سبعة الآف سنة منذ أن نشأت فيها الحضارة الكنعانيّة، إلى عمري الحالي..هل تلاحظ كم هو عمري ضئيل أمام عمر التاريخ المحيط، الهادر من حولي؟

 جاءت رواية قصّة عشق كنعانيّة في أربعة وعشرين باباً، بدئت ب" مخطوطات كنعانيّة مذهلة" وانتهت" بعودة الأمير بعل"،إذ قدم الروائي في هذه الأبواب من خلال لغة روائيّة تعتمد روح النص القديم،بكل معطيات الاصطلاحيّة والدلاليّة، فأنت كمتلق عندما تقرأ النص تجد نفسك أما لغة ودلالة تحمل عمق الروح الأسطورية، ولا أعني هنا بالأسطورية غير الموجودة أو الكاذبة، بل ما سطّره التاريخ وعلم الآثار حول الحضارة الإنسانية من قيم كانت سائدة في إطار رؤية الإنسان في تلك العصور.

صبحي فحماوي من خلال قدرة تقمّص لطبيعة الأشياء والأحداث يتجسّد حالة الإنسان في أرض كنعان ومنها فلسطين، فيبني نصًا موازياً تماماً لتلك الحالة، فأنت كمتلق لا تجد نفسك في حالة مفارقة، بل في حالة توافق وتوائم مع الحدث ولغته المحملة بروح العشق لهذا المكان وصورته لأولى.

لقد جسّد الروائي صورة الصراع التي كانت قائمة بين مكونات الزمان والمكان في أرض كنعان وما كانت تواجهه من موجات غزو وصراع مع الأعداء وهي ذاتها الآن، فها هي المخطوطات الكنعانيّة التي تسجل حالة الصراع هذه، فهذا الرب بعل في التراث الكنعاني، وهذه مملكة أوغاريت، وهذه مملكة حبرون في الخليل وهذا المعلم يسع، ووصاياه السبع، وهذه أورسالم، مدينة القدس، وجبل الزيتون، وهذا يائيل، ودانيال، وعناة، كل هذه المعطيات التاريخيّة التي تمثّل صورة أرض فلسطين يجمعها صبحي فحماوي من أجل الوصول إلى بناء روائي يعتمد الحس التاريخي المفعم بالحقائق من أجل دحض الادعاءات الكاذبة عند الآخر. 
 


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى