السبت ٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٢
بقلم صلاح السروي

جذور الهوية الوطنية المصرية

على الرغم من توالى الغزوات الأجنبية على مصر، على مدار التاريخ: بداية من الهكسوس والفرس والرومان واليونان والعرب، فى العصور القديمة، والعثمانيين، فى العصور الوسطى، حتى الفرنسيين والانجليز فى العصر الحديث، فان مصر قد بقيت، على الدوام، اقليما متصلا وموحدا، ومتجانسا. وبقى شعبها متماسكا، وثقافته واحدة وممتدة طوال الزمان، وحتى لحظتنا الراهنة.

وقد ساعد على ذلك الطبيعة السهلية لاقليم وادى النيل، من الشمال الى الجنوب، مما جعل من امكانية الاتصال والاندماج بين سكانه أمرا سلسا وممكنا طوال الزمن. وكذلك، ساعدت تلك الطبيعة السهلية على بقاء الاقليم المصرى موحدا وقابلا لقيام الدولة المركزية الواحدة المسيطرة على كامل ترابه، دون عوائق طبيعية يمكن أن تمنع ذلك، أو تجعله صعبا. الى جانب احاطة سهل وادى النيل بمجموعة من العوائق الجغرافية الطبيعية من جوانبه الأربع: فهناك الصحارى الشاسعة فى شرقه (سيناء) وغربه (الصحراء الغربية). وكذلك البحر المتوسط فى الشمال، والبحر الأحمر فى الشرق، والشلالات والصحراء فى الجنوب. فأصبحت مصر، من ناحية الطبيعة الجغرافية، مثل الصندوق المغلق الذى يصهر ويدمج كل ما يتواجد داخله.
ولقد ساهمت هذه التضاريس (المانعة) المحيطة بالاقليم المصرى، الى جانب الطبيعة السهلية لوادى النيل، فى دمج سكان مصر من قديم الأزل، وقامت بحفظ وترسيخ التجانس الاثنى والثقافى (الهوياتى) بينهم. (انظر: جمال حمدان، شخصية مصر – دراسة فى عبقرية المكان، عالم الكتب، القاهرة، 1980، ص 39 ، وما بعدها)

على الرغم من كل تلك الغزوات والاحتلالات، التى لم تتوقف على مدار التاريخ (قديمه وحديثها، كما تمت الاشارة) بقيت مصر محتفظة بطابعها الثقافى - الحضارى الموحد والمميز. ولم تستطع أية قوة غازية أن تسلبها ذلك الانسجام الثقافى، وتلك الوحدة الحضارية. بل ان تلك الوحدة الثقافية الحضارية كانت بمثابة "الدرع الصدفى" الذى تتحصن داخله .. "الشخصية الوطنية المصرية، فى مواجهة عوامل خارجية، صونا لنفسها، أو فى محاولتها للتحرر، أو للتطور نحو وضع أفضل" (طاهر عبدالحكيم، الشخصية الوطنية المصرية – قراءة جديدة للتاريخ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012، ص 9)

وبما أنه لا يمكننا القول بوجود وعى، من نوع معين، بما يمكن تسميته "بالقومية المصرية" فى تلك العصور السحيقة من التاريخ. (ف"القومية" تعد، فى كل الأحوال، حالة فكرية ووجدانية حديثة، ناتجة عن ظروف تاريخية – اجتماعية، مرتبطة بظهور الطبقة الوسطى (البرجوازية التجارية - الصناعية)، وبحثها عن "وحدة السوق". مما أدى الى توحيد الممالك والامارات والاقطاعيات على أساس "قومى" محدد، كما حدث فى أوربا.) ولكن دائما كانت مصر تتمتع، فى وجدان أبنائها، بنوع من التقديس والاجلال.
ولدينا فى قصة "رحلة سنوحى"، وحنينه الجارف الى الوطن، مثال حي على ذلك.

(فى الهامش. تعتبر قصة سنوحي، المعروفة أيضا باسم سا نهت واحدة من أفضل أعمال الأدب المصري القديم. تروى القصة عن هرب سنوحى وترحاله، ومن ثم، ضياعه فى بلاد بعيدة يفصلها البحر عن مصر، (ويظن أنها، فى الغالب، بلاد الشام) ثم استقرار أوضاعه، بعد ذلك. حيث يتحدث، بعد كل تلك المغامرات، عن حنينه إلى وطنه مصر ورغبته في العودة إليها، وأن يدفن في ترابها، ويحكي سنوحي أن الملك سنوسرت قد علم بحاله وأصدر قرارًا بالعفو عنه والسماح له بالعودة إلى مصر، ويصف رحلة عودته إلى الوطن في أعقاب وفاة الفرعون أمنمحات الأول، مؤسس الأسرة الثانية عشرة، في أوائل القرن العشرين قبل الميلاد. ويرجح بعض العلماء أن تلك القصة قد تم تأليفها فى حوالي عام 1875 قبل الميلاد، على الرغم من أن أقدم مخطوطة موجودة تعود لعهد أمنمحات الثالث، حوالي سنة 1800 ق.م. وهناك جدل مستمر بين علماء المصريات حول ما إذا كانت القصة مبنية على أحداث فعلية تتعلق بشخص يدعى سنوحى، أم أنها محض خيال ؟؟ بيد أن أغلبية الآراء ترجح أنها عمل خيالى، نظرا للطبيعة العالمية للموضوعات والمشاعر التي تم طرحها في قصة "سنوحي"، بما في ذلك فكرة العناية الإلهية والاستعطاف والرحمة .. الخ. حيث توجد نظائر لأفكاره في نصوص الكتاب المقدس وملحمة الأوديسا .. الخ. وقد تم وصف مؤلفها المجهول بأنه: "شكسبير المصري". ولقد كانت شعبية العمل كبيرة، ويشهد على ذلك وجود العديد من أجزائها باقية حتى الآن. ويعتقد أن العمل كان مكتوبًا بصورة شعرية، وربما كان يتم إنشاده. ولقد كتب الروائى الفنلندى رواية بعنوان: "سنوحى المصرى" ونشرت عام 1945، باللغة الفنلندية. مما يدل على خلود تلك القصة وقوة تأثيرها العالمية)
(انظر: : https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B3%D9%86%D9%88%D8%AD%D9%8A)
بما يوحى بتجذر المشاعر الوطنية لدى المصريين منذ القدم. وبما يمكن معه القول بأن الحالة المصرية تعد حالة استثنائية، حيث قدر لمشاعر الانتماء والولاء الوطنى أن تولد فى نفوس أبنائها منذ القدم، نظرا للأسباب التى تم ذكرها.

أما فى العصر الحديث، فقد نشأت المشاعر الوطنية، والوعى بالذات الثقافية والحضارية، لدى الشعب المصري، فى وقت باكر للغاية، قياسا على باقى شعوب المنطقة. حيث يرجع ظهور هذا الشعور الوطنى الى معترك النضال ضد الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، وقتما كانت مصر ترزح تحت الحكم العثمانى. حيث انسحبت جحافل القوات العثمانية المحتلة ولم تذكر كتب التاريخ أنها قد خاضت معركة واحدة، دفاعا عن مصر. كما هرب أمراء المماليك (وقد كانوا حكاما بالوكالة للسلطنة العثمانية) أمام جيوش الفرنسيين، الى كل من الشام والصعيد. ولم يقف فى وجه الغزاة الفرنسيين الا الشعب المصرى الأعزل، الذى اكتشف قوته وذاته (هويته) فى غمرة ثوراته وتضحياته الجسام، وفى مواجهة غير متكافئة مع عدو يمتلك، من تكنولوجيا التسليح والتنظيم والفكر، أحدث ما أنتجه العصر الحديث. بينما كان الشعب المصرى، وقتها، لا يزال يرفل فى ظلام وتعاسة أوضاع العصور الوسطى. حسب رأى المؤرخ المصرى الرائد عبدالرحمان الرافعى، فى كتابه: "تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم"، حيث يقول:

"وهذه الحركة الأخيرة (يقصد الحركة الفكرية والسياسية التى ظهرت فى عصر اسماعيل) لم تظهر فجأة، ولم تكن الأولى فى تاريخ مصر القومى، بل هى تطور جديد للروح القومية التى بدأت تظهر فى البلاد أواخر القرن الثامن عشر. فالى هذا العهد يجب أن يرجع مبدأ الحركة القومية المصرية. وأول دور من أدوارها هو عصر المقاومة الأهلية التى اعترضت الحملة الفرنسية فى مصر ، فان هذه المقاومة كانت أول شرارة أشعلت جذوة الروح القومية فى نفوس المصريين، وهى أول صفحة من صفحات الجهاد الأهلى فى تاريخ مصر الحديث." (عبدالرحمن الرافعى، تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998، ص9) ويقول الرافعى فى موضع آخر:
"فنابليون (كان) قد استثار الروح القومية المصرية فى منشوراته وبياناته للمصريين، على أنه فى الوقت نفسه، قد أثارها باعتدائه واعتداء جنوده على البلاد وأهلها. لأن هذه الاعتداءات أثارت كراهية الأمة للاحتلال الفرنسى وحملتها على مقاومته بكل الوسائل. فكانت هذه المقاومة هى النواة التى انبثقت منها الروح القومية المصرية. ومهما قيل عن فى مبلغ ما كانت عليه الأمة المصرية فى ذلك الحين من التأخر فى العلم والمدنية فان الحملة الفرنسية وما اهتاجته فى نفوس المصريين من روح المقاومة قد هزت أعصاب الأمة هزت عنيفة أزاحت عن أبصارها شيئا من الغشاوة التى رانت عليها خلال العصور". (الرافعى، مرجع سابق، ص152)

والمقصود بأن .. "نابليون قد استثار الروح القومية المصرية"، أوضحه الرافعى فى موضع سابق من كتابه، من حيث أن نابليون قد خاطب المصريين بلهجة الود، ووعدهم فى بياناته ومنشوراته، بأن يجعل زمام الحكم فى أيديهم. (انظر منشور نابليون الى المصريين والذى أثبته الرافعى فى كتابه المذكور، مرجع سابق، صفحات 84 – 85 – 85 – 86) وهو ما يجعل معنى "الاستثارة" مرتبطا بالايقاظ والتنبيه بأن المصريين شعب جدير بحكم نفسه، ومن ثم، التفت المصريون الى ذلك الحق، واكتشفوا، فى أنفسهم، تلك الجدارة، على العكس مما ترسب فى أذهانهم منذ العصور الاستبدادية السابقة المغرقة فى القدم.
أما كون نابليون قد "أثار" هذه "الروح القومية"، بحسب تعبير الرافعى، فتفسيره يكمن فى ذلك الشعور بالغضب والخطر، لدى الوعى المصرى العام، من أن دولة أجنبية قد قامت بالاعتداء على البلاد، وشرعت فى الهيمنة على شعبها والعمل على استغلال مقدراتها. ولعل هذا الوعى هو الذى يوضح لنا أسباب هذه المقاومة الشرسة التى لاقتها حملة نابليون أينما حلت .. "بحيث لم يستقر للفرنسيين حكم ولم يهدأ لهم روع فى السنوات الثلاث التى قضوها فى مصر". (الرافعى، مرجع سابق، ص 153)
وهو المعنى، ذاته، الذى نقله الرافعى عن عدد من أعضاء الحملة من العلماء والمهندسين، وأنقل عنه، هنا، شهادة لواحد فقط منهم، وهو مسيو مارتانMartin ، أحد مهندسى الحملة والعضو بلجنة العلوم والفنون التى شكلها نابليون، (الى جانب لجان أخرى كثيرة)، حيث قال:
"بالرغم من احتلال الفرنسيين لعاصمة مصر فانهم لم يستقر لهم قرار فى البلاد، وكان مركزهم فيها مزعزعا ومحفوفا بالمتاعب، ولم يترك الأهالى وسيلة لمقاومة السلطة الفرنسية الا اتبعوها، وقد ذهب كثير من الفرنسيين ضحية هذه المقاومة". (الرافعى ، مرجع سابق، ص 154)
وألاحظ فى حديث الرافعى عن ما يسميه "النهضة الفكرية والسياسية" وكل أشكال التقدم والتطور والنهوض، التى شهدتها مصر فى عهد اسماعيل، (الذى كان الرافعى يتعاطف مع مشروعه التنموى الحضارى بشدة، وله فى ذلك كتاب من جزئين) أنه قد ربط هذا المنحى النهضوى بظهور "الحركة القومية المصرية" باعتبارها احدى نتائج الثورات المتتالية ضد الحملة الفرنسية. والحقيقة أن تلك الحركة الوطنية هى السبب الرئيسى لمجمل أشكال ومجالات النهضة التى ظهرت فى مصر، منذ ذلك الحين، وحتى وقتنا هذا. فمن خلالها، اكتشف المصريون أنهم أصحاب البلاد الحقيقيون، وهم الذين دفعوا الأثمان الباهظة للدفاع عنها وتحريرها وحمايتها، بعدما تخلى عنهم كل من كانوا يستعبدونهم بحجة "حمايتهم" من الغزاة، سواء أكانوا من العثمانيين الذين امتصوا دماء المصريين وأذلوهم لمئات السنين، أو المماليك الذين اقترفوا كل أنواع الظلم والحيف بحق المصريين وجثموا على صدورهم أحقابا طويلة.
ويتفق مع هذه الوجهة، فى التأريخ لنشأة المشاعر الوطنية والوعى بالانتماء للهوية المصرية، المؤرخ المصرى فوزى جرجس، الذى قال:
"أن الحملة الفرنسية قد هزت الشعب المصرى هزا عنيفا وأيقظته من سباته وجعلته ينفض عنه الغبار الذى يخفى شخصيته ومميزاته (..) لقد كانت الحملة الفرنسية فاعلا تاريخيا حاسما فى حياة شعبنا، جعلته يحدد ذاته تحديدا واضحا لا لبس فيه ولا ايهام". (فوزى جرجس، دراسات فى تاريخ مصر السياسى منذ العصر المملوكى، دار العربى للنشر، القاهرة، د. ت. ص 25)
فلقد أيقظ هذا التحدى، الذى مثلته تلك الحملة، الشعب المصرى الذى رقد طويلا معزولا عن مايجرى حوله من نهضة وتطور وتقدم علمى، فى أوربا. وهو الذى كان، قبل دخول العثمانيين، لا يقل عنهم فى التطور التقنى ولا فى القوة الاقتصادية. فظهرت "الروح المصرية"، التى أعادت له القدرة على اكتشاف هويته الوطنية وانتمائه الحضارى و"تحديد ذاته تحديدا واضحا لا لبس فيه"، على حد قول فوزى جرجس فى الاقتباس المذكور أعلاه.

لقد قامت هذه الثورة الوطنية واليقظة الفكرية لدى الشعب المصرى، فى مواجهة الفرنسيين، تحت قيادة نخبة تنتمى الى الطبقة الوسطى (البرجوازية) الوطنية التى تتكون من شيوخ الطوائف الحرفية، والتجار، ورجال الأزهر. وهو ما يعنى وجود نوع من التطور الاجتماعى (الطبقى)، فى مصر منذ العصر المملوكى (وربما قبله)، والذى حقق قدرا (وان كان محدودا) من "التراكم الأولى لرأس المال"، على الرغم من الاستنزاف المتواصل والجائر من قبل السلطات العثمانية. مما أسفر عن تكوين طبقة وسطى، قد لاتكون واسعة الثراء، ولكنها كانت مؤثرة بدرجة كبيرة. (انظر : عبدالرحمن الرافعى، مرجع سابق، ص 52 – 53)
ولقد تمتعت الطوائف الحرفية بنوع من التنظيم الداخلى القوى، مما جعلها قادرة على الوعى بمصالحها الفئوية (الخاصة). وكذلك، بالمصلحة الوطنية العامة. وهى قادرة، كذلك، على التحرك الجماعى لحماية هذه المصالح (عبدالرحمن الرافعى، مرجع سابق، ص 56) . فهى التى قادت المظاهرات ونظمت فعاليات ثورتي القاهرة : الأولى والثانية، فى الأحياء والميادين. حتى عد شيوخ تلك الطوائف من الحرفيين والتجار الزعماء الحقيقيين للشعب المصرى. جنبا الى جنب، مع المساندة الروحية لشيوخ الأزهر، الذين كانوا يتمتعون بنوع من الاحترام والتوقير، من كل الأطراف، نظرا لما يمثلونه من قيمة رمزية وروحية لا يمكن اغفالها من لدن الحكام أو المحكومين، على حد سواء. (انظر : عبدالرحمن الرافعى، مرجع سابق، ص 51)
ولعل هذه الروح الوطنية الناجمة عن اكتشاف المصريين لهويتهم الوطنية هى التى وقفت وراء ايمانهم بأحقيتهم فى اختيار من يتولى حكمهم. فرفضوا تولية الوالى الذى أرسلته الآستانة (خورشيد باشا)، بعد رحيل الفرنسيين. واختاروا، بأنفسهم، حاكمهم، لأول مرة فى التاريخ، وكان محمد على (باشا). ومنذ ذلك الوقت أصبحت مصر: اما دولة مستقلة بالكامل، أو مستقلة من الناحية الفعلية، وان بقيت تابعة، من الناحية الاسمية الرسمية، للباب العالى فى استانبول، حتى عام 1917). وحتى فى ظل الاحتلال البريطانى كانت مصر دولة مستقلة بنظامها السياسى ودستورها ومؤسساتها السيادية المختلفة. وبخاصة، بعد ثورة 1919.
وربما كان من نوافل القول تكرار الحديث عن مرات دفاع المصريين عن بلادهم، فى مرحلة مابعد رحيل الحملة الفرنسية عن مصر. سواء، أكان ذلك ضد الغزو البريطانى عام 1807 ، ابان حملة فريزر، أو أثناء الثورة العرابية عاك 1881، التى قامت ضد استبداد الخديوى توفيق، ثم فى مواجهة الغزو البريطانى، وخاضت معه أشرس المعارك، فى الاسكندرية وكفر الدوار والتل الكبير. مرورا بالثورة الوطنية الديمقراطية الكبرى، التى اندلعت عام 1919 ، فى مواجهة الاحتلال الانجليزى، على التحديد، والتى أظنها تمثل واسطة العقد فى تاريخ بعث الروح الوطنية المصرية. وصولا الى العمليات الفدائية فى خط القنال منذ عام 1950 - 1951، حتى قيام ثورة يوليو، ثم المقاومة الشعبية فى مواجهة العدوان الثلاثى فى بورسعيد عام 1956 ، بعد تأميم قناة السويس. ثم المقاومة الشعبية فى السويس فى مواجهة العدوان الاسرائيلى عام 1973. حيث كانت حصيلة كل تلك المواجهات والنضالات ضد العدوان الخارجى هى تعميق روح الانتماء الوطنى وأبراز الهوية الوطنية لدى المصريين.

واذا كان المؤرخان: عبدالرحمن الرافعى وفوزى جرجس يريان ان ظهور الشعور الوطنى مرتبط بالحملة الفرنسية فان المؤرخ طاهر عبد الحكيم يرى أن الأمر أبعد وأقدم من ذلك بكثير، بل يشمل كل مراحل تطور المجتمع المصرى. يقول:
"أن الوعى بالذات، ككيان واحد متماسك، والنزوع لتأكيد تلك الذات فى مواجهة ما هو خارج عنها، اتخذ طابع الظاهرة. وكان ملموسا فى كل مراحل تطور المجتمع المصرى" (التشديد من عندى – الباحث). (طاهر عبدالحكيم، مرجع سابق، ص 9)
حيث ينظر الدكتور طاهر عبدالحكيم الى مصر باعتبارها ممثلة .. "لكيان حضارى - تاريخى متصل"، وليس مقطوعا باختلاف الحقب والعصور والحكام. وأن الشخصية الوطنية المصرية تمثل، بالنسبة له، "حقيقة اجتماعية ثقافية متطورة"، ومن أهم سماتها الاستمرارية والتواصل. وبالتالى فان الهوية المصرية (يسميها، هو، القومية المصرية، شأنه فى ذلك شأن عبدالرحمن الرافعى) حسب تصوره، قائمة منذ ظهور الدولة المصرية المركزية القديمة. وهى مستمرة حتى اللحظة الراهنة. (انظر: طاهر عبدالحكيم، مرجع سابق، ص 9 – 10)
ولقد قطع طاهر عبدالحكيم بذلك، استنادا الى ما قدمته "الموسوعة السوفييتية الكبيرة"، فى تعريفها للقومية، من حيث أنها تمثل ..
"جماعة من الناس تكونت تاريخيا على أساس من اللغة المشتركة والأرض المشتركة والاقتصاد المشترك والثقافة المشتركة، وهو أمر يسبق تكون الأمم." حيث تضيف الموسوعة قائلة: "أنه مع نمو العلاقات الرأسمالية وازدياد الروابط الاقتصادية والثقافية قوة تتحول القومية الى أمة" (طاهر عبدالحكيم، مرجع سابق، ص 62)
بما يعنى ان شرط وجود القومية لا يرتبط بمجرد قيام الطبقة البرجوازية (الرأسمالية) بعمليات التوحيد القومى على النحو الذى شاع فى الأدبيات الماركسية. وهى تلك الأدبيات التى لايشكك طاهر عبدالحكيم فى صحتها، ولكنه يرى أنها صحيحة، فقط فى انطباقها على الواقع الأوربى، الذى لم يشهد تكون دولة كبيرة تقوم على أرض يسكن عليها شعب موحد فى النشاط الاقتصادى والثقافى والفكرى، الا فى القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر . حيث ظهرت الدولة القومية الأوربية. كما نلاحظ، أيضا، التفرقة بين "القومية"، من ناحية، و"الأمة"، من ناحية ثانية. حيث تمثل "الأمة" تطورا نوعيا لمفهوم "القومية"، من حيث الانتقال من رابطة: الدم والعرق التى تمثلها القومية، الى رابطة: الوطن والأرض والمصالح والمصائر المشتركة، التى تمثلها الأمة. وهو الأمر الذى نرى أنه يمثل انطباقا أدق، على الوضع الذى يمثله مفهوم "الدولة الوطنية"، فى عصرنا.

ونلاحظ تأكيد المؤرخين الثلاثة، على الرغم من الاختلاف بينهم حول الظروف التاريخية التى شهدت نشأة الهوية المصرية، على فكرة أن المصريين قد أكتشفوا هويتهم فى مواجهة "المغايرين" والمغيرين، من الغزاة والمستعمرين. خاصة، أن مصر كانت مستهدفة على مدار التاريخ من كل القوى المحيطة بها. بل حتى البعيدة عنها، خصوصا، فى العصر الحديث. حيث تظهر الفكرة الأساسية هنا، مرتكزة على قاعدة، مؤداها: أن اكتشاف الذت ونشأة الهوية، انما هو أمر مرتبط، بصورة صميمية، باكتشاف "المغايرين" لهذه الذات، والمضادين لها. وهى القاعدة، ذاتها، التى قدمها ادوارد سعيد فى كتابه الثقافة والامبريالية، سالف الذكر، والتى تقول : "لا يمكننا أن نعرف من نحن الا اذا عرفنا من ليس نحن". (تم ايراد هذا الاقتباس فى الفصل الثانى)
واذا شئنا متابعة ماكتبه عبدالرحمن الرافعى وفوزى جرجس فى الاتجاه الذى يجعل من الحملة الفرنسية مفجرة لبدايات الشعور الوطنى المصرى، (للأسباب المتعلقة بالشروط الموضوعية لنشأة مفهوم "القومية" والتى أشرت اليها آنفا) فاننا، فى الحقيقة، لا نستطيع تفسير عرامة ذلك الاحساس الوطنى (الباكر)، لدى المصريين، (والذى استثارته الحملة الفرنسية) الا اذا كان التكوين الفكرى والنفسى والثقافى المترسب فى أعماق الوعى المصرى، منذ العصور القديمة، لم يمت. بل ان ذلك التكوين وتلك الآثار، قد بقيا صامدين وراسخين على مدى الدهور، ولم تؤثر فيهما كل عوامل الالحاق والاستلاب التى حاولتها الحملات والغزوات الخارجية. وبقيت فكرة تقديس الوطن المصرى، حية فى نفوس المصريين، كما تمت الاشارة.
وعلى ذلك، فاننى لا أكاد أرى خلافا كبيرا أو جوهريا بين عبدالرحمن الرافعى وفوزى جرجس، من ناحية، وطاهر عبدالحكيم، من ناحية أخرى. الا فى استخدام مصطلح "القومية" بوصفه مرتبطا بشروط تاريخية واجتماعية محددة.

ولقد حاول بعض المؤرخين وكتاب الرواية من المصريين، وبخاصة، ابان "المرحلة الرومانسية" فى تاريخ الأدب المصرى، التى تلت قيام ثورة 1919 ، اعتبار المشاعر الوطنية المصرية قديمة، قدم الدولة المصرية، ذاتها. أى منذ العهد الكيميتى (المصرى) القديم. مثلما وجدنا عند طاهر عبدالحكيم ونجد عند نجيب محفوظ، وعادل كامل وغيرهم.
والحقيقة انه لا يمكن قبول هذا الزعم على اطلاقه، من حيث امكانية انطباقه على كل الشعوب القديمة، بل ينبغى تقييده ليناسب الظروف التاريخية المحددة لكل بلد على حدة. ويمكن الرد عليه بأن الشعوب فى هذه الأزمنة السحيقة ذات الطبيعة "الامبراطورية"، القائمة على تأليه الملوك والحكام، والقائمة على الايمان بمفاهيم: "الحق الالهى"، وأن "الحاكم ابن الله" أو "ظل الله على الأرض" أو "خليفة الله فى الأرض".. الخ، لم تكن تتمتع بأى درجة من درجات الوعى الوطنى، على النحو المعروف فى زمننا. لأن الشعوب فى تلك الآونة كانت تعد نفسها مجرد "رعايا" أو "خدم" للملك، ولم تكن كلمة: "مواطنين" موجودة فى قاموس الاستخدام السياسى أو الثقافى أو الاجتماعى.
بيد أن المصريين، على وجه الخصوص، كانوا على وعى، من نوع ما، بانتمائهم الى ثقافة وهوية ذات طبيعة وخصائص محددة وواضحة، والى أرض متميزة، موحدة ومتكاملة، منذ فجر التاريخ. فقد كان اسم "مصر - كيميت" يتمتع بنوع من القداسة والتبجيل لدى سكانها، الذين لم يعرفوا أرضا تعادل غناها ولا رغدها.


مشاركة منتدى

  • بدا لي و كأن الكاتب يدور حول فكرة مؤداها فصل الشعب المصري المعاصر عن محيطه العربي و الإسلامي، رغم أنه لم يذكر؛ أو لم يصرح عن ذلك بكلمة معينة أو تركيب واضح..
    و كأنه يقول بأن الشعوب المحيطة بالجغرافيا المصرية كيان قائم بذاته كقومية مستقلة، و كل ما حوته الجغرافيا المصرية المذكورة في المقالة يحمل قومية مختلفة عما خارجها..
    و لأن واجبي كقارئ قبل أن أحكم أو أتخذ موقفاً من مقاصد أي نص؛ هو أن أحسن الظن بالكاتب حتى يثبت العكس؛ فلا أرى استناداً للظن الحسن في هذا النص معنى مفيد أو فكرة جديدة أو مميزة...
    مجرد قول أن الماء هو الماء... و كأن أحداً نسي هذه الحقيقة
    المصريون لهم ثقافات و أعراف و تقاليد متباينة ما بين شمال و جنوب، بين مناطق سواحلية و داخلية، كما يختلفون عن الشامي الغزاوي أو الخليلي أو الدمشقي أو الحلبي...
    لا أدري لماذا انتابني شعور أن العروبة و الإسلام كثقافة منطوقة هي المستهدفة بالنفي و التهميش
    و جِدوا لي العذر إن أخطأت في رؤيتي هذه
    مع مودتي للكاتب و لمنتداكم الكريم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى