السبت ٥ آب (أغسطس) ٢٠١٧
بقلم جورج سلوم

قمّة الحبّ

وهل للحبِّ قمّة ؟!...وهل هنالك درجات للحبّ يرتقي المرء فيها للوصول إلى الذروة؟

أصلاً الحبّ سقوط....يقول أحدهم.

فيُقال عربياً (وقعَ في الحب)...وإذا اعتبرناها مجازيّة وتجاوزنا السّقوط فيصبح الوقوع مصدراً للواقعة..أي الحدث.

لكنها باللغات الأخرى جميعاً..قد تأتي بمعنى الوقوع..كمن يقع في دركٍ ما...Fall in love

وحتى الهوى بالألف المقصورة لا يبتعد عن هذا المعنى...فيقال (أنا هويت ) وهي أشدّ إيلاماً من السّقوط في حفرة...والهاوية لا خروجَ منها ولا فكاكْ.

أرى أنّ البعض قد اعترضَ على ذلك..لا بأس...هنالك متّسعٌ ما للتعليق في نهاية الموضوع...لذلك لطفاً دعوني أكملْ.

يبدأ الحب بالافتتان...عندما يصيب (كيوبيد) ملاكُ الحب قلبكَ بسهمه...يرتجفُ القلب ويخفقُ طرباً وتتسمّر العيون لرؤية المحبوبة...وتنقبض الحدقات ويتلعثم اللسان.. ويُفرز الأدره نالين...تلكم هي المرحلة الأولى من الحب.

وتأتي المرحلة الثانية وهي التحنان (من الحنين)..فيتذكّرها ولو غابتْ عن ناظريه..ويحنّ إليها ويشعرُ بفقدها ويستحضرها روحاً ولو غابت جسداً...فيُفرز هنا هورمون الكورتيزول (باللام) من الكظر..وهو أكثر ديمومة من سابقه..فيثبّتُ صورتها في ذاكرته وعقلهِ الباطن...فلا تغيبُ عنه مناماً أو يقظةً...ولو كان المرءُ في أحلكِ الأوقات حرجاً.

وقال عنترة:

ولقد ذكرتكِ والرّماح نواهلٌ مني
وبيضُ الهند تقطر من دمي
فوددتُ تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغركِ المتبسّم

والبيت الثاني يقودنا إلى المرحلة الثالثة وهي العنفوان..فبعدما امتلأت بطينات القلب بالافتتان وطفحت جعبته من التحنان...وتثبّت الهدف دماغياً عندها يأتي التحفيز من الهورمونات السابقة بالاندفاع نحو طلب الودّ..والاقتراب من المحبوبة..والإيقاع بها كما أوقعت به....فيُقال وقعت في شباكه أو وقع في أحابيلها..

واستعملنا كلمة العنفوان في وصف هذه المرحلة لسببين... فالأول هو تخلّي المحبّ عن عنفوانه وكبريائه..والانبطاح طوعاً أمام عتبات محبوبته التماساً للوصال... والسبب الثاني التزام الطرف الثاني إلى حدٍّ ما بكبريائه وعنفوانه وغنجه لإطالة أمد هذه المرحلة ما أمكن.

وهنا تأتي المرحلة الرابعة وهي ذات احتمالين... فقد تكون مرحلة البنيان والأمان..حيث يلقى المحبّ ترحيباً وأماناً بين أحضان محبوبته... ويفرز لديه هورمون (الدي هيدرو إيبي أندروسترون) فتحلّ السعادة عليه... وتنساب نبضات قلبه انسياباً رقيقاً يتماشى مع موسيقى الهوى المترعرع... وبالنتيجة يضْمحلّ لديه الهورمونان السّابقان بآلية التلقيم الراجع.

أو قد تكون المرحلة الرابعة مرحلة الهوان والخذلان.. بتنكّر المحبّ لمحبوبه... فيعود الادره نالين والكورتيزول إلى قمة الإفراز.. ويحلّ عليه الغضب وتتصلّب عضلاته متحفّزة للقتال...فقد يهاجم منافسيه من العشاق.. أو قد يخطف محبوبته ليحبّها غصباً أو اغتصاباً..أو قد يقتلها لأنها جحدت بعواطفه الجياشة.. واستهانت به.. أو أحبّت غيره..

وقد يرى قتله لها نوعاً من الحب ّ..! كما فعل ديك الجنّ الحمصيّ مراراً..وقد وصف (القبّاني نزارْ) هذه المرحلة بقوله:

إني قتلتكِ واسترحتْ
يا أرخصَ امرأة عرفتْ
أغمدتُ في نهديك سكيني
وفي دمكِ اغتسلتْ
في كلّ زاويةٍ أراكِ
وكلّ فاصلة كتبتْ
حسناءُ لم أقتلك أنتِ
وإنما نفسي قتلتْ

أما من سار في مرحلة البنيان والأمان فيتطور الى المرحلة الخامسة وهي تثبيت الأركان فيتزوج ويلد ويبني عشاً ويطرح نسلاً...

ويبقى الدي هيدرو ايبي اندروسترون عالياً في دمه ويتحرّض إفراز التستوستيرون من الخصيتين والاستروجين من المبيضين.. وتزداد السعادة الزّوجية ويتجدّد الحب في كل شهر بدم الخصوبة... وتتوطد أركانه ويتطور عيد الزواج السنوي من العيد الهوائي إلى الورقي إلى الخشبي إلى الفضي ثم الذهبي بمرور خمسين عاماً على الزواج.... وهذه هي المرحلة السادسة وسميت مرحلة الولدان فيتوالد حب الشريكين ويتناسل إلى أشكالٍ جديدة من الحب.. فهناك الحب الأبوي وحب الأم لوليدها... وهو المرحلة السابعة والأخيرة.. ولا يُقارن به حبٌّ على الأرض.. وهو أرقى وأسمى أنواع الحب.. وهو بلا منازع قمّة الحب.

يولد ويكبر بنمو الحمل حتى الشهر التاسع... ثم يتفجر دماً وآهاتٍ عميقة معجونة بسعادة الإنجاب... ثم يصبح حليباً ونسغاً يقطرُ من الثدي المرضع... ودفئاً يحتوي الرضيع في أيام البرد...وذوداً عنه في حالات الخطر... وأملاً يكبُر... كبرعمٍ أفرعَ من ذلك الغصن.

وهو قمة الحب لأنه من طرفٍ واحد..ولا تنتظر الأم عرفاناً أواعترافاً من ابنها.. لأنّ حبّها غريزيّ وفطري وبلا مقابل.

تكفينا مقارنة صغيرة بين حب الأم وحب الزوجة (الحليلة)..تلك التي قالها صخر بن الشريد الذي كانت أمه الخنساء وزوجته سليمى تمرّضانه:

أرى أمّ صخرٍلا تملّ عيادتي
وملّت سليمى مضجعي ومكاني
وأي امرئ ساوى بأمٍّ حليلةً
فلا عاش إلا في أذىً وهوان

وقد يتبادر إلى ذهن قارئي سؤالٌ:

 أيّ الأعضاء أكثر أهمية لدى المحبين؟؟....أهو القلب أم العين أم اللسان أم الدماغ...أم غيرها..؟!

الحقيقة أنّ الحب هو كتلة من التفاعلات الكيميائية التي تتناول أعضاء البدن كافة...فتتناغم وتتهادى وتتفاعل (كأوركسترا) عظيمة فيها الكثير من العازفين...لتنتج موسيقا الحب الخالدة.
فالعين لوحدها غير كافية..لأنّ الحب أعمى..والأذن تعشق قبل العين أحيانا...

والقلب يتفاعل ُ ارتجافاً وخفقاناً في ساعات ِ الحبّ وساعات الغضب..وليس له نغمة انتقائية للحب.

واللسان ُ كاذبٌ...يقطر ُ عسلاً وسمّاً...بنفس الوقت.

أما الدّماغ...فهو بيت الدّاء ووكر الخداع...ومسكن الشياطين التي زيّنت وابتكرت الخيانة في الحب..والطلاق بعد الزواج...والحبّ الدماغي أو العقلي هو عملياً حب المصلحة وينتهي بانتهائها.

أما الأعضاء التناسلية..فهي من اسمها مخلوقة للتناسل..فالأرحام قوارير فقط تملأ طوعاً أو كرها ً من مني الرجال...والعضو الذكري مخلوق ٌ أعور وفاقد للشعور...ولا يميّز بين المحبوبة وأخرى في الظلام.

أما غدة الكظر التي تقع فوق الكلية..فهي مصدر الهورمونات التي تحرّك المحبّين من مرحلةٍ إلى أخرى..ويكفي تحليل دمٍ أو بول لكشف هذه الهورمونات أو مستقلباتها لتحديد المرحلة التي يمرّ فيها المحبّ.

إنّ استئصال الكظر يُفقد للحبّ حلاوته وانفعالاته وجنونه..فلن تخفق القلوب بذلك العنف..ولن يجفّ اللعاب في الفم..ولن تشحب الوجوه أو تحمرّ خجلاً...ولن ترى غضب العاشقين وثورتهم..بل سيتحولون إلى أشخاصٍ آليين..قد يمارسون الحبّ بدافع الإنجاب فلا عاطفة ولاشجنْ.

أما حبُّ الأم لابنها (قمة الحب)..كما أطلقنا عليه..فهو خارج هذه الدائرة..فقد يرتعد قلبها لو مرّ ابنها وداس تراب قبرها.!

وقد اختصرت اللغة العربية كلّ الحب حتى الثمالة في العبارة الدارجة التي ما انفكّت أمهاتنا يرددنها على مسامع أبنائهنّ:

 انشاءالله تقبرني بيديك.

تخيلوا ذلك..الابن يحمل أمّه المسجّاة بيديه..ويلقي بها في غياهب القبر.. بينما عيونها الجافة والساكنة ترى وجهه الحزين... بحيث تكون آخر صورة انطبعت على شبكية عينها- قبل مواجهة باريها- هي صورة ابنها... تلك لعمري.. وبإذن الله..قمّة الحب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى