السبت ٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم إدريس ولد القابلة

ملك المغرب و التاريخ ... وجها لوجه

القسم 2 من 3 أقسام

هكذا يرى الملك

بخصوص المصالحة و طي صفحة الماضي

إن الذي يتوخاه المغاربة هو مصالحة المغرب مع ماضيه. فهذا الماضي جزء لا يتجزأ من تلريخنا و لا يمكن نسيانه أو تناسيه، و هذه المصالحة ستساهم في إعداد مستقبل أطفال المغرب الحالي. لذا فهذا النوع من المصالحة الذي احتاره المغرب لا يسعى إلى إحداث أي تقسيم أو تفرقة بين المغاربة، كما قد يعتقد البعض، و إنما يتوخى بالأساس تقوية الملكية و الديمقراطية بالبلاد و تثمين أساسهما لتكريس، فعلا و فعليا، بصفة نهائية لا رجعة فيها تسبث المغرب بنبادئ حقوق الانسان كما هي متعارف عليها دوليا.

و هذه الصيرورة انطلقت منذ 1990 مع إحداث المجلس الاستشاري لحقوق الانسان و تلى ذلك العفو الشامل سنة 1994 و انطلاق آليات جبر الضرر. لذلك فالمغرب يسير عى طريق سديد في هذا المجال.
و من هنا يتضح بجلاء عدم السعي وراء محاكمة أو محاسبة أي كان. لأن الهدف هو تقييم و تقصي الحقائق دون أي احساس بمركب نقص و دون حرج أوخجل بخصوص هذه المرحلة من مراحل تاريخ بلادنا، و هذا للتمكن من الاستمرار قدما إلى الأمام في ظروف أحسن و أفضل.

بخصوص النظام السياسي

ليس من السديد إطلاقا التفكير في التقليد الأعمى أو الآلي لنموذج نظام سياسي بعينه. و قطعا لا يمكن التفكير في اعتماد أي نموذج من نماذج الملكيات الأوروبية بالمغرب الذي له خصوصياته و إلتزاماته و توابثه التي حددت سلفا المسار الذي سار و يسير و سيسير على دربه المغرب.
غلما أن الدستور ليس من النصوص المقدسة ة يمكن تطويره باستمرار، و هذا ما حدث بالمغرب على امتداد 40 سنة.

بخصوص نهج الحكم و التدبير

يقول جلالة الملك محمد السادس أن ما يميزه عن والده الراحل الملك الحسن الثاني هو نهج الحكم و التدبير، " فأنا أنا و هو هو"، لكل نهجه في الحكم و التدبير و طرق و أساليب العمل و الأهم هو الهدف و المرمى و هما لم يتغيرا، العمل على تحقيق التقدم و الرقي بالمغرب على الدوام.

الحسن الثاني

الملك الحسن الثاني حكم المغرب من 1961 إلى 1999 ، و قد مارس حكمه في إطار تقاليد راسخة في وقت كان النظام فيه في حاجة ماسة للعصرنة و التحديث، لاسيما اقتصاديا و اجتماعيا.
و يرى أغلب المحللين أن المواجهة بين السياسة التقليدية و متطلبات العصرنة و التحديث لم يكم من الممكن إلا أن تكون موجعة على أكثر من صعيد.

و بما أن حكم الملك الراحل الحسن الثاني دام 38 سنة (1961 – 1999 ) فلازالت هناك جوانب من شخصية هذا الملك لم تكشف بعد، و لازال جملة من الباحثين منكبين على دراسة هذه الشخصية الفدة. فكل ما نشر و كتب في هذا المجال يدل على أن مازال هناك الكثير وجب التنقيب عليه و الوقوف على مدلولاته القيمية و التاريخية و الانسانية.

إن شخصية هذا الملك ظلت حاضرة بقوة و امتياز على جميع المستويات و الأصعدة، و كان في عهده من الصعب بمكان التعليق أو التعقيب عن اخياراته و قراراته. لاسيما و أن الظروف بالمغرب كانت صعبة و مطبوعة بالخوف إلى حدود تسعينات القرن الماضي، خصوصا فيما بين 1973 و 1990 ، و هي المنعوثة بسنوات الجمر و السنوات الرصاصية.
و يقدر المحللون ضحايا انتهاكات حقوق الانسان خلال هذه المرحلة بما يناهز 50 إلى 60 ألف حالة. كما أن هذه المرحلة ظلت مطبوعة في الذاكرة الجماعية بأحداث الدار البيضاء (مارس 1965، 1981 ) و وجدة (1984) و فاس (1990) و الشمال. لكن مع سقوط جدار برلين اتجه المغرب نحو تكريس اختيار ليبرالي إعدادا للمرحلة الانتقالية فيما بين 1997 و 1998.

الحلقات المفقودة...مجرد ملاحظة

إن تاريخ المغرب الحديث كما هو ملقن بالمؤسسات التعليمية و بالجامعات المغربية، يبدو و أنه توقف عند حدود 1912، تاريخ الاعلان عن حماية فرنسا للمغرب. و قد أكد جملة من المؤرخين أن هذا المنحى ظل قائما رغبة في عدم الكشف عن جملة من الحقائق ذات التأثير البليغ في المسار الذي سارت عليه البلاد.

ففي 1960 – 1961 عرف المغرب أوضاعا صعبة و متأججة، آنذاك كانت النخب السياسية و الاقتصادية قد استفادت إلى حد كبير من "الحماية"، و استفادت أكثر من استمرار العلاقات الوطيدة مع فرنسا (المركز). و قد اجتهد التاريخ الرسمي في حجب أحداث هذه الفترة و ملابساتها عن الأنظار. لكن بعد وفاة الملك الحسن الثاني بدأت الأضواء تسلط على جوانب عديدة و على أحداث و معطيات كثيرة التي كانت مغيبة. آنذاك عرف المغرب حمى الشهادات و المنشوات و الاعترافات و الذكريات. و لم يقتصر هذا المد على المغرب، و إنما عرفت كذلك فرنسا ظهور جملة من الكتابات ، من ضمنها كتابات الصحفي "سميث" عن أفقير و كتاب "آخر الملوك" للكاتب "توكوا" بخصوص الحياة الخاصة للملك و غيرها من الاصدارات الكثير.
و خلال فترة زمنية وجيزة انكشفت دفعة واحدة و دون سابق انذار جملة من القضايا و المعطيات و الحقائق، تمحور أغلبها، إن لم تكن كلها، حول العنف و الظلم و التجاوزات على امتداد المرحلة التي كان فيها أفقير الرجل الثاني بالبلاد إلى حدود فشل الانقلاب الثاني سنة 1972، و القمع الجهنمي المسلط على المعارضة و المعارضين أو كل من سوّلت له نفسه التغريد بلحن مغاير عن ألحان السرب...آنذاك تناسلت المنشورات دفعة واحدة...شهادات أبناء أفقير...الاخوان بوريقات...شهادات المعتقلين السياسيين و المختطفين و المنفيين...كتابات الناجين من جحيم تازمامارت...درب مولاي الشريف...دار المقري...دار بريشة...و جملة من المعتقلات السرية..

و للإشارة حقق كتاب "تازمامارت الزنزانة رقم 10" مبيعات لم يسبق أن حققها أي مؤلف مغربي، إذ بيعت أكثر من 35 ألف نسخة فيما بين 2000 و 2001 .

كما أن الصحفي الفرنسي بالوكالة الفرنسية للأخبار ، "اينياس دال" نشر سيرة ذاتية عن الملك الحسن الثاني اعتمادا على جملة من تصريحات المقربين للملك. و لا زالت ألية الاعترافات و التصريحات مشتغلة في المزيد من سبر أغوار تاريخ المغرب الحديث التي ظلت، بفعل فاعل و لغرض في نفس يعقوب، محجوبة و مغيبة عن الشعب المغربي.

رأي من بين آراء

يرى " بيير فيرميرن" ، صاحب كتاب "المغرب، الديمقراطية المستحيلة" (منشورات فايار 2004) و الذي عاش بالمغرب ما بين 1987 و 1988 و 1996 و 2002 ، أن انقلابي 1971 و 1972 كانا نتيجة تحصيل حاصل و ليس خروج عما هو منتظر. و يقول في هذا الصدد ان مولاي الحسن (ولي العهد) القائد الأعلى لأركان الجيش الملكي، كان وراء التصدي القوي لانتفاضة الريف في 1958 – 1959، و هي الحداث التي برز فيها أفقير كثيرا و بشكل لم يسبق له مثيل ليصبح رجل ثقة النظام.

آنذاك، و خصوصا في ستينات القرن الماضي، كان النظام يعتمد على ضباط بربر، أتى أغلبهم من الجيش الفرنسي، و حدوث الانقلابين كان إعلانا واضحا لنهاية لمرحلة و ضرورة إعادة الحسابات لاسيما فبما يخص الاعتماد على أولائك الضباط، و هذا ما كان.

و بخصوص تفسير العنف السياسي الذي ساد آنذاك بالمغرب رغم أنه بلد ظلت فيه السلطة و الدولة تحظى تاريخيا بنوع واضح من الشرعية، يقول "فيرميرن" ... هناك أحداث الدار البيضاء في مارس 1965 و في 1981...إلا أن سياسة القوة و شد الحبل تأكدت منذ فجر مرحلة الاستقلال رغبة في ضمان استرارية النظام الملكي و وحدة البلاد. آنذاك كان العنف السياسي سباقا إلى الساحة قبل انفجار الأحداث في المدن من جراء الفقر و صعوبة العيش، و بذلك يرى جملة من المحللين ان عهد الملك الراحل الحسن الثاني كان عهد سنوات الجمر أو السنوات الرصاصية.

نفي السلطان محمد الخامس و انعكاساته من منظور الإعلام العالمي
كان لحدث نفي الملك محمد الخامس يوم 20غشت 1953 انعكاسات بليغة ساهمت في تغييرار في مجرى تاريخ كل من فرنسا و المغرب و منطقة شمال إفريقيا بأسرها. و هذه الورقة تتناول كيف تعامل الاعلام آنذاك مع هذا الحدث التاريخي.
ظن الاستعمار الفرنسي…فخاب ظنه…

لقد ظن الاستعمار الفرنسي أن صغر سن السلطان محمد بن يوسف سيمكنهم من تحقيق مشروعهم الاستعماري في راحة و أمان، إلا أن التاريخ أكد عكس ذلك بالتمام و الكمال. إذ أن السلطان محمد بن يوسف سلك درب النضال و الكفاح مبكرا من حيث لم يحتسب الإستعمار الغاشم. و لعل خطاب جلالته التاريخي بمدينة طنجة قد أكد للإستعمار الفرنسي أن مشروعه بدأ ينهار منذ فجر أربعينات القرن الماضي. علما أنه كان قبل ذلك في يونيو 1940 قد رفض جلالته خضوع اليهود المغاربة لحمل النجمة السداسية الصفراء المفروضة من طرف حكومة فيشي (Vichy ) (1) الموالية لأدولف هتلر (Hitler) . كما أكذ التاريخ، و هذا بشهادة الإعلام الفرنسي نفسه، أنه منذ وصول الجنرال جوان ( Joint) (2) إلى المغرب محل و مكان إيريك لابون (E. Labone) (3) تكهربت العلاقات بدرجة لم يسبق لها مثيل بين الملك و السلطات الفرنسي…تكاثرت المطالب…و المذكرات…و الزيارات المجهضة أو المؤجلة…و الاحتجاجات…

و المتتبع لما نشرته وسائل الإعلام الفرنسية و العالمية يلاحظ بكل سهولة حضور إشكالية المطالبة بالاستقلال منذ فجر أربعينات القرن الماضي، بل قبل ذلك.

لقد جاء في مقال للصحفي ميشيل كليرك (M. Clerc ) الصادر بمجلة باري ماتش ” […] في أحد أيام سنة 1943 تمكن روزفلت ( ) (4)، حليف فرنسا، من مد العون لبذرة الانتفاضة بالمغرب[…] عندما كان في أنفا طلب لقاء السلطان محمد بن يوسف بدون حضور المقيم العام و بدون أي شاهد فرنسي […] و في ذلك اللقاء صرح للملك بوعده بتخليص المغرب من الوصاية الفرنسية…و قد ساهم هذا الوعد الأمريكي في حشد الهمم […] و في أكتوبر 1946 تخلى الدستور الفرنسي عن عبارة ” الامبراطورية الفرنسية” حيث تم تعويضها بعبارة ” الاتحاد الفرنسي ” […] و بدأت الشعوب على امتداد العالم تطالب بتطبيق فحوى “ميثاق المحيط الأطلسي” قصد تكريس حق الشعوب في حكم نفسها بنفسها […] من الهند الصينية إلى مدغشقر، و من أندونيسيا إلى افريقيا السوداء هبت رياح الحرية على امتداد الامبراطورية العتيقة […] آنذاك بالضبط تقوت العلاقة بين السلطان محمد بن يوسف و حزب الاستقلال الذي عرف النور سنة1944 بتزامن مع زيارة روزفلت للمغرب” .

و محاولة منها للهروب إلى الأمام عملت السلطات الاستعمارية الفرنسية على اقتراح جملة من شبه إصلاحات لتمكين المغربة – حسب ادعائها- من المساهمة في إدارة شؤون البلاد. لكن السلطان محمد بن يوسف كان قد أخذ موقعه الحاسم بجانب الحركة الوطنية باعتبار أنه لا إصلاحات و معاهدة فاس (5) لازالت سارية المفعول لأن المغربة لا يقبلون سيادة مشتركة أو مزدوجة. إنهم و ملكهم يرغبون و بالتأكيد في سيادة كاملة و شاملة ، أي إما كل شيئ أو لاشيء. و هكذا اتضح منذ الوهلة الأولى بعد النفي، أن عودة السلطان محمد بن يوسف إلى عرشه لا مندوحة عنها مهما كان الثمن.

و في أبريل 1947 كان خطاب طنجة الذي أولته وسائل الإعلام الفرنسي و العربي و العالمي عموما أهمية بالغة. إنه الخطاب الذي أعلن فيه جلالته، جهارا و رسميا، عن حق المغرب الشرعي في الاستقلال و الحرية و وحدته الترابية. و حسب ما نشر حول هذا الموضوع بالصحف الفرنسية يتبين بجلاء أن خطاب مدينة طنجة التاريخي أفهم الاستعمار الفرنسي أن الملك أصبح قائد الحركة الوطنية بالمغرب و حجرة الزاوية في مسار تحقيق الحرية. و بعد سنوات قليلة تكرس هذا المسار و أُضيفت لبنة أخرى على درب تحقيق المنشود. إذ تبلور في سنة 1951 ، و بالضبط يوم 9 أبريل “ميثاق طنجة” الذي يعد إلتزاما بالنضال و الكفاح من أجل الاستقلال. و تلى ذلك رسالة السلطان محمد بن يوسف الموجهة يوم 21 مارس 1952 إلى الرئيس الفرنسي (Auriol ) لمطالبة فرنسا بإعادة النظر في معاهدة الحماية. و في 16 أكتوبر من نفس السنة ساندت جملة من الدول المغرب في مساعيه بالأمم المتحدة. و في 7 و 8 ديسمبر 1952 انفجرت مظاهرات تنديدا باغتيال فرحات حشاد و إعلانا على وحدة المصير النضالي لدول شمال غقريقيا آنذاك. و غضون هذا الشهر ظهر تنظيم “الحضور الفرنسي” (Présence Française) (7) بفضل طبيبين استعماريين متطرفين و هما “إيرو” () و “كوس” ()، و هو التنظيم الذي سعى إلى تثبيت دعائم السلطة الاستعمارية الفرنسية بالمغرب و إشراك المعمرين الفرنسيين في التنظيمات و المؤسسات السياسية المغربية. و هذا طبعا، ما دأب كل من “روني مايير” ()(8) و المارشال جوان (Juin) على تأكيده.

المطالبة بالاستقلال و إعداد المؤامرة الكبرى

إذن، في سنة 1951 طالب السلطان محمد بن يوسف بإلغاء معاهدة الحماية و شرع في رفض وضع طابعه الشريف على مراسيم الادارة الفرنسية. فلقد أيقن جلالته أنه لا حل لمشكلة المغرب إلا بإلغاء الحماية و إعلان إستقلاله. و قد وصل جلالته إلى هذه القناعة الراسخة بمعية الحركة المطنية و الشعب المغربي بعد مدة من المطالبة السلمية من أجل تحقيق برنامج إصلاحات رامية إلى التطور التدريجي نحو إعادة السيادة و التحرير الكلي، إلا أن السلطات الفرنسية تعنتت و تنكرت للتاريخ و أخذت تحلم بفرنسة المغرب. و بذلك فسحت المجال لتراكم الشروط لاندلاع الثورة المغربية، ثورة الملك و الشعب. و بالتالي كان من المنتظر و الطبيعي أن يشكل نفي الملك و العائلة الملكية النقطة التي أفاضت الكأس الممتلئ عن آخره سلفا.

و لذلك و من حيث لا تدري فرنسا و قواتها و جيوشها و أتباعها من الخونة، انفجرت الانتفاضات تلو الانتفاضات في كل شبر من أرجاء المغرب و لم تهدأ إلا بعد عودة الملك الشرعي. و بذلك سمحت فرنسا باختزال كل مطالب الشعب المغربي في مطلب جوهري و هو عودة السلطان محمح بن يوسف، الملك الشرعي الوحيد للمغرب و المغاربة إلى عرشه، باعتبار أن هذه العودة لن يكون لها معنى و مضمون إلا بالاستقلال و الحرية التامين. و هذه حقيقة ساطعة لا تحتاج إلى أي دليل، و الكثير من الصحفيين غير المغاربة توصلوا إليها آنذاك.

فحينما هجم الجنرال جيوم ( Guillaume) (9) على القصر الملكي بالرباط ليحمل العاهل المغربي بقوة السلاح و النار على التنازل عن قيادة الأمة و رئاسة الدولة، اكتفى جلالته بابتسامة استهزاء قائلا: ” لقد عرفت المصير الذي ينتظرني، و لكن الموت أهون علي من خيانة بلادي”. و ذلك لأن الشعب المغربي و طليعته الوطنية اعتنق عن بكرة أبيه الفكرة القائلة أنه لا يمكن أن يتحقق أي إصلاح مجدي و ذي جدوى مهما كان جزئيا إلا بعد الاستقلال و قيام حكومة وطنية لا رقيب عليها إلا الشعب. و قد ترسخت هذه القناعة منذ المؤتمر الذي ضم كل الهيآت الوطنية و المستقلة لتحرير وثيقة الاستقلال التي تمحورت حول مبدأين أساسيين و هما المطالبة بالاستقلال الشامل و مطالبة جلالة الملك برعاية حركة الإصلاح الداخلي.

و لقد دلت جملة من المعطيات و الأفكار الواردة في مقالات الصحفيين الفرنسيين المنشورة آنذاك على أن تعامل السلطات الفرنسية مع هذه الوثيقة كشف ، و بجلاء، ما ظلت السياسة الفرنسية تخفيه مدة طويلة. أي رغبتها الأكيدة في القضاء على شعب المغرب و هويته و حاضره و مستقبله كمغرب عربي مسلم.

و ما فتأت أن تأكدت هذه النوايا عندما هب المغمرون الفرنسيون بالمغرب في مظاهرات للمطالبة في سنة 1953 بتغيير المقيم العام و تعويضه بآخر قادر – في نظرهم- على إبادة الشعب المغربي لتحقيق المشروع الاستعماري في شموليته دفعة واحدة، و ذلك عن طريق فصامه عن قوميته و عروبته و إسلامه. و هذا ما أكدته كذلك طريقة وطبيعة التعاضي و الدعم و المساندة لمظاهرات التضامن مع الارهابيين الفرنسيين و رجال الأمن المتآمرين معهم.

و هذا ما دل عليه كذلك قدوم السلطات الفرنسية على اعتقال المحامي الفرنسي الأستاذ جان شارل لوكران (J. C. Legrand) (10) الذي اضطر إلى إطلاق النار دفاعا على نفسه ضد الذين هاجموه من المعمرين الفرنسيين المتطرفين الحانقين عليه بسبب توليه الدفاع عن الوطنيين و الأحرار من أبناء الشعب المغربي.

و كانت المؤامرة الكبرى بعد امتناع السلطان محمد بن يوسف عن توقيع مراسيم الإدارة الفرنسية القاضية بلإشراك الفرنسيين في السيادة المغربية. علما أن جلالته ظل حريصا الحرص الكبير و الشديد على منع الفرنسيين من الصفة الشرعية لأي مشاركة أو تدخل من جانبهم في الشؤون السياسية المغربية باعتبار أنها قضية حياة أو موت لمستقبل المغرب كبلد عربي إسلامي. لذلك حاول الجنرال جوان (Juin)، المقيم الفرنسي، تدبير خلع الملك عن العرش سنة 1951 لكنه فشل في ذلك.

إن الأنباء الأولى للمؤامرة بدأت تظهر منذ سنة 1944 عندما أعلن جلالة الملك تأييده المطلق لوثيقة المطالبة بالاستقلال. و منذئد استمر الصراع بينه و بين المستعمر (بكسر الميم الثانية) و أدنابه. و احتدم هذا الصراع عندما رفض جلالته جملة و تفصيلا الاصلاحات الفرنسية المزعومة و الهادفة إلى تكوين حكومة مختلطة، نصفها من المغاربة و نصفها من الفرنسيين، و إلى تنازل الملك لها عن سلطته التشريعية و التنفيذية، و إلى تمتيع الفرنسيين المقيمين بالمغرب بالحقوق السياسية و على رأسها تمكينهم من نصف مقاعد المجالس البلدية و الاقليمية و المركزية رغم أنهم كانوا لا يزيدون على 350 ألف نفر مقابل أكثر من اثنى عشر (12) مليونا من المغاربة آنذاك. فكيف يوقع جلالته على مثل هذه الاصلاحات المزعومة و هو الذاكر دائما العهد الذي عاهد عليه الله و الأمة عند بيعتها له. لذلك آثر جلالته أن يعيش منفيا لكن مع اطمئنانه أنه أدى الأمانة التي على عاتقه على أن يعيش في القصر بعد أن يُغضب الأمة و يُرضي المستعمر، و هذا أسمى مثال للتضحية و نكران الذات. و لهذا حافظ المغاربة على بيعة جلالته و رفضوا أن يدينوا لغيره مهما كلفهم الأمر.

و من المساهمين في المؤامرة ضد جلالته و الشعب المغربي، التهامي الكلاوي، أبرز أعداء الوطنيين المغربة، و الذي كانت الصحافة الفرنسية تنعته بإقطاعي الأطلس و القائد المستبد لـ 325 قائدا من القواد خدام الاستعمار و المتحكم في القبائل البربرية. لكن المغاربة الأحرار و الوطنيون كانوا لا ينعتونه إلا بنعت واحد لا ثاني له و هو الخائن و رأس رمح الخيانة… و هو الذي قال ك ” أُفضل الحرب و الاستمرار في المعركة على عودة بن يوسف”.

و التهامي الكلاوي هذا، كان قبل الحماية ساعيا ينقل البريد أسبوعيا مشيا على قدميه بين مدينتي مراكش و الدار البيضاء، و بعد ذلك عينه الجنرال جيرو ( Giro) باشا على مدينة مراكش ليحل محل الحاج المنو الذي اعتقلته فرنسا و سجنته بمدينة سطات. و استأسد الباشا الكلاوي و تنمر بفضل خدمة أسياده المعمرين الذين نصبوه كجلاد الأطلس و العدو اللذوذ للوطنيين و خادم السلطان المفبرك بن عرفة. و بقدر ما كانت علاقة السلطان محمد بن يوسف تتوطد مع الحركة الوطنية و قاداتها، بقدر ما كان الكلاوي يبتعد عن القصر و ذلك منذ سنة 1944 و يشهر عداءه له. و ليس هذا غريبا على أل الكلاوي آنذاك، ألم يسبق لأخيه المدني أن تآمر على السلطان مولاي عبد العزيز؟

و بعد يوم واحد من انتفاضة فاس الدامية ، يوم 4 غشت 1954، وجه التهامي الكلاوي رسالة إلى المقيم العام لاكوست (Lacoste)، و مما جاء فيها أنه يتأسف شديد الأسف على التوجه الرامي إلى إعادة النظر في نفي الملك محمد الخامس و التخلي عن تنصيب بن عرفة سلطانا على المغرب. و يضيف أن هذا المنحى مناقض لشعور الشعب المغربي !!!! و قاداته التقليديين و هذا – في نظره- يمثل خطرا كبيرا على مستقبل فرنسا بالمغرب. و فعلا كان الكلاوي محقا في جملته الأخيرة، حيث أن انتفاضات سنة 1954 كانت تؤسس لمستقبل بالمغرب لا مكان للاستعمار الفرنسي و خدامه تحت شمسه.

و عموما اعتبر 39 عالما مغربيا بأن مؤامرة التهامي الكلاوي و من معه خيانة عظمى و أنها ارتداد عن الاسلام. و هذا ما أقر به حكم 350 عالما في المغرب و صادقت عليه المحكمة الشرعية العليا، و بذلك أفتى أيضا شيخ الأزهر و مفتي الديار المصرية و 150 عالما من علماء الأزهر و الاسلام في مصر.

و بعد انكشاف نية الخونة و عملاء الاستعمار كان رد الفعل قويا في مختلف أرجاء العالم و هذا ما تطرقت إليه عدة صحف عالمية. و أصدر بعض المفكرين الفرنسيين المرموقين بيانا جاء فيه: ” لو كانت فرنسا منطقية لعزلت مقيمها العام على التو”. كما أن الشقيري (11) أدلى يتصريحات نشرت في أكثر من صحيفة احتج فيها على الدسائس الفرنسية و أكد فيها على أن الكتلة الافريقية الأسيوية لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي. في حين نشرت فيه الصحف الاسبانية آنذاك حديثا للكلاوي تناول فيه بالطعن حيال الملك و حزب الاستقلال، و قال فيه أن الملك خاضع لحزب الاستقلال. كما نشرت الصحف الفرنسية تصريحا للجنرال فرانكو (Franco) جاء فيه أنه لن يتأخر عن مساعدة فرنسا في مهمة القضاء على الحركة المطنية التي يمكن أن تضر بمنطقة الحماية الاسبانية أيضا.

و عادت بعض الصحف الفرنسية للاهتمام بغضب جملة من المفكرين الفرنسيين ذوي الضمائر الحية حال إطلاعهم على فحوى المؤامرة الدنيئة ضد الملك الشرعي للمغرب و شعبه، حيث قال بعضهم أنها بمثابة قذف في شخص جلالته و أن الجنرال جيوم بدعمه للمؤامرة قد تجاوز حدود و ظيفته و المهام الموكولة له و اختصاصاته كممثل لفرنسا الساهر على تطبيق فحوى معاهدة الحماية، و هذا لا يشرف لا فرنسا و لا الشعب المغربي.
كما اهتمت جل الصحف العالمية آنذاك بحدث نفي الملك و عائلته و تتبعت مسلسله بتفاصيلها الدقيقة، كيف لا و جلالة الملك محمد الخامس أعطى بتضحيته المعنى السامي للمُلك.

يوم 20 غشت 1953 ، زوال يوم صيفي توجه الجنرال جيوم إلى القصر مدجج بالسلاح لإبعاج الملك و عائلته عن المغرب. دخل الجنرال على جلالته محفوفا بالجيوش و طلب من جلالته أن يتنازل على العرش، لكن جلالته رفض بكل لإباء و شمم و بعزة المؤمن و قوة المكافح و كرامة العربي. فأسر الجنرال الملك و ولي عهده مولاي الحسن و أخاه الأمير مولاي عبد الله لنقلهم بطائرة حربية إلى كورسيكا. و بعد ذلك منعت السلطات الاستعمارية إقامة صلاة العيد و أضحى الحداد يسود المغرب بكامله.

في هذه الأثناء، كان مجلس الوزراء الفرنسي مجتمعا بباريس تحت رئاسة أوريول (Auriol) الذي امتعض للأمر كما فعل جملة من الوزراء. و واحد منهم كان قد حسم موقفه و أعلن على استقالته، إنه فراسوا ميتران (F. Mitterrand). و على امتداد سنتين ستظل فرنسا منقسمة بين “بن عرفيين” (نسبة لبن عرفة السلطان المفبرك) و المنادين بالشرعية أكثر من انقسامها بصدد الحرب الهند الصينية أو القضية التونسية. لذلك كان ايدكار فور (E. Faure) مُهيأ مسبقا لوضع حد للمهزلة التي ابتدأت يوم 20 غشت 1953 زوالا.

غليان المغرب

…سرعان ما وصل الملك إلى منفاه أرسلت عدة صحف عالمية مبعوتيها إلى إقامة جلالته به للقيلم بتحقيقات. و قد نشرت عدة صحف الكثير من التقارير في الموضوع و أجمعت كلها على الاشارة إلى الحراسة المشددة على جلالته بمنفاه، كما تناولت تحريض المعمرين الفرنسيين الإقامة العامة للمطالبة بأن تضطلع بحراسة جلالته و عائلته بالمنفى. و أكدت جملة من المقالات على الدور الذي لعبه وزير الداخلية في الترويج لضرورة إحالة أمر الحراسة لإدارة الأمن العام بالمغرب تحت إمرة الإقامة العامة. و هذا ما طالب به كذلك وزير الخارجية “بيدو” ( Bideau ) ، علما أن هذا الأخير دعم المؤامرة بدعوى أنها تقع ضمن استراتيجية الصراع بين الهلال و الصليب. و هذا ما كان، حيث تم اختيار فرقة البوليس و العسكريين الكورسيكيين للقيام بالمهمة تحت إشراف الإقامة العامة بالمغرب سعيا وراء تضييق الخناق على جلالته الذي ظل كما هو معهود فيه قوي التباث و الايمان.

و في يوم الجمعة الموالي لنفي الملك و عائلته استمع الكثير من المغاربة عموما، و سكان القنيطرة على وجه الخصوص، إلى صلاة الجمعة و خطبتها بمسجد السيدة زينب بمصر، و الذي أذاعتة “صوت العرب”، و حضر الصلاة الرئيس جمال عبد الناصر و قد ندد الخطيب بالمؤامرة ضد الملك الشرعي للمغرب. و في نفس الوقت كان اللواء محمد نجيب يترأس مظاهرة في الحرم النبوي تصامنا مع المغرب.

نصبت فرنسا السلطان المفبرك بن عرفة، و كان أول ما طلبت منه السلطات الاستعمارية التوقيع على المراسيم التي رفض السلطان بن يوسف وضع طابعه الشريف عليها. كما عملت الإقامة العامة على الدخول في مفاوضات لعقد معاهدة بين بن عرفة و الرئيس الفرنسي “أوريول”، و هي الخاصة بدخول المغرب في الاتحاد الفرنسي قصد تسليم مقاليد السيادة العليا للمغرب لفرنسا في إطار الاستراتيجية الاستعمارية الكبرى الهادفة إلى تأسيس ما أسمته بـ “الأورو إفريقيا” . لكن دول العالم و الجامعة العربية لم تعترف بالسلطان المفبرك بن عرفة. و قد نشر الصحفي ميشيل كليرك (M. Clerc) بمجلة باري ماتش مقالا جاء فيه “[…] بالرباط ، عاهل في السبعينات من العمر، م. بن عرفة، يتصدى بشجاعة لكل التهديدات بتصفيته و قتله و لا يبالي بمن ينصحونه بالعدول و التخلي، كما لا يبالي بصمت الشعب بخصوصه، إنه لا يعتمد إلا علينا…[ أي الفرنسيين] “.

و كتب صحفي آخر قائلا أنه بتعيين بن عرفة ملكا على المغرب أضحت المركب بدون ربان يقوده، تتلاطم به الأمواج و تلهو به الرياح كما تشاء…و في ظل هذه الأجواء أبدع العقل المغربي فكرة ذكية جدا للتواصل المستدام مع ملك المغربة الشرعي المنفي آنذاك بعيدا عن البلاد…يظل الجميع بالمغرب يتحين بزوغ القمر لرؤية صورة ملكهم المنفي في جزئه المنير كل ليلة و بدون ملل و في أي ركن من أركان المغرب.

و من أهم نتائج نفي الملك، حسب السواد الأعظم للمحللين السياسيين آنذاك، أن الكفاح أضحى في يد الشعب المغربي و أبطاله، و بذلك لن تستطيع أي قوة أن تكبحه أو تحبسه مادام هناك حق مغصوب و بامتياز. آنذاك لم تعد القضية إلا قضية وقت فقط. لقد كان نفي الملك ايذانا بانطلاق الانتفاضات من عقالها.

يقول الصحفي ميشيل كليرك في مقال مطول له نشرته مجلة باري ماتش : ” …كل المغاربة يعيشون غليانا لم يسبق له مثيل بالمغرب في انتظار محمد بن يوسف الذي نفته فرنسا…فبمجرد ما أقدمت فرنسا على نفيه تبين لكافة الفرنسيين، سواء بالمغرب أو بفرنسا، أنه رمز الوطنية و أب الوطنيين المغاربة”، و يضيف “…إن أعداءنا بالغرب، نحن الذين صنعناهم، إنهم محمد بن يوسف و الوطنيين […] أما أصدقاؤنا، الكلاوي و كبار الإقطاعيين، فليس في مقدورهم حتى فهم و استيعاب أمكارنا و تطلعاتنا. هذه هي بدعتنا التي تساهم في إذكاء الغليان على امتداد البلاد”.

و عندما كان المغاربة في غليان، على بعد أكثر من 8000 كيلومتر من الرباط كان السلطان محمد بن يوسف يصلي و يدعو رافعا كفيه إلى السماء بمقر إقامته بفندق “دي تيرميس” في أنتيسيرابي و بجانبه الأميرة أمينة المزدادة في المنفى يوم 14 مارس 1954، كان جلالته يتابع لحظة لحظة ما يجري و يدور بالمغرب، يتابع الأخبار عن انتفاضات مراكش و فاس و وجدة و القنيطرة و سيدي قاسم و تطوان و طنجة…و هي الانتفاضات التي أربكت القوات الفرنسية في مختلف المستعمرات و ليس بالمغرب فقط. لقد أفزع الفرنسيين انتقال العدوى إلى مستعمراتهم بافريقيا السوداء و هذا ما جعلهم يحاولون استباق الأحداث بتهييء حكام يضمنون مسبقا ولاءهم غير المشروط لفرنسا.

آنذاك كان “لاكوست” ( Lacoste) بمكتبه ينتظر توالي سقوط إحصائيات الحصيلة الأولى للانتفاضات على مكتبه، و كانت أول حصيلة توصل حسب جريدة “لا فيجي”…29 قتيل أوروبي بالمدينة الصغيرة “بوتي جان” (Petit Jean ) ( سيدي قاسم حاليا)…12 قتيل بفاس… هذا كان مضمون أول برقية-حصيلة توصل بها “لاكوست” في انتظار البرقيات التي سرعان ما تهاطلت على مكتبه، كل واحدة منها تتضمن أعدادا أكبر من التي سبقتها…برقيات تصف بالتفاصيل انتفاضة سيدي قاسم…

يوم 3 غشت 1954 ببوتي جان، أكثر من 800 من المغاربة تجمهروا بالمركز و صاحت النساء تولولن و تهتفن برجوع الملك محمد الخامس…و برقيات من فاس…في غضون شهر غشت انتفض أهل فاس، و بمجرد وصول خبر التحركات الجماهيرية الأولى للجنرال “لابارا” (Larra ) تم تطويق المدينة القديمة و محاصرة أكثر من 250 ألف شخص بها و منعوا من مغادرتها…استقر الرماة في كل البنايات العالية مصوبين فواهات أسلحتهم صوب قلب المدينة العتيقة بعد أن تلقوا أمر إطلاق النار على أي شخص حاول الصعود إلى سطح أي بناية …بمسجد القرويين و مسجد مولاي إدريس، في خطبة الجمعة لم يذكر الإمامان السلطان المفبرك بن عرفة و إنما رفعا الدعوات لصالح السلطان محمد بن يوسف…أصدر حزب الاستقلال أمرا بالامتناع عن نحر أضحية العيد و هو عازم على تطبيقه على تطبيقة بأي ثمن…هذه نماذج من البرقيات التي تهاطلت ذلك اليوم على مكتب المقيم العام.

و بالرجوع إلى وسائل اعلام الفرنسي و الغربي عموما يتضح أن أحداث القنيطرة كان لها وقعا خاصا على الرأي العام الفرنسي ربما لأن الإستعمار الفرنسي كان يجتهد اجتهادا لجعل مدينة القنيطرة – بور ليوطي- (Port Lyautey) كواجهة حضرية و حضارية لستر الوجه الحقيقي للسياسة الاستعمارية.

إن انتفاضات القنيطرة كان لها دورا جوهريا بفعل تموقعها الاستراتيجي بالنسبة للحلف الأطلسي و بفعل التواجد الأمريكي بها. و في هذا وجبت الإشارة إلى أن الوطنيين و المقاومين بالمدينة عملوا على تسهيل مهمة الإعلاميين الأمريكان لتغطية الأحداث. و رغم أن هذه الأحداث كانت كبيرة و الغليان قويا فإنه لم يُمس بسوء أي أمريكي بالمدينة. و لعل هذا من شأنه توضيح بُعد نظر قيادات الانتفاضة بالمدينة و السعي – لماذا لا- إلى افتعال صراع أمريكي فرنسي بخصوص نفي الملك الشرعي. و هذا ما ستظهر بوادره لاحقا و بشكل جلي.
و تطرقت جريدة “لوفيغارو” (Le Figaro) في عددها ليوم 9 غشت 1954 لجانب كبير من أحداث القنيطرة، حيث أكد “سيرج برومبيرجي” (S. Bromberger)، الصحفي المشهور، ” أن الأحداث انطلقت من حي ديور صنياك، قلب المدينة، في الساعة الواحدة و النصف زوالا. و هو نفس المكان الذي كان مسرحا لأحداث دامية قبل هذا التاريخ. آنذاك كانت جماعة من الدرك تحاول ترحيل بعض الأوروبيين القاطنين بالحي، و وقعت مشادة بينهم و بين المتجمهرين بالساحة إلى أن وصل بهم الحد إلى إطلاق النار لتفريق المتظاهرين. و ما هي إلا لحظات حتى تجمعوا من جديد في عدة أماكن متفرقة كانت انطلاقة لعدة مظاهرات في آن واحد، قرب سينما رياض و بديور المخزن و دوار الرجاء في الله و عين السبع و أماكن أخرى…” و يضيف الصحفي، ” في الحقيقة كانت الانطلاقة منذ أيام خلت، حيث أصدر الوطنيون بالمدينة أمر إغلاق المتاجر و عدم بيع السكر و اللحوم. و فعلا امتثل التجار للأمر، و حاول الباشا رفقة شرطته ارغامهم على فتح محلاتهم، لكن جماعة من شباب الحي واجهته و رشقته بالحجارة، ومع تصاعد غضب و غليان المتجمهرين أطلق المخازنية النار لشق منغذ وسطهم لتمكين الباشا من الابتعاد عن المكان…و يختم الكاتب مقاله قائلا: …و الغريب في الأمر، قبل وقوع هذه الأحداث، كانت إذاعة طنجة قد أعلنت أن بور ليوطي ستعرف أحداثا هذا اليوم”

مساندة عالمية واسعة النطاق

لقد ساندت دول العالم المغاربة و ظلت فرنسا خارج السرب، إذ اعتبرت مساندة أحرار العالم للمغرب و المغاربة تدخلا في الشؤون الداخلية لفرنسا. و في هذا الصدد نشرت جملة من الصحف الفرنسية نبأ سماح الحكومة الفرنسية برئاسة منديس فرانس ( Mendès France) لوفد من الجمعية اليهودية الأمريكية بالقيام بزيارة للمغرب و تونس. و قد نغت جل الصحفيين الفرنسيين هذه الزيارة بزيارة استطلاع و استخبار. و في نهاية هذه الزيارة أعلنت نفس الصحف أن الوفد اليهودي أعلن عن رأيه بخصوص الطائفة اليهودية المغربية التي تقترح تكوين حكومة علمانية في المغرب مع الإقرار بالتمثيل الطائفي في كل الأنظمة السياسية التي تقرر فرنسا اعتمادها ببلدان شمال افريقيا. و قد قارن أحد الصحفيين الفرنسيين بذكاء موقف حكومة منديس فرانس من هذا التصريح و موقفها من مساندة مصر لمطالب الشعب المغربي و طلائعه الوطنية. إذ جاء في أحد مقالاته أن منديس فرانس و حكومته أعلنا أكثر من مرة عن تدمرهما و غضبهما الشديد إزاء العطف الذي تلقاه الحركة التحريرية المغربية من القاهرة و “صوت العرب”، بل قد بلغ بهما الأمر إلى اقتراح قطع العلاقات الدبلوماسية مع القاهرة و فرض عقوبات اقتصادية و مقاطعة القطن المصري. هذا في حين لم يحرك منديس فرانس و لا حكومته ساكنا بخصوص تصريح الوفد اليهودي الأمريكي. و بذلك خلص الصحفي إلى أن فرنسا تكيل بمكيالين مختلفين. فبالنسبة للعرب و المسلمين تعتبر كل عطف منهم أو حديث عن قضية المغرب من قبيل التدخل في الشؤون الداخلية الخاصة لفرنسا بل اعتداء سافر عليها. بينما تسمح، بل ترحب و تحتضن اقتراحات الجمعيات الصهيونية الأمريكية. و في هذا الإطار ذكر الصحفي الرئيس منديس فرانس بالفترة التي رزحت فيها فرنسا تحت الاحتلال النازي و يوم وضعته الإلإدارة الفرنسية الموالية للألمان بالسجن بمدينة الدار البيضاء. آنذاك كان جملة من الفرنسيين الأحرار قد قصدوا مصر التي وضعت إذاعتها رهن إشارة الجنرال دوغول (Degaule) و معاونيه لفضح و كشف ويلات الاحتلال النازي.

و تصاعد غضب فرنسا أكثر بفعل تحركات مكتب المغرب العربي. إذ عرف هذا المكتب آنذاك نشاطا و حركية لم يسبق لهما مثيل في تاريخ وجوده. لقد طاف أعضاؤه الدول العربية و الاسلامية لفضح المخطط الاستعماري و توضيح شرعية القضية المغربية و ضرورة مساندتها.

كما أن رجال الفكر و الدين بسوريا أصدروا فتوى جامعة شاملة و واضحة مفاذها أن محمد الخامس هو الملك الشرعي للمغرب، و بالتالي وجوب تنحية السلطان المفبرك بن عرفة.
و تحرك الملك فيصل، عاهل السعودية كثيرا و بدرجة كبيرة بخصوص القضية المغربية. و كذلك عزام باشا الأمين العام للجامعة العربية. و قد تحقق إجماع على الصعيد العربي و الاسلامي بهذا الخصوص و بدون أدنى تردد. و ذلك رغم أن الدبلوماسية الفرنسية تحركت آنذاك بكل ما أوتيت من قوة و باستخدام مختلف الوسائل في الشرق العربي لدعم مشروعها، لكن سُدت الأبواب في وجهها بفعل قوة شرعية القضية التي كان يدافع عليها المغربة الأحرار تحت قيادة ملكهم و بمساندته الدائمة و المستدامة.
و إذا كانت أفطاب الصحافة الأمريكية قد ساندت عموما القضية المغربية و ناصرتها، و إن الموقف الأمريكي الرسمي ظل يكتنفه بعض الغموض. و من النغمات النشاز ما أشارت إليه بعض الصحف بخصوص ممثل وزارة الخارجية الأمريكية الذي قال أن ” حكومته ستصوت ضد إدراج قضية المغرب في مجلس الأمن لأن القضية لا تهدد السلام العالمي”.
كما أنه لا يمكن القفز على الدور الذي لعبه الإعلام المسموع في التعري بالقضية المغربية و الكشف على النوايا الحقيقية للسياسة الاستعمارية بالمغرب.

و بعد إسكات كل الأصوات الحرة التي كانت تدافع عن القضية المغربية بالداخل و تنشر أخبارها، لم يبق إلا “صوت العرب” الذي أقبل عليه المغاربة بلهفة كبيرة. لقد قامت إذاعة “صوت العرب” بالنسبة للمغاربة ما قامت به إذاعة لندن بالنسبة للأقطار التي احتلتها قوات هتلر النازية في الحرب العالمية الثانية. لذلك عمل الفرنسيون بكل ما أوتوا من قوة للتشويش على “صوت العرب” اعتبارا للدور الحيوي ، الاعلامي و التعبوي، الذي كانت تقوم به.

و كان أول نداء أذاعته “صوت العرب” نصف ساعة فقط بعد إبعاد السلطان محمد بن يوسف. و ظلت هذه الإذاعة تبث النداءات و البرامج إلى أن عاد جلالته مظفرا للبلاد و أعلن استقلالها . و في هذا الصدد وجبت الإشارة إلى الدور الذي لعبه أحمد سعيد، مدير “صوت العرب” و صوته لازال يرن في آذان جيل المقاومة و الفداء رغم مرور سنين عديدة.
“…أيها العرب إلى الأمام…إنها المعركة الحاسمة من أجل الخلاص…إن هدية منديس فرانس لتونس هو فخ مفضوح لأن الفرنسيين لا يؤمنون إلا بالقوة و السلاح…و بذلك لا يمكن تحقيق الحرية و الخلاص إلا بالقوة” هذا نموذجا من اللغة التي كان تستخدمها ” صوت العرب”.

و بهذا الخصوص كتب أحد الصحفيين الفرنسيين قائلا: ” في الوقت الذي كانت فيه القوات الفرنسية تستعرض قواتها بمركز بيوزكارن بجنوب المغرب، كان علال الفاسي يعلن التصريح تلو التصريح بإذاعة “صوت العرب” و يتحرك مع جملة من أعضاء مكتب المغرب العربي في كواليس الأمم المتحدة و الجامعة العربية”.

كان الأطفال و النساء يتحلقون حول المذياع للسماع لإذاعة القاهرة “صوت العرب”، و لإذاعة تطوان و بودابيست و بغداد و كراتشي… و كانت مقالات الصحفي “سيرج بروبيرجي” الصادرة بصحيفة “لوفيغارو” على امتداد النصف الثاني من سنة 1953 و سنة 1954 لا تخلو من هذه العبارات مثنا و مضمونا:

« (…) Les enfants et les femmes passent toutes leurs journées autour de leur poste à écouter les émissions arabes du Caire, de Tetouan et de Budapest, qui ne cessent de les exciter. Ils y ont appris non seulement la haine ? mais du surcroît l’arabe classique (…) »

و في غضون سنة 1954 شرعت إذاعات بودابيست و براغ و بغداد و كراتشي في إذاعة برامجها الأولى الخاصة بنضالات المغاربة و انتفاضاتهم و جه الاستعمار الفرنسي الغاشم. كما أن راديو تطوان شرع في تمرير الأخبار و البيانات. و من طرائف هذه الإذاعة أنها أعلنت أن الموالين للسلطان المفبرك بن عرفة سيمنعون من الحج.

و عموما اتضح بجلاء أن المقاومة المسلحة و الانتفاضات الشعبية في إطار ثورة الملك و الشعب هي التي فرضت على فرنسا الأخذ بعين الاعتبار حق المغاربة الأكيد في الحرية و الاستقلال. فبعد سنة من النضال و الكفاح المستميت اقتنعت فرنسا بأن لا خيار لها إلا التخلي عن المواجهة و السعي إلى الحوار و المفاوضة، لاسيما و أن الجمهورية الرابعة لم تنعم بالاستقرار المتوخى. آنذاك كانت مواقف علال الفاسي، المنفي بالقاهرة هي ذات الموقف التي عبر عنها كل من التونسي صالح بن يوسف و بطل الريف عبد الكريم الخطابي، أي استقلال المغرب العربي كاملا.

الكفاح الاقتصادي

و بجانب الانتفاضات الشعبية و الكفاح المسلح لعب النضال الاقتصادي دورا مهما. فقد حرص الوطنيون و المقاومون المغاربة على تطبيق مقاطعة البضائع الفرنسية، و لم يتوانوا لحظة في إنجاح المقاطعة بجميع الوسائل وعيا منهم أنها تشكل ضربة قاسية للفرنسيين عبر شل الاقتصاد كأسلوب من الأساليب النضالية الراقية التي لها جدواها الأكيدة و المباشرة ، و باعتبار هذه الأساليب تمس في الصميم المصالح الاستعمارية بالملموس. ولذلك أصدر المقاومون أمر مقاطعة البضائع الفرنسية و إقفال الدكاكين و اعتبار استعمال الدخان بمثابة جريمة في حق الوطن و الروح الوطنية.

و تمكنوا بذلك من إصابة مصالح الرأسماليين الفرنسيين بضربة شديدة.و أضحى هؤلاء يضغطون على الإقامة العامة و الحكومة الفرنسية للقضاء على المقاومة و لوضع حد للأعمال الفدائية. لكن كلما كان يشتد القمع و التنكيل كلما كانت روح المقاومة و الكفاح تنمو، و هذا ما أرهبهم بعد أن أيقنوا أن المقاومة أضحت حاضرة في كل مكان و في كل حين.
و حسب جملة من الصحف الفرنسية بلغ عدد الفرنسيين و الخونة الذين أغتيلوا بين شهري مارس و سبتمبر 1954 أكثر من 3000 شخص منهم ضباط الجيش و رجال الأمن، إضافة لتعرض بن عرفة أكثر من مرة، و الكلاوي و الجنرال جيوم و المقيم العام لاكوست لمحاولات اغتيال.
لقد عملت المقاومة اذن على ضرب الاقتصاد الفرنسي، ولعل هذا ما ساهم و بقوة في تسهيل التخلي عن الرئيس “أوريول” و تعويضه بمنديس فرانس.
و في الحقيقة إن شل الاقتصاد الفرنسي و تحريك الجماهير في الشوارع و تعبئتها يعتبران من العوامل الجوهرية بجانب المقاومة المسلحة التي ساهمت و بشكل كبير في تغيير مجرى الأحداث. فالفرنسيون لم ترهبهم عمليات المقاومة كما أرهبهم شلل اقتصادهم، لا سيما و أن مقاطعة البضائع الفرنسية تجاوزت حدود المغرب إلى العالم العربي و الاسلامي.
فكانت لأحداث 1956 و 1954 دورا هاما في زعزعة كيان الاستعمار الفرنسي. ففي سنة 1954 حل الجنرال لاكوست مكان الجنرال جيوم، و بعد سنة حل محل هذا الأخير جيلبير كارنافال(Carnaval )
و بعد شهور عوضه أندري دوبوا (A. Dubois).

لا مناص من رجوع السلطان إلى عرشه

و في الأسبوع الأخير من شهر يوليو 1954 سافر المقيم العام الفرنسي بالمغرب، فرانسيس لاكوست، إلى باريس للقاء كريستيا فوشي (C. Fouchet)، الوزير الفرنسي المكلف بالشؤون المغربية و التونسية. و دار بينهما هذا الحديث: “…نحن على بعد أيام معدودة من عيد الأضحى، و على حلول يوم من 20 غشت، الذكرى الأولى لإبعاد محمد بن يوسف…و كل المعلومات المتوفرة لدينل تفيد أن الوطنيين يهيؤون عملية كبيرة المدى ..”، و كان جواب الوزير: ” سوف لن نخضع لضغوطات شهر غشت، فتونس مشكل، أما المغرب فهو مشكل آخر..” ، و هذه المقتطفات من الحديث نشرتها أكثر من صحيفة فرنسية.

و بعد ثلاثة أيام من هذا اللقاء غادر لاكوست فرنسا عائدا إلى المغرب، وبينما طائرته تعبر سماء لإسبانيا توصل ببرقية مستعجلة جاء فيها: “…انتفاضة بفاس…مظاهرات تطالب برجوع بن يوسف و بالاستقلال…العديد من القتلى في بوتي جان…غليان في مجموعة من مناطق المغرب…”

و بصول لاكوست إلى مكتبه وجد عليه عريضة موقعة من طرف أربعين عالما يطالبون ، و بشدة ، بالعودة الفورية للملك محمد بن يوسف. و بعد أيام قليلة جدا بدأت تتهاطل عرائض المطالبة بعودة الملك الشرعي على مكتب المقيم العام بالرباط.

و فعلا كانت الحصيلة ثقيلة، و قد رصدت الصحف الفرنسية الأحداث بدقة كبيرة، لكن غالبا ما كانت تنقصها الموضوعية و النزاهة الاعلامية. و حسبها تمثلت حصيلة ممتدة من 20غشت 1953 إلى 20 غشت 1654 في أكثر من 1600 قتيل و أكثر من 620 حادثة اتلاف و اعتقال أكثر من 65 ألف مغربي. و نشرت مجلة باري ماتش في غضون سنة 1953 بأن محكمة الدار البيضاء وحدها حكمت بالسجن و بمدد مختلفة على أكثر من 17 الف مغربي و مغربية. و أجمعت كل الصحف الفرنسية تقريبا على التسلسل التالي: في 15 يونيو 1953 طالب السلطان محمد بن يوسف فرنسا بوضع حد للمؤامرة التي يقودها القواد و لوبي المعمرين، وفي 11 غشت أمر وزير الخارجية ” جورج بيدو” الجنرال “جيوم” بكبح جماح الكلاوي، و في 13 غشت طلبت السلطات الفرنسية من الملك التخلي عن جملة من صلاحياته السياسية تحت طائلة إبعاده عن العرش، و في 16 غشت انطلقت مظاهرات بمراكش و فاس و الدار البيضاء و الرباط و سلا و مكناس و وجدة و وثوجهت بالرصاص، و في 20غشت كان انفجار ثورة الملك و الشعب، و في 11 سبتمبر قام الشهيد علال بن عبد الله بعمليته الجريئة…هكذا تمثلت أغلب الصحف الفرنسية سنة 1953.

و في هذه السنة كانت الحصيلة حسب الاعلام الفرنسي، أزيد من 3000 قتيل و اعتقال أكثر من 20ألف من ضمنهم قادة الحركة الوطنية و أعضاء اتحاد نقابات العمال و توقيف الصحف الوطنية الصادرة سواء بالعربية أو الفرنسية. كما عملت السلطات الفرنسية على تطهير الإدارة المغربية من العناصر الوطنية، و بذلك تم طرد أكثر من 30 باشا و قائدا و كلهم رفضوا المشاركة في المؤامرة ضد الملك الشرعي للبلاد.
و في الوقت الذي برزت فيه أصوات من قلب الفرنسيين تنادي بعودة الملك لعرشه تمادى الخونة المغاربة و عملاء الاستعمار في غيهم. فها هي جريدة “لو فيغارو” تنشر في عددها المزدوج ليومي 14 و 15 غشت 1954 بلاغا للضمير الفرنسي يتضمن تأييد رجوع الملك محمد الخامس إلى عرشه/

الفرنسيون الذين ساندوا المغرب في محنته

هناك جملة من الفرنسيين الأحرار ساندوا كفاح المغاربة منذ الوهلة الأولى ونهضوا الاستعمار فجان جوريس ندد بالغزو الاستعماري الفرنسي لمدينتي الدار البيضاء ووجدة سنة 1907 كما ساهمت بشكل كبير في فضح مشروع أرباب الأبناك المتكالبين على المغرب لنهب ثرواته وكانت أفكار الرائدة والشجاعة لمناهضة الحروب وتجارها السبب الرئيسي في اغتياله في 31 يوليو 1914.

وفي ثلاثينات القرن الماضي كان بول شينو ( P. CHAIGNAU ) – وهو أحد المسؤولين عن فرع الحزب الاشتراكي بالمغرب- يجعل من صحيفته: المغرب الاشتراكي (LE MAROC SOCIALISTE) منبرا للدفاع عن الوطنيين المغاربة والتشهير بسياسة الرأسمالية الاستعمارية والإمبريالية.
وفي نفس الفترة نشر كاستون دلماس (G. DELMAS) مقالا يعتبر فيه الوطنيين المغاربة ممثلين لحركة وطنية هدفها تخليص البلاد من الحكم الاستعماري.
وفي سنة 1937 قام جان لونكي البرلماني – وهو حفيد كارل ماركس- يجمع توقيعات شخصيات فرنسية مشهورة في جملة من القطاعات وتطالب بإطلاق سراحهم.

وأمر رئيس الحكومة ليون بلوم بإطلاق المعتقلين والسماح بإصدار الصحف الوطنية، حيث ظهرت جريدة " الأطلس" لسان حال الكتلة الوطنية واستأنفت جريدة " الأطلس" لسان حال الكتل – الوطنية واستأنفت جريدة " عمل الشعب" صدورها وظهرت جريدة " المغرب" رغم أن المد كان يزعج كثيرا الإدارة الاستعمارية.

ودافع روبيرلونكي-رئيس تحرير مجلة " المغرب" الصادرة بباريس عن الوطنيين المغاربة وأفكارهم. وسار في نفس الإتجاه جورج موني(Monnet) وايتيان انطوانيلي (E. Antonelli) وبيير رنوذيل (P. Renaudel) وسيكسن كوينان (S. Quentin) وكأستون بيرجيري Bergery- - -G.وكل هؤلاء كانوا مناهضون للاستعمار. كما دافع اميل دير منغم ( E . Dermenghem ) عن المغاربة.

وفي فبراير 1946 أعد جان دريش (J. Dresch ) وثيقة تطالب بإلغاء الحماية والاعتراف للمغاربة بحقهم في الحرية.

وفي يونيو من نفس السنة تأسست عصبة الدفاع عن المغرب الحر، وكانت تهدف الدفاع عن الطموحات الوطنية للشعب المغربي. وكان من أعضائها أندري ريـبار

( مؤرخ) والمحامي روبير لونكي مدير مجلة " المغرب" والصحفيان جيل مارتيني
( J. Mertinet) وكي فرانسوا جيب ( G .F Geppe) وفيليـكس كوانـزالـيـس
( F. Gonzalez) رئيس تحرير مجلة " 18 يونيو" و الأدبية " لاهي هو ليبيك" و" أنري فيوليس" و " فرانسيس جوردان" و" بيير نافيل" و " شارل بيتلهام".
وفي بداية دجنبر1952 أصدر 13 أستاذ فرنسا عاملين بثانوية ليوطي بالدار البيضاء بلاغا يستنكرون فيه الحملة العنصرية ضد المغاربة داخل وطنهم ويطالبون بوضع حد لها فورا. إلا أن رد الإدارة الاستعمارية كان هو طرد أكثر من 40 فرنسا من المغرب ومن ضمنهم الأساتذة المحتجين.

وكانت مقالات فرانسوا موريال – جائزة نوبل لسنة 1952 – موجعة للمستعمرين وهزيمة نكراء للصحافة المرتزقة التي عملت على ستر جرائم الاستعمار والتستر عليها وأعلن جملة من مثقفي فرنسا آنذاك عن تضامنهم مع كفاح المغاربة وذلك بواسطة مقالات نشروها على صفحات " لومانيتي" و" تيموانياج كريتان" و " فران تيرور" و" لوبسيرفاتـور".
وفي يونيو1953 تأسست جمعية " فرنسا"- المغرب" ترأسها فرانسوا مورياك بباريس، وكان هدفها الإعلام الموضوعي وإنهاء حالة الاستثناء المفروضة على المغرب. ومن أعضائها المستشرقين " ريجيس بلاشير" و "لوي ماسينيون " و"ألبير كامو " – جائزة نوبل سنة 1957 – وفرانسوا ميتران وليوبود سيدار سنغور وكلود بودي وروبير بارا وزوجته دونيز وجاك سيرفان – شريبر مدير مجلة اكسبريس وحان رو وجان ماري دومانك مديـر مجلة "إيسبتر" وليفي بروفانسال مدير المعهد الإسلامي بجامعة السوربون وألـبير بـول لانـتان.

وفي 29 يونيو 1953 طعن الأستاذ " ماسينيون " في شهادة الخائن الباشا الكلاوي إذ اعتبرها مرفوضة من قبل الإسلام مادامت صادرة من قواد يستغل النساء في بـيـوت الـدعارة.
وبذلك كان هؤلاء الفرنسيين جنودا لمـبـادئ الحـرية والإخـاء والمـسـاواة.

الـسـيـاسـة و مـكر الـسيـاسة بالمغرب….!

يقال أن السياسة الحقيقية هي سياسة الحقيقة لكن السياسة الحقيقة تستوجب أولا وقبل كل شيء الواقعية و الجرأة على تعرية الأمور بشفافية و القدرة على كشف المستور وتسليط الأضواء على مناطق الظل. و انطلاقا من هذا المنظور يقال أن السياسة هي فن ممكن، لكن هذا الممكن يجب أن يكون في إطار سياسة الحقيقة و إلا دخلنا في نطاق مكر السياسة عندما نغلف الممكن اعتمادا على إبعاد كل ما ليس مرغوب في تحقيقه بدعوى عدم الإمكان وهذا حال بلادنا على امتداد سنوات طوال وقد برز مكر السياسة على مختلف الواجهات سيما فيما يخص واجهة الديمقراطية وواجهة الاقتصاد.
فمنذ الثمانينات توجه المغرب حول التصدي للعجز المالي في الميزانية العامة من أجل التقليص من النفقات العمومية بإلغاء بعض أبواب الميزانية وتقليص عدد الموظفين العموميين والمأجورين مما نتج عنه بطالة انضافت إلى عجز المالي في الميزانية العامة من أجل التقليص من النفقات العمومية بإلغاء بعض أبواب الميزانية وتقليص عدد الموظفين العموميين والمأجورين مما نتج عنه بطالة انضافت إلى البطالة القائمة في وقت مازالت تشكو فيه البلاد من الخصاص في الأطر (مهندسون / أطباء/ تقنيون…) كما تم الاهتمام بالتصدي إلى التضخم نظرا لتأثيراته على التجارة الخارجية.

وفيما يتعلق بالضرائب، من المعروف أنه من مبادئ الليبرالية تخفيض الضرائب ، في حين عرفت البلاد تصاعدا مستمرا للثقل الضريبي. كما تم اللجوء إلى خوصصة مقاولات الدولة بطريقة لم يستنتج منها الشعب شيئا بخصوص الأوضاع. وفي اختيار الطريق الليبرالية تأرجحت بلادنا بين النظرة الأنجلوساكسونية المتوحشة، على الطريقة الأمريكية والإنجليزية ، وهما نظامان يتميزان بقوة القطاع الخاص المتمركز أساسا على اقتصاد شركات عملاقة ومتعددة الجنسيات الراغبة في الهيمنة على الاقتصاد العالمي . والنظرة اللاتينية ، على الطريقة الأوربية فرنسا، ألمانيا والتي تجعل مسألة التضامن الاجتماعي هاجسا اقتصاديا بالدرجة الأولى يتفاعل فيه عنصران مهمان : القطاع الخاص والدولة.هذا فيما يخص الاقتصاد، ومكر السياسة بارز فيه بامتياز.

أما فيما يخص تجليات مكر السياسة على صعيد المسألة الديموقراطية ،فمن المعروف أن الانتخابات ، في حالة تزويرها ، يمكن أن تكون وسيلة لإخفاء الإكراه والتستر على القمع ، كما يمكنها أن تكون وسيلة لمحاولة التوفيق بين جوهر سياسي محدد مسبقا ومؤسسات شكلية تنازع الجوهر، وهناك كذلك يبرز مكر السياسة.

إن النظام الملكي المغربي نظام مركزي مفتاحه هو الملك. فالمغرب يتوفر على تقليد خاص للحكم والدولة. فالملكية المغربية لم تكن نتاجا لمرحلة تاريخية حديثة، وإنما نتاج لشرعية تاريخية ثقافية وشعبية، كما أن السلطة المركزية ببلادنا ليست نتاجا حديثا ، إن تاريخها يمكن أن يعود إلى الأدارسة وشرعيتها هي شرعية : تاريخية ودينية، كما أنها شرعية سياسية وشعبية لأنها مبنية على البيعة وقد عرف النظام الملكي المغربي بعض التحديات، حيث أصبح نظاما نيابيا ثنائيا مجلسين وتم إقرار تنظيم جهوي، وتحديث بنيات المخزن.

وبهذا المنظور، من المفروض أن تكون المحاكم ليس لتجريم الناس ولكن لمساعدتهم على استعادة حقوقهم والدفاع عليها وليس العكس . والحكومة في النظام المغربي، هي حكومة عاهل البلاد اعتبارا لصلاحياته الدستورية، واعتبارا لأن الاختيارات المجتمعية الكبرى يحددها الملك والحكومة تعمل على ترجمتها وتجسيدها. والاختلاف الحاصل يكون اختلافا حول سبل تنفيذ البرنامج الحكومي الذي يستمد أسسه من التوجيهات الملكية.
في بداية القرن الماضي كان النظام القائم نتاجا لبنية سياسية واجتماعية. تتميز أساسا ببروز تحالف بين الأعيان الحضريين و الإقطاعيين و القواد الكبار بالبوادي، واستطاع هذا التحالف السيطرة على القبائل استنادا على الدين لتبرير سيطرته وإضفاء لباس الشرعية على امتيازاته المحققة على حساب السواد الأعظم لسكان البلاد. وازداد هذا التحالف قوة بارتباطه الموضوعي مع الرأسمال الأوربي، الشيء الذي سهل تغلغل الاستعمار ببلادنا.
ومنذ الوهلة الأولى عمل الاستعمار على تحطيم البنيات القبلية الجماعية، وذلك بمساعدة القواد الكبار، وهذا ما أدى إلى التقارب بين القصر والحركة الوطنية لضمان دور الملكية في البنية الأساسية.
وفي الخمسينات، نظرا لتصاعد المقاومة في المدن والبوادي اضطر الاستعمار لتعديل مشروعه وإعادة النظر في تحالفاته في إطار نظام رأسمالي تبعي كحلقة من الحلقات في الاستعمار الجديد وهكذا اعتمد الرأسمال الأوروبي على فئة من الوسطاء والسماسرة لإرساء قواعد نظام رأسمالي تبعي بالمغرب.آنذاك في أوج حركة المقاومة والحركة الوطنية قد اتضح أنه لم يكن من الممكن إعادة هيكلة السلطة إلا عبر تدجين الحركة الوطنية والتخلص من جيش التحرير الذي أكد على ضرورة استمرار المقاومة إلى حد تحقيق الاستقلال الكامل.
وقد ساعد التطور الرأسمالي التبعي على خلق سوق داخلية مرتبطة بالمركز غالبا على حساب مصالح الجماهير الشعبية ولفائدة توطيد العلاقات بين البورجوازية الكمبروادورية والملاكين العقاريين الكبار. ومنذ الإعلان عن الاستقلال السياسي بدأت سلطة الكمبرادور والملاكين العقاريين الكبار تتهيكل وتتقوى ، ومما سهل هذا المسار إجهاض استقلال فعلي تجسيدا لطموحات ، الجماهير الشعبية السياسية آنذاك – حركة المقاومة والحركة الوطنية وقد اتضح أنه لم يكن من الممكن إعادة هيكلة السلطة إلا عبر تدجين الحركة الوطنية والتخلص من جيش التحرير الذي أكد على ضرورة استمرار المقاومة إلى حد تحقيق الاستقلال الكامل .
وقد ساعد التطور التبعي على خلق سوق داخلية مرتبطة بالمركز لم تكن من أولياتها تحقيق مصالح الجماهير الشعبية بل عملت و اشتغلت بالأساس لفائدة توطيد العلاقات بين البورجوازية الكمبروادورية والملاكين العقاريين الكبار وهيكلة سلطتهم مستفيدين بالأساس من سياسة الوحدة الوطنية . وهذا وجه من وجوه المكر السياسي واغتنام الفرصة لتحطيم التنظيمات السياسية المعبرة بصفة جدرية عن مطامح أوسع الفئات الشعبية والمدافعة عنها بلا هوادة . وقد توجت هذه الفترة بانفراد القصر بالحكم .

علما أنه من النتائج الأولى لاتفاقيات ايكس ليبان إرساء حكومة تابعة للاستعمار، مضمونة غالبيتها من الفئات المرتبطة به: عناصر من المخزن و البيروقراطية العصرية رغم ضمها بعض الأفراد من الحركة الوطنية، وقد كانت حكومة ائتلافية، طرفها الأول يدافع عن مشروع وطني و الطرف الثاني معادي لهذا المشروع، يمثل كبار الملاكين وكبار التجار المستفيدين من التغلغل الرأسمالي ببلادنا. وقد استطاع تحالف كبار الملاكين و التجار وبيروقراطية الدولة – الكمبرادور – إقصاء العناصر المنحدرة من الحركة الوطنية للانفراد بالسلطة منذ فجر الستينات.
وفي ظل هذه الظروف ساهمت البنية الاقتصادية التبعية في سيرورة تحويل الملاكين العقاريين الكبار إلى مضاربين في مجالات و ميادين مرتبطة بخدمة وتنمية المصالح الإمبريالية، كما ساهمت في تعزيز وتقوية البرجوازية الكمبرادورية في إطار التبعية للإمبريالية. هكذا تشكلت كتلة حاكمة بتوحيد مصالح و مصير البرجوازية الكمبرادورية في إطار التبعية للإمبريالية. هكذا تشكلت كتلة حاكمة بتوحيد مصالح ومصير البرجوازية الكمبرادورية المتوسطة الصاعدة التواقة إلى تأسيس نظام برجوازي عصري.

ومنذ 1962 انفردت الكتلة الحاكمة بالسلطة بدءا بدستور 1962 و إقامة مؤسساته بعد تنحية أحزاب الحركة الوطنية وبذلك تكرست هيمنة كبار الملاكين العقاريين و حلفائهم البرجوازية الكمبرادودية وبيروقراطية الدولة. فمع بداية الستينات واجهت الكتلة الحاكمة الصراع السياسي بالقمع الممنهج كأسلوب للتصدي ومواجهة الحركات النضالية الجماهيرية، ومع احتدام الصراع السياسي و الاجتماعي وتصدع أجهزة الحكم عمدت الكتلة الحاكمة إلى محاولة احتواء الفئات الوسطى عبر اتخاذ إجراءات اجتماعية تهم توزيع جزئي لبعض الأراضي المسترجعة،و خلق قاعدة وجود فئات وسطى اقتصاديا، إلا أن ذلك حدث في وقت ارتكز فيه التطور الرأسمالي التبعي على آليات الاقتصاد المغربي، بواسطة المديونية و الارتباط الوثيق بأسواقها، الشيء الذي عاق كل إمكانية تطور صناعي، و كانت النتيجة فتح المجال لاستثمارات طفيلية و تعزيز سيطرة البرجوازية الكمبرادورية على المؤسسات المالية و الصناعية بواسطة – المغربة – التي سمحت لبعض عناصر البرجوازية الكبرى غير الاحتكارية و فئات عليا من البرجوازية الكمبرادورية.

وفي بداية السبعينات انطلق حماس كبير مع المخطط الخماسي 1973-1997 اعتبارا لعوامل ظرفية ارتبطت بإعادة قسمة العمل بين المركز و الدول التابعة له وتزامن ذلك مع ارتفاع أسعار بعض المواد الأولية المصدرة و التراكم الذي حققته البرجوازية الكبرى. إلا أنه سرعان ما غابت تلك العوامل فتحول الحماس المفرط إلى خيبة أمل و احباط كبير بخصوص انتظارات الشعب المغربي الذي طال انتظاره لمعاينة تحسين واقع الحال، واضطرت البلاد إلى فرض مخطط التقشف (1978-1981 ) و الخضوع لتعليمات و توصيات و أحيانا كثيرة لأموامر البنك وصندوق النقد الدوليين و بذلك كان اعتماد توجيهات رامية إلى إلى تحقيق التوازنات بأي ثمن و تطبيق سياسة حقيقة الأسعار و السماح لقوانين السوق بالقيام بدورها بحرية و لو على حساب السواد الأعظم للسكان الشيء الذي عصف مرة أخرى بكل انتظارات الشعب المغربي. آنذاك اتضح بجلاء أن أزمة البلاد أزمة هيكلية مرتبطة أساسا بالتبعية اللامشروطة للأسواق الإمبريالية و تعمقت الأزمة أكثر بفعل الطابع الطفيلي و الريعي للكتلة السائدة و هذا الطابع لم يسمح حتى بتحقيق درجة مرضية من التطور الرأسمالي التبعي على علته.

و على امتداد السبعينات كانت قوى اليسار في صراع ضاري مع النظام وقد تزامنت تلك الفترة مع المرحلة السوداء من تاريخ البلاد (سنوات الجمر و السنوات الرصاصية).وساد القمع بمختلف أساليبه و ألوانه، ساد التهريب و التهديد و الاختطاف و نشر الرعب بين فئات الشعب، و هكذا انقسم البلد إلى فريقين كبيرين، فريق موالي للنظام مدافع عنه وفريق مناهض بمختلف الوسائل المتاحة الفكرية و السياسية و الثقافية و الاجتماعية و النضالية ( آنذاك كانت المطالبة بالتغيير الجدري و ليس بإصلاح وضع قائم)، ومع تفاحش الأزمة و اتساع مظاهرها و تمظهراتها وتكاثر انعكاساتها عملت قوى اليسار على استثمار السخط الجماهيري الظاهر على صعيد الركح المجتمعي. وهذا ما هيأ جملة من الشروط لخوض نضالات طويلة النفس وواسعة المدى بالرغم من القمع الوحشيإ إذ كانت النضالات و الاحتجاجات تتصاعد كلما تصاعد القمع و ليس العكس، الشيء الذي خلف عدة ضحايا – استشهادات، اعتقال تعسفي، اختطافات، ونفي قسري، محاكمات صورية مخدومة و محددة النتائج سلفا ...و بعض التصفيات الجسدية.
ومع بداية الثمانينات شرع في تطبيق سياسية التقويم الهيكلي كبديل للخروج من النفق، لكن الواقع المعيش أظهر بجلاء النتائج الوخيمة سواء على الصعيد الاقتصادي أو الاجتماعي، و بالرغم من السخط الجماهيري، الواسع عليها، ظلت استراتيجية التنمية تعتمد على التصور الليبرالي المتوحش المفروض من طرف البنك الدولي المعبر الصادق و الراعي الأمين لمصالح الرأسمال الغربي والشركات و البنوك المتعددة الجنسيات.
و حين بلغت أحداث أروبا الشرقية أوجها ، بدأت تظهر مضاعفات أزمة الخليج و الحرب الحضارية الأولى على الصعيد العالمي و العربي و الوطني و اتسع الاهتمام على المستوى الداخلي بقضايا حقوق الإنسان و برز صراع سياسي بين أحزاب المعارضة و الكتلة الحاكمة مما دفع إلى اعتماد خطاب الانفتاح بالنسبة للأولى و عملت المعارضة للضغط لتقوية موقعها استعدادا للتغييرات البادية بشائرها في الأفق آنذاك. هكذا و منذ منتصف التسعينيات بدأت مطاردة بعض الموظفين الساميين أصحاب القرار بل تجريمهم أحيانا، إلا أن الذين كانوا وراء هذه الحملة تناسوا أنهم هم كذلك أصحاب ملفات ضخمة وثقيلة و بذلك انكشفت الأمور بجلاء وضح كيف أن الفساد كان متشعشعا بالمجتمع حتى النخاع.
وبعد توالي الاخفاقات و تزايد استفحال الأزمة بدأ الحديث عن الديمقراطية يفرض نفسه بقوة ، كأولوية الأولويات و كسبيل للخروج من النفق، لكن شريطة احترام الثوابت و نبذ أساليب العنف و نهج طريق المساهمة و المشاركة في اللعبة السياسية عوض المواجهة و التصدي و الصراع العدائي. آنذاك برزت على السطح ملامح السلم الاجتماعي و السياسي واعتماد الحوار.
لكن الكتلة الحاكمة هي ائتلاف بين الملاكين العقاريين الكبار البرجوازية الكمبرادورية والمسيطرين على المؤسسات المنتجة للدولة. وعلى امتداد سيرورة تاريخ المغرب الحديث ضمن هذه الكتلة الحاكمة تقوت فئة من ذوي الامتيازات المخزنية و البيروقراطية و امتيازات المواقع، استفادت من مواقعها ضمن مختلف المؤسسات، و كانت هي الأكثر استفادة من السياسات المتبعة إضافة للمصالح الاقتصادية و المالية التي وفرتها لها البنية الرأسمالية التبعية. وقد ساهمت هذه الفئة، إلى حد كبير، في توسيع مجال الفساد الإداري ومناهضة عصرنة الحياة الاقتصادية و انطلاق آليات تغيير فعلي.
علما أن طبيعة تلك الكتلة لم تكن لتدفعها للاهتمام بالإنتاجية أو تطوير أساليب العمل و الإنتاج و التفكير في إرساء الانطلاقة للاهتمام بالتكنولوجيا و البحث العلمي استعدادا للمستقبل. وطبيعتها هاته جعلتها تناهض أي إصلاح زراعي يسمح بنمو سوق داخلية من شأنها إعطاء دفعة لتصنيع فعلي مرتبط بعوامل داخلية، كما جعلتها طبيعتها تكتفي بالمضاربة في مختلف الميادين ( العقار، التجارة، المال، الوساطة…( واستغلال أموال الدولة لفائدتها) صفقات، امتيازات متنوعة…)، وجعلتها كذلك تتملص حتى من المشاركة في عبء رفع و تحسين ميزانية الدولة رغم كل ما كانت تستفيد منه من امتيازات سهلة دون مجهود ، و ذلك من جراء الإعفاءات الضريبة أو التملص من أدائها و تزكية هذا التملص. علاوة على أن طبيعتها الريعية المضارباتية،و الطفيلية جعلتها تشجع مختلف أنواع الفساد و تهريب الأموال إلى الخارج، الشيء الذي جعلها لا تساهم بترويج أموالها بالداخل بطريقة بطريقة تساهم في الترويج الداخلي. وكل هذا جعل أسباب الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية تتعمق على امتداد سنوات و بموازاة مع ذلك لم تظل الكتلة الحاكمة مكتوفة الأيدي و إنما عملت بمختلف الوسائل على التوغل في النسيج الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي، كما نجحت في استمالة جملة من الفعاليات التي كانت محسوبة على المعارضة لجانبها و هي الظاهرة المنعوثة بمخزنة النخبة. و ظلت نقط قواها هي السيطرة على الأجهزة الأمنية و الاستحواذ على الجهاز الإداري و على ممتلكات الدولة و استغلالها لخدمة مصالحها و تحويل المؤسسات ،التي من المفترض التعبير عن طموحات الشعب و أوسع فئاته، إلى آليات تكريس سيطرتها على المجتمع .
و بذلك فإن السيرورة التي عرفتها بلادنا سهلت إقصاء الحركة الوطنية من المناصب الحساسة في الإدارة المغربية و مواقع القرار منذ البداية و هذا ما كان محسوبا له حتى في مفاوضات ايكس ليبان المتعلقة بالاستقلال، و هذا علاوة على أن القواد الذين تحالفوا مع المستعمر بالأمس القريب ، ظلوا يشكلون ركيزة سياسة استطاعت مراقبة البادية المغربية وإقصاءها من الدائرة السياسية و من الصراع الاجتماعي و ذلك عن وعي اعتبارا للقوة التي تشكلها.

و قد عملت الإيديولوجيا السائدة على إقحام الليبرالية في خطابها، لا سيما على المستوى الاقتصادي مع مراعاة درجة كبيرة من التحفظية على المستوى السياسي و الاجتماعي. وهكذا كانت تستند على الإسلام و الليبرالية المتوحشة . فبعد الدفاع عن تدخل الدولة تم تحويل الاتجاه ب 180 درجة لتبني الليبرالية المتوحشة دون أي اجراءات إعدادية. فغالبا ما كانت الإيديولوجية السائدة تعتمد على الظرفية و الديماغوجية و بناء الخطاب على مجموعة من الأفكار و الشعارات البراقة، والاعتماد على منهجية تقنوقراطية، وهي منهجية تعتبر أنه من الممكن حل المشاكل باللجوء إلى أخصائيين دون إشراك و مشاركة المواطنين سواء مباشرة أو بصفة غير مباشرة و هذا ما ظل سائدا حتى في أوج قوة المعارضة.
ومنذ فجر التسعينات تقوى الخطاب المرتكز على الليبرالية و الانفتاح ومفهوم المتوسطية و التعاون الأرومتوسطي و الحوار العربي الأوروبي كذلك الرغبة في الانفتاح على الولايات المتحدة الأمريكية.
و هكذا ظل المخزن مؤسسة فاعلة في المجتمع المغربي، لها آلياتها و منهجيتها و عقليتها و أساليبها، و كان دائما و زير الداخلية الحجر الزاوية للعقلية المخزنية يسهر غلى اشتغال مختلف الآليات في اتجاه واحد لا ثاني له و هو ما يريد المخرن مهما كان الأمر الشيء الذي شجع في تزوير الواقع و فبركة المعطيات خلافا لما كان عليه الواقع. فالمخزن كان – وربما لا زال – رديف الهيبة – و الاستبداد و القمع و تمييع الحياة السياسية. و هذه العقلية تعتبر كل نقد للواقع و المطالبة بتغييره قضية أو إشكالية تمس بهيبة الدولة، و هذا منطقي، ما دامت العقلية المخزنية ظلت تستمد قوتها بالأساس من القمع و الخوف و التهريب. و كانت توكل هذه المهمةللأجهزة الأمنية.و من هنا يبدو و بجلاء أن ما يميز دولة المخزن عن دولة المؤسسات هو أن هذه الأخيرة تكتسب هبتها من مشروعيتها و من الثقة القائمة بين الحاكمين و المحكومين. فكيف يعقل، في إطار دولة المؤسسات، استغلال طاقات رجال السلطة في الإخبار و الاستخبار و التجسس على عباد الله و العمل على تكريس هيبة مصطنعة للمخزن ممارسة و تعاملا. وليس هذا بالغريب، فقد استطاع المخزن في الفترات السابقة خلخلة المجتمع و مكوناته بفعل القمع الممنهج لبلوغ هدف التحكم في الأمن السياسي.

فلما أصبح جهاز الدولة المخزني معبرا و حاميا لمصالح التحالف الطبقي السائد شكل عرقلة في وجه مسار تطورات مرحلة – ما بعد الاستعمار الجديد-. هكذا عملت المؤسسات الإمبريالية،و من ضمنها البنك الدولي على فرض بعض التغيرات لمحاولة لجم النضالات الجماهيرية و إعادة إرساء جو الاستقرار لضمان مصالحها و ليس لحسن عيون أوسع فئات الشعب المغربي، إلا أن هذه التغيرات لم تمس و لو قيد أنملة من الطابع المخزني للدولة، لذا اعتبر البعض أن المخزن لا زال يعتبر من العناصر المعرقلة لإرساء أسس بناء ديمقراطية حقة و الإقرار الفعلي بدولة المؤسسات و الحق و القانون. فالمخزن عقلية و نهج قبل كل أي آخر…إنه عقلية و نهج لمنظومة كانت تدبر الشأن السياسي للبلاد عبر التفرقة و تأجيج التعارضات بين مختلف القوى السياسية في ظل غياب قواعد واضحة و شفافة لتنظيم اللعبة السياسية و التناوب على السلطة. و الآن أضحى الوعي حاضرا بضرورة تغيير هذا النهج عبر تمكين المؤسسات الدستورية من القيام بالدور الموكل لها كاملا في ظل السيادة التحكمية للمؤسسة الملكية. و على الحكومة أن تقوم بمهامها كاملة غير منقوصة و البرلمان أن يشرع و الجماعات أن تضطلع بمسؤولياتها كاملة غيرمنقوضة و أن يكون القضاء نزيها مستقلا.

لقد كان يقال إياك من ثلاثة : النار و البحر و المخزن، إنها نصيحة يعطيها الآباء للأبناء، لكن الأمر كان لابد أن يتغير مع إقرار مبدأ دولة الحق و القانون، و هو مبدأ يجعل كل المغاربة سواسية أمام القانون ،و المخزن و رجاله ليس فوق القانون و إنما تحت و طأته، لذا أصبح من المفروض تكريس روح المواطنة التي لن تستقيم باستمرار و جود الحذر كلما تعلق الأمر بالتعامل مع المخزن و رموزه.
و نافلة القول أن هناك من يطالبون بإصلاح حقيقي، و هناك من يريدون ترك دار لقمان على حالها بعد إدخال بعض الروتشات. و الذين يطالبون بإصلاح حقيقي يريدون للبلاد أن تنتقل من نظام الريع و الامتيازات و المحسوبية و الزبونية و تمركز الخيرات بين أيدي كمشة من سكانها، إلى نظام عادل في توزيع الثروات محترم لحقوق الإنسان و مؤسسا لدولة الحق و القانون و دولة المواطنة. و هذا الانتقال له طريق واحد لا ثاني له ،و هو الذي يمر عبر إصلاحيات سياسية و دستورية حقيقية.
و هؤلاء يدفعون في اتجاه إقرار نظام ملكي برلماني ديمقراطي.

القسم 2 من 3 أقسام

مشاركة منتدى

  • لا يجب القفز على الحقائق,ولإن من يتجاهل التاريخ يجازف بتكراره...الحسن الثاني لم يكن أكثر من دكتاتور صغير حكم بأحادية وبالحديد والنار والمقابر الجماعية والمعتقلات السرية والإختطافات والقتل كان أبرز ميزات حكمه...ويحسب له نجاحه بجعل المغرب يتبوأ موقعا مرموقا بين الدول المتخلفة والفقيرة في حين استطاعت زعامات ودول عديدة كما فعل مهاتير محمد في ماليزيا حين أقلع بالبلاد من لاشئ سياسيا وديمقراطيا ليؤسس لديمقراطية حقيقية تمثلث بتنحيه وليس موتة أما واقع ماليزيا الإقتصادي كأحد الدول الغنية المتقدمة فخير دليل على النجاح...نحب المغرب ونكره الطواغيت والاستبداد وأنظمة الحكم العتيقة التي تبرر بقاءهم جاثمين على صدورنا...

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى