الجمعة ١٢ آب (أغسطس) ٢٠١١
بقلم سهام جبار

رواية «سمرقند» للروائي أمين معلوف

تستثمر رواية (سمرقند) للروائي أمين معلوف التاريخ لتوظفه عنصراً فاعلاً في إنتاج فن الرواية بتمكّن وحذق، وفي رسم بيئة الشرق من دون الاستعلاء عليه والوقوع في فخ ممالأة الغرب أو مغازلته، كذلك من دون تقديم مواقف إدانة ساذجة أو جاهزة لهذا الغرب على وفق أفكار مؤدلجة مسبقة. وليس خافياً أن ذلك أمر ليس بالسهل إلى جانب تحقق قدرات إمتاع وشدّ واستدراج للقارئ على مدى صفحات الرواية ال336، بوسائل بناء متمكنة لأجزاء الرواية ورسم منطقي ومعقول للشخصيات والبيئات المتنوعة ومن ثم القدرة على إنتاج معرفة. الأمر الذي قد يعجز عنه كتاب آخرون فرانكفونيون وغير فرانكفونيين.

بالرغم من أن رواية (سمرقند) متألفة من أربعة كتب هي: الكتاب الأول (شعراء وعشاق)، والكتاب الثاني (فردوس الحشاشين)، والكتاب الثالث (نهاية الأعوام الألف)، والكتاب الرابع (شاعر تائه) إلا أنها تنقسم تاريخياً إلى زمنين الأول زمن عمر الخيام ورفيقيه حسن الصباح ونظام الملك، والزمن الثاني زمن الراوي بنيامين عمر لوساج الذي ينتهي مع غرق الباخرة تيتانيك أبريل 1912 في أعماق المحيط الأطلسي.

ثمة إطار يغلّف المروي يعتمد رواية الشخصية الرئيسة لوساج للأحداث فالرواية تبدأ به واليه تنتهي. إلا أن من الممكن القول بوجود شخصية رئيسة أخرى هي الكتاب الذي يُعطى أهمية هو جديرٌ بها على مستوى إعلاء شأن المعرفة من جهة، وعلى مستوى إثراء السرد وإضفاء فانتازية عبقة تستمد من الشرق جاذبيته وسحره بخلق دافع مناسب للبحث من جهة أخرى. والكتاب هو "رباعيات الخيام" بالطبع الذي يُتَّخَذُ رمزاً للحكمة المضيّعة والسحر والحب والجمال. ولعل ضياع نسخته الأصلية بغرقها مع الباخرة تيتانيك ومن امرئ قادم من أقصى بلاد العالم (أمريكا) أمرٌ له دلالته وإحالته على ضياعٍ أكبر لا يتسنى إدراكه دائماً مع اطّراد خسرانات أخرى جديدة تحلّ دائماً.

ترسم الرواية حالة تنافر يجسد طرفها الأول حلم عمر الخيام بمرصد وحديقة وورد مع امرأةٍ وكأس. أما طرفها الآخر فيمثّله سعيٌ من أطراف متعددة إلى الملك والجاه والسلطة وما يمتدُّ من ذلك إلى عنف وكراهية وتقتيل.

هذا التنافر الذي ابتدأ زمن الخيام وما انتثر منه عهد الإمبراطورية السلجوقية من أحداث تمثّل بتدابير سلطوية قامعة دفعت إلى إقامة يوتوبيا الرفض التي أسسها آنذاك حسن الصباح في مدينة "آلموْت" المحصنة التي ينطلق منها الرعب والقتل والدمار على أيدي الحشاشين ورئيسهم الأمر الذي يذكّرنا برافضين مؤدلجين آخرين حملوا السلاح في هذه المناطق نفسها وأسسوا لإرهاب معاصر، من دون أن يذكر ذلك معلوف نفسه فروايته تتيح فرصاً للقارئ بالتفاعل معها وإنتاج قراءته الخاصة وتفسيره المستمد من هذه الترسيمة، لكن بطلة الرواية شيرين في الزمن الثاني زمن لوساج تربط بين حسن الصباح مؤسس قلعة الرفض والارهاب زمن السلجوقيين زمن عمر الخيام وشخصية مرزا رضا الذي يغتال شاه إيران في زمنها وكأن معلوف بذلك يؤكد متوالية الإرهاب التي لا تقتصر على زمن واحد. ويمكننا ان نلاحظ أن نموذج عمر الخيام ينطبق على شخصية ع. لوساج (الذي يتضمن اسمه اسم عمر في مفارقة استثنائية أن يكون أبواه قد حلما بكتاب عمر الخيام أيضاً) بطل الرواية الذي حلم بامتلاك كتاب رباعيات الخيام فقام برحلة طويلة من أجل الحصول عليه معاصراً بذلك أزمات عالم الشرق وويلاته ومشاركاً بصنع أحداث هذا الشرق موليّاً الأدبار منه في الوقت نفسه. يدخل ذلك في إطار البحث عن فراديس مفقودة ما ان يجدها المرء حتى تضيع مرة أخرى كما حدث مع كتاب رباعيات الخيام بغرقه في المحيط الأطلسي وكما حدث مع فقدان شيرين التي اختفت هي الأخرى بعد غرق الكتاب في دلالة على غياب إمكانية الحب مع غياب إمكانية المعرفة.

لا يمكن للحب أن ينعم بثماره مع غياب أسسه اللازمة من المعرفة والإدراك وهذا الدرس لا يمكن التغاضي عنه في حياة الشرق في خضم سياق الفوضى المضطرمة بالحروب والمشاكل والأزمات. ومن ذلك ما يصيب بالصميم حلم الشرق المتمثل بإيران نهايات القرن التاسع عشر بالديمقراطية الأمر الذي ترفضه هيمنات استعمارية مجاورة في تركيا وروسيا ومصالح سياسية واقتصادية متمثلة ببريطانيا المحتلة الهند وغيرها آنذاك وقد حققت الرواية خلال ذلك كشفاً وتوعية في هذا الإطار مع أنها مشغولة بالفن والخيال إلى جانب رصدها التاريخي مما يعكس قدرة مميزة في توظيف كل من التاريخ والخيال من دون إغراق في التوثيق أو افتعال في التخيل. كذلك دون الزج بشخصيات منمّطة مسبقاً في صفّ هذا الفريق أو ذاك، فجاء تنوعها جزءاً من تنوّع الرؤى والأحداث ووجهات النظر والوقائع لا في سياق الواقع وحده بل ضمن سياق خصوصية فن الرواية نوعاً أدبياً قائماً على الحوارية والاختلاف بالضرورة.

قد يكون ملمح النظر الى بعض المفردات كالتي تترجم الى حشاشين وتفسّر أيضاً بــ"أساسيين" نوعاً من الاهتمام اللغوي بما هو عالمي لا عربي وإسلامي فحسب، وليس هذا وحده الأمر الذي يمكن بموجبه عدّ رواية "سمرقند" للأديب المولود في لبنان عام 1949 والمقيم في فرنسا منذ السبعينيات أمين معلوف روايةً عالمية، إ ذ يكفي لعدّها كذلك ما لها من قدرات وإمكانات على توسيع مديات القراءة بالرغم من التركيز العالي على البحث في التنافر المقلق على الدوام بين الحلم بالسعادة دون أشباح ندمٍ أو عدوان من جهة، والمضي مع قوى السعي العقائدي من هنا ومن هناك إلى كل الغايات الممكن نيلها كما يحدث في كل أوان ومكان من جهة أخرى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى