مرجلة الأعراب!
فصل من رواية - صبحي فحماوي- السابعة قبل الطبع- بعنوان (على باب الهوى)
حكايات كثيرة أسمعها أثناء سهراتنا في هذا البار حول طاولة مقهى المعهد العولمية الغاصة بالزجاجات الفارغة والمملوءة بالشراب، والتي تستمر حتى الثانية عشرة ليلاً، والفتاة الجميلة ألبرتينا الجالسة إلى يميني، بوجهها الباسم وجسدها الفائر، تكاد ترى الجنس الفرويدي يتدفق من عينيها، وهي تنظر إلى الألماني باتريك، الذي كثيراً ما يتجاهلها بدماثة، وبتصنع البراءة معها، بينما هي مغرمة بالتحرش الناعم به، فلا تجد منه تجاوباً، فتجدها تقول لك لتغيظه(والحكي إلك يا جارة): "إن الألماني يقضي عمره في العمل، ولا يتوقف عن العمل إلا ليشرب البيرة، وإذا انتهى من شرب البيرة، فلا يفكر في شيء يعمله إلا أن يعود ليعمل!"
يفهم باتريك قصد ألبرتينا التي كأنها تريده أن يتوقف عن العمل فيلتفت إليها، ويقول أمامنا نحن المتحلقين حول الطاولة الكبيرة مبرراً شرب الألمان للبيرة:
"يقولون: إذا كان الإنجليزي مشهوراً بالويسكي، والفرنسي مشهوراً بالنبيذ، فإن الألماني مشهور بالبيرة!"
ينتبه الشاب اللبناني جوزيف دبانة، الطويل النحيل الأشقر، بملابسه الكاكية الخفيفة الخضرة، فيسبل شعره الناعم العسلي المنساب على رقبته، ثم يمسح شاربيه البنِّيين الغليظين المفرودين فوق شفتيه الرقيقتين، وتحت أنفه المعقوف، مثل جناحي صقر يستعد للطيران، ويقول محتجاً على تجاهل المشروب اللبناني الشهير من هذه المقولة:" لم تذكر يا باتريك أن اللبناني أيضاً مشهور بالعرق الأوزو!"
ولكن الطرح توني الذي زرعوه ليشاركني السكن في حلقي، يتململ بقامته الصغيرة، ويعترض بتحريك رأسه جهة اليسار ليظهر جلياً لصاحب العَرَقْ، وهو يقول: "نحن لا نصدق قولك هذا يا جوزيف إلا إذا أحضرت لنا زجاجة (أرك أوزو) لبناني، لنتذوقه، ونعرفه حق المعرفة!" يضحك الجميع، ويطالبوه بالتذوق، فيعدنا دبانة بزجاجة، يقول إنه أحضرها معه من لبنان، خصيصاً لمثل هذه المناسبات، ليشربها معنا في ليلة ليلاء، فنصفق له جميعا مبتهجين بالوعد!
تفوح رائحة الينسون أو الشومر البري اللذيذ في سهرة العرق الموعودة هذه، فتكسر الحواجز بيني وبين جوزيف دبانة، وتجعلني أسأله عن الحرب الأهلية التي تحرق الأخضر واليابس في لبنان، فيقول لي:
"ولك يا خيّي، هدول اللبنانيين عيلة واحدة، بيحبوا بعض، وبيسهروا مع بعض، ولكن شيوخهم حتى يظلوا شيوخ، ويشعروهم بأنه: (نحن هنا)، بيحركوهم من وراء الستار، مثل الدمى المتحركة، فبينزلوا يقوسوا على بعض، طاخ، طيخ، طاخ، طيخ! يمسد شعره الطويل المنساب على رقبته، ثم يتابع قوله:
"في الحرب الأهلية، أنت لا تعرف من قتل من.. مجرد إطلاق نار، يأتي من جهات متعددة، فيصيب جهات متعددة! إنهم يطلقون النار..الجهة الشرقية تطلق على الجهة الغربية، والشمالية على الجنوبية، والجنوبية على الشمالية، وعند الظهيرة تنطلق سماعات اللجنة المشتركة، معلنة أن الهدنة ستكون في الساعة الثانية عشرة ظهراً، ولمدة ساعتين فقط، يمنع فيها إطلاق النار، فينزل المسلحون بجميع طوائفهم القتالية والحزبية، وفئاتهم التقدمية والرجعية، والملكية والجمهورية، واليمينية واليسارية، والجهوية والفئوية، والشبابية والعجائزية، والشرفية والقوّادية، والعلمانية والدينية، والإقطاعية والاشتراكية، والعواطلية والمهنية، والانتهازية والمرتزقة، والمتطوعة للشرِّ مجاناً بهدف المرجلة والتحدي.. ينزلون إلى وسط المنطقة العازلة ليشتروا من بعضهم البعض أكل وشرب؛ جبنة ولبنة وزيتون وعرق، ولحمة كبة نيِّة، وبيتبادلوا الأسلحة اللي بتعجب كل واحد منهم من الثاني، فيجلسون ويأكلون ويشربون ، ويصلّون ويسكرون، وينامون مع بعضهم بعضاً ويقومون، ثم يتبادلون الأسلحة التي اغتنمها كل فريق منهم من الآخر، أو يعيدونها بالتبادل، أو بالمقايضة، أو بالمحبة، أو بالخاوة، أو بالرجاء، أو بالقوة! وهذا بيحب بنت من الجماعة اللي بيقاتلهم، وهذا المقاتل الجبلي، صاحب المسدس، يلتقي مع المتطوع المدني، الذي لا يملك سوى ساعة معصمه: "من أين لك هذه الساعة الحلوة!"
"من أين لك هذا الفرد الحلو!"
"ما رأيك تبدل، الساعة بالمسدس ؟"
"الساعة بدل الفرد!"
"لأ..الفرد بدل الساعة!"
يتبادلون كل شيء، ويشربون الشاي والقهوة والعرق مع بعضهم بعضاً، وعلى طاولة واحدة، منهوبة مع كراسيها من أي مطعم أو مقهى مهجور، وليس لـه من يحميه، ثم يعود الجبلي إلى الجبل، بلا مسدس، ولكن معه ساعة جميلة، فيقابله رفاق الجبل، بأسلحتهم الحديثة، فيسأله أحدهم:
"ولك من أين لك هذه الساعة؟"
"تبادلتها مع ابن المدينة."
"بدلتها بماذا؟"
"بالفرد!"
"والآن أنت بلا فرد؟"
"لكن معي ساعة!" يستغرب الرفيق غباء الجبلي، فيقول لـه:
"لكن لو اليوم تحداك واحد، وسحب فرده عليك، وقال لك: هيك وهيك لأختك! فهل تقول لـه:
الساعة خمسة ونص؟"
يضحك كل المقاتلين على حامل الساعة وعند انتهاء الساعتين المذكورتين، بيعلنوا انتهاء الهدنة، فبيقوم كل واحد إلى سلاحه، ويهرب بسرعة باتجاه خندقه، ثم يأخذون بالتراشق على بعضهم، كل باتجاه الآخر.. وهات يا رش المطر، وهات يا تدمير وقتل، وهات يا بحور الدم! ولكن النتيجة أن الشيوخ بتبقى شيوخ، والناس بتموت، وبييجي بعدها ناس، وعندكم في الإسلام بيقولوا: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، لفسدت الأرض.." يبدو أنها حكمة ربانية، لتخفيف سكان الكرة الأرضية اللي بتشيل عن ظهرها، حتى ما تزيد حمولتها، وتقوم توقع، ويوقع معها كل من عليها فان!"
هذا الجوزيف بَلوة مصَبّرة، ونكتة متحركة، يضحكهم معاً، ويبكيني أنا وحدي الذي أنصت إلى تحليلاته الخبيثة بصمت، ولكنه ينحاز في تحليله، فلقد بدأت الحرب الأهلية بشرارة أطلقها حزب الكتائب اللبناني داخل حافلة ركاب في عين الرمانة، في 13 نيسان 1975، وكان كل ركابها فلسطينيون، مما أدى إلى مصرع 27 فلسطينياً.. ولكن النتيجة بعد خمسة عشر عاما من (الطاخ طيخ) أن موازين القوى قد تغيرت، وحتى الشيوخ أنفسهم لم يعودوا شيوخاً، فلقد حدثني جورج ضو وهو أحد أصدقائي اللبنانيين الذي التقيته في فندق البريستول أثناء زيارتي لبيروت بعد انتهاء الحرب الأهلية قائلاً: ولك يا خيي، كنا في بيروت إذا قطعنا البلاد من حاجز إلى حاجز، يسألونا:
(من أي حزب إنتوا؟) فحتى لا نقع مع حزب يساري يقتلنا، أو حزب يميني يتفنن في تعذيبنا، أو حزب تقدمي يلعن أبو اللي خلفونا، أو حزب رجعي يدفنّا تحت الأرض، أو حزب لا نعرف مين هو يحرقنا، في هذه الحرب اللي ما حدا فيها عارف (مين قتل مين)، ولذلك نبقى على الحياد، فنقول لهم: (نحنا مواطنين، مش من أي حزب، نحنا غلابى مسالمين، من حزب ألله!)
ينتفض جورج ضو وهو يفاجئك بقوله: "اكتشفنالك يا حبيبي فجأة إنه تخلّق لنا حزب جديد اسمه (حزب ألله) ، وصار هو أهم حزب بعد الحرب! تغير ميزان القوى يا خليل، وصار "الكتايب" هم الأضعف، بعد أن كانوا هم الأقوى!" فأقول لصديقي اللبناني: يقول المثل عندنا:
"شاحني وشحته، ومن عزمي جيت تحته!" يضحك ضو الذي كان حزيناً على الحرب وعلى نتائجها التدميرية، بينما ملامح وجهه توحي بأن ضوءه قد خفت كثيراً مع الزمن الذي لم يبق منه سوى بقايا مهترئة، مقارنة مع ما كان وجهه نضراً قبل خمس سنوات، يوم كان يعمل إدارياً في عمان!
ما لي وللحرب الأهلية اللبنانية التي لم أشاهدها، ولم أستطع حتى أن أصل لأتعرف في تلك الزيارة الأخيرة على مخيمي صبرا وشاتيلا، الواقعين في قلب بيروت، والذين تم إعدامهما إعداماً جماعيا، وكان مخيم تل الزعتر قد تمت تسويته مع الأرض، ومسحه عن الخارطة، وأما في منطقة بعيدة عن التل الذي تفسخ واندثر، فإن بقايا أيتام فلسطينيين ما تزال جراحهم لم تندمل بعد، ينتشرون على سفوح الشاطىء، وهم يلتقطون الزعتر، ليقتاتوا به بعد أن قُتِل أولياء أمورهم، فتعذر عليهم الحصول على رغيف خبز!
يتمرجل بعض الأعراب فيقتلون مخيمات الفلسطينيين بدم بارد دون رحمة، ويمسحون آثارهم تحت مسببات أمنية مفتعلة لا علاقة لسكان المخيم بها، ولا يعرف أحد سبباً لها، سوى أن الولاة العرب يفسرون عُقدهم النفسية، فتجدهم يعالجون مرض العنة الوطنية لديهم وضعف رجولتهم، فيفتحون معارك تشعرهم بالبطولة، وذلك بمحاصرة شُجاعة لمخيمات اللاجئين الفلسطينيين المُسخّمين، ويأخذون بالتقويس عليهم بدم بارد، فيتصاوبون عليهم إلى أن يقتلوهم قتلاً جماعياً، لأنهم الحائط الأوطأ دائما!"
أعتذر! فلقد نسيت نفسي وعيناي تغرورقان بالدموع، فلا أرى من هم حولي.