مياه سحرية
في غابر الأزمان وفي قرية من القرى النائية، كان يعيش صياد فقير، وهو شاب في العشرين من عمره رفقة أخته الصغيرة. كل ما كان يملكه كوخ صغير ورثه عن أبويه المتوفيين منذ أمد بعيد. قوته اليومي سمكات يصطادها من البحر الذي يبعد عن كوخه مقدار ساعة من المشي السريع. كان يأخذ شبكته في كيس صغير من الخيش تاركا أخته الصغيرة تنتظره حتى يعود. كان الكوخ على مبعدة ميلين من القرية.لا يزوره أحد ولا يزور أحدا، إذ كل ما كان يربطه بهذه الدنيا أبوان سرعان ما غادرا هذه الحياة تاركين إياه رفقة أخته الصغيرة.
كان صديقنا الصياد الشاب يخترق غابة كثيفة الأشجار قبل أن يصل إلى شاطئ البحر، حيث يلقي شبكته منتظرا ما يجود به البحر من سمكات قليلات، وهو يخترق تلك الغابة كان يمر بشيخ عجوز يسكن كوخا بسيطا يتواجد في طريقه، في الصباح تعود أن يسلم عليه، فإذا عاد من صيده أعطاه سمكة من السمكات التي كان يصطادها، ومع توالي الأيام بدأت الشبكة تتمزق بفعل الصخور الحادة. كان يرقعها ويصلح منها ما انقطع، إلى أن أصبحت خيوطا رثة ولم يعد فيها ما يمكن إصلاحه، حتى أنها بدأت تسمح للسمكات بالانفلات منها، وشيئا فشيئا بدأ صاحبنا يعاني شح ما تمسك به هذه الشبكة ؛ ثلاث سمكات، سمكتان، سمكة واحدة، فكان يحتار فيما يمكنه أن يقدم للشيخ العجوز. وفي أحد الأيام علقت شبكته في إحدى الصخور الحادة، بحيث لم يتمكن من معالجتها إطلاقا. أصابه الذعر، خاصة أنها وسيلته الوحيدة لصيد السمك، فهو لا يملك ما يشتري به شبكة أخرى، ولا يملك حقلا أو حتى نقودا يمكنه أن يشتري بها شيئا. لم يشأ أن يعود منذ الصباح إلى منزله، ما الذي يمكنه أن يقول لأخته الصغيرة؟ قضى نصف النهار جالسا على الصخور يفكر في محنته دون أن يجد حلا. مضى الوقت ثقيلا حزينا. وفي الأخير قرر أن يعود إلى المنزل ويقترح على أخته الرحيل إلى منطقة أخرى لعل الرزق يتسع، وأرض الله واسعة.
وهو عائد في طريقه إلى البيت، مشى مطأطأ الرأس، يجر أذيال خيبته الطويلة العريضة.
فجأة سمع صوتا يناديه، لقد نسي أنه مر أمام كوخ صديقه العجوز ودون أن يلاحظ ذلك، طلب منه صاحبه أن يتفضل عنده. كان الخجل يملأ نفسه عن آخرها، كان الأمر فوق قدرته وطاقته. حاول الشاب النبيل أن يوضح الأمر، لكن العجوز طمأنه إلى أن الأمر لا يستدعي كل هذا الحزن. ثم قام من مكانه وأخرج جرة مليئة بسائل قائلا له : هذه يا ولدي مياه سحرية، كنت قد ورثتها عن أجدادي منذ زمن بعيد، اسمعني جيدا ولن تتعس أبدا، نظر الشاب إلى العجوز باستغراب وعلامات الدهشة تملأ وجهه. عجز لسانه عن الكلام.استرسل العجوز في حديثه قائلا : اسمع يا بني، إنك طالما قدمت لي المساعدة وأعنتني على نوائب الدهر، لحظتها أردف الشاب قائلا : لا شكر على واجب يا صديقي، فأنا لم أفعل غير الواجب، أراد أن يوضح رأيه إلا أن العجوز أشار عليه بأن يسكت معلقا : أرجوك لا تكمل واستمع جيدا لما أقول : ستأخذ هذا الماء السحري إلى منزلك وحاول أن تفرغ منه كمية قليلة في زجاجة صغيرة وأحكم إغلاقها، حتى إذا أردت الصيد، وبعد أن تستوي جالسا على الصخور، خذ شيئا حادا واغمسه في الزجاجة ثم أخرجه وأفرغ قطرة واحدة في ماء البحر بجانب الصخور، فإذا مازج ماء البحر، هرعت إليه الأسماك محاولة أن تستطعمه فإذا شربت منه أصابها ما يشبه الإغماء، آنئذ تستطيع أن تتقدم وتمسك بها سريعا وتخرجها من الماء قبل أن تستفيق وتهرب، واعلم يا ولدي أن هذا الماء شديد التأثير، لذا حاول ألا تتجاوز قطرة أو قطرتين، والله سبحانه وتعالى يبارك مسعاك وينجح أمرك، هيا انصرف الآن إلى أختك حتى لا تقلق عليك.
عاد الصياد الشاب إلى بيته حيث أخته الصغيرة في انتظاره، استغربت أخته أن ترى يديه فارغتين إلا من جرة ماء. لم يكن يحمل معه لا سمكا ولا شبكة وإن كان بينه وبين نفسه يحمل آمالا عريضة عرض السماوات والأرض. كان يشرح الأمر لأخته ذات العشرة أعوام دون أن تفهم من كلامه شيئا.
في صباح اليوم التالي، كان كل شيء مهيئا، والحقيقة أنه ليس هناك ما يمكن ترتيبه، لا شبكة ولا طعام، كل ما كان يحمله بين أصابعه زجاجة صغيرة الحجم ولا شيء بعد. اخترق الغابة وكله أمل في يوم سعيد ورزق وفير ولم لا غد مشرق. سلم على العجوز كما تعود أن يفعل منذ شهور، كان على موعد مع الصخور، اختار مكانا يستطيع أن يقف فيه دون أن يغرق، فتح الزجاجة ويداه ترتعشان، أخذ عودا لينا، أفرغ قطرة واحدة في مياه البحر، ناله كثير من السرور، لقد كان عمله متقنا، فلم لا يشعر بالرضا والسمك بدأ يقترب بأعداد كبيرة، فتح كيسه وبدأ يجمع السمك الذي استسلم بين يديه، ملأ الكيس عن آخره وترك الباقي في الماء. وأثناء عودته أعطى العجوز كمية كبيرة من السمك، كمية تفوق حاجياته وتفيض عنها. توالت الأيام إلى أن فكر صاحبنا في بيع ما زاد عن حاجته لأهل القرية.
في اليوم الأول اضطر إلى الذهاب إلى هناك إلا أنه في الأيام الموالية بدأ التجار يأتون إلى بيته ينتظرون عودته ويشترون منه كل ما اصطاد ويدفعون له مبالغ جعلته يشتري أشياء كثيرة لبيته، بدأ الطمع يتسرب إلى قلبه، لذا قرر أن يذهب إلى البحر مرات عدة وبالتالي سيتمكن من بيع السمك للقرى المجاورة، في اليوم التالي جرب أن يأخذ معه أخته حتى تعينه على حمل المزيد منه، تنامت ثروته بشكل كبير وسريع الشيء الذي جعله يفكر في الزواج. لقد شاهد ابنة أحد تجار القرية في آخر مرة ذهب فيها إلى هناك، وقرر في نفسه أنه آن الأوان ليكمل نصف دينه، خاصة وأنه أصبح يملك من المال ما يجعله مؤهلا للإنفاق على أسرة كاملة، لم تبد أخته أي تعليق بخصوص الموضوع، لم يتبق أماه سوى استشارة صديقه العجوز، بعد انتظار طويل عبر العجوز عن شكه في جدوى هذا الزواج. لم يستسغ الشاب هذا الموقف معتقدا أن العجوز إنما فعل ذلك حتى لا يتزوج الصياد ويبقى إلى جانبه وبالتالي يأتيه بالسمكات، حاول صاحبنا أن يؤكد أن زواجه لا علاقة له بالصداقة بينهما ولا بالتقدير الذي يكنه للعجوز، هو لم يكن يدرك أن المسألة أعمق من ذلك لذا لم يحاول العجوز شرح التفاصيل، فكل ما أكد عليه هو أنه إن كان ولا بد من الزواج فليختر واحدة من مستواه ولا يعلق نفسه في حبال الوهم،
قال له : يا بني إن أردت رأيي فاصرف النظر عن هذا الزواج في الوقت الحالي وأنت ما زلت صغيرا وأختك تحتاج منك إلى مزيد من العطف والرعاية. أما صاحبنا فكان عنيدا وما كان في مقدور أحد أن يثنيه عما قرر، خاصة وأنه تعود على تحمل المسؤولية منذ زمن طويل، لقد أصبح في نظر نفسه رجلا، تقدم إلى الفتاة خاطبا إياها من والدها وتم كل شيء كما رسمه وخططه، استمر الأمر في البداية بشكل حسن إلا أنه مع توالي الأيام بدأت أطماع زوجته في النمو خاصة بعد أن أعلمها عن الكنز الذي أصبح يمتلكه، حاول أن يلجم هذا الطموح الزائد دون جدوى، وحتى يستجيب لطلبات زوجته التي لا تنتهي اشترى عربة بدأ يملأها بكميات أكبر من الأسماك التي تهافت عليها التجار من كل جهة، وذات يوم ألحت عليه زوجته بأن يبيع الكوخ ويشتري لنفسه قصرا جميلا، فهو لم يعد فقيرا وقد آن له أن يغير جلده كما أكدت زوجته أكثر من مرة. بدأت زوجته تلح عليه في أن يأخذ الجرة كلها إلى البحر ويفرغ كل مائها دفعة واحدة، وبكل المال الذي سيجنيه سيشتري متاجر كثيرة في القرية، وقد يكون شريكا لأبيها في تجارته الرابحة، هذه من جهة ومن جهة أخرى سيتوقف عن الذهاب إلى البحر كبحار بسيط. قرر لأخر مرة أن يستشير صديقه العجوز، وقد انقطع عن زيارته منذ أمد بعيد، تغير العجوز كثيرا، أكد العجوز لصديقه الشاب كآخر طلب له قبل أن يموت هو ألا يفرط في كوخه، واقترح عليه أن يشتري شبكة صيد جديدة ويخزنها فيه بعيدا عن عين الزوجة. نفذ الصياد وصية العجوز رغم الدهشة التي تملكته.
في أحد الأيام ضعف الشاب أما إصرار زوجته فأخذ الجرة إلى البحر، وقد بدا أنه اقتنع برأيها في أن عليه أن يتوقف عن أن يصبح صيادا ليتحول على مهنة التجارة.
على الصخور رغبت زوجته في أن يفرغ الجرة كلها بينما هو أراد أن يفرغ كمية كبيرة، ويترك كمية منه للمستقبل. جذبت الزوجة الجرة من يده ولم يكن قد أحكم شدها، فانزلقت وسقطت على الصخور، تكسرت وسال الماء السحري عن آخره على الصخور، بعد لحظات لم يخرج من الشقوق غير سرطانات صغيرة. لقد ضاع كل شيء، بدأت عائشة تصرخ مؤكدة أنه رجل منحوس. لم يكن الصياد المسكين قد ادخر شيئا، لذا لم يجد ما ينفقه على أسرته، الأمر الذي دفع بزوجته إلى أن تغادره إلى بيت أبيها. ألح عليها باسم الحب الذي بينهما، إلا أنها أكدت له أن ما كانت تحبه إنما هو أمواله. طردته من بيت أبيها هو وأخته. كانت سعيدة لأنها استولت على كل ما كان اشتراه لها من الحلي والمجوهرات والملابس بل وما قدمه لأبيها من نقود بحجة أن عليه ديونا لبعض التجار. كانت عائشة تظن أن زوجها المغلوب على أمره سيعيش مشردا هو وأخته. إن الحسنة الوحيدة التي ربما أنجزها في حياته هي أنه نفذ وصية العجوز فلم يفرط في الكوخ بل إنه اشترى الشبكة التي أوصاه العجوز باقتنائها. ولولا أنه أوهم زوجته بأنه باع الكوخ وأحضر لها مبلغا من المال مدعيا بأنه ثمن الكوخ لبقي الآن في العراء بعد فترة من الرخاء لم تدم طويلا، اضطر الصياد الشاب بعدها للعودة إلى كوخه القديم وشبكته الجديدة حامدا الله تعالى على أن نجاه من هذه السقطة التي كادت تقصم ظهره، ومترحما على العجوز الذي لم يدرك معنى نصائحه إلا الآن.