الاثنين ١٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
بقلم سمير الأمير

قصيدة النثر.. نسخ المنسوخ

أصبح لقصيدة النثر التى يكتبها الجيل الجديد من الشعراء شكل نمطى مثلها مثل قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية وفى اعتقادى أن ذلك يفقدها الكثير من مبررات وجودها، إذ من المفترض أنها تشكل فى الأساس ثورة على نمطية الشكل وتقليدية المضمون، لكن المرء إذا أمعن النظر فى قصيدة النثر بتجلياتها الحالية عند الشعراء الشبان لا يملك إلا أن يقرر وهو مرتاح الضمير أن معظم تلك القصائد التى تنشر فى المجلات الأدبية لا تدل على شاعرها على الرغم من ذاتية موضوعاتها، بل يبدو الأمر وكأن كل تلك القصائد قد كتبها شاعرُُ واحد!

باستثناء بعض الأسماء القليلة التى أفلتت من ذلك الإطار النمطى ويرجع ذلك لامتلاكهم موهبة حقيقية ولحبهم واحترامهم لكل تاريخ الشعر قى هذا الوطن ولذا جاء نثرهم جميلاً و تمردهم أجمل لأنه لم يكن مفتعلاً.

إن ذلك يذكرنى بما قاله لى الشاعر العظيم "فؤاد حداد"_ أثناء زيارتى له فى مطلع الثمانينات وكنت بصحبة الشاعر سمير عبد الباقى الذى طلب منه أن يستمع إلى بعض قصائدى ليبدى رأيه فيها_ فقال دون أدنى انفعال بعد أن اسمعته قصيدة " لقد أصبحت كمياء الكتابة معروفة للجميع"،
من المؤكد أن شاعرنا العظيم كان يعبر بطريقة مهذبة عن عدم اقتناعه بما سمعه، لأننى اكتشفت بعد تأمل للقصيدة فى ضوء تعليقه أنها تشبه مئات القصائد الأخرى وليس فيها ما يميزها على الإطلاق،
كان علىّ إذن أن اتوقف عن الكتابة لأمحو من ذاكرتى كل تلك الطبقات المتراكمة التى صنعها الكسل والاستسهال الذى يأتى بعد معرفتنا بكمياء الشعر، تلك الكمياء التى تحولنا من شعراء حقيقين نمتلك روح الشعر وجوهره إلى محترفى كتابة، وأعتقد أن هذا مافعله أيضاً الكثير من أبناء جيلى إذ بدأ يخفت صوت قصيدة التفعيلة ومن ثم كانت قصيدة النثر محاولة للانعتاق من أسر العمود الشعرى وسطوته ورغبة فى الدخول إلى تجربة الكتابةعارين من كل الأدوات التقليدية من أجل تأسيس قصيدة تؤكد على أن الشكل جزءُُ أصيل من تجربة الشاعر وبالتالى تحرر القصيدة من إطار الشكل الواحد و من ثم يصبح لقصيدة النثر أشكالاً لا متناهية لأن كل قصيدة تصبح مغامرة جديدة

ما الذى جعل من قصيدة النثر عند هؤلاء إذن عموداً أكثرصرامة وتقليدية من عمود شعر التفعيلة التى تمردت عليه؟
أعتقد أن مرجع ذلك فى الأساس يعود إلى أن معظم شعراء هذا الجيل من النثريين يفتقرون إلى الحد الأدنى من المعرفة بتراث الشعر العربى بل أن بعضهم يباهى بذك دون أدنى خجل إذ يعتبر أن معرفته بالتراث تضبب رؤيته للواقع، بل الأدهى من ذلك أنهم مقطوعو الصلة بتراث قصيدة النثر ذاتها التى كتبها شعراء عظام كمحمد الماغوط وأنسى الحاج ولذا ترجع قصائدهم دائماً إلى مصدرها النثرى فتصبح مجرد انطباعات لا يمكن لها أن تؤسس لشعرية جديدة بل أحياناً تكتشف أنك لا تقرأ شعراً بل مقالاً سمجاً مملاً، علاوة على أن تلك القصائد وقعت فى معظمها تحت تأثير القصائد المترجمة لشعراء الغرب، أى أنها تأثرت بنصوص غير حقيقية فأصبحت" صورة الصورة copy of a copy
لأن النص المترجم لا يمكن أن يطابق النص الأصلى فى لغته وروحه مهما بلغ المترجم من براعة،
من المهم هنا أن أقرر بوضوح ورغم كل ماسبق أننى لست ضد قصيدة النثر بأى حال من الأحوال، بل على العكس تماماً ولكنى أرى أنه لكى تحقق قصيدة النثر مبرر وجودها، ينبغى على كاتبها أن يدخل معركته عارياً من كل الأساليب التقليدية حتى وإن كانت أساليب نثرية شريطة أن يكون قد استوعب كل تلك الأساليب حتى يعرف لماذا وكيف يتمرد عليها

إذ من الأهمية ألا تتم مصادرة التجربة لصالح اللغة النمطية لأن التجربة الحقيقية هى التى تفرض لغتها بل أن اللغة فى قصيدة النثر ينبغى أن تتطابق مع التجربة تماماً والجمال هنا هو أنه فى قصيدة النثر لايمكن لنا أن نفصل بين الشكل والمضمون ولو حتى من الناحية النظرية لأن مضمون القصيدة هو شكلها والعكس صحيح وتأسيساً على هذا فإن شاعر القصيدة النثرية ليس شاعراً بالمعنى الاصطلاحى ولكنه إنسان لا يمكن أن نميزه عن غيره من بقية خلق الله إلا من حيث قدرته المبهرة على التعبير عما يجيش بنفسه وكأنه يتنفس بشكل طبيعىإذ أنه غير مشغول بنا أساساً- أعنى أثناء الكتابة- وما قصيدته إلا رحلة تعرف على ذاته فى هذا العالم ونحن بدورنا لا نقرأ أشعاره فى إطار مرجعية قوالب أو نمازج سابقة لأن كل شاعر نثر هو عالم قائم بذاته وهو يحاول إكتشاف نفسه وحل معضلة وجوده عبر فعل الكتابة وبالتالى هو لا يدعى معرفة لا يمتلكها.. إنه باحث لاهث عن المعرفة وهو يورطنا معه فى رحلته المعرفية التى تسمى قصيدة من أجل اصطيادنا فقط ونحن نصدقه ليس لأنه يستدرجنا ولكن لأن قصيدته هى التى تستدرجنا لكى نتورط فى معاناته، فى بحثه عن حريته وعن معنى وجوده تلك المعاناة التى قد تشير بمحض الصدفة إلى معنى يتجاوز وجوده إلى وجودنا فنقول:- يالا روعة اللغة!

بينما يصرخ هو فيها قائلاً:-

أيتها اللغة لا تكونى سياجاً حول روحى

أريد أن أقول اننى مجنون

دون أن ينم ذلك عن كمال عقلى

أيتها اللغة كونى مجنونة مثلى تماماً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى