كتابان جديدان لمصطفى عبدالغني
في مطلع العام الجديد (2010م) تابع الكاتب د.مصطفى عبدالغني جهده المتواصل في البحث المعرفي التاريخي والابداعي فيما يراه منتميا وأصيلا فى ثقافتنا العربية.
صدر كتاب «عمالقة وعواصف.. إجابات لأسئلة محيرة»، وهو تناول نقدي لعدد غير قليل من الشخصيات السياسية والأدبية والفنية، ليس لسرد المنجزات وتزكية ما كان (وكلها تستحق) ولكن لمناقشة منجزاتهم والتوقف أمام تلك المعطيات بالمناقشة، وهو ما يضيف ويعمق رؤيتنا كقراء مع معطى تلك الشخصيات.. منها طه حسين- العقاد- مجمد حسنين هيكل- محمد صبحي- جمال عبدالناصر- إحسان عبدالقدوس- صلاح جاهين- أنور السادات- جمال الدين الأفغاني- سعد زغلول-عبدالله النديم- أحمد عرابي-عبدالوهاب المسرى وغيرهم.
أما الكتاب الآخر اصطياد النمر فهو رؤية درامية حول البطل أحمد عبدالعزيز أحد الضباط المصريين الذين شاركوا فى معارك فلسطين عام 1948م، ومن القافلة الأولى للضباط الأحرار التي نهضت بثورة عام1952م.
يبدو وكأن الكتابين يكمل كل منهما الآخر، والحقيقة أن هذا يرجع إلى أن هموم واهتمام الكاتب واحدة، فكانت تلك المفارقة.
فى مقدمة كتابة الجديد «عمالقة وعواصف.. إجابات لأسئلة محيرة»، آثار الكاتب سؤاله حول المعرفة وأهميتها، بينما الانطباع الأول فور الاطلاع على عنوان الكتاب، قد يشي أنه من كتب التأريخ المعاصر والسيرة الذاتية لبعض الشخصيات التي تركت آثارها على الفكر السياسي والأدبي فى العالم العربي؟!
قد نتساءل بدورنا: ولماذا كانت المعرفة هي الباعث على الكتابة، والإجابة على أسئلة لم يطرحها الكاتب مباشرة فى متن الكتاب؟
لعل الكاتب يبعث برسالة عتاب إلى الأجيال الجديدة التي تجهل الأنموذج والقدوة من هؤلاء الذين يوصفون بالبوصلة أو المثل العليا أو القدوة.. ولعلة يدين الفضائيات العربية التي انشغلت بالآني والمتعجل والمثير، وتركت الثوابت وإبراز الدائم والفاعل فى وجدان وعقل الكبير والصغير.. وربما من طرف خفي يدين الواقع السياسي العربي الذي نسب إلى ذاك المفكر أو الأديب أو السياسي ما تشاجروا حوله: هذا الرجل أصولي وذاك ليبرالي، هذا يساري وذاك يميني.. وكلهم مسئولون عما بلغناه من معاناة!.. وربما القفز فوق كل المعضلات، أراد الكاتب البحث فى الجوهر، فى المعرفة، وعلى القارئ أن يعمل عقله وبتفاعل بمن يشاء ومن يراه جديرا بالمناقشة.. إعمال الفكر والتفكير هو الباعث الظاهر/الخفي وراء هذا الكتاب.
لقد جمع الكتاب بين دفتيه شخصيات عدة، قد يبدو من غير المبرر الجمع بينها.. هناك من رجال السياسة، القديم (نسبيا) منها والمعاصر.. ومن رجال الأدب والفكر.. ومن رجال الإعلام والفن. ولا يجمع بينها سوى القارئ الباحث عن المعرفة، سواء اتفق مع هذا أو اختلف مع ذاك. حقا لا تكتمل الصورة وتتضح مرامي الكاتب إلا أن نقول أن كل الشخصيات التي تناولها.. كانت فاعلة فى زمنها، ولها خصوصيتها التي تركت علامة ما فى مجالها.. السياسي أو الثقافي أو الفني. يجدر الآن متابعة مبرر/مبررات تناول الكاتب لبعض تلك الاسماء.
عرض الكاتب لجمال الدين الأفعانى، باعتباره نموذج للفكر القومي، وان رصد الأفغاني الاتجاه الاسلامى فى القرن التاسع عشر، لا يعنى غلبة هذا الاتجاه، إنما يعنى تبلوره –عبر أحداث عاصفة- وتطويره عبر الاتجاه القومي الصاعد، سعيا منه ووعيا بما يمكن أن يلعبه الواقع بتياراته واتجاهاته فى إحداث التغيير (على حد تعبير الكاتب).
كما اختار عباس محمود العقاد نموذجا لذلك الكاتب الذي قد يعجز قلمه عن ملاحقة التغييرات السياسية من حوله.. فقد تحول إلى الصمت نتيجة التناقض القائم بين المثقف والسياسي، ومن ثم، أسلم ذلك مثقفا كالعقاد إلى حالة من (الاغتراب) لم يستطع التواؤم معها بعد ثورة يوليو1952م.
فيما اختار عبدالغنى الشاعر والكاتب عبدالله النديم، نموذجا للقلم الذي يواجه الاحتلال والبطش من قوات الاحتلال (احتلال الانجليز لمصر).. وقد اضطر النديم إلى إغلاق مجلته المقطم. وفى مقاله الأخير قبل الإغلاق كتب مقالا يودع فيه القراء، يتضمن بيتين:
أودعكم والله يعلم أنني..أصبحت فيه، فماذا الويل والحربوما عن قلى كان الرحيل وإنماذنب أدان به وأغتــرب
أما اختيار يوسف إدريس، لم يكن بسبب الإبداع القصصي والروائي، كان بسبب المفكرة تلك المقالة الأسبوعية التي كانت تنشر أسبوعيا فى جريدة الأهرام، خلال الفترة من السبعينيات حتى التسعينيات من القرن الماضي. لقد كان إدريس بمقاله، هو نبض الشارع المصري طوال تلك السنوات، ولا يعرف عن كاتب أو أديب ناقش القضايا الاقتصادية والسياسية بالجرأة والتحليل العلمي الذي اتسم به.. حتى انه استطاع أن يوجه رسائل مفتوحة إلى وزير الزراعة ثم إلى رئيس الجمهورية (فى حينه) غير إدريس.
لعل الكاتب محمد حسنين هيكل هو الوحيد الذي تناوله عبدالغنى فى جزأين. فى الجزء الثاني توقف أمام أخطاء الأستاذ. وان عرف عن هيكل مقولته: المثقفون..سقطت من حولهم جدران الحمام، يرى عبدالغنى انه فى السنوات القادمة سوف تسقط عن هيكل جدران الحمام.. فما كتبه عن الآخرين، كتبه من وجهة النظر الهيكلية والوثائق التي وظفها، اختارها بالعقلية الهيكلية.. ثم ناقش الكاتب مقولته مستشهدا ببعض الكتب مثل كتاب المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل.
لم يكن اختيار توفيق الحكيم ضمن شخصيات الكتاب باعتباره علامة متميزة فى الأدب العربي، خصوصا فى المسرح، إبداعا وقضايا، بل لأنه شخصية محيرة أو لنقل أنه لا يمكن قراءة الحكيم دون الخروج منها بحيرة تدفع إلى الدهشة.. سواء فى كتاباته للقضايا الثقافية المثارة فى حينه، وهو ما تكشف عنه عناوين مقالاته: الغازي والمغزو، الأصالة والمعاصرة، هل نخشى الفتنة؟، فى العلمانية، الإسلام ليس فى حاجة إلى العلمانية..وغيرها. أما فى إبداع الحكيم، توقف عبدالغنى مع أعماله القصصية فى الخيال العلمي.. وتساءل: هل كتب الحكيم خيالا علميا؟.. وانتهى إلى أن الحكيم يؤمن بأن العلم وحده يدمر النفس والعالم، ويجب الارتكان إلى الوجدان والروح والدين.. لذا كانت كتاباته فى الخيال العلمي متشائمة.
كذلك فعل الكاتب حين اختار محمود درويش ضمن شخصياته، ليس لكونه شاعرا مجدا متجددا، أخلص لقضيته وللقضية العربية، حتى وفاته عام 2008م.. بل لكونه التعبير الأدبي والوجداني عن مستويات عرفها الموقف العربي داخل الأرض المختلة –فلسطين- أو أبنائها فى الخارج، حتى الوصول إلى هلهلة الواقع العربي من تشظى. فدرويش الذي قال:
سجلأنا عربيورقم بطاقتي خمسون ألفوأطفالي ثمانيةوتاسعهم سيأتي بعد صيففهل تغضب...
هو الشاعر نفسه فى التسعينيات من القرن الماضي وبداية هذا القرن، فى كتبه ودواوينه لماذا تركت الحصان وحيدا؟، سرير الغربة، جداريه، حالة حصار، لا تعتذر عما فعلت، توالت الوان الطيف الواعي الحزين لما يحدث للعرب من الداخل فيما كتبه.. حتى قال في «أنا يوسف يا أبى»:
يا أبى، اخوتى لا يحبونني،لا يريدونني بينهم يا أبىيعتدون على ويرمونني بالحصى والكلاميرودننى أن أموت لكي يمدحون...
أما الكتاب الآخر اصطياد النمر، الأجدى أن تسعى المؤسسات الفنية والتربوية لاقتنائه واطلاع الأجيال الجديدة عليه من خلال تحويله إلى كائن حي على خشبة مسرح مدرسي أو فى هيئة قصور الثقافة.. حيث يتناول الكتاب تجربة حية وحيوية لإحدى معارك الجيوش العربية على الأرض الفلسطينية.. وقد استشهد فيها البطل أحمد عبدالعزيز الضابط فى الجيش المصري.
كثيرة هي الشخصيات التي تناولها الكاتب فى الكتابين - الوثيقة للأجيال الجديدة، وان تميزت بخصوصياتها إلا أنها نمطا يجب الاحتذاء بها، والتفكير فيما أنجزته.