إلين بيلين أديب بلغاريا الساخر
إلين بيلين هو اسم الشهرة للكاتب والشاعر البلغاري (ديميتر إيفانوف ستويانوف) المولود في قرية (بايلوفو) من أعمال العاصمة (صوفيا) عام .1877
لم يكمل دراسته المدرسية ، لولعه بالقراءة ، حيث ألم بالأدبين الروسي والبلغاري ، حيث عمل بالتدريس في مسقط رأسه (بايلوفو) (1895-1896) ، ثم انتقل الى صوفيا في خريف عام 1899 ، وهناك عمل أمينا للمكتبة الجامعية ، سافر في مأمورية عمل الى فرنسا 1906-1907) ، ثم أمينا للمكتبة الجامعية (1910-1916) ، ثم عامل تنسيق في بيت المتحف ، شارك في عدد كبير من المجلات الأدبية ، كما وقام بتحرير وكتابة كافة المقالات لوحده في مجلة( حديث القرية) بين عامي 1902-1903، كما وشارك في تحرير صحيفة (البلغاري ) بين (1904-1909)، وصحيفة (الخماسين) (1921-1927)، كما وعمل في جريدة (المرح) للأطفال و وجريدة(الدرب) ،غيرها الكثير.
أصبح رئيسا لاتحاد الكتاب البلغار عام 1940
بدأ (إلين بيلين ) الكتابة كتلميذ في مدرسة قريته، حيث نشر أولى إبداعاته في مجلة (الديوان الحربي) ، وكانت قصة قصيرة بعنوان ( عزيزٌ هو الوطن ) وكان وقتذاك في الحادية عشرة من عمره، كما ونشر قصته (على قبر الأم ) في العام نفسه في المجلة المدرسية (الينبوع) ، كما ونشر ديوانيه ( الشتاء) و(مرحباً) عندما بلغ العشرين من عمره، كما ونشر نفس القصائد في مجلة ( النظرة البلغارية) مستخدما لأول مرة اسمه المستعار (إلين بيلين) الذي اشتهر به فيما بعد .
وعندما اشتد عوده ابتعد تدريجيا عن الشعر واتجه نحو القصة القصيرة في ذروة نضوجه الأدبي ، فيما استمر في كتابة القصائد الساخرة ، وقصائد للأطفال.
يعد (إلين بيلين ) من أعظم فناني القرية البلغارية ، وسيد القصة القصيرة في الأدب البلغاري ، وخالق اللوحات الفنية الساطعة التي لم يلفها الزمن بالنسيان ، ألم بتفاصيل حياة القرية البلغارية وروحها ، وخلف أماكنها وشخوصها جسد نزعاته الاجتماعية ، وفي أجوائها كتب أولى قصصه الناضجة مثل( طاحونة الهواء) ، (في ذلك العالم) ، ( الضيف) ، و(أندريشكو)، (الخدعة الربيعية)
ألف (بيلين) العديد من القصص المليئة بالفرح والضحك المرح والتي يظهر فيها الفلاح البلغاري الداهية الذي يمكنه الممازحة حتى في أصعب لحظات حياته البائسة ، تلك الميزة الواضحة لحيوية الشخصية الوطنية البلغارية . حمل هموم القرية وأناسها ليصبها في قالب من الضحك والأدب الساخر ، فكتب عن هموم المعلمين قصصاً مثل( روح المعلم) ، (الوحل) ، (ألوحيدة) ، كما ووصف بأسلوب ساخر بعض رجالات الكنيسة في كتبه ، (الإخوة) ، (الشوق(
تعتبر أعمال (إلين بيلين) دراسة بحد ذاتها للجوهر الروحي للإنسان ، وللجانب الحميم من عالمه ، ولتعاطيه مع الطبيعة والمجتمع من حوله ، فاعتلت أعماله قمم الفن البلغاري المكتوب ، كما وحظيت بالترجمة إلى ما يزيد عن 40 لغة. وتخليداً لذكراه فقد أطلق اسمه على مدينة بلغارية في الجزء الغربي من بلغاريا.
ريشة النسر
كنت طفلاً.. وكنت أعدو ذات يوم في المروج فوجدت ريشة نسر، كانت ريشة جميلة وكبيرة ..من كان أسعد مني بها وقتذاك
رفعت الريشة بيدي عاليا وعدوت بكل ما أتيت من قوة ،إذ كان يخيل إليّ أني أطير بخفة النسر.
أصبحت شابا ، فعلقت ريشة النسر على قبعتي ، وتوددت إلى أجمل فتاة في العالم. من كان أسعد مني وقتذاك؟
غير أني كنت فقيراً، لا أملك شيئا سوى ريشة النسر تلك ، فتركتني فتاتي الحبيبة ، إذ قالوا لها أنه لا يمكن للمرء العيش فقط بريشة نسر ٍ جميلة ، وقد أيقنت روحُها الأنثوية ذلك بسهولة..لم يكن هناك أتعس مني حينئذٍ.
خبأت ريشة النسر ، ولم يطاوعني قلبي أن أحملها بعدذاك ، واشتد الحزن في روحي ..حزنا لم استطع دفعه بشيء ، عندها بدأت أدرك أن جميع الناس يعانون مثلي أو ربما أكثر مني .
لماذا هي الحياة بائسة إلى هذا الحد؟
أخرجت ريشة النسر من جديد ، غير أني لم أكن طفلا لألهو بها ، ولا شابا لأتزين ، عند ذاك حددت طرفها لأصنع منها يراعا ً للكتابة .
وأردت أن أكتب شيئا مرحا..غير أن الحزن تدفق من نصي
التعساء
كان يوماً جميلا ، وكأن الشمس تعمدت أن تدفئ ذلك النهار الخريفي لتجلب الفرح للبشر.. غير أنها احتجبت سريعا ، وتسلل البرد من الجبال لينتشر بغتة فوق المدينة
فتجمَّد الغسق لهبوب الريح الباردة التي وثبت من الجبال المجاورة كفدائي ثائر.
ومن على بناية شاهقة في المدينة هبط أحد العمال ، بعد أن أنهى بناء المدخنة الأخيرة.. هبط متثاقلا على درجات المبنى في متاهة من أكوام الألواح الخشبية والركائز ليجد نفسه أخيرا في أسفل البناية حيث كانت زوجته بانتظاره ، والتي كانت في سنٍ مدبرةٍ للشباب ، مقبلةٍ على الهرم، مرتدية لباساً رمادياً خشناً، وكانت بدورها عائدة من عملها كذلك ..لم يتبادلا قولاً ، حيث ارتدى هو معطفه القديم وذهب إلى (براكية خشبية) لمتعهد البناء ، حيث يدخل ويخرج عمالٌ آخرون ،ولم يطل لبثه هناك حيث عاد وتحرك مع زوجه ببطء.
ازداد البرد حدّة ..سارا بصمت ، بأيدي مندسة في الخِرَق ، ثم اجتازا إحدى الأحياء الطرفية لينحدرا عبر الطرق الصغيرة الوسخة.
كان العامل يسير بتثاقل وكأنه ما زال يهبط الدرج المخيف في البناية .
هنالك في مكان ما قام بيتهما الصغير الفقير المعتم المتواني، حيث وقف على عتبته من ثلاثة إلى أربعة أطفال شاحبي الأوجه تشرئب أعناقهم بصبر نافذ نحو منعطف الطريق انتظاراً..لم يكونوا ينتظرون هدايا أو ربتات حنان، ولكنهم كانوا يشعرون بالحاجة للعينين الطيبتين لأمهم الداخلة في الكهولة، وللوجه العابس لأبيهم الراعي لحالهم.
هنالك لن تستعر النار في المدفأة ، ولن يتراقص لهيبها المرح على الحيطان ، فبالنسبة لحالهم لم يحن وقت المدفأة بعد..وسيكون عشاؤهم خبزاً جافاً ، وجبناً ، وبضع حبات من الفلفل الأخضر والبصل. . سيأكلون بلذة وببطء ٍ واحترام للقمة العيش.
الأب يعمل وكذلك الأم ، ويحصّلان الكثير، ولكنهما لا يجرؤان على الصرف ، لأنهما يرتجفان خوفاً من الحياة ، التي كانت دوما مخيفة لهما ، وخوفاً من المجهول القادم في غدٍ ، والذي لم يبدو لهما قطّ أنه قادم بخير...ففقدت أرواحهم الخائفة كل أشكال الفرح.
زهرات الأقحوان
شوارع المدينة تغص بالضباب في صبيحة يوم خريفي..ضباب رقيق يشبه الدخان أضاع ملامح البشر، والسيارات والعربات التي تظهر بسرعة ثم تختفي، كذلك الخطوط الكفافية للمباني..
ألمح بعيداً- كالناظر في مرآة متعرّقة - كومة من الطلاء العكر المتحرك، تقترب رويدا رويدا لتتضح لي فيما بعد ملامح حمَّال عجوز أشعث، رثّ الهيئة ضعيف البنية، يرتدي معطفاً رمادياً خفيفاً و يرزح تحت حمل هائل من الأقحوان، أزاهير أقحوان من شتى الألوان، البيضاء، الصفراء، القرمزية، الخمرية، وأخرى قانية اللون.
كان الحمال العجوز يحتضنها بجهد كبير، فيما كانت الأزهار الناعمة الطرية الجميلة المرحة، تغطي رأس العجوز وشعره الأشيب، فيما يطلّ من بينها وجهه الشاحب الغارق في الفكر، والأشبه بالقمع لشدة البرد.
خلف العجوز كانت تسير سيدة، غارقة في الحِداد يلفها وشاح ٌ أسود، لا يكشف للناظر، أعجوز ٌ هي أم شابة؟ أجميلة أم قبيحة .
يواصل كلاهما السير على أرض الشارع الخالي من البشر، الحمال العجوز في المقدمة، والسيدة على بعد خطوات خلفه ..والضباب الآن يغطي ملامح العجوز بالكامل، أما اللوحة السوداء للمرأة فتبرز بوضوح.
زهرات الأقحوان النقية تطلّ من الباقة الكبيرة، تتأرجح بمرح ٍ وتلعب فوق رأس العجوز تبعا لحركته الثقيلة، منهن منحنيات، وأُخَرُ منتصبات ترتج وتتراقص، تشرئبّ نحو المرأة المرتدية للحداد ، ثم تعود وتنظر إلى الأمام صوب الطريق..
آه يا زهور الأقحوان الجميلة...يا وليدات الخريف الناضج ..إنهم يحملونك إلى المقبرة، حيث سَتـَمُتـْنَ لطول المكث على تراب جديد لقبرٍ ما...
كم أنتنّ جميلات، تصلحن أن تكن هدية غرام، يا من لا يزهرن في الربيع حيث يزهر الغرام، وكأن الخريف لا يلدكن، إلا عندما يخيم الحزن ُ على الأرض.
عين عديمة الفائدة
خرجت ذات يوم للصيد فقادتني قدماي إلى الأعماق المظلمة لغابة من أشجار الزان، تخلو من أي أثرٍ لطريق ٍ ما يوحي أن قدم إنسانٍ لم تطأها من قبل،
وعندما توغلت فيها ألفيت عينَ ماءٍ في البقعة الأكثر ستراً فيها.
كانت العين قد نقشت في صخرٍ بشكل بالغ الجمال، ليتدفقَ منها الماءُ عَبرَ أنبوبٍ نحاسيٍّ، ويصبَّ في حوضٍ حجري منبعثاً منه خريرٌ يطرب ُ الآذان، وبالقرب منه ينتصب حوضٌ خشبي.
عندئذ ٍ سألت نفسي مندهشاً: ترى من يكون صنع هذه العين بهذا الإتقان والعناية في مكانٍ لن يصله إنسان يوماً
أيكون أحد هواة الطبيعة؟
أو صديق لجنيات الغابة؟
أو أحد عشاق العزلة؟
أم تراه يكون ُ متأملاً ما..أو شاعراً ما؟
أجل..هو حتماً شاعرٌ ما ذلك الذي صنع هذه العين الجميلة في قلب غابة الزان المهجورة ..لأن الشاعر فقط هو من يقوم بأعمالٍ جميلة وعديمة الفائدة في آن.