من ذاك الزمان الغابر
حدثني عيسى بن هشام قال:
في زمن غابر من الأزمان المتوالية، وفي لحظة تاريخية جد بائسة من العسف والقتل وانتهاك الحرمات.. افتقد أحمد حاسة النظر.وراح يتلمس دربه المقفر، فانزلقت قدماه المترددتين، وإذا به يدخل دهليزاً طويلاً له أول وليس له آخر. وعبر برهة من الزمن وجد نفسه وقد عاد النظر إليه بقدرة قادر، ليعيش بنعمة النظر فترة ليست طويلة.
يمم وجهه نحو مجموعة من البشر يتجمهرون ويتجمعون حول العديد من الجثث، التي علاها بعض الاصفرار في الوجه، وحول أفواهها بقايا زبد، كان قد صعد من فيها قبل قليل.. وقف ينظر كيف راح الناس يسارعون إلى دفن هذه الجثث، وعيونهم مشرئبة إلى السماء.. لم تمض برهة من الزمن، على هذا الدفن، حتى جاء طبيب شاب وهو يصرخ فيهم أن أعيدوا نبش القبور، فالمادة الكيماوية التي كانت سبباً فيما آلت إليه أحوال هؤلاء الناس، قد لا تكون قاتله، وهي تجعل الإنسان يبدو وكأنه ميت، إلا أنه ليس كذلك. وراح الناس يسرعون في نبش القبور، وقد هالهم ما رأوه من آثار موت تحت التراب. أو لعله قبل هنيهة من هذه اللحظة.... في الضفة الأخرى من النفق كان يرى أطفالاً ونساء يأكلون علف البقر، لعدم توفر أي طعام لديهم ، ويتقاسمون العلف حتى لا تموت الأبقار، بينما كتب على باب مدرسة في الحي، "ممنوع إرسال أي ( سندويتش) مع الأطفال للمدرسة" حرصاً على مشاعر الأطفال من حدث قد يحدث، لطفل استطاع أبواه إيصال بقايا أكل من بلدة مجاورة.. لم تحاصر بعد .. استمر صاحبنا بالمسير وإذ بقرية يأكل أهلها الملفوف، ويلفون فيه أي نوع من الأكل بدل الخبز، حتى ظن أنه شعب لم تصل إليه نعمة (الخبز) أو ( القمح).
في لحظة نهارية مشمسة هرب الناس من الطرقات إلى أقبية البيوت.. وراح صوت الرعد يعم المكان. ثم انهمر صوت مخيف.. قالوا له انه صوت ( برميل غسيل) يتناثر شرقاً وغرباً وهو صناعة وطنية بامتياز.. الناس يركضون بعد ذلك، محاولين إنقاذ ما يمكن إنقاذه.. وإذ بغرفة تحت الأرض امتلأت ببشر من كل الأعمار، من بترت ساقه ومن فقد عينه ومن بقر بطنه ، ومن و من.. لفت نظر صاحبنا أن طبيباً شاباً قيل أنه مازال يتمرن، صاح باثنين ليساعداه في الإمساك بامرأة تحتاج إلى عمل جراحي ، لكن الذي دعاه لمنادات من يساعده، أنه لا يوجد لديه أي نوع من أنواع التخدير..مما اضطره إلى إجراء العمل الجراحي، وصراخ المرأة يعم المكان.. فالعملية حرجة وصعبة، وهو يقوم بانجازها دون أي تخدير.
تابع عيسى بن هشام ليقول:
في ذاك الزمان الفائت، والمفوت، يحصل كل ذلك، بل ما هو أدهى وأمر من ذلك، ليموت الأطفال والشيوخ من جوع أو كدر نفسي، أو خوف من مستقبل ليس مشرقاً، أو لعله.. ثم غادرنا ابن هشام هذا، بعد أن أعطانا وعداً أن يعود إلينا في آن آخر.. و لحظة زمنية أخرى.