الجمعة ١٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٠
بقلم محمد زكريا توفيق

إن الله يرى الحقيقة، ولكن ينتظر «ليو تولستوي»

يضع العديد من النقاد قصة "إن الله يرى، ولكن ينتظر" لتولستوي، مع أفضل القصص القصيرة التي كتبت على الإطلاق. موضوعها هو ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، والإيمان والقبول والغفران. لا تزال تقرأ وتدرس ما يقرب من قرن من الزمان. أعدت للعرض في الإذاعة والتليفزيون، وترجمت إلى معظم لغات العالم.

ولد الأديب وكاتب الرواية والقصة القصيرة والفيلسوف ليو تولستوي في 9 سبتمبر 1828م، في مقاطعة تولا روسيا. هو الأصغر من بين إخوته الأربعة. توفت والدته عندما كان عمره 18 شهراً. في وقت لاحق، توفى والده عام 1837م. تولت عمته تربيته هو وأشقاؤه، ثم انتقلوا بعد وفاتها إلى قازان للعيش مع عمتهم الثانية.

تلقى تولستوي تعليمه في المنزل عن طريق مدرسين ألمان وفرنسيين.

في عام 1843، دخل ليو جامعة قازان وبدأ في دراسة اللغات الشرقية، ثم تحول إلى دراسة القانون. وصفه معلموه بأنه غير قادر وغير راغب في التعلم على حد سواء. مما جعله يغادر الجامعة دون الحصول على درجة علمية.

في عام 1851، ذهب تولستوي مع أخيه الأكبر إلى القوقاز والتحق بالجيش. خلال خدمته في الجيش، بدأ في كتابة أول أعماله الأدبية، سيرة ذاتية عن ذكريات الطفولة. بعد ذلك، كتب عن ذكريات الصبا عام 1854م، ثم ذكريات الشباب عام 1857م.

بمجرد انتهاء الحرب، ترك ليو الجيش، وعاد إلى روسيا وأعلن نفسه أناركي، أي فوضوي لا يحترم أية سلطة غير سلطة الرب. بعد ذلك، أنشأ مدرسة أطفال في قريته. في 23 سبتمبر عام 1862، تزوج تولستوي صوفيا أندرييفا، وظل ما يقرب من عشرين عاما يعيش حياة مستقرة.

في يونيو 1863، ولدت زوجته أول أطفالهما الثلاثة عشر. تعتبر هذه السنوات السعيدة هي عصره الذهبي ككاتب. فيها ألف أفضل رواياته، منها رواية الحرب والسلام. ثم فجأة، أثناء أحد رحلاته في سبتمبر عام 1869، توقف في قرية أرزاماس ليقضي ليلته، إلا أنه قد ألمت به أزمة نفسية وقلق عنيف، جعله يعتقد أنه قد أصيب بالجنون.

لقد شعر بأنه سيموت، ووصف هذه اللحظة في كتابه "مذكرات مجنون"، بأنه شعر كأن جوفه سينفجر، مما أصابه بالرعب. يقول إن شيئا لا يوصف يقوم بتحطيم روحه المعنوية. احساس مروع يمزقه بدون أن يتمزق.

كانت هذه نقطة تحول في حياته، سببت له أزمات نفسية لسنوات عشر تالية من حياته. في خلال عامين، توفى ثلاثة من أطفاله فأصبح يائسا. لقد فقد إرادة الحياة وصار مشغولاً بفكرة الانتحار.

في مقال طويل بعنوان "إني أعترف" نشر عام 1882م، تظهر حالة اليأس التي كانت تنتابه بقسوة. لحسن الحظ لم تتخل عنه موهبته الفريدة في كتابة الرواية. فكتب لنا رواية "آنا كارينينا، في سبع سنوات.

بعد نجاح "آنا كارينينا"، لم يكن تولستوي مرتاحا لخلفيته الأرستقراطية وثروته المتزايدة. فترك كل هذا لكي يعيش حياة تقشف وزهد مثل الفلاحين. خلال هذه الفترة، كتب أيضا العديد من القصص القصيرة مثل "إن الله يرى الحقيقة، ولكن ينتظر". لقد وجد تولستوي في الدين حلا للتغلب على أزماته النفسية.

لكنه لا يؤمن بالمؤسسات الدينية المنظمة. يقول إنها تدعو إلى عقيدة فاسدة تتعارض مع التعاليم الحقة للمسيح. رفضه للطقوس الدينية، جعل الكنيسة الأرثوذكسية تقوم بحرمانه عام 1901م. أما شجبه لدور الدولة ومفهوم حقوق الملكية، فقد وضعه في تصادم مع الحكومة القيصرية التي بدأت تراقبه عن كثب.

بعد مشاكله المتزايدة مع زوجته، ترك المنزل في أواخر أكتوبر 1910م. لكنه أصيب بالمرض وتوفي بعد ذلك بسبعة أيام عن عمر يناهز الثانية والثمانين.

ملخص القصة

تبدأ القصة بوصف تاجر وسيم شاب اسمه إيفان دميتريتش أكسيونوف. يعيش في فلاديمير مع عائلته. إيفان يشرب الخمر كثيراً عندما كان شابا يافعا. لكن بعد الزواج، استقر به الحال ولم يعد يشرب إلا في المناسبات.

في يوم صيف، قال انه ينوي الذهاب إلى معرض تجاري في مدينة مجاورة، وبدأ يعد نفسه لذلك. لكن زوجته أبدت قلقها من هذه الرحلة، فناشدته عدم الذهاب، لأنها رأت حلما سيئا. لقد رأت في المنام أنه عاد بعد أن شاب شعره وتحول إلى اللون الرمادي. لكن إيفان يضحك مبديا عدم الاهتمام ويذهب إلى المعرض بالرغم من ذلك.

يتعرف على تاجر آخر في طريقه. يتواصلان الحديث ثم يذهبان معا لتناول الشاي والمبيت في حانة قريبة منهما. يستيقظ إيفان كعادته مبكرا، لكي يواصل رحلته بمفرده إلى المعرض التجاري. بعد أن قطع مسافة 25 ميل، توقف لإطعام جياد عربته. أحضر جيتاره وبدأ العزف والغناء لكي يسلي نفسه.

فجأة تتوقف عربة شرطة بجوار عربته. نزل منها ضابط يتبعه جنديان وبدأ في استجواب إيفان. يسأله عن التاجر الذي التقى به وبقي معه في الحانة. لقد عثر على التاجر مذبوحا في غرفته بعد أن سرقت نقوده.

يبدأ الجنود في فحص عربة إيفان وحقائبه. لدهشته البالغة، وجدوا سكينا ملطخة بالدماء في حقيبته. يقسم إيفان، وهو منكس الرأس يرتجف من الخوف، بأنه لم يفعل شيئا ضد القانون وأنه برئ براءة الحمل من دم ابن يعقوب. لكن الضابط يأمر الجنود بالقبض عليه وأخذه معهم. لأن الأدلة دامغة، تشير إلى أنه مذنب متورط في هذه الجريمة البشعة.

لقد أصبح إيفان الآن متهما بقتل التاجر وسرقة عشرين ألف روبل منه.

زوجته المسكينة أصبحت يائسة. تزوره في السجن مع أطفالها الصغار. أحدهم تحمله على صدرها. بعد الاستجداء والتسول، سمحوا لها بزيارته. أثناء الزيارة، تخبره بأن القيصر رفض الالتماس الذي قدمته للعفو عنه.

ثم تتذكر حلمها وتسأل إيفان عما حدث. يخبرها بكل شي بالتفصيل. لكنها لم تكن مطمئنة من روايته، وتطلب منه مرة أخرى قول الحقيقة. هنا يزداد حزن إيفان، عندما يسمع منها ما يدل على شكها فيه. ثم يأتي الضابط ويطلب من الزوجة المغادرة.

بعد رحيلهم، يتذكر ما قالته زوجته وعدم ثقتها فيه. لا شك في أن الله وحده هو الذي يعلم الحقيقة. هو الوحيد الذي يجب أن نطلب منه الرحمة. إيفان يتخلى عن كل أمل ويتوقف عن كتابة عرائض الاسترحام. بعد ذلك، يتم إرسال إيفان إلى سيبيريا لقضاء عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة في مناجم الفحم هناك.

يقضي إيفان 26 سنة أشغال شاقة في سيبيريا. هو الآن رجل كهل أبيض الشعر، مدان يقضي عقوبة السجن المؤبد. فقد كل شيء، زوجته وأولاده وشبابه ومتجريه وبيته وممتلكاته. ولم يتبق له سوى الخوف من الله وطلب مرضاته. هو الوحيد الذي يعلم أنه برئ.

في السجن، كان يسلك سلوك القديسين، محبب جدا من قبل سلطات السجن لوداعته واستكانته. كان يسمى الجد أو القديس بين زملائه السجناء. لا يعرف أي أخبار عن عائلته، ولا يعرف ما إذا كانت زوجته لاتزال على قيد الحياة أو قد توفيت.

ينفق القليل من المال الذي يكسبه من صنع الأحذية لشراء كتاب عن حياة القديسين. المسؤولون والسجناء يحترمونه لنزاهته في حل النزاعات. هو نفسه قد تحول إلى شخصية دينية.

في أحد الأيام، تأتي عصابة جديدة من المدانين إلى السجن. يجتمع السجناء القدامى حول القادمين الجدد ليسألونهم عن المدن التي يأتون منها، وسبب الحكم عليهم. من بين المدانين الجدد، كان هناك رجل طويل القامة في الستينات من عمره، يدعى ماكار سيميونيتش، من بلدة فلاديمير.

يقول إنه جاء للسجن لأمر لم يفعله. لكنه يستحق السجن لشيء آخر فعله من قبل. يسأله إيفان إن كان يعرف أي شيء عن تجار عائلة أكسيونوف في فلاديمير. فيؤكد ماكار أن تجار أكسيونوف أغنياء الآن، وأن والدهم مدان ويقضي عقوبته في سيبيريا مثله.

ماكار يسأل إيفان عن سبب الحكم عليه، لكن إيفان لا ينطق بكلمة، ثم يروي لماكار كل القصة. ماكار يصفع ركبته ويقول إنه سعيد بمقابلته. ثم يتساءل إيفان عما إذا كان يعرف الشخص الذي قتل التاجر. لكن ماكار يرد بأن القاتل هو من وجدت السكين في حقيبته، إذ كيف يمكن لأي شخص أن يضع لشخص آخر السكين في حقيبته بينما هي تحت رأسه.

كيف عرف ماكار أن الحقيبة كانت تحت رأسه وهو نائم؟ تأكد إيفان الآن تماماً أن ماكار هو القاتل الذي قتل التاجر. بدأ يشعر بالبؤس والتعاسة والغضب الشديد نحوه، وهو يسترجع ذكرياته القديمة وأطفاله وزوجته ومعاناة السنين الطويلة في السجن بسببه. ثم أخذ يفكر مليا كيف ينتقم من ماكار سبب بؤسه ومعاناته وتدمير حياته.

لكن إيفان لم يفعل سوى تجنب ماكار حتى لا يرى صورته. ظل طول الليل يقيم الصلوات. إلى أن وجد يوما كمية من الأتربة تسقط من أحد الرفوف التي ينام عليها المساجين. والتي تدل على أن هناك من يحفر نفقا للهرب.

ثم يأتي ماكار ويهدد إيفان بالقتل إن باح بالسر وأخبر الحراس. لكن إيفان يقول إنه سترك الأمر لله.

يكتشف الحراس النفق في اليوم التالي. ويبدأ استجواب جميع المساجين. أنكروا جميعا معرفتهم بهذا الموضوع. ينفرد المحقق بإيفان ويحثه على التحدث بما يعرفه عن النفق السري. في البداية، يفكر إيفان في إخبار المحقق بكل شيء، لكنه يغير رأيه.

في ليلة، بينما إيفان ينام في سريره، يقترب منه ماكار، ويتوسل إليه طالبا الصفح والمغفرة. فيسأله إيفان عن ماذا يطلب الصفح؟ ماكار يعترف له أنه هو الذي قتل التاجر. يرفض إيفان في البداية أن يغفر له. فيضرب ماكار برأسه الأرض وهو يبكي وينتحب. إيفان يبكي كذلك، ثم يغفر له.

ماكار يقول انه سيعترف للضابط بقتله للتاجر وسرقة أمواله، ومن ثم يحصل إيفان على حريته. بعد أن غفر إيفان لماكار، وجد أن مرارة الحقد في نفسه قد زالت، وامتلأ قلبه بالنور. لم تعد لديه الآن أي رغبة في مغادرة السجن. إنه فقط ينتظر ساعاته الأخيرة. ماكار يعترف بالحقيقة، وعندما يأتي قرار الإفراج، يكون إيفان قد فارق الحياة.

ملاحظات على القصة:

عنوان قصة "إن الله يرى الحقيقة، ولكن ينتظر"، له معنى رمزي. إنه عنوان يثير التساؤل. حقا، لماذا ينتظر الله، طالما هو يرى الحقيقة؟ العنوان يترك القارئ في حيرة، ويجعله مشتاقا لمعرفة ماذا يعني هذا العنوان. ثم يتابع القارئ أحداث القصة بتشوق ودهشة.

الحل الديني للتغلب على مشاكل الحياة، لا يقبله الكثيرون من الفلاسفة والمفكرون. ماركس يقول إن الدين بالنسبة للإنسان هو مجرد تأوهات مظلوم وزفرات مقهور في هذا العالم الظالم الذي لا قلب له. الدين عبارة عن روح من لا روح له. الدين أفيون الشعوب، تعني أن الدين هو الدواء والمخدر الذي يخفف من آلامهم.

القصة لها علاقة واضحة بفترة القلق والمعاناة التي مر بها ليو تولستوي في حياته. عندما كتبها، كان يبحث عن معنى للحياة. إلا أنه، لم يجد سوى الدين سبيلا للتغلب على أعباء الحياة ومشاكلها. وهي مفاهيم دينية كان يعتنقها في ذلك الوقت.

بالإضافة إلى ذلك، القصة تتمحور حول مفهوم العدالة ومرارة الظلم. أحداث القصة تدور حول شاب اسمه إيفان أكسيونوف يمر بظروف قاسية. هذه الظروف القاسية لم تجعل منه مجرما، بل قامت بتغيره لكي يصبح شخصا أفضل مما كان. لكن للأسف بعد فوات الأوان. ويبقى السؤال، لماذا يشاهد الإله الظلم وينتظر؟

أفكار تولستوي حول المقاومة السلمية، التي جاءت في أعماله، كان لها تأثير عميق على شخصيات تاريخية في القرن العشرين مثل المهاتما غاندي، ومارتن لوثر كينج.

الظلم هو موضوع القصة الأكثر وضوحاً. القضية ضد إيفان أكسيونوف كانت واهية غير مقنعة. فلم يكن هناك دافع للجريمة سوى سرقة العشرين ألف روبل من التاجر. المبلغ المسروق لم يوجد مع المتهم إيفان. السكين يمكن أن تكون قد وضعت في حقيبته للفت الأنظار عن القاتل الحقيقي.

يبدو أن السلطات الحكومية، كعادتها في كل العصور، كانت حريصة على إلصاق التهمة به منذ البداية. السلطات لم تبذل جهداً يذكر للتحقيق مع مشتبهين آخرين.

عندما رفض استئناف زوجته إلى القيصر، تقبل إيفان الظلم كأمر واقع من الصعب تصحيحه. إنه هنا يزهد في كل شيء. لم يتبق له لظهور براءته سوى العدالة الإلهية، التي لم يستطع الحصول عليها من أخيه الإنسان.

في السجن، يتحول إيفان إلى شخصية متواضعة خاشعة. إيمانه قوي لدرجة أنه حتى عندما علم بالظروف التي أدت إلى محنته، كان يعتقد أنه يستحق ذلك العقاب، لأنه لابد أن يكون إنسانا شريرا. الله لا يعاقب الأخيار البررة.

عندما يعلم من هو الفاعل الحقيقي للجريمة، تثار عنده مشاعر الاستياء المكبوتة. لكنه سرعان ما يكبتها ويغفر لمن ظلمه. يعتقد بذلك أنه قد امتلك نفسه، وأصبح الحاكم لشعوره وعواطفه وحياته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى