«أجساد» للشاعرة سهام جبار
صدرت للشاعرة العراقية سهام جبار مجموعتها الشعرية الجديدة "أجساد" عن مؤسسة شمس للنشر والتوزيع بالقاهرة، وتتضمن المجموعة 26 قصيدة نثر كتبت ما بين عامي 2005 و2010 وما بين بغداد والسويد حيث تقيم الشاعرة منذ عام 2007.
تعتني الشاعرة في مجموعتها الشعرية الجديدة بتأكيد القيم الحياتية والإنسانية الناتجة عن معاناة آلام الحروب والقتل اليومي في بلادها وتنتصر لإرادة البقاء بقوة وعلو بوجه كل الكوارث التي أحاطت بالإنسان العراقي. من هنا يمكننا التعرف على الماهية الشعرية التي تركز عليها لموضوعة الأجساد في مجموعتها الشعرية الجديدة، إنها الأجساد المستهدفة بالقتل والأذى والتنكيل والرصد من قاتل مجهول ومتربص. يمكننا أن نلاحظ ان مفردة اجساد موجودة بهذا الهاجس في كل قصائد المجموعة وبطرائق طرح مختلفة ومتعددة. نقرا مثلاً في قصيدة "أجساد" التي تحمل المجموعة عنوانها:
أجسادٌ لكل الأزمنة
أجساد لكل الأمكنة
أجساد ميتة
لاهثة
قابعة
غارقة
منتظرة
بيض.. سمر.. سود.. غضة.. هرمة.. نضرة..كالحة
أجسادٌ لتبادل لونيْ النصر والخسارة
أجسادٌ لمحوِ حركاتِ الحظ البهلوانية
من وحي فلكٍ ما
أجسادٌ للركض المشتعل في البلاد
لحكمة الحرب المهيبة
لحفل تماثيلها السائرة بالنهايات
أجسادٌ بأسماء وأوصاف تشغل تقاويم
وبحبالٍ متسللة من الجماهير المتطلعة
إلى الحرية توثّق الحريةَ بميتاتها
تتقلد عقاباً دائراً بأرواحه فوق هاويات
تتّقدُ لتنثرَ بردَ الأيام العطشى
لتعطي وحشَ المصادفةِ فرصتَه الثمينة
أجسادٌ للجنةِ وأبوابِها
أجسادٌ للعصيّ وفزاعاتِها
هكذا لا نكاد نقرأ قصيدة من دون هذا الهاجس المأساوي الذي يحصي الأجساد المؤرشفة تاريخ البلاد بالموت والأسى، بل إن آفاق الخيال حتى الخيال مشغولة بهذا الهاجس المتعلق بالبلد وحده ربما هذا ما يجعلنا نثق بأن الشاعرة متماهية بالبلاد حدّ إمحاء ما هو شخصي أو اندماغه بما هو عام وإنساني. الأمر الذي يسجل علامة مضادة لما تم التركيز عليه في مجموعتها الشعرية الأولى المعنونة بـ " الشاعرة " رغم انشغال تلك المجموعة هي الأخرى بالهم العراقي
العام في انتصارها للإنسان ضد الحرب الأمر الذي أكده كل النقاد والمهتمين الذي تناولوا مجموعة " الشاعرة" بالاهتمام والتحليل.
ومن ناحية ثانية يمكن رصد هاجس النفي والغربة في قصائد المجموعة الشعرية الجديدة بأكثر من صورة فضلاً عن صورة النفي الوجودية والانسانية التي يستمر ظهورها عبر مجاميعها الشعرية كلها ولكن الصورة الشعرية الجديدة للنفي تتأكد في البعد المكاني والفيزيائي أيضاً الأمر الذي يتعاضد ها هنا مع ما هو وجودي وروحي وباطني عام تتكشف عنه تجربة الشاعرة العراقية سهام جبار عامة منذ ظهورها ضمن جيل الثمانينيات الشعري العراقي حتى الآن.
تقول الشاعرة في إحدى قصائدها:
لتكن كلَ هذه الكتب
وتلك المدنُ حليفاتكَ
والموسيقى شفرةَ وقتِك
لتكن كلَ تلك الأغاني
التي واظبت على القبض على القلب
لتكن الجبلَ الصغيرَ الذي تعابث
وأنا الثلجَ الشاهقَ الذي أهاب
تحبس روحكَ في الصخر ليتكسّر
وتحبسُكَ بغداد في آن
أقول
هاي
فأنا هنا أي أتأرجح بين الهواء
وتريد التقاط مكاني؟ صرْ سماءً أو الربّ
الذي رمى أثري عليك فتلقّفْ
يا عراقييّ وأنا عراقيتُك
مغلَقين علينا مصوَّبين إلى نقطةٍ ستستردُّنا
هل تراها.. ؟ هل تراني.. ؟
ربما لا أرى إلا جدارَ الصَدَفة
وهو يبكي، أغمِّسُ عيني في هذا الدم
أمسِّحُ صوتي في هذا الظلام
وأقول
هاي
بديل اللهم صلِّ
لأني على قفاي أسير
إلى الوراء إصغري يا سنيَّ عمري
سأتعلّم التفتّحَ على الساحل
والسيرَ شأنَ شجرة والوقوف مثل غيمة
لأنهم أضاعوني وأي فتا..ةٍ أضاعوا
ومن السمات الخاصة بشعر سهام جبار يمكن تأكيد الفاعلية الفلسفية التي تتحرك على طول الخط من أجل التصرف باللغة الشعرية لديها ومناورة صيغ تشكيل الجملة الشعرية وقدرات توليد معنى مختلف أو متجدد بالطريقة التي تدأب فيها الشاعرة على خلق نوع من الكدّ الفكري والتأويلي لدى القارئ الأمر الذي تراه الشاعرة قدرة خاصة من قدرات قصيدة النثر التي تكتبها. لا بد من إشغال ذهن القارئ بالتداعي او الاستطراد او التمدد بالمعنى الى أقصى غاياته مما يسمح بتوصيف أسلوبية الشاعرة الخاصة بسعيها الى فك الحدود الضيقة التي تمنع اللغة من منح نفسها للافكار والمشاعر والتاويلات المتعددة التي تجنح اليها قصيدة النثر وقد عدّ أحد النقاد هذه السمة بانها قدرة الشعر على تحريك اللغة وتحريرها من مألوفيتها الدائمة وجمودها وتضييقها على حرية الشاعر. يمكن الانتباه إذن الى أن السعي الى الحرية يتحقق عبر آليات عميقة بالنص الشعري الخاص بسهام جبار، إنها الحرية في مديات الفعل لا القول فقط، أي إنها تكرس بحثها عن الحرية بطريقة الكتابة لا بإعلان ذلك في هيأة تعبيرية محددة ومنتهية.
يبقى الحديث عن المجموعة الشعرية الجديدة رهين التناول النقدي الجاد والمهتم ولكن بالضرورة ينبغي وصف تجربة سهام جبار الشعرية عامة بأنها تجربة متنوعة ومتجددة وعميقة يمكن إدراك ذلك عبر سعيها التجريبي المستمر من أجل كتابة قصيدة نثر مختلفة وجديدة في كل تجربة شعرية لها يما يعني البحث عن قدرات دلالية وتركيبية وشكلية خاصة وجديدة في كل تجاربها الشعرية من أجل التخلص مما هو راكد ورتيب ومعلوم بحثاً عما هو مجهول ومليء بالإمكانات الجديدة.