الجمعة ١١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٠
بقلم صلاح السروي

هوية مصر، بين التغير، والثبات

تحتل قضية الهوية موقعا أثيرا فى كتابات المفكرين، وعلماء الاجتماع فى الفترات الأخيرة، وبخاصة منذ بداية التسعينيات مع ظهور ثورة الاتصالات أو ماسمى بالثورة العلمية، والتكنولوجية الثالثة، حيث تم الهجوم من قبل بعض الباحثين على مفهوم (الهوية) باعتباره مفهوما انعزاليا (قاتلا) كما قال أمين معلوف فى كتابه «الهويات القاتلة». أو أن الهوية محض وهم كما قال جان فرانسوا بيار فى كتابه «أوهام الهوية». وذلك ترتيبا على معطيات واقع العولمة التى تقتضى انزياح الحدود وانهيار السدود أمام حركة رؤس الأموال والأفكار معا. كما أن التقنيات الحديثة فى مجال الاتصالات تتيح فكرة تقارب العالم وتحوله إلى قرية صغيرة.

بيد أن قضية الهوية تزداد أهميتها بالنسبة لنا نحن أبناء «الطرف الرأسمالي» وليس المركز – نحن أبناء "العالم الثالث" صاحب الحضارات القديمة، والمرتكزات الثقافية العريقة. فان الاستسلام لهذه الدعوات يعنى التسليم بفكرة «التنميط الحضاري» (بحسب سيرج لاتوش فى كتاب "تغريب العالم") وإننا اذ نعترف بأن العولمة قد حققت فعليا نوعا من التقارب، والتداخل بين الهويات والثقافات المختلفة عبر ثورة الاتصالات الجارفة والتى جعلت من العالم قرية كونية صغيرة على نحو من الأنحاء إلا أنه من غير الممكن التسليم بإمكانية انهيار الهويات لصالح هوية واحدة كونية نظرا إلى أن مفهوم الهوية لايتشكل ول ايتحور حسب الاحتكاك أو الانغلاق فقط، ولكنه يمثل أيضا الرابط الثقافي الاجتماعي للجماعة البشرية المحددة، وبخاصة عندما يتهددها خطر الاجتياح والاقتلاع. وهو ما ينطبق على معظم الثقافات التقليدية وثقافات دول الجنوب. وأيضا عندما تصبح مصادرة الهويات ودمجها نوعا من إعداد المسرح لهيمنة هوية أخرى تدعى لنفسها العالمية والكونية تقوم بالتمهيد لهيمنة قوى اقتصادية وسياسية عظمى تحاول السيطرة على مقدرات العالم، وبخاصة شعوبه الفقيرة والمستضعفة وأقصد بها قوى الرأسمالية الغربية ذات النزوع الامبريالي. وذلك عن طريق تحقيق الهيمنة الثقافية والإعلامية. وهو الأمر الذى يجعل من الشأن الثقافي والأدبي متجاوزا للوظيفة الفكرية - الجمالية المجردة ليصبح شأنا سياسيا بامتياز.

ولعل هذا ما يجعلنا قادرين على تفسير ظهور مدرسة مهمة فى مجال النقد الأدبى والثقافى تحاول تفنيد أساليب الهيمنة الثقافية والتدجين الأدبى تسمى "نظرية ما بعد الاستعمار" post colonialism theory حيث يحاول مفكر كبير مثل تيرى ايجلتون كشف زيف الممارسة الاعلامية والثقافية البرجوازية الغربية, التى تستهدف تسطيح مفهوم الثقافة وسجنه داخل أطر منعزلة غير متداخلة ولا مرتبطة على اى نحو نسقى أو مفاهيمى عام فى كتابه "فكرة الثقافة". وكذلك المفكر الأمريكى - الفلسطينى ادوارد سعيد الذى يقوم بتعرية وكشف أساليب الهيمنة الثقافية الاستعمارية فى كتابه "الثقافة والامبريالية", وكذلك المفكر الهندى هومى بابا الذى يبحث عن جدوى الفعل الثقافى فى مواجهة أشكال محاولات التنميط والالحاق الثقافيين الناتجين عن موجة العولمة التى تقودها وتستثمرها القوى ذات المصالح الامبريالية فى كتابه "موقع الثقافة", وهو الصنيع ذاته الذى تقوم به آنيا لومبا فى كتابها "نظرية الاستعمار ومابعد الاستعمار الأدبية".. الخ.
وهو كذلك مايحعلنا قادرين على تفسير ظهور عدد من الكتب المهمة التى تناقش الهوية الثقافية للمجتمع المصرى مثل الكتاب الموسوعى : "شخصية مصر" لجمال حمدان, وكذلك كتاب "الأعمدة السبعة للشخصية المصرية" لميلاد حنا.

لقد نشأت المشاعر الوطنية والوعى بالذات الثقافية والحضارية لدى الشعب المصري فى وقت باكر للغاية, قياسا بباقى شعوب المنطقة. حيث يرجع فوزى جرجس فى كتابه "دراسات فى تاريخ مصر السياسى منذ العصر المملوكى" ظهور الشعور الوطنى لدى المصريين الى الحملة الفرنسية التى جاءت الى مصر عام 1798 فى وقت كانت مصر فيه تحت الحكم العثمانى. حيث انسحبت القوات العثمانية ولم تدافع عن مصر, كما هرب أمراء المماليك (وقد كانوا حكاما بالوكالة) الى الشام والصعيد. ولم يقف فى وجه الغزاة الفرنسيين الا الشعب المصرى الأعزل الذى اكتشف ذاته فى غمرة ثوراته وتضحياته الجسيمة فى مواجهته غير المتكافئة مع عدو ينتمى الى العصر الحديث بينما لايزال (الشعب المصرى)يرفل فى ظلام وتعاسة أوضاع العصور الوسطى. لقد اكتشف, عبر نضاله المستميت, أنه هو وحده صاحب هذا البلد, وأنه لا ينتمى الى أى كيان آخر غيره, وقد دفع ثمن هذا الانتماء من دمه وماله. ومن ثم, فهو صاحب الحق الأوحد فى السيادة عليه, واليه وحده ترجع الاحقية فى اختيار حكامه. فرفض تولية الوالى الذى أرسلته الآستانة (خورشيد باشا) واختار هو بنفسه, ربما لأول مرة فى تاريخه, حاكمه, وكان محمد على باشا.
ومنذ هذا التاريخ ومصر كانت على الدوام : اما دولة مستقلة او شبه مستقلة حتى اليوم, على تعاقب الفترات التاريخية.
لقد نشأت تلك المشاعر "الوطنية" حسب القاعدة التى قدمها ادوارد سعيد فى كتابه سالف الذكر, والتى تقول : "لا يمكننا أن نعرف من نحن الا اذا عرفنا من ليس نحن" (الثقافة والامبريالية)
وقد كان الفضل الأكبر فى هذا الاحساس الوطنى الباكر لدى المصريين انما يرجع الى وجود نوع من التطور الطبقى شبه البرجوازى المتمثل فى طوائف الحرفيين والتجار التى تمتعت بنوع من التنظيم الداخلى المتين مما جعلها قادرة على الوعى بمصالحها وعلى التحرك الجماعى, بمقتضى هذا الوعى. فهى التى قادت المظاهرات ونظمت فعاليات ثورتي القاهرة : الأولى والثانية, فى الأحياء والميادين, حتى عد شيوخ الطوائف الحرفية الزعماء الحقيقيين للشعب المصرى. مع بعض المساندة الروحية لشيوخ الأزهر.
ومن هنا تعد عوامل نشأة المشاعر الوطنية فى مصر مشابهة, الى حد ما, لنشأة "مفهوم الدولة القومية", وهو المفهوم البرجوازى الأوربى السابق قليلا فى العهد.

ولقد حاول بعض كتاب الرواية فى "المرحلة الرومانسية" اعتبار المشاعر الوطنية المصرية قديمة قدم الدولة المصرية ذاتها , أى منذ العهد الفرعونى القديم, والحقيقة أن هذا الزعم يمكن الرد عليه بأن الشعوب فى هذه الأزمنة السحيقة ذات الطبيعة "الامبراطورية" القائمة على تأليه الملوك والحكام والقائمة على أنواع من مفاهيم "الحق الالهى" وان "الحاكم ظل الله على الأرض" .. الخ, لم تتمتع بأى وعى وطنى محدد لأن الشعوب فيه كانت تعد نفسها رعايا للملك قبل ان يكونوا مواطنين منتمين لأرض بعينها, كما أن الملوك لم يعتبروا أنفسهم حكاما لأرض بعينها بقدر ما كانوا حكاما لكل الأراضى التى يستطيعون السيطرة عليها, وكما قال أحد الأباطرة الرومان "ان حدود مملكتى تقع عند آخر نقطة تصل اليها سنابك خيلى". وذلك مع خصوصية استثنائية لمصر التى كانت تمثل نوعا من القداسة لدى سكانها الذين لم يعرفوا أرضا تعادل غناها ولا رغدها.
كما حاول بعض الباحثين (مثل جمال حمدان) تفسير مظاهر التجانس لدى الشخصية المصرية بعزوها الى التجانس الطبيعى (الجيولوجى) والمناخى للاقليم المصرى, متحدثا عن أن مصر هبة المكان (العبقرى), حيث أن المكان, بما يحتويه من مكونات بيئية (نهرية وزراعية ومناخية معينة) هو العنصر الفاعل فى تكوين الشخصية المصرية وما يتبعها من انماط حكم وادارة وأمن .. الخ. والحقيقة ان هذه النظرية (هى على التحديد) تعد احدى تجليات "النظرية الوضعية Positivism" فى تفسير التاريخ والتى نجدها متمثلة عند واحد من أبرز باحثيها هو كارل فدفوجل صاحب "نظرية الطغيان" despotism theory والتى اشتق منها ما يسمى ب"الاستبداد الشرقى" oriental despotism . و"وضعية" هذه النظرية تقوم على أساس اعتبار "البيئة" بما فيها الطبيعة الجيولوجية والموقع الجغرافي والمناخ والنهر .. الخ, هى التى تحدد طبيعة السكان وأنماط الحكم .. الخ . من هنا تتغاير طبيعة الحضارات النهرية التى تقتضى حكما مركزيا استبداديا يقيم دولة على كامل اقليم النهر, تتغاير, عن الدول القائمة على الزراعة المطرية التى لا تحتاج الى اقليم بل يمكن أن تقوم الدولة فى مدينة واحدة (الدولة المدينة) ذات الحكم (الديمقراطى) مثل اثينا وكورنثة واسبرطة .. الخ.
ان خطورة هذه النظرية انما تكمن فى أنها تحكم (بتشديد وكسرالكاف) الثابت (المكان) فى المتغير (المجتمع), ومن ثم فهى تجعل السمات الشخصية, وأنظمة الحكم السياسية السائدة لدى شعب بعينه, سمات أبدية لا تتغير عبر الزمن. كما أنه يجعل من أنماط الحكم واساليب الممارسة السياسية قدرا "تاريخيا" تفرضه "الجغرافيا", ولا فكاك منه مهما حاولت الشعوب.
والحقيقة أن السمات الشخصية للشعوب تقوم, جزئيا, على اساس ومعطيات الواقع البيئى, ولكنها تتطور على ضوء مستوى تطور أساليب الانتاج وعلاقاته. فالمرحلة "العبودية" من تطور عملية الانتاج لم تستثن شعبا من الشعوب خلال حقبة معينة من سيطرة المستوى البدائى لوسائل الانتاج _الا فى القليل النادر). وكذلك المراحل اللاحقة من اقطاع ورأسمالية , بكل مستتبعات تلك المراحل من انماط حكم ومفاهيم للدولة والشعب .. الخ.
من هنا نستطيع أن نقول ان "الجغرافيا" لايمكنها أن تحكم "التاريخ", وان أثرت فيه على نحو معين بكل تأكيد. كما أن "المكان" لايمكنه أن يوقف عجلة "الزمان", وان أثر فى سرعته, بلا مراء.
وعليه فان الشخصية المصرية قد تأثرت, بلا شك, بموقعها الجغرافى ونشاطها الزراعى, بيد أن تطورها لم يقف عند هذين العاملين, بدليل تطور هذه الشخصية وتعدد انماطها عبر الأزمان.
ومن هنا, يمكننا القول بأن الهوية الوطنية متحركة ومتعددة عند جميع الشعوب, فلا يمكن تصور وجود شعب بكامله يمثل كتلة صماء مصمتة و يتميز بسمات واحدة عند جميع طبقاته وأقاليمه وفئاته. أو أن هذه السمات خالدة سرمدية عبر الأزمان. ان مثل هذا التصور يوقعنا مباشرة فى التعصب القومى المقيت, المرادف للشوفينية والعنصرية, من حيث أنه يعمم صفات مطلقة على جماعة بشرية بعينها. فضلا عن كون هذه التصورات تقوم على رؤية مثالية تفتقر الى أى نظرة موضوعية علمية لقوانين تطور المجتمعات والشعوب.
ان شخصية مصر الحقيقية انما ترجع, فيما أزعم, فى جزء منها, الى كونها أمة قديمة موحدة منذ فجر التاريخ, وهذا ما يميزها فى الحقيقة عن كثير من الأمم, وربما لايدانيها فى ذلك الا الأمتان الصينية والهندية. وقد تكونت ثقافة مصر وهويتها من حصيلة تراكم الخبرة التاريخية الموغلة فى القدم, والتى حوت من التقلبات والتغيرات والدروس والمعانى والقيم والدلالات ما مثلته الأحداث الجسام التى كونت هذا التاريخ, وهو الأمر الذى يخلق, تبعا لكارل يونج, نوعا من الخبرة النفسية الجماعية (نسبيا بالطبع) أو ما يسميه ب"السيكولوجيا الاجتماعية".
وفى جزء آخر تتشكل الشخصية المصرية تبعا للتحديات الراهنة مع بعض المقاربات الخفيفة التى تربطها بالتحديات السابقة المشابهة, وهو الأمر الذى يمكن أن يكون رأيا عاما شيه موحد تجاه قضايا بعينها مثل تحدى الاستبداد وتحدى الهيمنة الخارجية أو التهديد بانتقاص الاستقلال الوطنى, وتحدى الظلم الاجتماعى.
كما تتشكل الشخصية الشعبية المصرية (وبخاصة فى لحظتنا الراهنة) فى ضوء التشوه الحضارى الذى لم يستطع حسم الكثير من القضايا, ولم يقو على الاجابة عن الكثير من الأسئلة, بل انه يكاد يزاوج بين التناقضات وتتعايش داخله كثير من الأفكار وأضدادها. فهناك (التعاليم الدينية) وهناك (النزعات العلمانية), وهناك موروث (عبادة وتقديس الحكام) وأيضا (النزوع نحو الثورة عليهم), وهناك (كراهية الغرب وعدم نسيان أو غفران جرائمه), وهناك (الاعجاب به), فى الآن نفسه. وهناك الأحياء الفقيرة والعشوائية التى تجاور الكمباوندات ذات القصور والحدائق, بثقافة ووعى وانحياز ومشاعر متغايرة وغير ماجانسة, بالكلية. وهناك (ثقافة غربية) بالكامل أو شبه غربية تسيطر على فصيل من النخبة المنتمية الى عالم الحداثة وما بعد الحداثة, تتجاور مع (ثقافة تقليدية) شبه سلفية ان لم تكن سلفية بالكامل.
بما يعنى أننا, فى الحصيلة, لا بد أن نعترف بأننا نعيش فى مرحلة مأزومة, من الناحية الحضارية. وهى مرحلة عاصفة, مليئة بالأسئلة الكبرى, وحبلى بكل أنواع الاجابات المحتملة, وغير المحتملة.
ولابد لنا أن نقر بأن الأعمدة السبع الكبرى التى تحدث عنها ميلاد حنا والمتشكلة من "رقائق التاريخ" المتعاقبة, (من فرعونية ويونانية رومانية وقبطية وعربية اسلامية وافريقية .. الخ) ليست كافية لفهم "الشخصية المصرية" اذا ادعينا أن هناك "شخصية" واحدة تنتظم كل (أو حتى معظم) المصريين.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى