لله درّك يا بدل، أبكيتنا فرحا
«بدل رفو المزوري» قيل عنه الكثير وكتب عنه الكثيرون، وصفه البعض (بالسندباد الكوردي، ابن بطوطة كوردستان، سفير الأدب الكوردي)، تنّفس الآداب الروسية والنمساوية فأتحفنا بنماذج فريدة عبر ترجماته الإبداعية التي فتحت أمامنا آفاقا جديدة ونوافذ واسعة لعوالم ساحرة كنا نتوق لدخولها، ترجم من الكوردية لعشرات الشعراء الكورد الذين لم نكن نعرفهم قبل ترجمته لهم، ساهم في إثراء المكتبة الكوردية بمؤلفاته الإبداعية التي لا يمكن لأحد أن يشكك بجمالها وثرائها الفكري والروحي، هذا الشاعر الإنسان يقضي جلّ وقته في الكتابة والترحال واستكشاف المجتمعات والجزر والجمال عبر القارات، لم يبخل علينا بما رأته عيونه وشعر به قلبه وارتعشت لبهائه روحه، رسم لنا بريشته البيضاء مكامن الدهشة في هذا الوجود من خلال أنامل قلبه الناصع البياض، أجزم بأنه لم يفوّت يوما من أيامه دون أن يكون منكبّاً على تشكيل وتخليق أسلوبه الخاص وبناء مملكته الفريدة وترسيخ اسمه الأدبي في زحمة الأسماء التي تشهدها الساحة الثقافية في الشرق الأوسط عموما، وفي كوردستان العراق، عرفته قبل أكثر من خمس عشرة عشر سنة حين كنا نتشاطر الهموم وأرغفة الجوع في شوارع الموصل دون أن يلحظ وجودنا أدباء ذاك العهد، وكأننا أشباح لا يمكن رؤيتنا لأسباب معروفة للجميع.
عرفّني عليه ضياء درويش حين التقينا به في سوق النبي يونس وكان بدل يحمل في يديه مجموعة من الأوراق لترتسم على وجهي ابتسامة وهو يخبرني قائلا (بدل رفو شاعر كوردي يكتب بالعربية) فتصافحنا وكأنني حظيت بغابرييل غارسيا ماركيز وليس بدل رفو، ملامح وجهه أشعرتني بالأمان، فاتخذته رفيقا لي في مشواري اليومي الى جريدة الحدباء والمقاهي الأدبية والمكتبات الموصلية آنذاك، منذ ذاك الوقت الى الآن وهو يحث الخطى ويصارع الوقت ليبني عرشه الأدبي المتواضع بروح بسيطة متواضعة وقلب طفولي بريء وكأنه الوريث الوحيد للثقافة، وهذا ما يجب علينا جميعا الشعور به، إن أردنا منح الحياة رونقا وبريقا آخرين، انتهت مرحلة من تاريخ العراق وابتدأت مرحلة أخرى ولكن بقيت أمور كثيرة على حالها، مهرجانات لا تعد ولا تحصى تقام هنا وهناك، أيام وليال ثقافية تبعث الملل أحيانا لسذاجتها وسطحيتها، غرباء عن الثقافة يعبثون بتاريخنا دون رحمة أو وازع من ضمير، دخلاء يعبرون فوق أوراقنا بسفاهة ولا يشعرون بأن المهرجانات التي يحضرونها عبارة عن فقاعات تتلاشى بعد يوم من انتهائها،لأنها مهرجانات هلامية لا دخل للإبداع فيها، كونها تمثّل عقولاً ضيقة لا يمكن لها أن تستوعب الإبداع الحقيقي الخالد بأي حال من الأحوال، وهذا ما جعل الكثير ممن يبحثون عن سحر الكتابة ودهشة الحرف والخلود منكفئين عن تلك المهرجانات منزوين في أوراقهم الناصعة، الى أن يشاء الله.
ما أسعدني حقا هو ما حصل مؤخرا وما ظهر من حس جميل وشعور أخلاقي لدى الكثير من المثقفين الذين فكّروا وقرروا إقامة مهرجان ثقافي إبداعي للشاعر والكاتب الكوردي بدل رفو المزوري على نفقتهم الخاصة وبجهود ذاتية رصيدها حب الأدب والثقافة وميزانيتها الوفاء للإبداع الحقيقي، هذا المهرجان غير خاضع لجهة معينة ولا لمؤسسة ثقافية ولا لمركز أو منتدى أو دار ثقافي، مهرجان وليد من رحم الثقافة الكوردية، من شارع أدبي لم يرض الوقوف موقف المتفرج على مبدع حقيقي وهو يتنقّل بين رياض أدبية مختلفة دون أن يقول له (نحن معك وسنبقى وسنصنع من لا شيء مهرجانا يليق بك)، هذا المهرجان (إن قُدّر له أن يقام) يمثل تكريم حقيقي للمثقف الحقيقي ويكسر قاعدة (مطرب الحي لا يطرب) هو تكريم لكل شاعر وقاص وكاتب حقيقي لم ينصف في حياته، نعم يا بدل نشدّ على يديك ونقول لك نحن معك، لقد أبكيتنا فرحا يا رجل.