الاثنين ٢٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٨
الانزياح الشعري
بقلم عصام شرتح

ومكونات اللغة في قصائد وهيب عجمي

يعد الانزياح من المصطلحات المهمة التي ظهرت في النقد الأوروبي الحديث،ولعل أول من طرح هذا المصطلح (جان كوهن)، إذ يقول:" الشعر انزياح عن معيار هو قانون اللغة، فكل صورة تخرق قاعدة من قواعد اللغة، أو مبدأً من مبادئها إلا أن هذا الانزياح لايكون شعرياً إلا إذا كان محكوماً بقانون يجعله مختلفاً عن غير المعقول"(1).

والملاحظ أن النقد العربي الحديث أخذ هذا المصطلح، وقام بتطبيقه على النصوص العربية، بمصطلحات ومفاهيم مقاربة منها( الانحراف الدلالي) أو التشويش الدلالي، ومنها العدول، وغيرها من المصطلحات، لكن على اختلافها تعود إلى جذر واحد،إلى فكرة واحدة، وهي أن الانحراف يعتبر خرقاً منظماُ لشفرة اللغة، إذ إن الشعر لا يدمر اللغة العادية إلا لكي يعيد بناءها على مستوى أعلى، فعقب فك البنية الذي يقوم به الشكل البلاغي تحدث عملية إعادة بنية أخرى في نظام جديد"(2).

وبهذا التصور يرى الناقد علاء الدين رمضان السيد" أن من أهم المرتكزات الأساسية المحدثة في الخطاب الشعري المعاصر، كسره لنمطية اللغة واستحداثه لغة شعرية جديدة تتمرد على القوالب الجامدة"(3).

وبهذا التصور يمكن القول: إن الانزياح تقنية فنية تثير القارئ إذا أدت دوراً جمالياً في النسق الشعري،وهي تلاعب فني جمالي باللغة، لأن اللغة الشعرية – بالأساس- إحساس ووعي مقصود لذاته، إنها تفرض نفسها باعتبارها أداة فوق الرسالة التي تتضمنها وأعلى منها،وتعلن نفسها بشكل سافر، كما أنها تشدد بانتظام على صفاتها اللغوية،ومن ثم فلا تصبح الألفاظ مجرد وسائل لنقل الأفكار،بل أشياء مطلوبة لذواتها وكيانات مادية مستقلة بنفسها، وعلى هذا تتحول الكلمات من دوال إلى مدلولات"(4).

وبهذا المعنى يمكن أن نعد الانزياح لعبة لغوية جمالية يقوم بها الشاعر لخلق اللذة والمتعة الجمالية في قصائده، ومن يطلع على قصائد وهيب عجمي يدرك أن الانزياح خصيصة جمالية من أبرز الخواص التي ارتكزت عليها قصائده على المستوى الجمالي، فالقيمة الجمالية لأي منتج فني تكمن في الشكل اللغوي المفاجئ الذي يكسر رتم السياق الشعري،ولعل من أبرز الأشكال التي أثارتها قصائد وهيب عجمي على مستوى الانزياح الشعري ما يمكن تسميته بالانزياح اللغوي:

الانزياح اللغوي:

الانزياح الفني:

الانزياح التركيبي

الانزياح اللغوي:
ونقصد ب (الانزياح اللغوي) القيمة الجملية للنسق الشعري باحتكاكه بالأنساق الشعرية الأخرى، لدرجة يمكن أن نعد الانزياح اللغوي قلقلة جمالية في النسق ترمي لتحقيق قيمة جمالية تستثير القارئ باللذة والمتعة من جراء تركيب لغوي مفاجئ أو مغاير لصيرورة الأنساق الشعرية الأخرى،ولهذا قال فاليري عبارته الشهيرة:" الشعر لغة داخل اللغة" أي نظام لغوي جديد يتأسس على أنقاض القديم،وبواسطته يتشكل نمط جديد من الدلالة، لأن الشعر ليس موقفاً مسبقاً،إنه الطريق الحتمي الذي ينبغي للشاعر عبوره إذا كان يرغب في جعل اللغة تقول مالا تقوله اللغة أبداً بشكل طبيعي"(5).

وبهذا الوعي يمكن أن نعد الانزياح اللغوي درجة من الفن اللغوي التي لايرقى إليها الاستعمال العادي،ذلك " أن القصيدة الشعرية – هي بالنتيجة- ليست التعبير الأمين عن عالم غير عادي، إنما هي التعبير غير العادي عن عالم عادي. إن القصيدة الشعرية هي كيمياء الفعل التي تحدث عنها (رامبو) تلك الكيمياء التي تجتمع بفضلها داخل الجملة كلمات لاتجتمع من وجهة نظر المعايير الاستعمالية للغة"(6).

والواقع إن الانزياح اللغوي وفق هذا الفهم هو الذي يغري القارئ إلى تحثث مواطن الاستثارة والجمال في بعض الأنساق الشعرية التي ترتفع درجة الإزاحة فيها أعلى المراتب،ولهذا يمكن أن نميز تجربة شعرية عن أخرى بتفاوت درجة الحساسية الجمالية لتشمل الكثير من القيم والرؤى الجمالية، فقارئ قصائد وهيب عجمي يدرك نفسه أمام غابات مكثفة من الانزياحات والانزلاقات اللغوية التي تثيرها قصائده على المستوى الجمالي،أي إن لقصائده رنة جمالية في انزياحها عن النمط السائد في النسق، وكأن القصيدة لعبة تشكيلية يرتادها القارئ بوعي فني وخصوبة مرجعية لايطالها إلا الشاعر المميز في أسلوبه وحسه الجمالي، وللتدليل على فاعلية الانزياح اللغوي نورد قوله:

"بعينيكِ المدائنُ ساهراتٌ
على شرفاتها تصحو الدهورُ
فكم غناكِ طيرُ الحبِّ أنساً
وكم حارتْ بعينيكِ الطيورُ
دعي الحملانَ ترعى عشبَ صدري
حشيشَ الحبِّ ترويهِ الصدورُ
يداكِ على شواطئها ارتحالي
بعينيكِ الزوارقُ والبحورُ"(7).

إن الانزياح اللغوي- في هذه الأبيات الشعرية- حمل بلاغة الأوصاف المجسدة للمحبوبة لتحمل كل الصفات الجمالية، فالشاعر عندما جعل المدائن ساهرات في عيني محبوبته لم يقصد المعنى الحقيقي المباشر،وإنما قصد المعنى المجازي منزاحاً بالدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، وهذا يعني أن لغة الشعر تنبني على لغة المنافرة والانزياح، فالشاعر لم يقصد الدلالة الحرفية، وإنما ابتعد عنها إلى الدلالة المجازية ليحلق بأوصاف الحبيبة إلى قيمة جمالية عظمى، وعندما جعل عيني محبوبته مصب الزوارق والبحور لم يقصد الدلالة الحقيقية وإنما ولد المنافرة بين المعنى الحقيقي الذي لا يتقبله العقل إلى المعنى المجازي الذي يتقبله الشعر ومنطق التخييل الشعري، وهذا يعني أن مصدر الجمالية في قصائد وهيب عجمي يتبدى في مبدأ المنافرة والتحويل بين المعاني لإبراز عمق الانوزياح اللغوي وثرائه الفني بالانتقال من معنى إلى آخر،ومن دلالة إلى أخرى.

فإذا كان الشعر من منظور وهيب عجمي هو تجسيد الشعور بجمالية فنية فإن المتعة في مفاجأة القارئ هي قمة تحقيق الإثارة في النسق الشعري، ولهذا، فهو يختار الأنساق اللغوية ذات الإزاحة البليغة التي تعكس درجة قلقلته للنسق فنياً ليسمو بسياقاته الشعرية بالانزلاق بين الدلالات والمعاني على اتساعها وعمقها، على شاكلة ما نلحظه في قوله:

" سُقِيتُ الكأسَ في راحاتِ شوقٍ
وطعمُ الكأسِ ياشوقي مريرُُ
أبيتُ الليلَ في كفني بعيدً
عن النسماتِ يخنقني الهجيرُ
أداوي غربتي بجنونِ ريحٍ
غليظَ الطبعِ تخشاهُ الوعورُ"(8).

هنا، نلحظ الحركة الجمالية ماثلة في الانزياح اللغوي (راحات شوق)، إذ انتقل الشاعر بمنطق اللغة من معنى اعتيادي إلى معنى مجازي، وخلق نوسة جمالية بهذه الإزاحة لتفتح سيل الدلالات الغزلية لتفيض برؤاها على الأنساق، فشعرية وهيب عجمي ليست فقط في تكامل الأجزاء فحسب،وإنما في فرادة التشكيلات اللغوية الخلاقة، أي إن شعريته تتحقق بتفاعل الأنساق وتآلفها من جهة،وممانعتها النسقية المنزاحة من جهة ثانية، ولهذا، فإن بلاغة الانزياح اللغوي تتحقق بفاعلية الأنساق المتحولة المنزاحة من دلالة إلى أخرى بمنطق مجازي لامنطق علمي نحوي فحسب، ولهذا جاء قول جان كوهن صائباً:" لايتحقق الشعر إلا بقدر تأمل اللغة،وإعادة خلق اللغة مع كل خطوة،وهذا يفترض تكسير الهياكل الثابتة للغة وقواعد النحو وقوانين الخطاب"(9).

ووفق هذا الوعي اللغوي في التشكيل الشعري أدرك وهيب عجمي أن الشعر إزاحة في العلائق والدلائل والبدائل المعجمية للارتقاء بالنسق الشعري إلى آفاق تشكيلية فنية تؤكد عمق الإزاحة وتنامي مرجعياته الجمالية.

الانزياح الفني:

ونقصد ب (الانزياح الفني) الإزاحة التشكيلية التي تجعل من عملية الإزاحة قيمة فنية ذات مرجعية إبداعية عميقة في قلقلة الرؤيا،وتكثيف منتوجها الجمالي، ولهذا فقانون الإزاحة في الشعر يعتمد على فاعلية الإزاحة وشعريتها،وبقدر بلاغة الشاعر في إصابة الدلالات العميقة في إزاحته التشكيلية تأتي التشكيلات الشعرية ذات قيمة عليا في الاستثارة والجمال،وهذا ما نوه إليه جان كوهن في أكثر من موقع قائلاً:" يعتمد قانون اللغة العادية على التجربة الخارجية في حين أن قانون اللغة الشعرية يقوم عكس ذلك على التجربة الباطنية"(10).

ووفق هذا التصور فإن قانون اللغة الشعرية يعتمد على قانون المنطق الشعوري الذي يربط الأنساق وفق فيض المشاعر والأحاسيس المستبطنة عمق الشاعر، وهذا المنطق هو الذي يخوله في ريط الأنساق الشعرية والانزلاق في تشكيلها تبعاً لما تقتضيه مساحة الرؤيا وفضاء التعبير، أي ثمة قيمة جمالية في الانزياح الفني لايستطيعها إلا الشاعر ذاته، وبها يمتاز عن غيره، فالانزياح الفني مؤشر من المؤشرات البليغة على موقف الشاعر وحساسيته الجمالية، وقدرته الإبداعية،ولهذا رأى جان كوهن" أن مهمة الشعر الخاصة هي أن يوفر لأقوى ما في اللغة ولأخفى وأغمض ما في العالم مكاناً للقاء خافٍ وغامض"(11).

وبهذا التصور فإن الشعر هو لعبة الكشف عبر علائق لغوية منزاحة عن مألوف القول،وقيمة الشعر ماثلة في أنه لعبة في الشكل اللغوي تبعاً للمخيلة الشعرية التي تحرك الأنساق الشعرية على قنوات الفن ذا الاحتمالات المتعددة، وهذا يعني أن الانزياح الفني هو منتهى الكوامن الشعرية التي يرومها الشاعر من عمق الشعور. ولهذا يقول وهيب العجمي" الشعر فيض من الإحساس يتشكل بطريقة فنية غير معتادة، ومهارة الشاعر تكمن في استعادة المعنى بإيقاع تجاذبي جمالي حيناً وبانزياح مباغت حيناً آخر، والقارئ الفذ هو الذي يبني النص من جديد باحتمالات جديدة وقراءات عديدة"(12)..

ووفق هذا الوعي التشكيلي بنى وهيب عجمي قصائده على توليد أقصى درجات البلاغة في توليف الجمل،وتركيب المفردات بأنساق تشكيلية ذات خصوصية وقدرة بالغة على المراوغة والخلق الفني، لدرجة أن من يطالع قصائده يدرك شعرية أن الانزياحات الفنية في قصائده غائية الدلالة ذات مرجعية في الفن والإنقان الجمالي، كما في قوله:

"كأنك الروح حلت في خمائلنا
كما يحل حليب الغيم في الثمر
هل يبصرُ الحسنُ في الشقراء ساحرة
ألأم أن في البحر ما يخفى على البصر
يا روعة النحت في بنيان قافيتي
ويا مروج الهوى تربو على وتري
أسرجتُ خيل عباراتي لفاتنةٍ
وصرتُ أمرح في ميدانك الغجري

فدق قلبي ابتهاج الحرف مقتبساً منك المعاني التي ازدانت بها صوري"(13).

إن الشاعر هاهنا يبدأ انزياحه الفني بالتشبيه التمثيلي، تشبيه صورة بصورة (وهي صورة الروح التي تحل في الخمائل) وصورة (حليب الغيم التي تحل في الثمر) وهذا التشبيه التمثيلي على الرغم من مسافة التوتر التي خلقها بين دلالة الصورة الأولى ودلالة الصورة الثانية وأوجه المفارقة بينهما إلا أتنه جاء بليغا يبرز درجة التخييل الجمالي التي يملكها الشاعر في المقارنة بين الصورتين وعقدها في نسق شاعري، وهذا يعني أن شعرية الانزياح الفني تكمن في مفاجئة القارئ بإزاحة فنية على صعيد الصورة تكسر أفق التوقع وتخلق لذتها الجمالية، فالقيمة في الشعر في طبيعته وعلائقه وانزياحاته الجمالية، وبهذا يمتاز شاعر عن آخر،ونص شعري عما سواه، ولهذا جاء تعبير جان كوهن صحيحا " إن للشعر طبيعة ملكية، فإما أن يكون وحده صاحب السيادة وإلا فإنه يتنازل عنها نهائيا"(14).

وهذا يعني أن الشعر إما أن يملك سيادته الشعرية وبصمته الإبداعية الحقيقية،وإما أن يتخلى عنها نهائيا، وقيمة الشعر تبدو في امتلاكه الفني لأدواته المميزة التي تجعل النص الشعري يفيض بانزياحاته الجمالية التي تسمو بالنص، ودرجة تلقيه جمالياً.

والانزياح الفني– في قصائد وهيب عجمي- ينبني على إثارة الصور المراوغة ذات الحياكة الجمالية في نسقها، فالانزياح الفني يأتي غريزياً وليس متكلفاً، أي يجري تبعاً لمجريات الدلالة وخصوبة المعنى، على شاكلة قوله:

"أطلقتُ في الريحِ آهاتي لملهمتي
فدندن الريحُ مأنوساً ومندفعا
كل المكانِ مصابيحٌ مرفرفةٌ
والضوءُ مبتسمٌ في ثغرها لمعا
فالله أبدعها في ملء راحته
والأنسُ قلدها في الله فابتدعا
الله صوَّرها في جل روعتها
والنجم تابعها للمجد فارتفعا"(15).
إن القارئ هاهنا يدرك أن ثمة إزاحة ما ماثلة في شكل التركيب، لكنه غير قادر على المسك بتلابيب الإزاحة في وقعها الجمالي،لأن ثمة لحمة جمالية وانسيابية ترشح من الأبيات في تلاحمها وانسيابها ووحدتها النصية، لكن من يمعن النظر في الروابط التركيبية واللغوية يلحظ أن الإزاحة ماثلة في التقديم والتأخير،والتوليف الجمالي بين الكلمات في نسقها،لكن سنأخذ شذرة نصية لندلل على بلاغة الإزاحة في وقعها الفني،وهي قوله: (فدندن الريحُ مأنوساً ومندفعا)، فالقارئ هنا يلحظ ثمة جمالية لكن لايدري أين ماثلة في التحديد، هل هي في حالة العطف والتلازم بين الاسمين البارزين (مأنوس)و (مندفع)؟!! أم ماثلة في هذه اللحمة بين الكلمات في نسق الصورة؟!! أم ماثلة في الدلالة وغرابتها ؟!!. لاشك أن الجمالية ماثلة في الانزياح الفني في الإسناد، إذ اسند الشاعر إلى الريح الدندنة وهي صفة من صفات الإنسان، وباغتنا بهذه الانسيابية الجمالية بين حالتي (الأنس /والاندفاع) وكأن ثمة رغبة لاهثة لإضفاء نوسة جمالية في شكل النسق، وهذه قمة الاستثارة في تبليغ القارئ على أنه ثمة بلاغة في الرؤية وجمالية في توليف الكلمات وربط بعضها مع بعضها الآخر في نسق شعري يستمر الشاعر في استجراره إلى خط النهاية.وهذه قيمة جمالية نلحظها في تشكيلاته اللغوية التي تنساب بأريحية تفيض بها على نغم انسيابي متواتر يخلق درجة من اللحمة والجمالية في شكل التركيب؛ وهذا يقودنا إلى القول: إن الانزياح الفني – في سياقات قصائد وهيب عجمي – يتأسس على محرك لغوي ورؤيوي معاً، فلا غنى لتشكيلاته اللغوية عن مخيلة محلقة، وحساسية جمالية في موسقة الأنساق الشعرية لتأتي لحمة متكاملة في النغم والحركة، والدلالة العميقة عن الموقف العاطفي أو الحالة الغزلية التي يريد تفريغها خير تفريغ في قالب جمالي يتلقفه القارئ بلهفة كما يتلقف العاشق محبوبته.وعلى هذا يمكن اعتبار قول جان كوهن قمة في الدقة والصواب" كل لغة أدبية هي لغة مؤسلبة"(16).أي تملك وعيها المؤسلب في الإزاحة عن نطاق القول العادي إلى نطاق القول الإشكالي المحرك للدهشة والفتنة الجمالية. فالشعر لاقيمة له أن لم يأخذنا إلى عالم القشعريرة واللذة والجمال، ليحرك في داخلنا شعوراً مستكناً في أعماقنا لا يحركه إلا الإيقاع الجمالي المتغلغل في عالم الروح، يأتي الشاعر ليحرك هذا الإحساس بناقوس كلماته المنسابة بشفافية ولذة وجمال.
الانزياح التركيبي:

ونقصد ب (الانزياح التركيبي) الخلخلة في نظام التركيب لإبراز قيمة جمالية في لغة التشكيل الشعري، وهذا الانزياح يرتبط ارتباطاً لصيقاً بالانزياح الدلالي، فكل إزاحة في نطاق النسق التشكيلي تنعكس إزاحته على شكل الدلالة، والعكس صحيح كذلك،

وقد أشار إلى هذا جان كوهن في قوله:"إن النحو هو الركيزة التي تستند إليها الدلالة، فبمجرد ما يتحقق الانزياح بدرجة معينة عن قواعد ترتيب وتطابق الكلمات تذوب الجملة وتتلاشى قابلية الفهم " (17)وقد أسمى جان كوهن هذا الشكل الانزياحي ب( الانزياح النحوي) قائلاً:" إن عالم اللغة شأنه شأن الشاعر قد أدركا معا طاقة النحو المشعرنة ولهذا كتب ياكبسون: نادراً ما تعرف النقاد على المنابع الشعرية المستترة في البنية الصرفية والتركيبية للغة، أو باختصار على شعر النحو ومنتوجه الأدبي، أي نحو الشعر. كما أن علماء اللغة كادوا يهملونها نهائياً. أما الكتاب المبدعون، فعلى العكس من ذلك تمكنوا من أن يستخلصوا منها فوائد جمة"(18).

وبهذا الوعي يمكن أن نعد الانزياح التركيبي هو الانزياح النحوي الذي ينزلق فيه الشاعر بالعلاقات النحوية إلى درجة من الإزاحة على مستوى العلائق والروابط ضمن الجملة، تبعاً لمبتكرات الوعي الجمالي في التشكيل، فلاقيمة للروابط النحوية إن كانت ستكون منتظمة أو سنمترية العلاقات، فالشاعر المبدع هو الذي يخلق نحوه الجمالي وبلاغته المؤثرة في شكل نوسانه النحوي وتشكيلاته المنزاحة، وهذا يعني أن شعرية التشكيل هي بلاغة النحو، أو بلاغة العلاقات التركيبية التي تخضع لنحو الشاعر الخاص وعلاماته المعجمية، ومن يطلع على قصائد وهيب عجمي يلحظ أن لقصائده نحوها التركيبي المميز وعلاقاتها المركبة وفق نسق تجاذبي مشعرن للحالة، ولهذا، برهن وهيب عجمي على أن انزياحاته اللغوية انزياحات بليغة في وقعها تبعاً لفيوضاته العاطفية وشحناته المميزة، يقول وهيب عجمي:"إن الانزياح التركيبي في قصائدي إلهامي مركز في كسر النمطية السائدة في شكل القول الشعري،ولهذا تحتفي قصائدي برؤاها الجديدة من خلال قوالبها المبتكرة ومراميها البعيدة"(19).

ومن يدقق في قصائد وهيب عجمي يدرك أن الإزاحة الجمالية ماثلة بكثرة في نطاق التشكيل،فالكثير الكثير من إزاحاته تتحكم بها المخيلة الشعرية جمالياً بما تبثه قصائده من علاقات وروابط لغوية مبتكرة، ففيها يدهش القارئ أيما إدهاش في التشكيلات الجديدة التي أثارتها أنساقه الشعرية لتبرز العلاقات التركيبية كقيم جمالية في تحفيز الرؤى الشعرية البليغة، وتكثيف المتواليات الشعرية المنزاحة ضمن الشطر الواحد أحياناً أو البيت الشعري، على شاكلة قوله:

"رفقاً بقلبي يا حبيبةُ حاذري
لاتجعليني بالهوى كفارا
تفاحُ خدك في الكروم مدللٌ
عنقودُ كرمكِ أسكر الخمارا
طلتْ على الأفلاك أجملُ نجمةٍ
في وجهها شمسُ الضحى تتمارى
مرت على خد الضياء أميرةٌ
للعاشقينَ حسبتها عشتارا
أحسست قلبي في السماء متطايراً
فرَّ الفؤادُ من الضلوعِ وطارا"(20).

هاهنا، نلحظ الانزياح التعبيري ماثل في جمالية التركيب،بأن جعل(للضياء) خداً جميلاً مشرقاً كخد محبوبته الناضر، ثم جعل لإشراقة وجهها هذا النور والإشراق الرباني الذي يشبه في ضيائه إشراق الشمس، ثم مرت بأطيافها أمام ناظريه مر النسيم، لتجعل القلب يفر من الضلوع للقائها، والاستجمام بشمس نضارتها وظلها الرباني، فالأسلوب الاستحواذي الجمالي للانزياح التركيبي في هذه الأبيات جعل الدلالات تفيض بغيث رؤاها الغزلية المكثفة، وهذا سرعان ما أثمر فيضاً دلالياً على الأبيات، ولهذا يختلف منطق الجاذبية واللذة في الشعر عن منطق العلم والفلسفة، ولعل جان كوهن في تفريقه بين منطق الشعر ومنطق العلم والفلسفة يضعنا على مصب النقطة الجوهرية في مصطلح الانزياح،ومفهوم الشعر والشعرية، يقول جان كوهن:" الشعر ليس علماً بل هو فن، والفن، شكل، وليس شيئاً آخر غير الشكل. ولا شيء يمنع الشاعر من الإعلان عن حقائق جديدة،غير أنا نؤكد،مرة أخرى، أن ليس مرد شاعريته إلى ذلك(21).

وتعد الصور البلاغية – في قصائد وهيب عجمي – من أشكال الانزياح التركيبي، إذ يرتقي الشاعر بالأنساق البلاغية درجة من الفاعلية والحراك الجمالي،كما في قوله:

"لليلك في خمائلنا ارتياحٌ
على عتباته باتتْ طيورُ
بنتْ أعشاشها بغصونِ قلبٍ
لها زادٌ بمهجتهِ وفيرُ
فيقفزُ من سرير القلبِ فرخٌ
طريٌّ دونما زغبٍ حسيرُ
وينقرُ في خلايا القلبِ نقراً
له في خاطري الدامي سرورُ
أغلفُ جسمك الضاوي بقلبي
كشهدٍ باتَ يحفظه القفيرُ"(22).

هاهنا، يبدو الانزياح التعبيري- في هذه الأبيات- يعتمد التلاحم الدلالي بين الأنساق لإبراز شعرية الصور الغزلية، لهذا جاءت الصور مكثفة للدلالات الشعرية، بأن جعل الشاعر لكل شذرة تركيبة انزلاقتها التشكيلية المراوغة التي حلقت بالنسق الشعري(أغلف جسمك الضاوي بقلبي)،وكأن الانزياح هنا تجاوز نطاق التعبير ليدخل في نطاق الرؤيا، ومن أجل هذا امتزجت الدلالات في رحم المعنى لتصب في بوتقة الرؤية الغزلية،وهذا ما جعل الانزياح هنا تشكيلياً لإبراز منتوج الرؤية وشعريتها البليغة، وتأسيساً على هذا يمكن القول: إن الانزياح التركيبي هو قيمة بنائية في النصوص الإبداعية التي تفيض بدلالاتها وشعريتها الخلاقة، وما أورده (جان كوهن) في قوله التالي يصل إلى منتهى الدقة:" إن العالم الشعري لا وجود له، ماهو موجود هو الطريقة الشعرية في التعبير عن العالم. الشعر لايتحدث بلغة وضعية الدلالة... فإذا كان الشعر يمارس المنافرة باستمرار، وإذا لم يكن يتحقق إلا بواسطة الخرق المستمر لقواعد اللغة فلأن الطريق المباشرة المؤدية من الدال إلى المدلول مقطوعة"(23).

وبهذا التصور والوعي المعرفي يمكن القول: إن الانزياح التركيبي- ليس انزياحاً مؤسلباً للمعنى والدلالة في لغة الشعر عند وهيب عجمي، بل إنه انزياح مكثف للرؤيا والباعث على إنتاج الدلالات المبئرة للمشهد الشعري البليغ والصور المتقدة إبداعياً.

وصفوة القول:

إن الانزياح التركيبي كقيمة جمالية – في قصائد وهيب عجمي- يستقي استثارته من بلاغته النصية،أي بلاغة التركيب المنزاح بإزاحته وخلخلته للنسق الشعري، ولهذا تبدو صوره ملتهبة بدلالاتها ورؤاها الوجدانية التي تفيض بها، ومن أجل هذا يتعدى الانزياح السطح اللغوي ليتغلغل في عمق الدلالة ويسهم في إنتاجها.

نتائج أخيرة:

إن الانزياح الشعري- في قصائد وهيب عجمي- انزياح فني أي انزياح لخلق القفلة الفنية والشذرة التركيبة المباغتة، ومن أجل هذا يتجاوز الانزياح السطح اللغوي ليدخل عمق الدلالة ورحم المعنى.

إن الانزياح اللغوي- في قصائد وهيب عجمي –ليس انزياحاً تشويشياً لتشويش الرسالة الشعرية وابتعاث غموضها، وإنما هو انزياح فني لإبراز عمق المتخيل الشعري ومرتكزاته الإبداعية الخلاقة.

إن الانزياح التركيبي- في قصائد وهيب عجمي- هو انزياح تشكيلي متعدد الاتجاهات والمحاور والرؤى والمحركات الشعرية، ومن أجل هذا نلحظ بلاغة ملحوظة في الكثير من الصور مواكبة لبلاغة الانزياح وفاعليته في النسق الشعري عند وهيب عجمي.

الحواشي:

كوهن، جان،1986- بنية اللغة الشعرية، تر: محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، المغرب،ص6-7.

فضل، صلاح – بلاغة الخطاب،ص58.

رمضان السيد، علاء الدين،1996- ظواهر فنية في لغة الشعر العربي الحديث، اتحاد الكتاب العرب، دمشق،ص143.

نقلاً من المرجع نفسه،ص144.

كوهن،جان،1986- بنية اللغة الشعرية،ص129.

المرجع نفسه،ص113.

عجمي،وهيب،2002- فتاة الضوء،ص77.

المصدر نفسه،ص76.

كوهن، جان،1986- بنية اللغة الشعرية،ص176.

المرجع نفسه،ص202.

المرجع نفسه،ص25-26.

شرتح،عصام،2017- حوار مع وهيب عجمي، الفيس بوك.

عجمي، وهيب،2002- فتاة الضوء،ص93-94.

كوهن،جان،1986- بنية اللغة الشعرية،ص 174.

عجمي،وهيب،2002- فتاة الضوء،ص116.

كوهن، جان،1986- بنية اللغة الشعرية، ص117.

المرجع نفسه،ص178.

المرجع نفسه،ص 175.

شرتح، عصام،2017- حوار مع وهيب عجمي، منشور الفيس بوك

عجمي،وهيب،2002- فتاة الضوء، ص54.

كوهن، جان،1986- بنية اللغة الشعرية،ص46.

عجمي، وهيب،2002- فتاة الضوء، ص75.

كوهن،وهيب،1986- بنية اللغة الشعرية،ص128.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى