الأحد ٣٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٢
بقلم رندة زريق صباغ

لقاء مع الكاتب فتحي فوراني


 لم أنم تلك الليلة ولم أعرف بما أحلم من شدة الغبطة.

 نشأت بين المثقفين والأدباء الذين حولوا محلقة والدي في الناصرة لصالون أدبي.

 سمعت أحاديث المخاتير وكبار السن فتعلمت منهم الحكمة.

 سكن محمود درويش في شقة مقابل بيتنا في عباس حيفا.

 أواخر الخمسينات أصدرت وزملائي في الثانوية مجلة الطالب كنوع من النهضة الادبية.

 كتابي (حكاية عشق) ليس قصة رومانسية مع امرأة.

 كتابي (بين مدينتين) أتحدث فيه عن مدن ثلاث.

 زيارة "بنت الكلب" كانت المحفز لأكتب سيرتي الذاتية.

 أحب الناصرة كما كانت على أيامنا.

 زرت عيلبون لثلاثة أيام وسمعت عن المجزرة والتهجير.

اعتدنا أن نقرأه، نستسيغ مقالاته ونتعلم منها، كما اعتدنا أن نستمع لكلماته اللطيفة المطعمة بالوفاء لكل من ساهم في صقل شخصيته ولكل المحتفى بهم بأمسيات التكريم أو ذكرى الوفاة يطرّز أحرف كلماته لتليق بمن يتحدث عنه مستذكراً طيب الخصال وحسن الأفعال.

في هذه المادة أكتب عن أبي نزار، منه وإليه كتحية تقدير لقلمه ولحياته العريضة التي تعج بالذكريات. كان اللقاء في غرفة مكتبه مدخل بيته في حي عباس، تتربع الكتب هناك كما تزيّن الصور القديمة جدران المكتب، صور عائلية وصور مع الأصدقاء والخلان من شعراء وأدباء اعتادوا الاجتماع في غرفته ذات الشرفة الصغيرة التي أطلت على البحر من الشمال وعلى شباك شقة محمود درويش بالطابق الثالث في البناية المحاذية من الشرق. يقول: كنت أجلس على الشرفة أطالع الكتب والمجلات يومياً فيطل علي صديقي محمود من شباكه مستفسراً عمّا أقرأ اليوم ويدور بيننا حوار سريع حول الكتاب ومواضيع أخرى، في تلك الفترة كان محمود درويش محرراً لمجلة (الجديد) التي كنا ننتظر صدورها بشغف.

إرحمونا من هذا الحب القاتل:-

جملة قالها محمود درويش الشاعر الوطني وشاعر الحداثة في آنٍ معاً، جملة لا ينساها الفلسطيني حتى الذي لم يعجب بها حينها، جملة تدل على موقف وعلى دعوة الدول العربية وخاصة سوريا على عدم الاكتفاء بالكلام المعسول تحاه الفلسطينيين بل على ضرورة القيام بأفعال على أرض الواقع. في تلك الفترة اهتمت (الاذاعة السورية) من دمشق باعطاء المنصة لشعراء فلسطينيين ليسمعوا أصواتهم ويلقوا أشعارهم لتصل عبر الأثير لكل العالم العربي، محمود درويش كان من الأوائل ليحذو حذوه العديدين من الشعراء الوطنيين، طبعاً ركب الموجة العديد من الشعراء اللا وطنيين -مستغلين أثير سوريا الداعم والمحب للفلسطيني- واشتهروا على حساب القضية مما حدا بدرويش ليستنفر بقصيدته المشهورة مخاطباً النقاد والأدباء العرب.

عيلبون

ارتبط اسم عيلبون في ذاكرتي باسم زميلنا المهذب الراقي فضل زريق، تعلمنا سوية في الثانوية البلدية بالناصرة، فضل يكبرني بعام واحد كان مجتهداً، بشوشاً وخلوقاً جداً لدرجة لفتت الأنظار اليه، فأضحى صديقاً للجميع وليس فقط للطلاب القادمين من القرى. حدّثنا أكثر من مرة عن المجزرة والتهجير وعن والده الشهيد. سمعت في الراديو أغنية محرم فؤاد عن مجزرة عيلبون فزاد اهتمامي بمعرفة التفاصيل، في حيفا أواخر الستينات التقيت بالشاب زريق فريد زريق، سألته عن المجزرة فحكى لي ما يذكره كطفل عايش النكبة، دعاني لزيارة عيلبون والاستماع لتفاصيل الحكاية من والده فريد وعمه حبيب(أبو زياد) وهكذا كان، زرت القرية الصغيرة الوادعة، التقيت بأبي زريق وأخيه وفهمت منهما كل ما حدث بالتفصيل، لهما ذاكرة حديدية تخزن كل الذكريات. التقيت بكل أفراد العائلة الذين رحبوا بي أجمل الترحيب والكرم. كما أذكر أنني وبعد اكثر من عشرين عاماً كتبت مقالة أشيد فبها بفريد زريق الذي كان أول عربي يتبرع بأعضائه لعد الوفاة، والأول في الدولة بين العرب واليهود الذي بتبرع بجسده بعد الوفاة لصالح البحث العلمي. شخصية كهذه علينا تخليدها بنصب تذكاري أو باطلاق اسمه على نادٍ أو مؤسسة في القرية، ليتنا نتعلم من أولاد عمنا تكريم الشخصيات المميزة في مجتمعنا.

مدينة صفد مسقط الرأس

لم أعش كثيراً في صفد، كنت طفلاً عام النكبة وذكرياتي عن المدينة ضبابية غير واضحة، لكنني وهذا هو المهم أذكر وأعرف أن لنا بيتاً في صفد تقطنه عائلة يهودية، حاولت زيارته أكثر من مرة لكنهم لم يسمحوا لي بدخوله، غصّة كبيرة في الحلق والقلب يبدو أنها سترافقنا وترافق أبناءنا حتى المنتهى. أتمنى أن أعود لصفد وأسكن في بيتنا ما تبقّى من عمر.

ذكرت وتحدثت عن صفد في كتابي بين مدينتين لكن ليس بالقدر الكافي كما فعلت عن الناصرة التي لجئنا اليها وعشنا أحلى سنوات العمر ، وحيفا الجميلة التي انتقل اليها والدي فانتقلنا معه واشتغلنا جميعاً فيها وكوّنت عائلة وأصدقاء رائعين.

شكراً لزيارة بنت الكلب،

وشكراً للكورونا

رغم كثرة ما كتبت ونشرت على مدى عقود، الا أنني لم أفكر يوماً بكتابة سيرتي الذاتية، عام 2014 أصبت بجلطة دماغية أقعدتني عن العمل كمحاضر في كلية أورانيم لأكثر من شهرين زارني خلالها العديد من المعارف والأصدقاء، خلال الزيارات سنحت الفرصة لأتحدث عن محطات حياتي العديدة والغنية، هكذا اقترح علي الأصدقاء أن أحول هذه الذكريات لكتاب، هكذا جاءت فكرة السيرة الذاتية بعد الإصابة بالجلطة التي أطلقت عليها اسم (بنت الكلب) كنوع من السخرية من فضلها علي. كما أنني اعترف بفضل فترة الكورونا علي، حيث أقعدتني في البيت لتمنحني كل الوقت لأتفرغ للكتابة وتفريغ الذاكرة.

مجلّة الطالب

كنا مجموعة من زملاء الصف الحادي عشر في الثانوية البلدية في الناصرة، جمعتنا صداقة مميزة، محبة للأدب، الشعر والثقافة. قررنا أن نبدأ بما يسمى

(جريدة الحائط) علقنا عليها ما نكتبه من شعر ونثر، من خواطر وأقوال، من أحجيات وألغاز، نجحت الفكرة ولاقت استحسان الجميع لدرجة قامت بقية الصفوف بتقليد الفكرة.

بعد مدة أدركنا أن آفاقنا أوسع وأكبر من هذه الزاوية فقررنا اصدار مجلة أسميناها (مجلة الطالب) التي حوت العديد من المواضيع والزوايا الثقافية والأدبية، كان السيد فؤاد دانيال سكرتير المدرسة يجيد الطباعة العمياء السريعة قد افتتح معهداً لتعليم البنات الطباعة والسكرتارية، طلبنا منه أن يتولى طباعة مواد المجلة، وافق ودعمنا بكل قوة ومحبة، لاقت المجلة تقدير المعلمين والطلاب فاشتروها كما قمنا بيعها في بيوت جيران المدرسة ولمجموعة من مثقفي الناصرة. تعاملنا مع موضوعات المجلة تماماً كما لو أننا أدباء حقيقيين لتزيد ثقتنا بأنفسنا وبموهبتنا الأدبية الصاعدة.

كنا جميعاً أعضاء فاعلين في نادي جمعية الشبان المسيحيةYMC وطالما شاركنا في نشاطاتها الثقافية والفنية حيث كانت تغص قاعتها بالمشاركين في الندوات والأمسيات، أكثر من مرة قدم لنا مدير السيد فهد سمعان( أبو نادر) غرفة نجتمع فيها لنخطط العدد القادم من المجلة أو لنقيم أمسية ثقافية نستمع فيها لابداعاتنا الواعدة، أشي. هنا الى أن مجموعتنا ام تشمل أية طالبة أو صبية. قبل ذلك كنا نجتمع في بيت أحدنا بالتناوب، كانت أمهاتنا تفرح بهذه اللقاءات وكانت كل منهن تستقبلنا بما لذّ وطاب والترحيب. تعيدني الذاكرة لتلك الصخرة الكبيرة في شارع النمساوي، كانت مقراً لنا نحن الأصدقاء، نجلس عليها نتبادل الأحاديث حول الثقافة، المجتمع كما يشاطر أحدنا الآخر أحلامه وأمنياته حول مستقبل سريع الخطى.

الصف الخامس أ

الأستاذ الشاعر ميشيل حداد ( أبو أديب) معلمنا للغة العربية كان مشرفاً على زاوية الطلاب من هواة الكتابة في مجلة (حقيقة الأمر) أخبرنا أنه يرغب بتشجيع هواة الكتابة من تلاميذ صفنا، فمن يرغب بنشر مادة فليقدمها له،،، كنت أحب المطالعة وأدوّن كل جملة تعجبني أو تروقني في دفتر خاص، كتبت بعضاً منها وقدمتها للأستاذ ميشيل، بعد أيام أخبرني أن مادتي ستنشر في عدد يوم غد. لا تسعفني الكلمات الآن لوصف سعادتي بهذا الخبر، فإن إسمي سيظهر في الجريدة، فرحة لا توصف، سيقرأ الناس اسمي، سيشيرون إلي بالبنان حين أمرُّ بالشارع يقولون هذا هو فتحي فوراني، لم أنم تلك الليلة، لم أنجح حتى بأن أحلم من شدة الفرح والفخر. كانت هذه المرة الأولى التي أفهم فيها هذه التجربة المميزة التي كانت خطوتي الأولى في مشوار الألف ميل من الكتابة وعشق اللغة العربية، منها عشرات المقالات في جريدة الاتحاد على مدى سنوات، اضافة للكتب والروايات:-

.مسيحيون ومسلمون تحت خيمة واحدة
.أقمار خضراء.
.أقواس في النص الأدبي.
.دفاعا عن الجذور.
.جداريات نصراوية، شرفات على الزمن الجميل.
.دكتور جيكل ومستر هايد (ترجمة عن العبرية).
.مختارات من الشعر الحديث.
.مختارات من الشعر القديم.
.مختارات من القصة القصيرة.
.حكايات من تاريخ العرب القصصي.
.كتاب الأخطاء الشائعة في اللغة العربية.
.سيناريو الفيلم الوثائقي "نداء الجذور".
.وحالياً قيد الانجاز كتاب (كوكتيل ثقافي).

هنا تجدر الاشارة أنني هلال الثانوية كنت أستعير كل كتاب أو رواية اسمع به من مكتبة السيد سمعان نصار أحد المثقفين المهمين اذ كان يعطيني نبذة عن كل كتاب نستعيره من مكتبته. لقد ارتسم بعد سنوات كاهناً للطائفة في الناصرة، أحبه الجميع ونادوه أبونا سمعان، تجدر الاشارة أن أخاه فؤاد نصار كان سكرتير الحزب الشيوعي الأردني في تلك الفترة.كنت أقرأ الكتب بشغف كبير لا زال يصاحبني حتى اليوم يذكرني بشغف السيد سمعان نصار في شرحه عن الكتب.

كتبت مقالاً في ذكرى أبونا سمعان الانسان والكاهن الوطني المميز.

محلقة والدي، صالون أدبي في الناصرة وحيفا.

كان أبي حلاقاً للرجال، قصده الكثيرون للحلاقة وللاستمتاع بالأحاديث الثقافية والاجتماعية، تحولت المحلقة لصالون أدبي في حارة الروم، كما قصده مخاتير القرى المجاورة وكبار رجالاتها الذين تبادلوا أيضاً الأحاديث والمواضيع الاجتماعية، تطرقوا للمشاكل والخلافات بين الناس وكيف ينجحون بحلها واعادة المياه لمجاريها، كنت يافعاً أجلس معهم وبينهم أصغي باهتمام وأتعلم من تجاربهم وحكمتهم. كان لي حظ كبير أن أترعرع في هذه الأجواء الجميلة، لا أنسى أيضاً انضمامي لجلسات الأدباء والمثقفين في مطعم جنينة أبو ماهر منطقة العين، كنت وزملائي بالثانوية نهوى هذه الأجواء فنهتم بالمشاركة فيها بعد انتهائنا من فروضنا الدراسية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى