دراسة في ديوان الشاعرة سنية صالح (ذَكَر الورد)
«هيا نقتسم الكون:
ما أمام الأفق لكم
وما وراؤه لي..»
في مواجهة الموت يقف ديوان (ذكر الورد) لسنية صالح ممثلاً لنوع من معانقة الكتابة بوصفها حلاً أو منفذاً يمرّر منه الخلاص الإنساني. فالعدو المستفحل في جسد الشاعرة مواجَه بالشعر، إذ تتجلى معاناة أعراض المرض بكيفية رمزية يتداخل فيها واقع الجسد في صراعه مع المجاز الشعري في توتره ودرامية صوره.
وهذا ظاهر في وحدة «إن الجسد ليس المغاير للروح، ليس هو مختلفاً عن الروح أو منفصلاً عنها أو غيرها. إنه هي وهي هو: إنهما واحد (...) في صيرورة وتفاعل»(١). فخوض مأساة المرض أو الموت تولّد العبقرية من خلال موازنة جديّة «تتمثل في العلاقات الصعبة والمتوترة بين الحياة والفكر، وفي المرض، فالصحة حياة الأعضاء الصامتة كما يقول البروفسور لوريش، تتيح الانفصال بين الفكر بوساطة التلهية. والإنسان السليم ذلك الذي يحيد عن جسده دون أن يعلم ويتجه إلى الحياة بصفة بسيطة ليتمتع بمباهجها بسذاجة، يتجاهل سرها المأتمي والمقدس»(٢)، أما المرض فيوفر فرصة الإمساك بلحظة المواجهة «لقد تفرّس الفكر في الموت، وظل في حضرته. والحياة يمكن أن تكون عملاً بطيئاً ينجزه الموت»(٣)، وقد ذهبت التأملات الفلسفية إلى مقاربات شتى، وأكثر الأدباء من التأمل في الموت وكانت زوايا تناولهم له مختلفة. نظر شعراء الرومانسية إليه من زاوية الطبيعة حيث عدّ غوته الموت «حيلةَ الطبيعة لضمان المزيد من وفرة الحياة»(٤)، ولا ننسى الزاوية الأخرى للمعنى الإسقاطي من الذات على الطبيعة عند الرومانسيين إذ كثيراً ما يكون بتشاؤمية وحزن، وقد قام ذلك على فكر فلسفي متشائم من شوبنهاور وغيره. أما الرمزيون فوجدوا في فلسفة هيدجر (والوجوديين عامة) تعريفاً للموت بأنه نمط من الوجود الإنساني وما يتعلق بذلك من معاني الاغتراب، ورأى الشاعر الرمزي المتأثر بهيدجر فؤاد رفقة أن ثمة طرائق لمقاومة الموت منها: الأمل، والحب، والكلمة الشعرية، والأخيرة هي الأكثر أساسية بين الطرائق لأنها منبعهما الأساسي، بل إن الوجود الشعري هو المناوئ الحقيقي للموت(٥)، مؤكداً من تجليّات هذه الطرائق دور الحب الأمومي في نشر عالم مضيء بين الظلمة والمجهول(٦)، وسنلمس ذلك بقوة في الشعر الأمومي الذي كتبته سنية صالح في مقاومتها للموت أو ردها عليه بتفرّد ميّز شعرها بأنثوية ممتلئة بالحب، مقاومةً للموت في الشعر.
وهناك زوايا أخرى ومنطلقات يهتم بها الرمزيون من توغل في معانٍ ميثولوجية تجد صداها في طرائق القدماء من الأمم في مواجهة الموت: مواجهة كلكامش وإيمانه باللاموت، تأملات البابليين والآشوريين في الموت بوصفه النهاية المطلقة للحياة، أو هبوط الروح إلى العالم السفلي لتقيم هناك إلى الأبد (ونجد عند سنية إشاراتٍ إلى هذا العالم)، قدماء اليونان الذين اعتقدوا بأن الموتى يصبحون أشباحاً تهيم بضياع في العالم السفلي، وفي هذا وجد الأغريق مثلاً أعلى للموقف البطولي(٧)، وهذا ما طبع الحضارة الأوروبية بطابع ميثولوجي خاص إلى جانب الطابع اللاهوتي المسيحي الذي ترك آثاره في الأدب المهتم بالتأمل في الموت، ثمة تقابل في صورة الشيطان من جهة (في فاوست مثلاً) والمنقذ في صورة المسيح (ع) في معالجات شتى في إطار الفن والأدب الغربيين.
كل هذا التراث الفكري والأدبي يمكن أن نجد له تجليات في استحضار، والتقاء أو افتراق، وفي تغذية المواجهة مع الموت بالمعاني والأحاسيس وطرائق التنويع في النظر والتقابل والتمثل في ديوان (ذكر الورد) لسنية، ومن جهة أخرى في معاناة دامية متجسدة في نوع من الأدب السريري حيث النظر إلى فساد الجسد بالمرض وأعراضه، وقد انتشر هذا النوع من الأدب في الغرب في العصر الحديث في الالتفات إلى ما يتركه المرض من آثار، وكيف يشحذ العبقرية الإبداعية، ويعمق العزلة بالقلق المستديم والرعب والإحساس بالفناء، فلقد أسهمت عوامل بيوغرافية، ودينية، واجتماعية، وعلمية، وطبية في إيجاد الاهتمام بأدب المرض وبلورته في الغرب(٨)، وفي الأدب العربي يمكن التمثل باهتمام النقد الحديث بموضوعة الموت أو تجربة الموت عند الشابي، والسياب، وأمل دنقل(٩).. أما الحديث عن الأدب السريري فلم نجد اهتماماً به من النقد العربي على نحوٍ يميّزه بمواصفات خاصة، فضلاً عن أن يكون له هذا الظهور في الأدب الحديث كما في ديوان (ذكر الورد) مع الخوض في التأمل الفلسفي، والشعري، والأمومي الذي يطبع تجربتها بالطابع الأنثوي الخاص، وبالملمح الرمزي.
ثمة طابع رمزي في دواوين الشاعرة (الزمان الضيق) 1964، و(حبر الإعدام) 1970، و(قصائد بيروت) 1980، وقد وقف النقاد على هذا الطابع كما يتضح مثلاً مما تقوله الناقدة خالدة سعيد من اتسام الصورة عند سنية صالح بامتلاك إشعاعها الخاص، ومن قيام فنّيتها على الحلم، وأنها «تتمتع بمستوى رفيع من الحساسية والحدس، وهي قادرة أن تجرد من كل شيء أكثر الخطوط إثارة للحنان والحزن، قادرة بعفويتها أن تحيط الأشياء بدفء آسر»(10) ، كذلك تصفها الناقدة روز غريب بأنها «فنانة في موسيقية عبارتها وبراعتها في ابتداع التشبيه وألوان المجاز والرمز والتصوير»(١١) وتؤكد الطابع الرمزي في شعر سنية المنثور بصوره وإيقاعاته ورموزه (12) وقد ازداد هذا الطابع نضجاً في ديوانها الأخير (ذكر الورد) 1988 المكتوب في مكان واحد هو مستشفى بول بروس قرب باريس وفي مدة محددة بين حزيران 1984 وتموز 1985، ولعل مقدمة الديوان تشهد على الرؤية الشعرية التي تحرك قصيدة الشاعرة، وعياً وكتابة، نحو الرمزية. فهي تهتم بالربط بين الولادة والشعر في تقرير معادلة القصيدة_ الجسد من جهة، ومن جهة ثانية التقاء ذات القارئ بالذات البشرية الكبرى كما تسميها في نزوع صوفي إلى الاتحاد. هناك طبقتان من الحضور في العمل الشعري بترسيخ المعنى الباطني للعملية الشعرية التي تشبهها بعملية تدفق داخلية تترك أثر الاستسلام في الإرادة والحواس بعد أن يتم الهذيان الذي هو محصول هذا التدفق، في إيقاعية وغموض شفاف، وسنجد ملمح ذلك في قصائد الديوان. تهتم سنية بكيمياء الصور حيث العلاقات قائمة بين أشياء «اعتُقد لزمن مضى أن لا علاقة بينها» وتقوم الذاكرة والحواس والانفعالات «بعملية مزج مدهشة بين العبارات والصور» في تنبيه إلى طبيعة الشكل الذي تساعد في تنظيمه كل العناصر ومن بينها الفاصلة وعلامات الترقيم. لا ينتهي اهتمام سنية بالحلم في مظهر الانفعال والطاقة التخيلية المتزاوجين في اللسعة الشعرية، فليس بغريب أن تتكرر مفردات النزف والولادة والانفجار الداخلي والحواس، والرحم الذي تنمو فيه بذرة القصيدة، ويصب كل ذلك في خلاص شعري هو نوع من الثأر الذي تمثله عملية الإبداع. تتداخل العصور في إنتاج قصيدة سنية فخوضها في الثقافة وتاريخ العالم وأساطيره نوع من جسر بين طفولتها وطفولة الخليقة، ولأن «جسد الشاعر_ كما تقول_ هو حلقة وصل بين حلمه والعالم» تأتي قصائدها حاملة الجسد في عبوره بين العالم والحلم فعلاً، فتترك أثر هذا التزاوج بين الحلم والموت (والموت هو واقعة العالم هنا أو اللاحلم) وقد ظهرت عليه آثار التناوش مغموسة بالسعي إلى العبور بالحلم الذي هو وجد شعري ودعوة صوفية كما ذكرت (تنظر مقدمة الديوان 159).
إن الطرح الذي تقدم به الشاعرة ديوانها منسجم مع مبادئ الرمزية التي تتضح بوصف الشعر خلقاً من الجمال المنغّم وأن موضوعه الحقيقة الذاتية، وأن إيجازاً عميقاً متحقق فيه بغموض وإيحاء وتآلف موسيقي وشعوري(13)، كما تتضح في أن الشعر الرمزي «يملك على الدوام معنى مزدوجا»(14) يتفاعلان في نتاج (أو بالولادة كما تقول)، وأن الشعر «ينظم لا ليفهم ولكن ليتأثر به القارئ من غير فهم»(15)، والغموض مبدأ من مبادئ الرمزية له مجالات اشتغال متعددة لا تنتهي عند حدود التقسيم الذي يحصره الناقد محمد مندور في اتجاهات ثلاثة هي: الغيبي، والباطني، واللغوي(16)، بل هي أكثر من ذلك تتغير بتغير طابع النشاط الذهني، والروحي، والنفسي، والعاطفي، والخيالي للشاعر، وقد حقق هذا التنوع في آفاق الرمزية شعراؤها من صور إدغار ألن بو اللاواعية، وعنف التشكيل بين الموسيقى والمعاناة الذاتية عند بودلير، وتجريد رامبو في كيمياء الصورة وفي التداخل بين الحواس، واقتصاد مالاراميه اللغوي، وصوفية كلوديل اللاهوتية، وجمع بول فيرلين بين المتناقضات، ومزج فاليري بين العالم الخارجي والمطلق..هذا في حرية تجريب واختلاف تسمح بهما الرمزية. فلابدّ من إدراك أن التوجه الرمزي لا يمكن أن يتبنّى من الخارج أي لا يسع الشاعر تقليد غيره وإلا بدا متكلفاً بوضوح ومفتعلاً، لأن التجربة الرمزية في الشعر ممثلة لعناء داخلي وهي نتاج الأعماق لا الخارج وهذا ما أوضحته الشاعرة في مقدمتها، بالكشف عن نهجها الشعري المجسد بالنصوص. وفي هذه النقطة يمكن مناقشة الناقدة روز غريب التي تحدد خصائص شعراء الستينيات في لبنان (ومن ضمنهم سنية) بخصائص أسلوبية ومضمونية متشابهة، بأن معظم شعرهم خالٍ من الوزن والقافية إلا أن فيه «مقداراً من الموسيقية المرتكزة على الوصف الشعري المخالف للمألوف، تكرار عبارات أو مفردات بشكل إيقاعي موفق، استعمال الوزن، التعداد، التضاد والمقابلة والحوار، وأحياناً قليلة الجناس والسجع، بناء القصيدة يعتمد على التفجر المعنوي، التداعي الفكري، الانتقال المفاجئ، بدلاً من التسلسل المنطقي. أما الصور والرموز فتستوحي الطبيعة وخصوصاً الميثولوجيا اليونانية للإشارة إلى المنابع الغربية التي استقوا [أي الشعراء] منها»(17). هذا التوصيف النقدي لجيل الستينيات وتجربة مجلة شعر اللبنانية خاصة، يشمل شعراء الجيل عامة الذي حمل _كما تقول(_(دعوة الانقلاب والتجديد على جميع المستويات لغوياً، فكرياً، اجتماعيا»(18) لذا لا نوافق الناقدة حين تعدّ سنية صالح مقلِّدة لهم أو لأحدهم، ولم تساوِها بشعراء جيلها في التأثر بالغرب، لا التأثر بعضهم ببعض، فلماذا تكون مقلِّدة لمجايليها من الشعراء وقد تأثرت بما تأثروا به وشاركت في صوغ ما شاركوا في صوغه على أنحاء متعددة ؟، ولماذا لا نصنّف الجيل الشعري بما فيه من نتاج وعي جمالي وثقافي معين ظهر في مرحلة تاريخية محددة وعند شعراء تتفاوت بينهم المواهب، والاهتمامات المباشرة، والضجيج الإعلامي ؟ إن هذا ما يمكن النظر فيه على أساس مفهوم الجيل الشعري، ونقول أن سنية صالح واحدة من شعراء الجيل الستيني، ينطبق عليها توصيف الجيل مع تمييزها بما مثّلته تجربتها الخاصة. ونحن نرى في ديوانها الأخير(ذكر الورد) بنضجه واستثماراته الفنية والعمق الشعوري الذي فيه ما يجعله خلاصة مكثفة وواعية لوجود شعري معاصر وحديث.
شخص ما سيطلق الرصاص
على ذاكرتي الواقفة في الهواء
أيها السيّد
جئت أبحث مع حرّاسك وكلاب حدائقك
قضيةَ الجوع الذي أسكن
والذلّ الذي ألبس
والقامة التي فارقتني
وأشكو لبلاب الحلم الذي لا يثمر
وذَكَر الورد الذي أهان أنثاه
والهاوية التي يتربّص بي جنودها (من قصيدة أفكار صامتة ص 79)
«دلّت الكشوفات الطبية أن كثيراً من الكتّاب الموهوبين الذين أحدثوا ثورة في مسيرة التاريخ الأدبي وتركوا بصمات واضحة على صفحات الإبداع الفني كانوا يعانون من مرض ما. فتوماس مان وفرانز كافكا كانا مصابين بمرض السلّ، ونيتشه كان يعاني من مرض الزهري، وكذلك جول غونكور وموباسان، وجيرار نرفال كان مجنوناً، وديستويفسكي كان مصاباً بالصرع، أما مارسيل بروست فقد كان موبوءاً يكتب مثلما يتنفس، ويجعل فواصل جمله على قدر حشرجاته»(19)، هل تكفّل ديوان سنية صالح (ذكر الورد) بالكشف عن حالتها المرضية هي الأخرى ؟ وما الأعراض التي يمكن من خلالها تشخيص المرض الذي أودى بها ؟ وكيف خاضت الشاعرة هذه التجربة ؟.
إننا نقف على مظاهر من الأدب السريري توثقها أشكال وعي، وكشف، وإكمال للنقص (الذي سبّبه المرض والمؤدي إلى الموت)، في اللبوس الرمزي حيث تتماهى رؤية الشاعرة مع واقعة اللاحلم في دلالات عديدة.
أولاً: الوعي بالنقص
بمعرفة الذات يتحقق الكمال على أن تقترن المعرفة بالقدرة على التغيير، من حيث أن المعرفة نتاج اختبار للحقيقة الإنسانية يؤدي بفعل عميق إلى التحرر(20)، ثمة حالات متعددة لمعرفة الذات عند سنية بحسب درجة المتحقق من شروطها، وأولى هذه الشروط الوعي بالنقص فعقبة المرض تمنع سنية من التحرر، وهو حدّ معين من اختبار الذات، وهي في ديوانها تصارع لتبلغ حدوداً أخرى من المعرفة وصولاً إلى الإشراق الذي يحققه الشعر بوصفه الفعل الخلاق. ونحن نجد تنبيهاً على النقص في مجمل الديوان عبر إشارات مرسلة بإيحاء أو مفصّلة، منها رفعها عنوان الديوان من مقطع قصيدة (أفكار صامتة) الذي قدّمته آنفاً، و«عنوان كل كتاب يكون اختصاراً للأفق الذي يتحرك فيه مضمونه»(21) من هنا تجيء تسمية الديوان دالّة على الوقوف الطويل على العلّة بوصفها المهيمنة التي يقع الديوان في ظلّها. وفي هذا تعريف للنفس بالسلب، فالشاعرة تعرِّف نفسها بنقص مهيمن (وإن كان طارئاً، إلا إنه نقص قاتل) فيها. وسنجد في مظاهر وعي أخرى أنها لا تقف عند حدود هذا السلب، لأنها كائن إيجابي مليء بالقدرة والنشاط الإنساني فتعمد إلى الكشف عن هذا النقص، وإلى سدّه في مقاومة خلاقة وإبداع مشرق مشهود لها.
ثانياً: الكشف عن النقص
يقول الطبيب المعالج لمارسيل بروست: «بالنسبة إلى إنسان عادي فإن الورد هو الورد، أما بالنسبة إلى بروست فإن الورد ليس إلا أزمة ربو خانقة»(٢٢)، ولقد دفعه إلى نقطة انطلاقه للبحث عن زمن مفقود إلى الأبد، منذ الطفولة الأولى حيث كان يقترب من الأزهار والثمار والعطور دون خوف فالأحاسيس حرة، بل أكثر من ذلك ظهر الأثر في الأسماء المختارة من البلاد، يقول ناحية غرمانت هو أشبه بالبالونات الصغيرة التي تملأ بالأوكسجين، أو بأي غاز آخر ليفرز ويخرج ما يحتويه.. الخ كل ذلك في إيقاع الجملة البروستية فهو يكتب كما يتنفّس، ونسق جملته انعكاس أدبي ولغوي لسورات الاختناق كما يشرح ذلك طبيبه(23). تتكشّف الأعراض في ديوان (ذكر الورد) مختلطة بالأحاسيس والتصورات والأحلام الشعرية، إذ تحقق الذات بهذا المزج صورة للصراع الدائر فيها بين الموت (وهو المغلّف الرمزي للمرض وأعراضه)، والحياة في مناسباتها العديدة. ومن هنا تتضح صعوبة الفصل بين فعليْ الترميزات الشعرية التي دأبها الغموض والشفافية، والتصريح الذي لم ينزلق إلى التقريرية والنقل المباشر بالرغم من أننا إزاء كشف طبي يحمل ملامح المرض ووسائل المعالجة، وهذا بيّن في ما نقتطفه للتمثيل لا الحصر، لأننا لو شئنا الإحصاء لخرج الديوان كله دليلاً على حالة الانحراف الصحي الذي تدوّنه الشاعرة في هاجس كشف للعدو، وتعرية لهدمه بالرغم من عناء هذا الكشف وصعوبة التوصيل في معترك المرض وضراوة الألم، ولاسيما في حالات الإغماء والدوار وثقل الرأس الذي تسبّبه مضاعفات الأدوية والنوبات المرضية، لم يمنع الطابع الرمزي ما نعدّ ظهوره في الديوان بأنه من الأدب السريري. ولنقف على الأعراض والعلاجات المذكورة في التشخيص الطبي لحالة الشاعرة في قصائدها كما يأتي:
إنك من الزرنيخ يا سيّدي،/ أفتح فمي كل صباح وأبتلع جزءاً منك/ ولم تنته./ قلت سيأتي يوم أتوحش فيه/ وأفترسك/ ثم أستريح./ جميع أدوية العالم لن تمنحني/ تلك الفرصة،/ لا أشنة البحار ولا بخور الأولياء. (من قصيدة الطوفان ص19)
نغسله في الماء الأمثل/ في المرجل الشتائي/ في نهر الأحماض/ في نيرانه العالية وغليانه الدائم/ ليكون لائقاً بظمئنا (من قصيدة ذاكرة النيران ص20)
خاصرة البركان بلا ضماد/ أوراق تاريخ تفرز زرنيخها هنا وهناك. (من قصيدة الذاكرة الأخيرة ص٢٢)
وتدور بي عجلات كعجلات الطواحين المائية (من القصيدة نفسها ص23)
أيها العشّاق/ ضعوا العَنَفات في مجاري الجسد،/ المولّدات الكهربائية على مصبّات شرايينه (من قصيدة أيها الخداع يا جسدي ص25)
يردمون فمي، ولكنه عميق لا قرار له./ أفسدوا ذاكرتي بالفجوات،/ بهندسة الجوع/ بتقلبات الجسد. (من قصيدة تخرجين من أسوار الجسد ص23)
لستُ أهذي/ لكن شقائي هو الذي لا يصدّق (من قصيدة يمضغني كما في المجاعات ص43)
لم أعرف للنسيان ساقين/ مع ذلك يذهب ويجيء كحصان جموح/ بانتظار أن تسقط الوردة البرونزية (من قصيدة مليون امرأة هي أمك ص٤٤)
مليون امرأة عارية يغتسلن تحت المطر/ ثم يستسلمن للطوفان (من القصيدة نفسها ص74)
أستقي من ماء وأبصق آخر/ أي نهر هذا الذي يقولون أنه/ يعيد الصبا ؟ (من قصيد معبد الشمس ص52)
حين تسلّق بياض الصباح رئتي/ وهجمت الريح صوب أعماقي
(من قصيدة ملايين الأرواح خارج غطائها ص35)
وصدورنا تأكلها الحرائق (من قصيدة شيء ما في صدر الريح ص57)
هناك حرب بين شقّي الدماء/ مما دفع بوفود الأملاح والأحماض/ وهي ترتدي جلابيبها القيصرية/ إلى المعركة (من قصيدة قمر رطب ص61)
إنه يتعامل مع الجسد والروح/ كزبائن قدامى/ لكنه يلتهمها عندما يجوع.
(من قصيدة المحاكمة ص64)
وإلا ما نفع ذلك الماء الذي/ يدور في داخلي (من القصيدة نفسها ص65)
نحن عمال مزارع العلقم/ نحلم بالهجرة/ فنمتطي ظهور وسائدنا،/ نلتفّ على نعاسنا كالخيوط،
والبرد يلتقطنا من الأطراف. (من قصيدة فارس المخيلة يمتطي حصان الشجر ص68)
جميع الكوارث عبرت مضيق الهواء/ وفجرّت فمي (من قصيدة مضيق الهواء ص70)
أفسدتنا الجراثيم وغدر بنا الهواء/ وهربت النار الجميلة/ (...)/ فأين بهلوان النوم ؟/ سكين الفراق في القلب/ ويانسون الغفلة يحشر في الفم (من قصيدة أين بهلوان النوم ص٣٧)
وألسنتنا تبصق الفحم والدّخان./ (...)/ ونحن ندفن رؤوسنا في الزوايا/ نسعل ونئن
(من قصيدة الغابات الوردية ص75)
أهدابي يتراكم عليها صدأ العزلة/ وزرنيخ المنفى (من قصيدة أفكار صامتة ص80)
جفّت ينابيع لعابي/ (...)/ لذا لا أستطيع أن أبصق/ على زمن يسكر بالهزيمة
(من القصيدة نفسها ص81)
ماذا أفعل إذا كنتُ أتقيأ الطعام السماوي،/ ثم أبكي من الجوع ؟/ يهزونني بعنف ليوقظوني
لكنني لستُ نائمة/ ولا يستطيعون الوصول إلى المكان الذي تعتليه روحي
(من القصيدة نفسها ص82)
لكن المثانة على وشك الانفجار/ وقدماي عليلتان/ (...)/ أي شيء تريد أن تنتزعه من فمي ؟
أية بلاغات تريد أن تدوّنها/ عن طحالب وأشنات نمت على جسدي/ عن جراد البوتاسيوم الذي شبع منها وتجشأ ؟/ (...)/ ولن يبقى في داخلي/ إلا ممر طويل للنفايات(من القصيدة نفسها ص83)
لساني الثقيل سيذهلكم/ (...)/ امتطت الآلهة جياد البوتاسيوم/ المطهمة/ وعندما توقفت على حافة نافذتي/ دهشت/ كيف رأتني وأنا مجرد سنتمترات/ في جوف الليل ؟
(من قصيدة رامبو الألف وبودلير العشرون ص87)
وقلت نلغي الكيمياء، نقتلع النار من الجذور/ نتلمس جمر أحقادنا/ وعندما نجوع/ نزرع تراب الجسد/ (...)/ لكن جسدي يخونني (من قصيدة غراب يطلب الغفران ص89)
من يقدر أن يغلب ضعفي/ من يأخذ أثدائي المريضة؟/ من يشتري كليتين كالباطون/ ومعدةً تطحن قمح القرى ؟ (من القصيدة نفسها ص94)
خُيِّل إليه/ أنه لو بصق معدته سيغفر له البشر/ ففتح منقاره وجحظت عيناه حتى تساقطت
الدموع وكاد أن يختنق وهو يبصق كبده (من القصيدة نفسها ص96)
العاصفة سحبت خيط الكلام من فمي/ ملوّثاً بالدم منذ ملايين السنين (من القصيدة نفسها ص٩٩).
يستفاد من هذه المقتطفات، التي هي للتمثيل لا الحصر، والتي تعمّدتُ وضعها لمعاينة الامتداد الذي تتسع له مساحة عرض الحال الصحية، أننا أمام أعراض وحالات بعينها تتكرر الإشارة إليها بأنحاء متعددة ومن زوايا تعبير متنوعة، ويمكن حصرها بـ: أ_ مظاهر مرضية: كالدوار والأنين، ومرض الكلية والمثانة، وانتشار الفضلات من السوائل في الجسم، وثقل اللسان، والتقيؤ، والجفاف والظمأ، والهزال، والأرق، والسعال وضيق النفس، والإغماء وضعف الذاكرة، وحالات ورم، وتساقط الرموش وربما نفث الدم مع اللعاب، والحمى، والضعف، وبرودة الأطراف، ومرارة في الفم، ومشكلة في الرئة، والإعياء .. هذه الأعراض نلتقطها من تعبيرات الشاعرة من دون أن نعرف إلى أي مرض تنتمي، أو ماذا تكوّن بمجموعها.. وليس هذا بالمهم فليست مهمتنا طبية، وإن كان بالإمكان الاستدلال على حقيقة المرض(24) الذي عانت منه سنية، وأودى بها إلى الموت. ب_ أنواع من العلاج ومضاعفاته: تذكر مجموعة من الاستعمالات الطبية، وطرائق للمعالجة منها مثلاً: نظام وقائي عبر أساليب وتحديدات للطعام والشراب، استعمال أدوية تتفرع إلى حبوب تؤخذ من الفم تسمّيها الزرنيخ، والبوتاسيوم، واليانسون، وأملاح وأحماض غير محددة، وضماد لجروح كما يفترض، وأجهزة كهربائية تسميها بمولدات على مصبّات الشرايين، وعجلات طواحين مائية ربما لتدل على نوع من غسيل الكلية.. إن هذه الاستخدامات تكشف عن نوع من المعجم اللفظي الدال على قصدية اللغة، وكما يقول بارت «أن الكاتب يعتقد دائما»(25) بما يعني الارتباط بين الألفاظ والمدلولات، وأن الأدلة ليست اعتباطية، فالاستعمالات الطبية والسريرية جاءت من واقع استثمار لمعيش وأنها تكفلت بمهمة كشف غير حيادية، بل إنها تعطي فضاءً لغوياً للمشكلة الشعرية (التي هي في الوقت نفسه مشكلة حياة كاملة) وهاجس الشاعرة في ديوانها الأخير.
ثالثاً: إكمال النقص
لا بدّ لتحرر الذات من قيد النقص المهيمن من زوال هذا القيد، ولأن هذا الأمر غير ممكن على نحو الحقيقة فلقد عمدت الشاعرة إلى أساليب لنفي المرض (والنفي يرادف في الاصطلاح المنطقي السلب ويقابل الإيجاب(26»، فهي بسلب الموت جبروته عبر مواجهتها معه، تدخل في إطار القوة الخلاقة إذ تعمد إلى رفد الحياة بكل إمكانات الانتصار لها، وذلك واضح في: أ. فاعلية فلسفية ب. فاعلية شعرية ج. فاعلية الحبّ (الأمومة).
أ. الفاعلية الفلسفية
يحدث الموت «داخل الحياة نفسها، هو حدّ للحياة، بيد أن الموت هو النتيجة النهائية للإحالة المادية للحياة، وهو يحدث في الزمان داخل العالم الموضوعي لا داخل الذات أو في وجودها الباطني حيث لا يكون غير لحظة في الحياة الأبدية»(27)، فثمة ديمومة ذاتية لا يهدّد الموت وجودها، وهذا لا يعني أن الإنسان يعيش حياته في هذه الديمومة فهو يخضع للشعور بالوجود الموضوعي (أو البيولوجي)، حيث البعد الزماني للكيان المتجسّد وللذات الموجودة في العالم «فكيف يمكن أن ندحض الزمان الخطي المنتظم اللحظات لفائدة زمن ذاتي يتدفق من كياننا وينعدم فيه الماضي والمستقبل ليفعم الحاضر كل حياتنا ووجودنا ؟»(28) هذا سؤال فلسفي، لا يتولى الإنسان عادةً الجواب عليه، إلا إنه في مواقف معينة يهتم بالبحث عن أجوبة، والرمزيون يعنون بالفصل بين العالم الموضوعي والعالم الباطني لهذا نجد سنية تقف هذا الموقف من البحث عن أجوبة حيث يصطدم وجودها بعقبة اللا استمرار بسبب من حالتها الصحية، لذلك هي تفلسف المرض، وتحاكم الموجودات الكبرى في محاولة للبحث عن أجوبة، من أجل التكيّف مع واقع العجز عن الاستمرار، وهي في هذه المحاكمة تأخذ مواقف شتى من المرض ومن الموت. إلا أنه من الملاحظ أن ثمة مهيمنة في تعاملها مع الموت تأخذ طابعاً ثنائياً، فهي من جهة تتكيّف مع واقعة الموت في حالة إصابته وجودها الموضوعي، أي جسدها خاصةً إن هذا الجسد ما انفك مرسلاً إشاراته وايعازاته المرضية، إلا إنها ترفض الموت وتحاكمه إن مسَّ وجودها الداخلي (الذاتي)، أي إنها تحارب من أجل الديمومة الذاتية التي يقوم التساؤل الفلسفي عن مدى إمكانية استمرارها حاضرة دون أزمنة خطّية منغّصة وفي هذا سمة رمزية كما ذكرنا، إن الصراع الذي يفرض نفسه في معترك سنية مع المرض هو صراع بين الجسد ومسبّبات زواله والذات واستمرارية حضورها، لذلك تعمد إلى ترويج ارتباطات الذات العاطفية أو الخاصة المميزة لها عن غيرها من الذوات وهذا متحقق في الأمومة بقوة الانتماء العميق إلى إنسان آخر، وفي الشعر بقوة الانتماء إلى التفرد، وإن دلّ هو الآخر على أناسٍ آخرين تنتمي إليهم سنية بقوة، بوصفها شاعرة، هم الشعراء الذين تذكرهم في قصائدها (رامبو، وبودلير، ولوتريامون وفيكتور هيجو، وديستويفسكي..)، إنها إذ تنتمي إليهم يكون وجودها أبدياً مثل وجودهم في اعتبار الشعر وهو في الحقيقة اعتبار الذات. نقف هنا على مواضع الصراع الذي يتبدّى بأشكاله المختلفة في القصائد، تقول في قصيدتها (الذاكرة الأخيرة):
«وتدور بي عجلات كعجلات الطواحين المائية/ ولا أقوى على الاقتراب/ فمن أين تجيء المسافات/ وأنت في قلبي،/ يسارك يساري ويمينك يميني؟/ ألغيت جسدي ودخلت نفق حلمك/ ولم أقو على الاقتراب/ أعلنت العصيان على الموت وعلى الحياة/ أخذت أركض في الظلام دون أن أدرك المخرج المائي/ ولم اقو على الاقتراب/(...)/ أيتها الذات التوأم/ يا أجنحة المحيط وزفيره المنعش/ ستحملك جزره إلى المتصوفة والهائمين والسرياليين/ ستنقلك إلى أحلام الماء وأشواق الربيع/ بينما تغافلني ريح المنعطف/ وتخطف غباري.». (الديوان ص23 ص24).
إن الجسد يحاصر الذات بين انتهائه وتخبطها للخلاص، فهي إذ تملك الشعور بالديمومة لا تستطيع احتمال فكرة الخضوع للزمن الخطي، ولا تستطيع تقبّل المسافات العازلة عن التواصل، فتهرب بالشعر إلى إلغاء المسافة لأن ذلك في مجال الواقع غير ممكن، إلغاء الجسد والتمرد على صيغ الموت والحياة، إنها تبحث في قولها ذلك عن تخلّص، إلا أن النهاية واقعة والانفصال قائم.
في قصيدة (أيها الخداع يا جسدي) تقول: «أيها العشاق/ ضعوا العنفات في مجاري الجسد،/ المولّدات الكهربائية على مصبّات شرايينه،/ سابرات الغَوْر،/الكشّافاتِ الضوئيةَ،/ استخرجوا كنوزه جميعها،/ عصاراته، أحجارَه،/ وليكن خاوياً قبل أن يرمى في القبر./ أما أنت أيّها الخداعُ الكبير،/ فقد ظننتك ميتاً لا محالة/ لكنك قاومت أكثر مما خيّل إليّ.»(الديوان ص25) في محنة المرض تكتشف سنية أن الجسد خداع كبير، وهو في نوباته يبدو قد انتهى، إلا إنها تواصل معه استمراره في مراودة الموت. حتى إنها تتفرّس في ما هو فيه، لا من باب (داوِها بالتي كانت هي الداء) وإنما لأنها تمضي إلى النهاية، مخاطبةً العشاق الترابيين: «هيا نقتسم الكون:/ ما أمام الأفق لكم/ وما وراؤه لي. كيف نكتشف لعنة الحب دون عشّاق/ مهووسين/ كيف نكتشف الرصاصة ما لم تمزّق حرير الهواء؟/ وشوك الموت ما لم ننجب ونقاتل ؟» (الديوان ص26) مفصحةً عن شجاعة نادرة هي شجاعة المقامر الذي تبيّنت له الخسارة في نهاية هذا الطريق، طريق الجسد، فقررّ أن لا بدّ من تجربة الموت والدخول في المعرفة.
في قصيدتها (تخرجين من أسوار الجسد) سياق مشغول بالأمومة وطقوس الولادة مخاطبةً ابنتيها، وهي في ذلك تتخطى الموت حيث تجد منافذ لمعاني الحياة والموت ساحبةً قصدَها إلى العالم الذاتي ومتجاوزةً العالم الموضوعي، وإن احتفتْ بأفراحه ومناسباته الخلاقة كالولادة التي تعطيها ديمومة واستمرارية لا تجدهما في عالمها الموضوعي المنتهي، تقول: «من قال إن الموت يبلي الإنسان؟/ جدّتك صارت نجمة في ليله،/ جدّتك الخيالية،/ جدّتك الوهمية،/ جدّتك المسحورة،/ ما أن رفعتِ الحياةُ سوطها القاسي/ حتى اختفت./ كيف؟/ لا أحد يعلم. جدّتك الشجر الكثيف، جدّتك الزرقاء/ وأحياناً القرمزية.»(الديوان ص٢٣،ص٣٣) إنها تفعّل آلية السلب لتخرج إلى معنى غير ممكن في حالة الإيجاب، لذلك هي تحوّل الموت هنا إلى وسيلة خلاقة للتحوّل، فهي تجمّله، لكن ذلك قائم على واقع حالها المتأزم بسببه، أي إنّ هذا الأسلوب قائم على إيقاع فعل وردّ فعل لا على قدرة مبادرة في وضع الموت هذا الموضع. ومن المهم أن نقول أن سنية تزجّ بأفعال الموت والولادة في خانة واحدة بمعنى أنها تقابل السلب بالإيجاب، وتعيش المواجهة بالإمكانات التي لديها حتى كان لها أكثر من موقف إزاء الموت، إلا إنها تصدر عن موقف واحد له وجوه متنوعة أي تتقلب في أشكال من الإيقاع تحاول عبرها تحمّل فكرة الموت المفروضة الآن بسبب من المرض.
«أرى عذاب الأرواح في الولادة وفي الموت/ في الحب والكراهية/ في الاعتلاء والهبوط/ مع ذلك/ تخرجين لملاقاة نارك/ وقد احتست خمور الذات/ وأفيون الفراق/ مبهمة غامضة/ صامتة ومطيعة»(الديوان ص37) في هذا المثال تتأكد لدينا ثنائية الموت والحياة والمساواة بينهما في هاجس المعاناة والعذاب.
ولتأكيد أن الموت نوع من تحوّل تقول: «مليون امرأة هي أمك يا صغيرتي/ تفكّ خيط الأفق/ ليصير الموت مؤقتاً كالنوم.»(الديوان ص47) فثمة تحوّل في انتظارها لتصير ذاتاً خيالية كالجدّة الموصوفة بذلك آنفاً، وتزيد: «هكذا، عندما يقفل الزمن بابه على الجميع/ أدخل قاطرة الموت برضى/ أمسك خيط الغياب وأجذبه/ فتأتي ذاتي الخيالية/ ذاتي التي ولدت من رحم المرايا/ بكلامها الغامض المريع/ لكن الأجساد الخائفة تفرز ما ينجيها/ وها هو باب السلام يفتح/ بين الجنة والأرض./ الحياة وحدها تأخذنا وتعيدنا، لقد بَطُلَ الموت،/ وانقرضت الديدان/ وانشقّ الحجر البشري/ لتولد الأجيال/ أمّا أنا/ فسأحجز بويضات الإنجاب/ في رحمي/ لتعيش هكذا، عذراء/ من أجل ألا يحشر الربيع بين الرصاص»(الديوان ص48). إذا كان الموت تحوّلاً إلى الحياة، فمعنى ذلك أنه انتفى ولم يعد غير وجود الحياة، وهذا مثال آخر على تقنية السلب التي تتعامل بها سنية مع الموت إلا إنها تنتهي إلى العودة إليه دون ابتعاد عن هيمنته مادامت تخشى على الربيع من الرصاص.
تتجلى مقاومة المرض في دفع الموت عند قول الشاعرة: «أيها الصراخ الطالع/ لكي أشقّ ذلك الهدير الغامض/ أحمل وطأة موتي./ ينصحونني بقبوله/ ذلك الموت/ يغرونني بالاستسلام له./ لكن،/ تأخذ الريح شلواً من جسدي/ أجري خلفها وأعيدها/ وعندما تأخذ آخر وتلهو به/ أهجم ثانية وأعيده./ هكذا دارت الحروب على/ مداخل الجسد،/ حيث يقف رجل من النحاس/ يلقي القبض على ما يفرّ من الذات.»(الديوان ص65) إن اتصال الذات بالجسد فلا انفصال بينهما يدفع إلى التمسّك بكل قوة في عافية الجسد المتبقية، فالصراع مع الموت صراع لا من أجل الجسد وحده، وإنما من أجل هذا الاتصال مادام المرء على قيد الحياة، أمّا ما وراء ذلك فتقف التصورات والخيالات والمعتقدات والأحلام عليه. الموت إذن هو الواقعة التي لم تحلّ بين ثنائية الجسد والذات. تدعم سنية الربط بين هذه الثنائية الإشكالية في قولها: «من يصدّق أن الموت يضلّ طريقه؟/ قوديه أيتها الجميلة/ الفائقة الطهر/ التي انحنت وأصلحت من شأن عكازي،/ وسقتني ماء البنفسج/ ثم قالت:/ هيا انطلقي قبل أن يدركوك/ لكن المثانة على وشك الانفجار/ وقدماي عليلتان»(الديوان ص 83)، إنها تصوّر الموت كما لو أنه في موضع ما، ومن النافع أن يركض الإنسان هرباً من هذا الموضع، فتعود لتجد أن المثانة المريضة والقدمين العليلتين هما من يمنعها من الهرب.
تقف سنية في قصيدتها (طقوس البائدين) على المشكلة الزمنية التي يرتهن الإنسان بموجبها وقفة اعتراض وحزن، مهتمةً بالفارق الهائل بين الزمن الخطي والأبدية، زمن الذات، أو زمن العالم الباطني، تقول: «بدأ يعرض قواه/ أمامي حتى سحقني. وأدركتُ أنّ من التفاهة/ أن يخلق الكائن إنساناً./وأنذرني،/ أن ما هو لمحة في حساب آنيشتاين/ دهر في حسابه/ وأن له من القوى الخفّية/ ما يجعلني أكفر ملايين المرات/ بإنسانيتي،/ بالنور والحب والهواء،/ بكل المظاهر الهشّة التي يذيبها/ أسيد سمومه/ بكل ما كان مشاعاً في عصر الرومانسية/ وصار احتكاراً في عصره/ وأمرني أن أفكّ خلايا جسدي/ وأتقدّم بها/ ليعيد طقوس البائدين»(الديوان ص74).وتقول: «أيها الزمن الذي يغنّي بحناجره جميعها/ أغاني الفراق،/ في رأسي غربة ثقيلة،/(...)/ الزمن يتفرّق ويحتشد، يمدّ حبالاً شدّت إليها أعناق»(الديوان ص54).
ثمة مشاعر وجودية تنضح من الفاعلية الفلسفية التي تجابه بها سنية الموت، فالشعور بالوحدة بيّن بالرغم من كل أشكال الارتباط الإنسانية التي دفعتْ بها هذا الشعور: «في الوحدة بكيت وارتعشت/ وكأن الرعد يهزّ مفاصلي،/ وغنّى غبار وحدتي كطائر على الأشجار/ مع ذلك لا تعترفين بشرعيتي أيتها الوحدة/ أيتها الوحدة/ التي تستعير أشكال الحريات./ الوحدة أن تشتري باباً ونافذة/ ومرحاضاً بمائة قفل/ أن تختبئ في أضيق الجحور، ثم تزفر دخان حبك المحترق.»(الديوان ص81)، «مساء الخير أيتها الحزينة/ وحدك في الليل ومتعددة في النهار/تظهرين بشكلك الهندسي/ يغطيك رماد الوحدة/ أرقبك من نافذة المنفى/ كي لا نفقد مجاذيفنا في الظلام/ أعود إلى عصورك الأولى:/ قلبي، شعري وأحلامي،/ لا أجرؤ على عصيانها.»(الديوان ص84)، «دعوا ذلك الطوفان/ يحيك سرير وحدتنا»(الديوان ص47)، «أنا المرأة الرّهينة،/ السلفُ يطالب بي والخَلَف،/ وأنا أنتزع نفسي من فم الفراغين،/أحلم بآخر الكون، علّ المجد البشريّ يشهد النهاية/ ينتظر طويلاً حتى تنتهي الحضارات/ العشّاق والشعوبُ/ أو ربّما، تهاجر،/ وتبقى الأرض لي وحدي./ لأكون حواء الرائعة/ لكنني صحوت/ فوجدت الحراب تطوّقني، لقد كان حلماً أيها القضاة»(الديوان ص63)، إن الوحدة مقترنة بالاغتراب وهما هاجسا الشاعرة في محاكمتها الآخرين «علّني أسبق اللصوص والطغاة/ والقتلة،/ الذين من بصاقهم حبر التاريخ/ المقدّس،/ به تدوّن الأشواق الباردة/ والأفكار الميتة،/ ترّهات الزمن وحضيض الذاكرة./ فأين نفرغ تلك الحمولة أيها السادة؟/ هنا؟/ أمام منصّاتكم؟/ أم في العراء،/ حيث البرق يمنحني ناره/ فأتّسع بها/ والبحيرة مرآتها/ فأصل إلى نفسي»(الديوان ص٦٦)، ليس المقصود تفريغ شحنة الألم فحسب، بل إن التوجّه بالنقض إزاء التاريخ، والسلف والخلَف، والحراب، والخريف، والجيوش، والسادة، والقضاة، والكون الكبير، واللصوص والطغاة والقتلة، والزمن ..الخ فيه محاكمة لكل ما تلبسه سمة الوجود الموضوعي الذي يمنع الطلاقة الداخلية أو الذاتية أو الباطنية، فالوصول إلى النفس أمل بعيد مع وجود كل هؤلاء الذين تحاكمهم سنية في أزمة اغترابها عن الجميع. وهي في موضع لا تكون فيه للطبيعة قدرة على انتشالها: «الورود سوداء في المنفى/ النسر وحش والغابة كمين/ وعبثاً يصل الفم إلى الفم/ في نقطة لا تطالها الجهات رحت أحفر/ علّني أرى جوهرة الحرية/ فنشرب من فم واحد/ أو نقهر معاً./ لكن الغابة بيضاء/ وطعام العصافير ثلج/ شخص ما سيطلق الرصاص/ على ذاكرتي الواقفة في الهواء»(الديوان ص79) «ورجوت روحي المتضجّرة ألا تفارقني/ وأخذت أجري وراء الجغرافيين/ علّهم يعرّفونني تخومي البشرية.»(الديوان ص82). «ورأينا الله في مداخل الكون،/ باهراً وبهيّاً. في البدء أخذتنا الرهبة، لكن بأفواه متشنّجة صرخنا:/ هل حقاً تبلونا لتمتحننا؟»(الديوان ص91). إن صرخة الألم دفعت بأقصى الشعور بالوحدة والحزن في آفاق الاغتراب، حيث يبدأ الرفض من ثقل السقوط تحت ضغط الزمن الخطّي، مروراً بما يترتب على مشكلة الثنائية بين الجسد والذات، وانتهاءً بما تنتهي إليه المعاناة من استمرارية المحنة التي جاءت بسبب من الامتحان الإلهي، تاركة ظلال الفراق والوحشة تخيّم على أنقاض الجسد وحرية الذات في التخلّص.
ب. الفاعلية الشعرية
تتحقق فاعلية الشعر عند سنية، كما مهّدنا، عبر الرؤية الباطنية التي تنخرط ضمن المذهب الأدبي الرمزي، فالشعر، ممارسةً، ليس وسيلة دحض للمرض فحسب، بل إنه يمدّ الذات بأساليب يتحقق عبرها التقاء هذه الذات مع الذات البشرية الكبرى، كما ألمحت الشاعرة في مقدمة ديوانها، والشعر ينساب لديها في تدفّق مشابه لتدفق الخلق، وبغموض يتوافق فيه الشكل مع الجوهر الشفاف الذي يسعى إليه الرمزيون للوصول «إلى وحدة كونية شاملة، تزيل الحواجز العرضية التي تقيمها الحواس المختلفة، فتتوحد هذه الحواس وتتمازج»(29) لتكون نقطة انطلاق نحو الاتصال مع الذات، لا انشغالاً نهائياً، لذا لا نجد وصفاً مباشراً أو تقريرياً حتى في تعبير الشاعرة عن معاناتها مع المرض، بل العكس أصبحت المعاناة مناسبة لتحقيق التداعي «في الأفكار بطريقة معقدة ممثلة بخليط من المجازات التي يراد منها أن تنقل شعوراً ذاتياً خاصا»(30) فثمة إيقاعية شعورية، وبلاغية، وصورية، وطقسية تشيع مزاجاً شخصياً ونفسياً خاصاً في ديوان (ذكر الورد)، «والإيقاع لا يقتصر على الصوت. إنه النظام الذي يتوالى أو يتناوب بموجبه مؤثر ما (صوتي أو شكلي) أو جوٌّ ما (حسي، فكري، سحري، روحي) وهو كذلك صيغة للعلاقات (التناغم، التعارض، التوازي، التداخل) فهو إذن نظام أمواج صوتية ومعنوية وشكلية، ذلك أن للصورة إيقاعها»(31) ، ولا نريد أن نخوض في مفاهيم الإيقاع أو تجلّياته في الديوان، وإنما نكتفي بالإشارة إلى خصوصية سنية في إشاعة إيقاع نفسي واحد قائم على موقف شخصي في لحظة الحاضر، فثمة شعور كلّي وجوّ خاص ينتظم سياق كل قصيدة وهذه الوحدة الشعورية أملتها التجربة، مع تنويعات متحققة بتنويع الجزئيات أو التفصيلات.
وثمة إيقاع موضوعي متأتٍ من تقسيم الديوان إلى خمسة أقسام على أساس موضوع مهيمن في مجموعة قصائد تمثّل وحدة مستقلة لها عنوان واحد، وهيمنة الموضوع الواحد لا يمنع من تداخل بعض التفصيلات خاصة أن الديوان ينصرف كله إلى معاناة الشاعرة مع المرض والموت. والأقسام الخمسة بحسب الموضوعة المهيمنة هي: ١. الطوفان (تنشغل قصائده: (الطوفان)، و(ذاكرة النيران)، و(الذاكرة الأخيرة)، و(أيها الخداع يا جسدي) بموضوعة الجفاف في إحالة سريرية على المرض الكلوي، ومفردة المياه وما يدخل في إطارها هنا تتكرر بمعنى دالّ على المهيمنة الموضوعية)، ٢. مليون امرأة هي أمك (وقصائده: (تخرجين من أسوار الجسد)، و(ثقوب الليل)، و(امرأة من الطباشير)، و(العاشق الوبال)، و(يمضغني كما في المجاعات)، و(مليون امرأة هي أمك) تهيمن فيها موضوعة الأمومة وأبعاد المعاناة الجسدية والنفسية المستحثَّة هنا)، ٣. على زغب المياه (وقصائده: (معبد الشمس)، و(ملايين الأرواح خارج غطائها)، و(على زغب المياه)، و(شيء ما في صدر الريح)، و(البحيرات المدانة) وتخرج الشاعرة هنا إلى نوع من موضوعية البحث في مشكلتها، وتتمثل بنوع من الرموز والتشبيهات فيها تعميم لصراعها وإشاعته على مستوى أكبر من أن يكون لصيقاً بها وحدها)، ٤. المحاكمة (وقصائده: (قمر رطب)، و(المحاكمة)، و(عصيّ الكلام)، و(فارس المخيلة يمتطي حصان الشجر)، و(مضيق الهواء)، و(البحر الورع)، و(أين بهلوان النوم)، و(طقوس البائدين)، و(الغابات الوردية)، و(شجر يمشي في النوم) وتقيم الشاعرة نوعاً من الحساب والمحاكمة تتولّى فيه الموجودات الكبرى بالمساءلة والتحقيق في كلّ ما يتّصل بمصدر المعاناة وأشكالها)، ٥. الأفكار الصامتة (وقصائده: (أفكار صامتة)، و(رامبو الألف وبودلير العشرون)، و(غراب يطلب الغفران) وتضع فيها أسئلتها الوجودية ومحاكماتها مستثمرة ما تشاء من أسماء أسطورية ودينية منها مثلاً قصة الطوفان عهد النبي نوح (عليه السلام»، وقد لا تبدو الاختلافات ظاهرة بين الأقسام إلا على نحو بسيط إلا إنها، مع ذلك، دالّة على تمييز في طرْق الأفكار وتناولها، وهي ممثّلة لطبيعة التناول الرمزي الذي لا يجعل للموضوع هذا الظهور الواضح.
ومن الفاعلية الشعرية هذا التوظيف للرمز وللأسماء الأسطورية والشعرية والتاريخية ضمن ذاكرة حيّة ومتفاعلة مع موضوع المرض وإشكاله، تقول في قصيدتها (رامبو الألف وبودلير العشرون): «كان الشعراء يفكرون في الثلوج/ على قمم كلمنجارو./ في الرياح على ضفاف البحيرات/ يحلمون بالأميرات النائمات مع قيثاراتهن/ تحت أشجار الأضاليا./ أيها الشعراء/ يا سائسي أعمارنا/ النار الأولى تُمنح من جديد/ لآليات العصر ومواقده،/ الكشفُ البدائي/ رامبو الألف وبودلير العشرون/ جميعهم يجرون في دمائنا،/ ونهجم في اتجاهات العالم كلها/ جموعاً تنهش وتفترس/ وتستعيد الجوع الخرافيّ.»(الديوان ص84)، يمثل الشعر فعل خلاص، وانتماء إلى عالم من الشعراء يجعل للشاعرة مرجعاً غير المرجع المعتاد الذي يشترك فيه البشر جميعاً، إنه مرجع، أو تاريخ التفرّد الذي ينتمي إليه الشعراء، فضلاً عن أنه نوع من التطمين النفسي في إشاعة فضاء خاص موحٍ بتفرّد الشاعرة وميزة وجودها غير العابر، والموازي لوجود الشعراء الباقين رغم موتهم في دائرة قول الشاعرة وفي صفّها، إذ هم خزين وجود غير منتهٍ وهذا عزاء على المصاب، إلى جانب إنها تذكر من يدخل في دائرة خيارها الشعري، فذكر هذه الأسماء ليس عابراً أو اعتباطياً، وقد أحلّ الباحثون في الرمزية اشتقاق أسماء الأعلام مكانة مرموقة «لأنه وسيلة لنقل العلامات اللغوية ومنها أسماء الأعلام من الاعتباطية إلى القصدية أي إنها تصبح ذات قيمة رمزية(...) وقد ركز [أي الباحثون] بصفة خاصة على وظيفتها في الخطاب الشعري لأن أسماء الأعلام تحمل تداعيات معقدة تربطها بقصص تاريخية أو أسطورية، وتشير قليلاً أو كثيراً إلى أبطال وأماكن تنتمي إلى ثقافات متباعدة في الزمان وفي المكان»(32)، وقد نجحت سنية بالفعل في استثارة جوّ شعري له ديمومته يربط وجودها بالشعراء ويعزّزه بهم. وقد عبّرت بذلك الشاعرة عن حسٍّ مرهف، وإدراك راقٍ لخلاصات الفكر ورموز الشعر في ما هو مستدعى بانسجام في شعرها.
ثمة ملامح أسلوبية ودلالية لها قيمة في إطار الفاعلية الشعرية يهمنا منها أسلوب الإطلاق في استعمال بعض الصيغ كالعدد، وذلك ظاهر في العناوين (مليون امرأة هي أمكِ)، و(ملايين الأرواح خارج غطائها)، و(رامبو الألف وبودلير العشرون).. الخ ونستشف نوعاً من نفي المحدود وإرسال الدلالة إلى أقصى أبعادها في الاستخدام. ومن الإطلاق ما يأتي في صيغة النداء والتشبيهات المقترنة بالمنادى (أيها الخداع يا جسدي)، ( مساء الخير أيتها الحزينة)، ( أيها العاشق الوبال).. الخ حيث إدامة الوصف المقترن بالمنادى واستمرار النفي إذ الموصوف بإطلاق لا تنتهي عنه الصفة الجديدة وفي ذلك نفي لتحوّله عنها أو تغيّره إلى ما كان قبل الاقتران بها. ومن المناسب أن نشير هنا إلى الطرافة المختارة للعنوان، فكل القصائد مميّزة بعناوينها حتى عنوان الديوان المستلّ كما ذكرنا على وفق دلالة مختبئة في سياق الصور المجسّدة لمعنى المرض في إحدى القصائد، فعلى القارئ أن يتأنى في تأويل المقاصد المبثوثة بدقة وخفاء في الصور الشعرية والمجازات المتداخلة في انتظار الكشف الذي تحققه القراءة، كما أن الصياغة المعتمدة في تشكيل العناوين تمثل شفرات مرسلة أو رموزاً في هيأة إجابات أو أخبار سريعة، تعتمد الجمل المتضمّنة حضور الواقعة واستمرارية حدوثها (تخرجين من أسوار الجسد)، (يمضغني كما في المجاعات)، (فارس المخيلة يمتطي حصان الشجر)، (شجر يمشي في النوم)، (غراب يطلب الغفران).. الخ.
ج. فاعلية الحبّ (الأمومة)
الحبّ مهيمن موضوعي في شعر سنية كله، وإذا كان في المجاميع السابقة مصطبغاً بحركة هروب كما تقول خالدة سعيد(٣٣)، أو بالهجر والبكاء كما تقول روز غريب(34)، فإنه في مجموعتها (ذكر الورد) يمثل عاملاً إيجابياً زاخراً بالحياة ومرتفعاً بالإرادة الإنسانية إلى أقصى قدرات التمكن من مواجهة الموت. إلا إنه يرد بصيغة الحبّ الأمومي متخذاً له آليات فعل جسدية (والجسدي يتداخل مع المثالي أو الباطني عند الرمزيين، إذ عالم الحقائق المطلقة مصنوع ممّا يرحّل إليه من العالم المحسوس)، مثل الولادة ومظاهر الخلق التي تمتدّ بالآخر_ الأبناء إلى آفاق أو مديات بعيدة، وهذه الصلة من الحبّ الأمومي ليست صلة شراكة أو انتماء متعاقب، بل امتداد فاعلية وجود عبر اتصال كلي غير محدود تقابل به سنية أقصى قوة سلب لهذا الوجود، أو هو خزين وجود، تقول مثلاً: «أيتها الغابة التي أشعلها جسدي/ اقتربي/ تجاوزي ما لا يمكن تجاوزه/ اهمسي حفيفك الدّفين في فمي،/ وفي أذني/ وفي مسامّي جميعها/ ارفعي غطاء عصيانك/ وأزهري/ في القبّة المثقّبة لجسدٍ متهاوٍ./(...) أيتها الغابة التي نوّرت في جسدي/ لا تخافي/ لقد خبّأتُ روحي فيك/(...)/ أغرقي رأسك فيّ/ اخترقيني/ حتى تكاد عظامنا تغيب داخل بعضها البعض/ ولنكن متجاورتين/ متشابكتين كثنائية القلب،/ المسيني كما يلمس الإله الطين/ فأنتفض بشرا»(قصيدة (مليون امرأة هي أمك) ص٤٤ ص45).
الأبناء هنا يمدّون الآباء بالحياة وهذا مقابل للمعادلة الأولى حين مدّ الآباء (ولا سيّما الأمهات) أبناءهم بالحياة، وذلك بفعل الولادة، ولهذا السبب نجد هذا التكرار لذكر الولادة لا لفظةً فحسب، بل بالتفصيلات، لذا تكمل القصيدة بـ «ونار قلبي تركض في الجهات كلّها،/ في الكلام والصمت/ من أجل أن تولدي ملايين المرّات/ في العصور الأكثر غرابة/ يا غابتي الشقراء/ شدّي جَزَعك إلى جَزَعي/ أدخلي عظامك في نفق عظامي/ ثم اسحبي ما تبقى من جسدك واعبري/ ستكون أمامك ممرّات طويلة ضيقة/ والحقيقة تكمن في أشدها ضيقاً/ حاذري أن تنسَيْ أنك ذاهبة/ لتصرخي/ وترفضي» (القصيدة نفسها ص45)، تكون الابنة عامل توليد للحياة، بل إن لها وجوداً أسطورياً يقابل أسطورية وجود الأم، وهما تعبران الممرّ بين العدم والوجود إذ تجسّدان الولادة على نحو دائم : «يا ابنتي/ كنت وحيدة فتجزّأت/ وبقيت أتجزّأ/ حتى خلقت شعباً أنتِ أسطورته./ يا سليلة الريفيات/ يكتمن صراخ الولادة/ ثم يقذفن بالأجنّة إلى أحواض النحاس،/ والجوع يقرع طبلَه في الأحشاء/ والفقر يعرّي العظام،/ مع ذلك أضأتك/ بأعظم الرغبات./ تخرجين من أسوار الجسد/ ومعك أجيال يضيئها عبورُك الصاعق،/ إنها الولادة فلا تخافي:/ نبدأ عراكنا العظيم،/ تلتقطين ظلي وتُنهضينه،/ فيهوي، ثم تنهضينه/ فيهوي من جديد/ أنتِ أيضاً/ صار لك ظل/ وصار يهوي./ يا صغيرتي،/ يا غابة الآلهة والنساء الخالقات/ نتألم آلام الفراق الأعظم/ نتشنّج ونصرخ،/ يتمزّق جسدي/ ويُحشرُ جسدك في عتبة العالم الأولى/ ثم نصرخ./ لا تيأسي، واتبعيني،/ ففي قلب الأدغال المجهولة/ أشياء رائعة خُلقتْ لنا،/ في قلب الأدغال/ شجرة للحلم/ فاتبعيني»(قصيدة (تخرجين من أسوار الجسد ص ص3635).
ليست الأم قائدة إلى الحياة، ومبشّرة بمواطن الحلم الذي تومئ إليه بحدس وأمل الكشف فقط، وإنما هي تبني بمثابرة وجود الأم الكلية أو الأم الآلهة مانحة الحياة في الأساطير القديمة، وتجعل من إشاعة طقس الولادة علامة تجذّر في منح الوجود واستبطان القدرة الأنثوية الخالقة، تقول: «أيتها الحارسة الذكية للسلالات/ لقد منحتك روحي،/ حجم العين وشكل الهدب،/ الأطراف الرخامية،/ الزرقة والشّقرة،/ ولما جاء الصباح كنتِ مكتملة»(الديوان ص35). (يدخل في ذلك مخاطبتها لأمها ربما هي التي تسمّيها في مكانٍ آخر _الجدّة الخيالية_ بقولها: «الليل العالي/ يبحث عن نجمة تصيرين إليها/ نترصّدها، علك تهبطين/ أو تبعثين شيئاً من نِعَم الآخرة/ لنا فقراء الحياة./ اثقبي الليل بتُقاكِ/ بفطنتك وغموضك/ علّمينا ما الولادة وما الموت/ وأي جلد نلبس في تحوّلنا الكبير؟/ أي ليل نغيب فيه/ وأي فجر لا نهائي/ للأرواح والحرير والذكريات»(قصيدة ثقوب الليل ص37) مقدّمةً ما يبدو تعويذة أمومية، أو وصايا الأم الأولى).
إلا انها، من ناحية أخرى، ومع الشعور المتأزم بالألم تخرج عن كل هذه القوة والكلية لتطالب ابنتيها بانتشالها مما هي فيه، لأنهما الوجه الآخر للعطاء الأمومي أو هما امتداد لهذا العطاء فتقول: «يا ابنتيّ/ أيتها المتعدّدات/ يا حارسات البحر الصغيرات/ هل ترقبان وجبة البحر المثلى؟/عشاءه الرباني؟/ أيتها الصغيرتان المتعددتان/ فوق الجسور المقشعرة» (الديوان ص58)، «يا وطن الزرقة والشقرة/ يا وطن شام/ وربوع سلافة/ جميع خيول الشوق أطلقتها/ صوبك/ ولا تزال مجنونة في دمي./ أنتما اثنتان/ أنتما واحدة/ أنتما اللا نهاية/ البر والبحر والقبطان والشموس الساطعة/ والرحيل والعودة،/ الأعراس والولادة./ (...)/ خذيني يا صغيرتي/ تأبطيني كلحم ذراعك/ فلن أقوى على الفراق.»(الديوان ص5554)، «ها هو العالم يدور/ يُسحب قسراً من أعمارنا/ ليُمنح بالمجان للّصوص والسفاحين/، اضرميني يا ابنتي جدّديني/ لقد تعفّنتُ في النسيان» (الديوان ص١٣)، «فأنا مشوشة بالخسارة/ أستنجد ببراءتك/ بضعفك الطفولي/ وأصلّي بحرارة ويأس/ كي يصير قلبي الضعيف بحجم قدميك.»(الديوان ص34). وهكذا تكون فاعلية الحب فاعلية إمكان العطاء سواء من الأم أو من ابنتيها في تنويعات سدّ للنقص، من دون أن يكون ذلك كافياً إلى ما لانهاية، ولهذا التنوع بين دوريْ الحب المانح أو الممنوح. وتتم عبر هذه الفاعلية إيواء الحالة السريرية مكانها الأمثل من حيث أنها اقتضت هذه الفاعلية واستلزمت استثمار الشاعرة لها.
الهوامش:
– ديوان (ذكر الورد): سنية صالح، رياض الريس للكتب والنشر، لندن، 1988م.
(١) تأويل لغة الجسد داخل اللا وعي الثقافي العربي: علي زيعور، مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت، ع ٤٥٥٥، 1988م، ص٨٦.
(٢) أمراض الأدب القاتلة: ت أبو بكر العيادي، الموسوعة الصغيرة 359، بغداد، ط١، 1990م، ص96.
(٣) المصدر نفسه، ص١٠١.
(٤) الموت في الفكر الغربي: جاك شورون، ت كامل يوسف حسين، عالم المعرفة76، الكويت، 1984م،ص235.
(٥) ينظر الشعر والموت: فؤاد رفقة، دار النهار للنشر، بيروت، 1973م، ص27. وينظر أيضاً استشهاد رفقة بقول ريلكه في الردّ على شاعر شاب يستشيره «إذا وصلت إلى نقطة تفضيل الانتحار أو الموت على عدم الكتابة، وقتها تكون شاعرا»«كأنه يقول له: الكلمة الشعري.. الشعر.. الوجود الشعري يوازي وجود الشاعر.. بل هو الوجود الشاعر» في حوار أجري معه في مجلة الأقلام، ع١ كانون الثاني، 2989م ص71.
(٦) ينظر الشعر والموت، ص٤٤.
(٧) ينظر الموت في الفكر الغربي، ص23،و36.
(٨) ينظر العبقرية في الفن معاناة ام جنون أم مرض؟: جيفري ميرز، ت صبار السعدون، مجلة آفاق عربية، ع٩، أيلول ١٩٩١م، ص89.
(٩) اهتمت الشاعرة نازك الملائكة بالشعر والموت في كتابها (قضايا الشعر المعاصر)، دار العودة، ط٥، 1978م،ص ص314304، ونظر الناقد جلال الخياط إلى موت الشاعر في كتابه المنفى والملكوت، دار ط١/ 1989، ص123، ص 126.
(10) حركية الإبداع دراسات في الأدب العربي الحديث: د. خالدة سعيد، دار العودة، بيروت، ط٢، 1982م، ص98.
(١١) نسمات وأعاصير في الشعر النسائي العربي المعاصر: روز غريب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط١، 1980م، ص ص 357356.
(12) المصدر نفسه، ص ص 345 357.
(13) ينظر الرمزية: د. ياسين الأيوبي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1, 1982م، ص19.
(14) الفن الرمزي: هيجل، ت جورج طرابيشي، دار الطليعة،بيروت، ط١، 1979م، ص14.
(15) الرمزية ص60.
(16) ينظر الأدب ومذاهبه: محمد مندور، دار نهضة مصر،1974، ص120.
(17) نسمات وأعاصير في الشعر النسائي العربي المعاصر ص317.
(18) المصدر نفسه وترى الناقدة تأثير أسلوب محمد الماغوط في نتاج سنية صالح لأن «معاني الشكوى والثورة والضياع واليأس تسيطر على شعرها كما على شعر الماغوط» ص 356، وبرأيي إن هذا ليس بالدليل الكافي على تأثرها به، أم إن السبب كون سنية زوجة للماغوط وبالتالي تتبعه شعرياً كما (تبعته) اجتماعياً، وهذا نوع من النظرة المتدنية إلى نتاج المرأة، لماذا لا نقول أن الشاعرة هي التي أحاطت الماغوط باهتمامها ورعايتها تشهد على ذلك مقدمتها لديوانه الصادر عن دار العودة، بيروت، ط٢، ١٨٩١م، ص137.
(19) أمراض الأدب القاتلة ص٥.
(20) ينظر معرفة الذات: ماري مادلين دافي، ت نسيم نصر، عويدات، بيروت، ط٣، 1983م، ص14.
(21) القول لفؤاد رفقة في حوار مجلة الأقلام ص74.
(٢٢) أمراض الأدب القاتلة ص١١.
(23) ينظر المصدر نفسه، ص12٢١.
(24) رجّح الأطباء الذين استشرناهم،الدكتور غسّان الجبوري، والدكتور ناجي كريم حسن من مستشفى الفرات وغيرهم مشكورين، أن تكون الشاعرة قد تعرّضت لفشل كلوي Renal Failure بسبب من احتمالات عديدة منها العجز في القلب، أو مضاعفات تلف في الرئة، أدّت إلى الأعراض المتلاحقة، مع التدهور بسبب من مضاعفات الأدوية.
(25) تحليل الخطاب الشعري: د. محمد مفتاح، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ط١، 1985م، ص67.
(26) ينظر المصطلح النقدي في نقد الشعر: إدريس الناقوري، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ٢٨٩١م، ص177176.
(27) العزلة والمجتمع: نيقولاي برديائيف، ت فؤاد كامل، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط٢، 1986م، ص 129.
(28) فلسفة الجسد: جلال الدين سعيد، دار أمية للنشر، تونس، 1992م، ص75.
(29) الرمزية والرومانتيكية في الشعر اللبناني: أمية حمدان،دار الرشيد للنشر، بغداد، ١٨٩١م، ص٨٢.
(30) فن الشعر: د. إحسان عباس، دار الشروق، عمّان، ط٤، 1987م، ص62.
(31) حركية الإبداع ص ١١١.
(32) تحليل الخطاب الشعري ص ص6564.
(33) ينظر حركية الإبداع ص196.
(34) ينظر نسمات وأعاصير في الشعر النسائي العربي المعاصر ص350.