الخميس ١٧ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم سعود الأسدي

قصيدة البتراء

بمثلِكِ الفخـرُ يـا بَتْــراءُ يفتخرُ
فَلْتَشْمَخي ! أنتِ أنتِ العزمُ والقَدَرُ
وأنـتِ سيـفُ الرّدَى في كلِّ نازلةٍ
فلتضربـي وتردِّي كيـدَ من غَدَرُوا
بتراءُ كمْ في كتـابِ المجـدِ من سُوَرٍ
قرأتُ عَنْـكِ رَوَاهـا البدوُ والحَضَرُ
من " أمِّ قيـسٍ " أتاكِ القيسُ ممتَشَقاً
وهي " الجدارةُ " تحمي ساحَها الجُدُرُ
ومن روابٍ بها اليرمـوكُ قد عَشِقَتْ
أمواجَـه البِيْضَ سُمْرُ الحيِّ والسَّمَرُ
و" قلعـةُ الرّبَضِ " القعسـاءُ رابضةٌ
للوَثْـبِ تحفِـزُ إنّ الوَثْـبَ يُبْتَـدَرُ
قد جِئْـتُ والشِّعْـرُ يا بتـراءُ وقفتُهُ
فيها التّوَجُّـسُ إن لم تُجْتَـلَ الدُّرَرُ
وأنـتِ فيـكِ بيـانٌ من شـواردِهِ
على العِطَـاشِ كمـاءِ المُـزْنِ ينهمرُ
ماذا أغنِّيكِ من شعري وذي "جَرِشٌ "
ملاحـمٌ مَـدُّهـا يعلـو وينحـدرُ
دخلْتُهـا فسمعـتُ الصّخـرَ أنَّتَهُ
يشكـو من الضّيمِ هل ينضامُ مُقْتَدِرُ
كلاّ ، ولكنْ صروفُ الدّهرِ قاهـرةٌ
لا كانَ دهـرٌ به الأحرارُ قد قُهِرُوا
وأنتَ أردنُّ فيـكَ الجَمْـرُ متّقِـدٌ
فَضَـعْ عليـه يُواتِ المَلُّ والسِّدَرُ
واقدحْ شرارةَ حُـبٍّ يأتِ مشتعلاً
قلبٌ كواهُ اللظى ممـا رَمَى الشّرَرُ
لديكَ ما أبـدعَ الأنبـاطُ من مثلٍ
مُنَىً كِبـارٌ كما تُبْنَى الرُّؤَى الكُبَرُ
فجـدّدِ العهـدَ للبتـراءِ إنّ لهـا
روحـاً تجـدّدُها الأيـامُ والعُصُرُ
سمعتُ فيها حفيفَ الصّخْرِ ملتهفاً
كما يَحُـفُّ هوىً بالرّيشـةِ الوَتَرُ
عَجِبْتُ والصّخرُ في بتراءَ معجزةٌ
عنهـا تَكَلَّمَ في أرْباضِهـا الحَجَرُ
وقـالَ لي : إنّ للبتـراءِ قِصّتَهـا
فقلتُ : حَدِّثْ فإنّي السّمْعُ والبَصَرُ
فقالَ : ما أنتَ والأسرارُ قلتُ له :
بئـرٌ بغـورٍ عميـقٍ ليس يُسْتَبَرُ
تَلفّتَ الصّخْرُ حتى لا يَرَى أحَداً
غيري ووشوشني فالسِّـرُّ مُسْتَتِرُ
وقد حَلَفْـتُ بأنـي لا أبوحُ به
فلستُ أُفْشِيهِ مهما طالَ بي العُمُرُ
و" ذو شراةٍ " دَرَى من قبلُ قصّتَها
إذْ كانَ رَبَّ الغرانيقِ الأُلَى ذُكِرُوا
ويـومَ ولّى تولّـى السّـرُّ أجمعَه
لم يَبْـقَ في الدّهرِ عينٌ منهُ أو أثرُ
إلاّ مدينــةُ بتــراءٍ وأعمدةٌ
شابَ الزّمانُ وما شابُوا وما كَبِرُوا
مُدَلَّهـونَ بِحُـبٍّ ليسَ يبرحُهُمْ
مُوَلَّهـونَ بخُلْـدٍ ليـسَ ينـدثرُ
وتلكَ بتراءْ قد دانَ الوجـودُ لها
أمامَها كلُّ أهْلِ الكِبْرِ قد صَغُروا
مدينــةُ الوردِ والألوانِ ما فتئتْ
يُضفـي عليها سنىً تاريخُها النَّضِرُ
شقائقٌ من نسيجِ الشّمسِ لُحْمَتُها
أمّـا سَـدَاها فمَمّا ينسِجُ القمرُ
قد طرّزتهـا يَدَا " عشتارَ " أرديةً
غـلائـلاً لعـذارى زانها الخفرُ
بناتُ نَبْـطٍ وشعري بعضُه غَزَلُ
يليـقُ تسمعُـهُ غِزلانُـها العُفُرُ
هُنَّ الحِسانُ كَسَوْنَ العيدَ بهجتَهُ
غنّـتْ لهــنَّ قِيـانٌ أنجمٌ زُهُرُ
يُبْدينَ من روعةِ الإنشادِ ما قَبَسَتْ
عنـه فصاحتَـهُ لمـا نَمَتْ مُضَرُ
مثقّفاتٌ حفظنَ الشّعْـرَ من كُتُبٍ
شُبّـانُ بتـراءَ من إلهامِها سَطَروا
يَضْرِبْنَ بالدُّفِّ موسيقـى مُؤلّهةً
بيـنَ المعابـدِ لم يحلُـمْ بها بَشَرُ
حتى غدا كل خَصْـرٍ في رشاقتِهِ
يهتـزُّ والخَصْرُ يحلو حينَ يُخْتَصَرُ
كمْ ساعـدٍ لفَّ من خَصْرٍ وطوَّقَهُ
لطفـاً وليناً وخَصْـرٍ باتَ ينتظرُ
وكمْ شِفـاهٍ محا التقبيلُ حُمْرَتَها
على شفـاهٍ رحيقَ التّوتِ تعتصِرُ
هي الحياةُ يُلبّي الصّبْـحُ دعوتَها
إذا دعتْـهُ كذاكَ الليلُ والسّهَرُ
وجَنّةُ الصخـرِِ في بتراءَ وارفةٌ
يا بؤْسَ قومٍ بها مرّوا وما شَعَرُوا
كأنّهم ما رأوا أشجـارَ رونقِها
مُنَمْنَماً وعليهــا أينـعَ الثّمَرُ
والحارساتُ على أبوابها وَقَفَتْ
والرّمحُ والصّبحُ والهيجاءُ والظّفَرُ
والخيـلُ والليـلُ أنداءٌ معطَّرةٌ
والرّيحُ والشّيحُ غنَّى بوحُه العَطِرُ
فإنْ بكيْتُ علـى أعتابِها طَرَبـاً
فإنّما بالنّدَى يبكي الضّحَى الزَّهَرُ
وإنْ شَكَـوْتُ على آمالِهـا ألماً
فغيـرُ وِزْرِيَ للبتــراءِ لا أزِرُ
قُمْرِيّةُ الشّـدوِ فيها رُحْتُ أسألُها
هل من عبيدةَ أو من حارثٍ خبرُ
قالتْ نِعِمّا وغنّتْ فوق " خزنتِها "
لحنـاً شجيّاً له الجُلْمـودُ ينفطرُ
كأنّما نَفْحَـةُ القَيْصُـومِ نغمتُها
أو العَـرَارِ سَقَـى أنساغَهُ المَطَرُ
وجدْتُ في حزنِها حزني وحرقتَها
في حرقتي ولدينا الوَجْـدُ مستعرُ
نبكي على الأهلِ مذْ بانُوا فوا أسفا
فهلْ يكونُ لِقــاءٌ بعدَما هجروا
ونحنُ صِنْوانِ حُبُّ الأرضِ يجمعُنا
بها ارتبطْنا وسـاوَى بيننا القَدَرُ
إني لألثمُ أرضـــاً داسَها قَدَمٌ
من ربّةِ الخِصْبِ حيثُ الطّيبُ ينتشرُ
والأرضُ مذْ أنشأتني طينـةٌ جُبِلَتْ
بالحُبّ كالأمِّ نِعْمَ الصّـدْرُ والدِّرَرُ
والأرضُ لي فإذا ما القَسْـرُ جرّدَني
منهــا أقولُ : بإنّ القَسْـرَ يُقْتَسَرُ
من يأخذِ الناسَ بالسّيفِ الغريرِعلى
حينٍ من الغَرِّ يأخذْ شخصَـهُ الغَرَرُ
ولي من الأرضِ ما للطّفلِ من حُلُمٍ
لي الشقيقانِ منهـا البَحْـرُ والنّهَرُ
ولي الأنيقانِ منهـا الطّلُّ والسَّحَرُ
ولي الصديقانِ منها الشِّعْرُ والصُّوَرُ
ولي الطريقانِ منها السّهْـلُ والوَعَرُ
ولي الطليقانِ منهـا الظّبي والسَفَرُ
ولي الرّشيقانِ منهـا البـازُ والنّمِرُ
ولي البريقانِ منهـا الفِكْـرُ والعِبَرُ
ولي العميقانِ منها الصّمْتُ والحذَرُ
ولي الرفيقانِ منهـا السّهْمُ والوَتَرُ
ولي الرقيقانِ منها الخَمْـرُ والأشَرُ
ولي العشيقانِ وجهُ الحسْنِ والنّظَرُ
ولي الليالي وليلَى ثمّ لِيْلِي وليْ وليْ
والناسُ أجمعُ إنْ غابوا وإن حضروا
أهـلي ورائيَ في بتـراءَ هل سمعوا
أهلي أمـاميَ في كنعانَ هل خَبَرُوا
فإن شربْــتُ حُمَيّا كأسِهِمْ ظَمَأً
فقد عَرَانـيَ مـن بترائِهِـمْ سَكَرُ
فَصِحْتُ والوَجْـدُ لا يألو يحاصرني
حتى حَسِرْتُ وأعيا منطقي الحَصَرُ
ردّوا صِبايَ جديـداً كي أحاسبَهُ
فإنّ عُمْـراً بـلا لُقيـاكُمو هَدَرُ
فإنْ شَقَقْتْ عليكم ثـوبَ عاطفتي
فقد عَصَفْتُ فلا أُبقــي ولا أذَرُ
أنا حنيـنٌ أنـا شـوقٌ أنا أمَـلٌ
أنا جُــذورٌ أنا تُـرْبٌ أنا شَجَرُ
أنـا مَثَـارٌ ولي ثـارٌ سآخــذُه
أنـا انفجـارٌ أنا نــارٌ أنا سَقَرُ
يا تقبـروني ! أناديكُـمْ أنا شَغَفٌ
ألاّ أمـوتَ وأنتمْ نَسْلُ من غَبَرُوا
أريدُ خُلْـداً وما أشتــاقُ أعلنُهُ
في غيِر بتـــراءَ لا أشتاقُ أنقبرُ
أمُّ الصّخـورِ وقد لانتْ ملامسُها
كما الحريــرِ فلا وَخْزٌ ولا إبَرُ
وهيَ السّكينـةُ أغفو في رفارفِها
لا ضَجَّـةٌ في حَناياها ولا ضَجَرُ
هنـاكَ تحتَ ظلالٍ من شواهقِها
ترتاحُ روحـي ولا مَنٌّ ولا كَدَرُ
عمّــانُ والحُبّ سِرُّ المرءِ يحفظُهُ
وربّما شَفَّ عنـه الشّطْحُ والهذَرُ
عمّـانُ قومي إلي بتراءَ وأعتذري
عنّي وعنكِ وخيرُ القوم من عذروا
فلا يليـقُ عُقـوقُ الأمِّّ إنّ لهـا
فَضْـلاً عظيماً وللفجّار ما فَجَرُوا
فَلْنُنْجِـزِ الوعدَ في بَعْـثٍ تجدّدُهُ
روحُ الحضارةِ في إيصال ما بَتَرُوا
وَلْنَبْنِ من صَخْرةِ البتراءِ نهضةَ من
شدّوا العزيمةَ في الجُلَّى وقد صبروا
فإَنّ من يبتنـي بالصّخـرِ نهضتَهُ
مُؤاخياً عزمَـهُ والصّـدقَ ينتصرُ

الأردن / فندق تايكي / عمّان 25/4/1997


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى