الأربعاء ٩ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم إبراهيم ياسين

يـقـظة غريزة

كان يجلس على كرسي بلاستيكي أمام محل بقال الحي، تمر الفتاة الصغيرة أمامه لتشتري بعض الأغراض، يتأملها محدقا وعقله مشغول تتقاذفه الأفكار كيف تشاء، تساءل كيف أمكن لهذه الصبية وهذا الوجه الطفولي أن يثيرا انتباهه بهذا الشكل الملح. التفت إلى البقال يسأله عن هذه الطفلة التي خرجت للتو من المحل بدعوى أنه اكتشف في ملامحها ما جعله يعود إلى الوراء لسنوات مضت، ليسترجع بعض الصور التي خزنتها ذاكرته، ولم تصل إليها آثار التعرية وعوامل النسيان. أجابه البقال بأنها ابنة صديقه القديم السيد جابر. لحظتها تراكمت في ذهن صاحبنا صور وذكريات تلاحقت بشكل جنوني لم يستطع أن يوقفها. عادت به الصور إلى سنوات مضت كان يحمل فيها الطفلة وهي صغيرة، ويضعها في حجره. كانت كلما رأته تناديه: عمي. قال للبقال: أتعلم أن هذه الطفلة كانت صغيرة جدا حين كنت أشتري لها قطع الحلوى. أجابه البقال: يا أخي لقد مرت سنوات طوال، فإذا كان ما تحدثت عنه دقيقا فإن الأمر يعود على أقل تقدير لأكثر من عشر سنوات.

هاهي تعود إلى محل البائع، ربما لأنها نسيت شيئا جعلها تضطر للعودة. ناداها، التفـتت إليه ثم أكملت مسيرتها نحو المتجر، كرر النداء، فأطلت برأسها من باب المحل، تأملته طويلا قبل أن تصرخ: عمي. دنت منه كثيرا: أعذرني لم أكتشف ملامحك في البداية، فضلا عن أنه مر وقت طويل منذ آخر مرة رأيتك فيها، على فكرة أين كنت طوال هذه السنوات؟ والله يا عمي، صدقني، لقد اعتقد البعض أنك مت خاصة وأن اختفاءك كان مفاجئا وبدون سابق إعلام. أجابها بنبرة فيها من الحزن ما يكفي لأن تترقرق معها دمعة، وتتلوها أخرى ثم ليستسلم بعدها للبكاء: يا بنيتي، الحديث طويل وذو شجون، وسرد الحادثة يحتاج إلى وقت طويل، أشك في أنه متيسر الآن، لكن على أي حال، أما زلت تذكرين أنك كنت تجلسين في حجري، وتقدمين لي قبلة فيها دفء غزير ومحبة غامرة؟ والله لقد اشتقت إلى حنانك الطفولي الدافئ، تعالي اجلسي، ترددت الطفلة أكثر من مرة. يا عمي لم أعد صغيرة كما كنت، أنا الآن ثقيلة زيادة على أن الأمر لم يعد لائقا. ألح عليها بشكل جعلها تستسلم أخيرا. ورغم أن الرجل كان يعاني من ثقلها على عظامه إلا أنه أحس بمتعة غريبة تسري في جسمه. بعد لحظة اكتشف أنها لم تعد تلك التي كان يحملها في حجره بل وكان يحملها في بعض الأحيان على كتفيه يجوب بها أزقة المدينة القديمة. تغيرت كثيرا، لكنه لم يكن ليصدق لولا أنه رأى وأحس، لقد كان أسفلها أكثر دفئا وأكثر رطوبة. حاول أن يضمها إلى صدره كما تعود أن يفعل، فجأة أدرك أن صدرها أصبح منتفخا، لقد أصبحت ناهدا، رائحة الأنوثة تفوح منها بشكل هز كيانه، تحركت بعض أعضائه الأمر الذي جعل الفتاة تقفز وقد احمر وجهها خجلا، ماذا تفعل يا عمي؟ حاول الرجل وهو تحت تأثير الدهشة أن يزيل أي لبس. تعالي يا بنيتي لا تخافي. لم تملك الفتاة إلا أن أسرعت بدعوى أن عليها أن توصل إلى بيتها ما كانت أمها قد كلفتها بإحضاره. جلس صاحبنا وقد غاب عن الوجود، مضى وقت طويل لم يلمس فـيه أنثى ولا شم رائحة الأنوثة، منذ أن فارقته زوجته، الأمر يعود إلى أكـثر من عشر سنوات. لقد كان موتها هو السبب في مغادرته المفاجئة للحي، فقد كانت صدمة الفقد شديدة لدرجة أنه لم يقدر معها على البقاء. وها هو الآن يعود وقد تغيرت الأشياء أصبح الحي غير الحي، والناس غير الناس. وهل كان من المعقول ألا تـتغير الأشياء. التغير سنة الحياة. الآن فقط أدرك:
أن ثمة قانون يعمل على أن لا يبقي شيئا كما هو أو كما كان. استمرت غيبـوبته لحظة، والحقيقة أنها لم تكن غيبوبة بالمعنى العادي أو بالمصطلح الطبي. إنها أقرب ما تكون إلى هروب اضطراري، هروب نفسي إلى لحظات النشوة والعبق، إلى نسيم الماضي العطر، بعد أن استسلم لنشوة أحلام اليقظة قرر أن يغير الوضع. قام من مكانه وتوجه صوب منزله، نادى بأعلى صوته: حسن، نادية، رشيد... أجابه أكبر أبنائه، نعم يا أبي، لماذا تصرخ؟

قال بصوت صارم: تعال يا بني، بعد صلاة العشاء، أريد أخوتك وأخواتك في البيت عندي. لدي أمر هام أريد أن أخبركم به. قال ابنه الأكبر: خيرا يا أبي ماذا حدث؟

ـ في المساء ستعرف كل شيء، افعل ما قلت لك وكفى.
ـ حاضر أبي سأخبر الجميع.

في المساء حضر الجميع إلا الأب، لقد تأخر. كانت الهمهمات والهمسات تسير في كل اتجاه، ماذا عسى أبي يريد أن يخبرنا؟ هل وافق أخيرا على أن يبيع المنزل ويسكن مع أحدنا؟

كان أبناؤه وبناته بعد زواج الجميع قد انتقلوا ليستقل كل واحد بمسكن خاص في طور البناء.

كانوا قد ألحوا عليه في أن يبيع هذا المنزل الكبير ويقسم بينهم المال حتى ينهي كل واحد منهم منزله، على أساس أن يسكن هو مع أحدهم أو يتناوب على زيارتهم، أسبوع لكل واحد. كان يرفض بشدة بدعوى أن هذا بيته وبيت المرحومة، وأن أبناءه ما عليهم سوى الاعتماد على أنفسهم في إتمام مشاريع البناء. ألم يكفهم أنه ضحى بحياته وماله ووقته من أجلهم؟ أم أنهم استخسروا فيه هذا البيت الذي يذكره بأيام الهناء كما يسميها. كانت الأفكار تنساب بالأبناء والبنات في كل حدب وصوب.

ها هو فجأة يطل عليهم، صمت الجميع مترقبين ماذا سيكون الشأن.

قررت الزواج لذا عليكم أن تبحثوا لي عن زوجة. كانت الصدمة كبيرة... تسمر الجميع في أماكنهم، لم يدروا ما يصنعون، حاولوا إقناعه بالعدول عن فكرته دون جدوى. أصر الأب الكبير على موقفه. لقد كان ما حدث له مع الفتاة هزة أيقظت عنده مشاعر وأحاسيس وغرائز كان قد اعتقد أنها ماتت منذ زمان. ألحت عليه الفكرة فلم يستطع غير الاستسلام كما لم يجد أبناؤه سوى الرضوخ.
تزوج الأب وولد له من زوجته الثانية خمسة أبناء، لذا قرر أهل الحي على سبيل البسط أن يلقبوه ب " الخمًاس ".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى