لا جدوى من الكتابة إن كان الكاتب يكرر نفسه..
بقلمها الأنيق والبارع الذي ينحاز في كل ما يكتب إلى الوطن تثبت الروائية الجزائرية ياسمينة صالح مرة أخرى أنها علامة فارقة في المشهد الأدبي الجزائري، فمن خلال روايتها الجديدة «لخضر» استطاعت أن تعبر باقتدار عن ذاتها كمبدعة وإنسانة تحترم عقل القارئ وذائقته بلغة قوية مميزة لا تخلو من الإدهاش. لياسمينة صالح أربع روايات ومجموعتين قصصيتين. في هذا الحوار نحاول أن نقترب أكثر من هذه الكاتبة قليلة الحديث الصحفي.
– كيف تفضلين تقديمك عادة في الحوارات، بأي وصف؟
– كإنسانة بسيطة تكره بطبعها الألقاب.
– سأبدأ من روايتك الأخيرة «لخضر»، وسأنطلق من صفحتها الأولى ومن جملتها "أشخاص وأحداث الرواية محض خيال ولا علاقة لهم بالواقع".. كيف تشرحين لنا هذه الجملة !
– لا تحتاج الجملة إلى شرح، إنها تشرح نفسها بنفسها !
– لقد وجدتني أغوص في تفاصيل الرواية، في تقاطعاتها بين الموت والحياة، وفي تلك الأحداث الدامية التي عاشتها الجزائر.. هل هذا خيالا !
– الكتابة ليست ذاكرة أشياء بقدر ما هي ذاكرة أشخاص بطريقة ما، وهي ليست مطالبة بالإجابة على أسئلة الراهن إجابة تاريخية محضة، ولا سياسية، ولهذا أظن أن الرواية "لخضر" كانت إجابة إنسانية لواقع يتقاطع فيه الواقع بالخيال في حالات ما ! فليس ثمة رواية واقعية بشكل مطلق، ولا خيالية بشكل مطلق !
– من يطلع على رواية "لخضر" لا بد أنه يخرج بجملة من المشاعر المتناقضة بين الصدمة إزاء الأحداث، وبين الدهشة أمامك ككاتبة. كيف كتبت هذه الرواية؟
– سوف تلاحظين أن البعد الزمني بين رواية "وطن من زجاج" وبين "لخضر" ليس هيّنا في النهاية. لعلي أجدني أمارس تلك الرغبة في كتابة نص أحب كتابته. لخضر رواية مجنونة لا شك، فيها الكثير من المغامرة في محاولة الدخول إلى المناطق المحظورة أدبيا، أو إعلاميا، ألا وهي السياسة بمعناها المطلق ! لهذا استمتعت وأنا أمارس مخيلتي الكتابية في الدخول إلى مناطق لا يدخلها كل الكتاب، للحديث عن الدور الذي تلعبه السياسة في حياة البسطاء، وفي حياة الفقراء. أعتبرها تجربتي الخاصة، حيث ما زلت أقول أن أحداث الرواية من محض خيال، على اعتبار أنني لم أعش تلك الأحداث حقيقة لأدعي أنها حقيقية تماما.
– هل تخافين من فكرة اعتبار رواية لخضر تأريخا لواقع جزائري، لهذا تتكلمين عن الخيال؟
– من يخاف لا يكتب، ومن سيطلع على الرواية سيعرف أنني لم أخف عند كتابتها، ولست أخاف اليوم بعد أن أصبحت في المكتبات العربية !
– أين تضعين هذه الرواية تحديدا ضمن ما صدر لك من قبل؟
– أضعها في مكانها لا أكثر، بأنها روايتي الرابعة التي حاولت من خلالها التحرر من بعض التراكمات لأكتب شيئا مختلفا، وإنسانيا، و... جيدا !
– كتب الناقد الأردني سميح الخطيب واصفا روايتك بالمهمة، ونشر موقع "النيل والفرات" لبيع الكتب واصفا روايتك بالملحمة الإنسانية، هل تشعرين أنك حققت تقدما في العملية الإبداعية الخاصة بك؟
– أنا أجتهد لأجل هذا، لأجل أن أجدد في أدواتي الإبداعية، وأطورها مع كل رواية، وهذا بحد ذاته يشكل بالنسبة لي هاجسا جميلا، فلا جدوى من الكتابة إن كان الكاتب يكرر نفسه في كل عمل !
– يبدو لي أن اهتمام النقاد العرب بأعمالك الأدبية كان أكبر من اهتمام النقاد في الجزائر، هل توافقينني الرأي؟
– يسرني أن النقاد العرب يهتمون بالأدب الجزائري ككل، وأما عن النقد في الجزائر، فلا أظن أن ثمة حراكا نقديا جادا كي أقول أنني ظلمت من هذه الناحية، على اعتبار أن الأعمال الأدبية الجزائرية الجيدة تلقى نفس الإهمال، وعدم المبالاة من قبل النقاد على قلتهم، وهذا شيء خطير بلا شك، ربما لأن الحراك الأدبي الذي تعيشه الجزائر يجب أن يواكبه حراكا نقديا حقيقيا، على اعتبار أن النقد ليس مجرد وجهة نظر يمكن كتابتها في مقالة تتسم بالمجاملة أو بالعداوة بعيدا عن النص نفسه !
– في هذا السياق، ما رأيك بالحركة النقدية التي تواكب أعمال الكتاب الذين حطموا "المنفى اللغوي" الذي فرضه الاستعمار الفرنسي على مثقفي الجزائر واستماتوا للكتابة بالعربية؟
– كما قلت لك، ليس هنالك حركة نقدية بالمعنى الدقيق بكل أسف، على الرغم من التميّز، لا شك، الذي أصبح يحققه الأدب الجزائري في شكل روايات جيدة تصدر من حين لآخر، أما الشطر الثاني من سؤالك، فلا شك أنه الرهان الأجمل أن تكون العربية لغة الإبداع الجزائري، رغم كل الظروف، ورغم التضييق، ورغم سياسة الشطح التي أهملت الجانب الفكري من الثقافة..
– هل تؤيدين تحوّل الكاتب من لغة إلى لغة؟
– إن كان سيبدع بها فلم لا.. مع أني متأكدة أن من يبدع بالعربية من الصعب أن يبدع بنفس الدرجة بلغة أخرى، ولنا في أدباء كثيرين خير دليل !
– من يعنيك أكثر القارئ العادي أم الناقد؟
– يعنيني النص الذي أكتبه لأنه سوف يطلع عليه القارئ والناقد معا !
– هل توافقين بأن هنالك عناية "مبالغ فيها" بأعلام الرواية الجزائرية الأوائل؟ وهل صحيح أن الاهتمام النقدي ليس مرتبطا "بأهمية" أعمالهم بقدر ما هو "تقدير" لذواتهم الشخصية؟
– لا أدري ماذا تقصدين بالعناية المبالغ فيها، لكني سأقول لك أن هذا يحدث بكل أسف في كل البلاد العربية، ثمة نخبة تتاجر بالثقافة وأخرى تبدع وتتلقى على قفاها ! المشهد تجدينه في كل الدول العربية دونما استثناء !
– كتاباتك الأدبية تحمل رؤيتك وآرائك عما يجري.. فماذا عن ماهية الإبداع وطبيعته من وجهة نظرك.. و هل يجب يكون للإبداع "وظيفة وغاية معرفية" بالإضافة إلى الإدهاش اللغوي ؟
– دعيني أرد عليك بجملة: عندما يتجرد الأدب من غايته الإنسانية يصبح بلا فائدة ! وهذا ينطبق على الأديب سواء كان رجلا أو امرأة، وهذا ردي على سؤالك بشطريه الأول والثاني !
– من يتصفح المنتديات الثقافية يلاحظ عجز القارئ على الوصول إلى كتبك، مع أنها تصدر عن دور نشر عربية ولبنانية كبيرة؟
– ليست مسؤوليتي بقدر ما هي مسؤولية الناشر، وهذا يحدث مع العديد من الكتاب بكل أسف. ثمة دور نشر تسوّق بشكل مبالغ فيه لروايات لا علاقة لها بالأدب، سوى في كونها موجهة إلى المكبوتين من القراء، على حساب الأدب الجيد والجاد وما أكثره.. كتبي من المفترض أن يوفرها الناشر للقراء، وإن لم يفعل فهذا شيء يضر الكاتب حتما. وبالنسبة لي فأنا مستعدة أن أرسل كتبي لمن يطلبها، على ألا أكون مجبرة على تحمل تكاليف البريد. الروايات ستكون هدية مني لأي قارئ يطلبها، فقط أن يتحمل تكاليف البريد، وبهذا أكون عادلة في المسألة.
– سأنتقل بك إلى موضوع آخر يتعلق بالأزمة الأخيرة بين مصر والجزائر بسبب "ماتش" كرة. كيف تنظرين كروائية وكمثقفة جزائرية إلى هذه الأزمة؟
– قلتها من قبل وأقولها اليوم أنه من الصعب الضحك على الشرفاء في الشعبين، والنظم الدكتاتورية تدافع في الأول والأخير عن بقائها، وعن مصالحها على حساب مصالح الشعب.. العلاقة الأخوية بين الشعبين الجزائري والمصري أعمق بكثير من حفل التهريج الذي شاهدناه في الأشهر الماضية، من الصعب التفريق بين شعبين شقيقين تجمعها الكثير من القواسم، أهمها الدين، لهذا العلاقة بين الشعبين المصري والجزائري تظل عميقة فوق كيد الجبناء، برغم أنف الفاشلين الذين حاولوا تعليق خيبتهم على مشجب الشعبين الشقيقين.
– لكن الأزمة كادت تؤدي إلى قطع العلاقات بين البلدين؟
– غير صحيح، والإعلام الفاشي هو الذي كان يسكب الزيت على النار. أنا مؤمنة أن العلاقات الإنسانية والأخوية بين الأشقاء من الصعب مسها أو قطعها بقرار سياسي، لأن الذين بثوا الضغينة في كل مكان هم جزء من النظم الديكتاتورية الفاشلة التي تريد البقاء على رغم فشلها في تسيير شؤون شعوبها. لا أحد استفاد من تلك الأزمة في النهاية سوى من حاولوا تمرير مشاريع آنية، وكانوا بحاجة إلى تحويل أنظار شعبهم إلى مشاكل تافهة، ولحسن الحظ أن الشعوب بلغت درجة من الوعي، بحيث أصبح من الصعب الضحك عليها. مصيرنا كشعوب عربية وإسلامية واحد، وعدونا المشترك نعرفه، ونضالنا لأجل العلم والرقي والتقدم والإصلاح الحقيقي والنهضة يظل مشتركا أيضا، وما دون ذلك ليس أكثر من خزعبلات دنيوية سخيفة وآنية سوف تنتهي مهما طالت، وكما يقول المثل الجزائري:"ما يبقى في الواد غير أحجاره" !
– بكلمات مختصرة.. كيف تنظرين إلى المرحلة الراهنة؟
– بأمل رغم كل السواد، ورغم الضبابية. نثق أن الله قادر على نصر عباده، نسأله أن يصلح في حال الأمة، وأن يغير في فكر حكّامها، وأن يبث في قلوبهم الغيرة على الحق للدفاع عنه، أو أن يزيحهم عن طريقنا. الله المستعان !
– ما هو الوطن الذي تنحاز إليه ياسمينة صالح..؟
– الكتابة !
– و المدينة التي تستدرج شغف الكتابة عنها..؟
– الإنسانية !
– هل يحتاج الإبداع للخيال أم للواقع حتى يكون أكثر صدقا و تأثيرا و عفوية؟!
– يحتاج لكل ما ذكرته، ويحتاج لنفسه أكثر شيء ! مثلما يحتاج إلى قلبه وإلى الآخرين ! الكتابة ليست منفصلة عن الآخرين، إنها تؤسس شيئا يتحول إلى وجبة فكرية جماعية في النهاية ! لهذا الواقع والخيال شيئان لا يتجزآن من ميكانزمات الكتابة نفسها، إنه جنونها الأجمل.. !
– أنت واحدة من بين أهم الأسماء الروائية النسائية في الجزائر، كيف تنظرين إلى آفاق الرواية الجزائرية، وبالخصوص المكتوبة بأقلام نسائية؟
– الأكيد أن الرواية الجزائرية تتطور بشكل جميل، وثمة أسماء روائية جزائرية رائعة بصدق من الجنسين، وأعتز أنني واحدة منهم، ولا شك أن السرد النسوي خرج من عنق الزجاجة، وسيحتاج إلى الكثير من الجهد ليكون متينا وقويا وبعيدا عن الأناة الضيقة، وعن القضايا غير الجدية، وعن الثرثرة النسائية !
– متى تحجمين عن الكتابة؟
– عندما أموت !