الأحد ١٧ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم محمد سمير عبد السلام

معرفة كونفوشيوس

الأساطير والحكايات الكبرى المنسوجة حول شخصية (كونفوشيوس) (551 – 479) ق.م ، تجعل منه علامة فنية وثقافية ، يعاد تكوينها باستمرار فى الوعى التأويلى للمتلقى المعاصر ؛ فهو المعلم لآداب السلوك من خلال خطاب معرفى ، له من التحقق الموضوعى ، ما يمنحه هذه القداسة ، فدائماً مايزدوج الخطاب بالرغبة فى التثبيت ثم المحاكاة ، دون الكشف عن مناطق التعدد الإبداعي فى النص نفسه ، أو الأداء السلوكى بوصفه استجابة قابلة للتأويل . لم تكن إذاً – معرفة كونفوشيوس أحادية الجانب من خلال نصوصه أو شخصه على حد سواء.

يصف (ول ديورانت) صورة كونفوشيوس كما رسمت فى عصره بأن رأسه أصلع ووجهه يكشف عن الجد والرهبة ، وقد قيل إن له ظهر تنين ، وشفتى ثور وفماً فى سعة البحر ، أو أن ظهره يشبه السلحفاة ، أو الكلب الضال ، ولهذا قل عدد التلاميذ حوله فى البداية ثم التف الناس حوله لحكمته وعلمه (1)
إن هذه الصفات وغيرها تجعل من (كونفوشيوس) ظاهرة يمتزج فيها السلوكى أو الموضوعى – فى خطابه – بالأسطورة فى وعي تلاميذه ومن عاصروه ، أو أن فرادة التكوين الإبداعية تقاوم إنسانيته ، وتكسبه مشروعية الخطاب العلمى . ومن اللافت للنظر أن هذه السمات ، قد غلب عليها طابع الاتساع والديمومة فى (البحر) أو (السلحفاة) ، والرهبة فى (التنين) . وماهذه الصور المتعددة إلا بدائل كونفوشيوس فى الوعى الأيديولوجى الذى يحيطه ليحفظه من عوامل التغير والتحوير الإبداعى ، دون فائدة ، فالتناقض الإبداعى كامن فى الصورة الخيالية نفسها ، والتى تحيط شخص وتعاليم لتقاوم أحادية المعرفة ، فالأسطورة كامنة فى الصورة السلوكية الإنسانية التى يسعى لها كونفوشيوس لتؤكدها وتقاومها فى الوقت نفسه ، فتستبدل الشخص بالصورة لتضيع هويته من داخلها ، أو تعيد اكتشافه أيضاً بآلية معرفية مختلفة ، فهل كان (شخص) كونفوشيوس ) هو البديل الأسطورى للخطاب الأخلاقى السلوكى ؟ أم أنه التحقق الموضوعى للإبداع فى الواقع . فى الحالتين نرى أن التبديل المعرفى قائم ، ولو حرص المعلم أن يكون مادياً سلوكياً فقط ، إذ أن التكوين الظاهر يتمرد ويعيد تشكيل الأصل فى بدائل محتملة.

وعن معرفته يذكر ديورانت أنه كان يعلم تلاميذه فن (الاستدلال) دون قواعد القياس المنطقى ، فكان يسلط عقله على آراء تلاميذه ليعلمهم وضوح التفكير دون قواعد ، ويهدف من ذلك إلى تطبيق مبادئ الفلسفة على السلوك ولهذا كان يصرفهم عن الحديث فى الأمور السماوية أو الروحية ، ومايتعلق بالميتافيزيقا وقد ضمه البعض إلى طائفة (اللاأدريين) ، فعندما سئل عن (الموت) أجاب بأننا لانستطيع فهم الحياة لكى نفهمه ، وعن إمكانية خدمة الحى للأرواح يجيب بأنك لاتستطيع أن تخدم الحي ، فكيف بالميت ؟ (2)

لقد حملت معرفة كونفوشيوس بعدين آخرين – فيما أرى – غابا عن خطابه : (الأول) أن نزعة تطبيق الفلسفة على السلوك ، لم تكن تسير بهذه الصورة من المفهوم الأول ، إلى التحقق المادي فى الثانى ؛ لأن السلوك كان ينتج فلسفته فى كثير من الأحيان ، أو كانت الفلسفة أحد آثار التحقق الإبداعى للفعل نفسه ، ولهذا جاءت علامات فعل كونفوشيوس في كثير من المواقف مناقضة لمبادئه التعليمية والمعرفية ، فمحاوراته تحتوى أحياناً على سلوك قام به المعلم دون أن يسأل عنه ، أو يجيب مثل امتناعه عن أكل اللحوم لمدة ثلاثة أِشهر عقب استماعه للموسيقى (3) أو بكائه المستمر على فقدان أفضل تلاميذه (4) ففي الحدث الأول معرفة حدسية جديدة تخترق وعى كونفوشيوس وتعيد تنظيمه بصورة محسوسة وليست مفهومة ، ليصير موقعاً لاستبدال الفن له ، فيتحول إلى أثر للمعرفة الحدسية التى لايعتمد خطابه عليها غالباً . الأداء هنا إبداع للخطاب السلوكى من داخل السلوك نفسه ، عندما يتجرد من الفلسفة التى توجهه . أما بكاء كونفوشيوس المستمر على تلميذه فكان معارضاً للاأدريته ، إنه يحمل حرصاً علي قيمة الحياة ، وكأنها محددة ومعروفة وتستحق الحزن عليها عند فقدانها ، إن كونفوشيوس يتعلق بالظاهرة التى لايمكن الإحاطة المعرفية بها ، معنى هذا أنه يرتبط بوجود آخر يتجاوز المعرفة ، هو الإبداع الكامن فى الظواهر غير المفهومة أو المعروفة ، رغم حرصه الدائم على أن يكون السلوك منطقياً ومقبولاً.

(الثانى) الجملة التى يستدل بها على لا أدرية المعلم تنطوي على إيقاع معرفى مطلق ، يقاوم عدم المعرفة المحتوى فى الخطاب ، فهو يقرر أنك لا تعرف ماهى الحياة . إنها معرفة اللامعرفة . من هنا يحدث التناقض الإبداعى الثاني بين الخطاب والأداء ، فكيف يمكن لجملة معرفية أن تقرر عدم المعرفة ؟ إذا كانت تفقد مصداقية وجودها من الأساس ، من ذلك نستطيع أن نكتشف الجوانب الإبداعية فى الأداء السلوكى وبنيته بعيداً عن النزعة المطلقة فى الخطاب الموجه للسلوك ، من داخل لا أدرية كونفوشيوس . إن السلوك يتحول إلى أداء أو فعل يجسد المادة أو العلامة الرمزية القابلة لإعادة التكوين فى وعي المؤول المعاصر ، إذ أن المادة المركزية للحدث قابلة للتحويل ، مثل :

1- فى محاورات كونفوشيوس (ترجمة د/ محسن فرجانى) يقر كونفوشيوس أنه يملك معرفة يجود بها على تلاميذه ، ولايخفي شيئاً منها فيقول " فدونكم كل ما اشتغلت به النفس ، وجادت به القريحة ، وماكنت متخذاً معكم أو مع غيركم شأناً غير هذا " (4) وفى هذا إقرار بتراتبية العلم والإدراك ، وحياديته فى النقل . والحياد لا يأتى إلا ممن يملك أو يحتوى مايعلمه . ولكنه يذكر فى موضع آخر أنه مجرد طالب علم مجتهد ولا يدعى العلم مكابرة ، فما يفعله هو الاستبصار بوجهات النظر المتباينة واختيار أصوبها بمعيار التطبيق العملى (5) هكذا يتوتر التواصل العلمى عند كونفوشيوس بين طرف مدرك تتوافر لديه أمانة النقل وتواصل قائم على معيار التطبيق من داخل تعدد وجهات النظر ولذلك فأفكاره التى يطرحها بوصفها (معرفة) تنطوي على وجودها الأدائى فى الآخر بشكل يسبق المعرفة ذاتها ، فهى ليست مطلقة ولكنها غاية غير مرئية ، ومازالت فى غير حوزته ، فضلاً عن تحولها الدائم بدلاً من تطبيقها . إن الفعل هو إعادة محاكاة للفكرة المصطفاة بوصفه إبداعاً للفكرة ، وليس تكراراً لها . هكذا يفعل كونفوشيوس فيصف (معرفته) بالحيادية ثم يطبق فعل المعرفة من خلال الآخر ويقر بأنه لايملكها ، فهى ممارسة وجودية تسبق التحقق الفكرى الفلسفي .

2- يستمد كونفوشيوس معرفته – دون قصد- من خلال الغياب المستمر لغاية الإكمال فى مسألة ما إذ يقول "و إن الطالب الذي يعجز عن أن يستدل بنفسه على ثلاثة أضلاع المربع الباقية ، بعد أن تكون قد شرحت له ضلعاً واحداً منها لن يكون جديراً بتعبك وجهدك " (6). ويبدو من حديث المعلم أنه يسعى إلى اكتمال المسألة أو الإجابة القاطعة من خلال الثلاثة أضلاع الباقية / الغائبة أى أن الوجود يتولد من الفراغ أو الغياب ، وإن كان يرى فيه إكمالاً قاطعاً . فماذا لو أن الإكمال ينطوى على أنواع متكررة من الغياب ، وهكذا دون نهاية ؟ فلا توجد مسألة أو شكل بمعزل عن فضاء متشابك ومتناقض من المسائل الأخرى . المربع إذن ليس الغاية ، وإنما ذلك الفراغ المتولد عن الاكتمال الجزئى ، لإعادة تكوين غياب المعرفة مرة أخرى من داخل اكتمالها.

3- يتوتر المعلم فيما يخص المعرفة الميتافيزيقية ، وتعارضها مع السلوك أو الحدث أو المنطق فى كثير من الأحيان . فيقر في إحدى محاوراته أن السماء كانت إلى جواره وحبته من إحدى المكائد ، يقول " من حفظته السماء فلا مضيع له ، وقد حبتنى السماء نعمائها وحكمتها وسابغ فضلها ، وها أنا ذا قد نجوت ، وحبط عمل هوان كوى ، فخاب مسعاه " (7) السماء إحدى مفردات العوالم الروحية التى خشى المعلم أن يتحدث عنها لأنها خارج معرفته ، ولكنه يشعر هنا بوجودها فى سلوكه ، وكأنها تفصل صوته عن معرفته . إنها تتحول فى سلوك إبداعى متفرد يستبدل الصوت المطلق للمعرفة من داخله ، لأن السلوك هو معيار هذه المعرفة ، وهو هنا ليس أحادى البعد ، وإنما حدث قابل للاستبدال وإعادة التأويل ، والدليل على ذلك أن الأدعية والصلوات التى وصى بها المعلم أحد تلاميذه فى مرضه لم تبرئه من مرضه فقال المعلم " ساخراً " ، لا عليك فقد تلوت هذه الصلاة قبلك دهراً طويلاً وها أنا كما ترى " (8) . إنه يؤكد الوجود المادى لأثر هذه الصلوات من داخل إنكار فائدتها ، وكأنه يعزم ليستحضر الأثر المادى دون ثبات ، فالمعرفة السلوكية بالسماء تتحول فى السلوك إلى معرفة غائبة ذات صلة بالوعى ، لا السلوك نفسه هكذا يحتل الوعى وذاكرته موقع التحقق الموضوعى فى معرفة المعلم.

4- تنقلب المادة السلوكية عند التقاء المتضادات ، لتصير المعرفة بحد ذاتها غير مفهومة فقد " جاء تسيكون إلى كونفوشيوس وسأله أى تلميذيك الأشد ذكاءً ( توانسون شي) أم (بوشانغ) ؟ فأجابه " أولهما شديد الذكاء والنبوغ أكثر من اللازم ، والآخر ذكاؤه أقل من اللازم فسأله تسيكون : إذن فهل يمكن القول بأن (توانسون شي) أفضل من زميله فرد عليه قائلاً " فى الحق فإن شدة الذكاء ، مثل منتهى الغباء ، كلاهما متطرف كلاهما لا يصلح (9) . ألا تدل جملة المعلم الأخيرة على خبرة وعيه بالذكاء الشديد ، واستبداله بالغباء على مستوى الأثر ؟ إن شدة الذكاء تكشف عن دوافع الشر، وعبث المعرفة التى يسعى خطابه إليها الاستحالة غير المحتملة لامتلاك المعرفة ، تتساوى – إذاً – مع مكملها وهو عدم الإدراك . وفى النهاية الأداء دون الفهم ، العبث أو الإبداع الذى يستبدله فى السلوك . كلاهما إذن يقاوم حكمة المعلم الاستدلالية . وإن كان أكثر خبرة بالأول.

5- يسقط كونفوشيوس – أحياناً – معرفته الاستدلالية / المنطقية على الكائنات الأخرى على تجليات الحياة الحركية التى تقاوم فهمه المطلق فيجسد المنطق والقياس العقلانى عندما يواجه بسؤال أو سلوك مخالف لما اختاره واصطفاه ، يحول معرفته وأداته الأولى لصياغة أعم يمكن تجاوزها من خلال احتمالاتها المادية والأدائية أيضاً فيؤول المعلم هرب الطيور عند سماعها صوت أقدامه وصاحبه ، بأنه ذكاء غريزى إذ يقول " يالذكاء تلك الطيور ، ولت هاربة عندما استشعرت خطراً ، وحطت عائدة لما أدركت الأمان ، فلابد أن لديها عقلاً يدرك ويحلل ويستجيب .. على نحو بالغ الدقة والإتقان " ثم إن (زيلو) اتجه نحو الطيور ملوحاً لها بالتحية ، فتقافزت الأسراب ذعراً " (10) . يستدل المعلم على ذكاء الطيور من رد فعلها ، ويكمل الأداء السلوكى بالاستدلال العقلانى فى وعيه في جملة أن لها عقلاً يفكر ، ولكن الفعل يعود ليقاوم حركة الوعى في الفرار الثانى للطيور ، لأن أداء (زيلو) كان ملتبساً ، فهو يتراوح بين التحية ، وإعادة تشكيل الخطر السابق ، وفي الحالتين تصير القضية غير معروفة فالطيور لم تدرك السلام ، أو أنها استشعرت الخطر من داخل الأمان السابق ، فلم يصبح أماناً بالمعنى المعروف.

ويضرب المعلم مثالاً آخر يستدل به على أن حسن المظهر لا يعارض الحكمة والتواضع ، لأنه يفرق بين هوية كل من الأنا والآخر ، ثم يضرب مثالاً بأنه لولا الفراء لما ميز المرء بين الكبش والنمر والفهد (11) ، المعلم هنا يسعى لتثبيت أصل (التمييز) بين الهويات ، ولكنه يضرب مثالاً بكائنات ، يقوم التداخل فى طبيعتها بدرجة كبيرة ، أى أن تضليل المعرفة الأحادية ، كان كامناً رغم التمييز ، فكل من الحيوان المفترس والضحية يسير على أربعة أقدام ، ويملك هيكلاً متشابهاً فضلاً عن تشابه الفرائس والحيوانات المفترسة من حيث التكوين.

وعن (الكونفوشيوسية) الآن يذكر الكاتب الصينى (ووبن) فى مصنفه (الصينيون المعاصرون) حدثاً له دلالات تعيد تمثيل المعلم بوصفه شبحاً قائماً فى الذات إلى الآن ، وهو " الإطاحة بدار كونفوشيوس ام 1919 ، وما اعتري مذهبه من تشويهات وتحولات ، وإن كان يلعب دوره بصورة مكبوته " (12) . وأرى أن مغزي الحدث ليس هو الهدم بحد ذاته ، وإنما بصورة تأويلية وتفكيكية أخرى تحويل المعلم إلى أسطورة جديدة ، فالفراغ الذى تركه الأثر يحور كونفوشيوس ليوجده مرة أخرى كخلفية لإدراك تناقضات التاريخ . إن وجوده يستمر فى صور من يهدمونه ، لأنهم يدعون أسطورة مطلقة تستبدل مثيلتها فى الوعى الجمعى عن المعلم.

الهوامش

1- راجع – ول ديورانت – قصة الحضارة م2 ج4 – ت – د/ زكى نجيب محمود ومحمد بدران – هيئة الكتاب سنة 2001 صـ40 : 43.

2- راجع – ديورانت السابق – صـ 53.

3- راجع – عن الحدثين المذكورين فقط محاورات كونفوشيوس – ت/ د/ محسن فرجانى – أخبار الأدب عدد (361) .

4- راجع – كونفوشيوس – السابق – صـ 18 .

5- راجع – السابق – الصفحة نفسها.

6- راجع – السابق – الصفحة نفسها.

7- راجع – السابق – الصفحة نفسها.

8- راجع – السابق – الصفحة نفسها.

9- راجع – كونفوشيوس – السابق – صـ 22 .

10- راجع – السابق – صـ 21.

11- راجع – السابق – صـ 23.

12- راجع – ووبن – الصينيون المعاصرون جـ 2 – ت/
د/ عبد العزيز حمدى / المجلس الوطنى للثقافة والفنون بالكويت سنة 1996 – صـ 36 : 37.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى