لاَ عذرَ لنَا في عَمًى بأَصابعِنا
(إِلى علي الخليلي)
وصَلناكَ متأَخِّرينَ ولا نَعترِفُ.. هيَ عادتُنا السَّيئةُ أَيُّها الحَسَنُ.. لهذَا؛ لاَ عُذرَ لنَا في عَمًى بأَصابعِنا، أو حَوَلٍ مُصطَنع. لكنَّا هُنا، وإنْ أَدرَكنا بَعدَ غَفلَتِنَا جَمِيعًا عَنكَ، وبَعدَ صَحوةٍ مُتأخِّرةٍ وقد مَلَّتْ ومَالتْ شَمسُكَ بَعدَ مُنتصفِ نَهارِها بكثيرٍ، طَرفَ ظلِّكَ، وإنْ لمْ يُحالِفْنا وَفاؤُنا، منذُ أَمدٍ طالَ، كي نَستردَّكَ مِنَّا إِلينا، رغم أنَّكَ فِينا، فإنَّنا نُحاوِلُ، أولاً، أنْ نُديرَ الرأسَ نَحوَ الماضي بِسِحنةٍ مُرتبكةٍ وخَجولةٍ، ونُحاوِلُ، ثانيًا، أنْ نَضبِطَ، الآنَ، إِيقاعَ عُيونِنا انْحِناءً لِقامَتِكَ الإِبداعيَّةِ العَاليةِ، ونُحاوِلُ، ثالثًا، أَنْ نشكرَ رُوحَكَ المُندلِعَةَ صَبرًا جَميلاً، وهُدوءًا عَارِمًا، وحُزنًا بِاحْتِمَالِ جَبلَيْ "نابلس"؛ "جرزيمَ" و"عِيبال".
أيُّها المُعلِّمُ الكُنتَ مُبَاحًا، والمَعْلَمُ المَازِلتَ مُتاحًا..
لَم يَزلْ رَبيعُ عبارتِكَ الشَّقيَّةِ "الكتابةُ فَرحٌ" وَرديَّ الشِّعرِ وأَخضَرَه.. أَتذكَّرُها وأُردِّدُها وِرْدًا كلَّما بَدأتْ خُطواتي تَسيرُ بي في "القَصَبةِ: الَّتي كأنَّها النَّاي، حيثُ رائحةُ "الفُرنِ" المُجنَّحَةُ تَطِيرُ عَبِقَةً فِيهَا.. حِينَها، تَشتعِلُ الذَّاكرةُ بِوطَنِ المكتبةِ/ "مكتبةِ الوَطن" الَتي دَخلتُها وقد كانَ بدأَ حَبوِي الشِّعريُّ، فَأشعلتَ "الضَّوءَ الأَخضرَ" في "فَجرِكَ الأَدبيِّ" كي تَحتضِنَنِي وجِيلَنا الثَّمانينيَّ الَّذي أَطلقتَ عَليهِ آنذاكَ: "الجِيلَ الرَّابعَ"، وأَنا أَراهُ، بِعَينِ الفَقدِ، الجِيلَ الضَّائعَ! إِذ أينَ الكثيرُ مِنَّا نَحنُ الآنَ، بَلْ وقبلَ الآنَ بكثيرٍ؟
أَينَ الَّذينَ أَحْلَلْتَ لَهم "فَجرَكَ الأدبيَّ" صَفحةً في جَريدةٍ، ثمَّ جَريدةً مُستقلَّةً، ثمَّ مَجلَّةً، ومنهم مَن كَتَبتَ عن أَوِّلِ أَعمالِهم الشِّعريَّة، بِعنايَةِ الأَبِ في كتابِكَ "شُروطٌ وظَواهرُ في أَدبِ الأَرضِ المُحتلَّة"؟
أَينَ إبراهيم عمَّار صَاعدًا من المَوتِ أَو هابطًا مِنه؟ أَينَ خليل توما في أُغنياتُ اللَّيالي الأَخيرة؟ أَينَ وليد الهلَّيس الَّذي ذهبَ إلى الموتِ مُبكِّرًا؟ أَينَ جبرا حنَّونة وأنتِ مِيلاَدي ومَوتي؟ أَينَ حلمي الأسمر القَمرُ والرَّغيف؟ أَينَ عبد الحكيم سمارة جعفرٌ ينهضُ من قَبرِه؟ أَينَ علي الصَّح نقوشٌ على جِدار الوَطن؟ أَينَ لِلي كرنيك قَطراتُ شوقٍ فوقَ رصيفِ العُبور؟ أَينَ ليلى علوش بِهارٌ على الجُرحِ المَفتُوح؟ أينَ محمد الأسمر وأَطفالُ الأرضِ الحَزينة؟ أَينَ يوسف حامد الأسدُ يَغتسلُ بِلَونِه؟ أَينَ وسيم الكردي وازدانَ بَحرُكِ بالحنَّاء؟ وأَينَ؟ وأِينَ؟ وأِينَ؟ كَأَنَّ عناوينَ مَجموعاتِهم الشِّعريَّةِ كانت دالَّةً أُولَى وأَخيرةً على غِيابِهم السَّريعِ البَشِع!
ثمَّ إِنَّ معظمَ مَن لَم يَحتفِ بِهم الغِيابُ أَو الضَّياعِ يُحيِّرونَني بِحُضورهِم البَاهتِ مثلَ وردةٍ في سنِّ يَأْسِها! هل هوَ الجَفافُ الشِّعريُّ؟ هل هو جُمودُه وفَقرُه وهروبُه من بينِ أَصابِعهم إذ لمْ يُتقِنُوا الشَّغفَ بهِ، والإخلاصَ لِنَكَدهِ الجَمِيل؟!
لِي، بَعدَ كلِّ هذا وأَكثَر، أَنْ أَسَأَلكَ، وطَبعًا لا أَعنيكَ إِلاَّ رَاعِيًا غَيُورًا، بعدَ دَمعتِي العَنيفَة: أَينَ أَبناؤكَ/ أَبناءُ جِيلي.. يا أَبي علي الخليلي؟
أَعتذرُ لكَ على أَنِّي ربَّما أَوجَعتُ قَلبَكَ الطِّفلَ، أّيُّها الكبيرُ، لكنَّهُ الأَلمُ على تَعبِكَ الَّذي بالتَّأكيدِ أَردتَ أَن تَرى ثِمارَ بِذَارِ عِنَايتِكَ تَنضُجُ في شَجرةِ الشِّعرِ الفلسطينيِّ لنُتَابِعَهُ، فيُتابِعَنا مَن بَعدَنا إِلى ما لا نِهايةَ لِسُموِّها الَّذي نُريدُ ونَشتَهي.
أَيُّها الشِّعريُّ، النَّثريُّ، الرُّوائيُّ، القَصَصيُّ، التُّراثيُّ: كَمْ أَنتَ كَثيرٌ عَلينَا إذ كَثيرةٌ هي أَغصَانُ شَجرتِكَ العاليَةِ بِثمارِها الدَّانيةِ حدَّ مَا بعدَ الفَم، ورُغمَ هذا، فَإنَّكَ كُنتَ، ومَا زِلتَ، كَشَجرةِ الصَّندلِ تُعطِّرُ الفأْسَ وهوَ يَقطَعُها، كمَا قالَ شَيخُنا "الشِّيرازيُّ".
يَا أَميرَ النَّقاءِ: كَم يُكلِّفُنا الوفَاء؟! بل: كَم أَتلَفَنَا عَدمُ الوفَاء!
نَدعُو لكَ، ونَدعُوكَ أَن تُسَامِحنَا الآنَ لِنَفرَحَ معًا ونَحنُ في حَضرتِكَ العَاليةِ يُكرِّمُنا جَوادُ أَندائِكَ، وتُشهِدُنا عَلينَا فِعَالُ أَسمائِكَ.. مَا أَصَابكَ وَهنٌ ولاَ زَمنٌ ولاَ انْحِناء، بَل مَا زلتَ، ونَشتهي المزِيدَ، تَنحتُ رُوحَكَ الإِبداعيَّةَ كي تَظلَّ شَاهِدَةً لكَ/ لنَا حتَّى مَطلعِ القِيَامَة.
أَيُّها النَّقيُّ/ البَهيُّ: لَكَ الحبُّ حتَّى تَرضَانا وتَرضَى!