الخميس ٢٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢١
بقلم رامز محيي الدين علي

الألماسُ في الحُمُّصِ

في هذهِ المقالةِ أتناولُ موضوعاً مُثيراً للجدلِ بينَ مَن يُؤمنُونَ بالحظِّ إيمانَهم بالقدرِ، وبينَ مَن يُنكرُونَه، مُستندينَ إلى الأدلَّةِ والبراهينِ العقليَّةِ الّتي تَنسبُ كلَّ نجاحٍ أو رزقٍ إلى الخبرةِ والعلمِ والمعرفةِ جاحدينَ دورَ الحظِّ في ذلكَ أيَّما جُحودٍ، ونقيضُ ذلكَ صحيحٌ في كلِّ إخفاقٍ أو تأخُّرِ رزقٍ مَردُّهُ إلى قلَّةِ الخبرةِ والمعرفةِ، ولكنَّني أستعرضُ ما وردَ في كتاباتِ كبارِ المفكِّرينَ، ولا سيَما ما جاءَ منْها في كتابِ فيضِ الخاطرِ للكاتبِ الكبيرِ أحمد أمين حينَما يَعرضُ لنا قصّةً يتأجَّجُ فيها الجدلُ بينَ ملكٍ لا يُؤمنُ بالحظِّ، وبينَ وزيرٍ يُؤمنُ بهِ إيماناً مُطلقاً، ويَسُوقُ كلٌّ منهُما الأمثلةَ والبراهينَ والأدلَّةَ لتأييدِ قناعتِه ومذهبِه.
وهذا ملخَّصُ ما جاءَ في القصَّةِ: ( ) من قديمٍ والنَّاسُ يتجادلُون: هل في الدُّنيا شيءٌ اسمُه الحظُّ أو هوَ مجرَّدُ وهمٍ وخرافةٍ؟ وقد كنْتُ قرأْتُ قصَّةً لطيفةً في ذلكَ، وهيَ أنّ ملكاً ووزيراً تجادَلَا مرّةً في هذا.
فأمّا الملكُ فقدْ نفَى أنْ يكونَ في الدُّنيا حظٌّ وإنّما هو سببٌ ومسبّبٌ وعملٌ ونتيجةٌ. فالتَّاجرُ إذا نجحَ فبِجدِّهِ وبمعرفتِه قوانينَ الاقتصادِ، وإذا خابَ فبِكسلِه أو إسرافِه أو جهلِه بأصولِ التِّجارةِ. وكذلكَ الفلاّحُ إذا نجحَ فلأنَّهُ جَرى على أصولِ الزِّراعةِ، حرثَ الأرضَ جيّداً وبذرَ فيها بذُوراً نقيَّةً وسقَاهَا في موعدِها ونقّاها ممَّا يعلَقُ بهَا، وجارُه إذا خابتْ زراعتُه فلأنَّه لم يتَّبِعْ هذهِ القوانينَ.

فأجابَه الوزيرُ: ولكنْ قدْ نرَى تاجرينِ أحدُهما مُتعلِّمٌ على آخِرِ نمَطٍ وصلَ إليهِ العِلمُ الحديثُ، درسَ الجُغرافيَا وعلْمَ محاصيلِ البلادِ ومُنتجاتِها، ودرسَ علْمَ الاقتِصادِ وعرفَ قانونَ العَرضِ والطَّلبِ ومتَى يرتفعُ السِّعرُ ومتَى ينخفضُ، ومعَ ذلكَ نراهُ تاجراً خائباً، وزميلُه الّذي لم يتعلَّمْ ويكادُ يكونُ أمّيَّاً تاجرٌ ناجِحٌ قد ربَّى ثروةً كبيرةً..!
فيردُّ الملكُ بالقولِ: ليسَ هذا حظَّاً، وسببُ نجاحِ الأبِ وخيبةِ الابنِ أنَّ هناكَ علْماً غيرُ الّذي في الكتُبِ يُكتَسبُ بالتَّجاربِ؛ فالأبُ الّذي نجحَ فيهِ قدْ عرفَ أخلاقَ النَّاسِ وعرفَ كيفَ يُعاملُهم وعرفَ ما يستَهْويْهم وما يُنفّرُهم، فكانَ هذا سببَ نجاحِه.. ثمَّ يجيءُ الابنُ المغرورُ بعلمِه فلا يُجاملُ النّاسَ.. أو يتوسَّعُ في التِّجارةِ أكثرَ ممَّا يحتمِلُه رأسُ مالِه اعتِماداً على حسابٍ تبيَّنَ خطؤُه، أو تُغْريْه الملذَّاتُ، فيُنفِقُ أكثرَ ممّا يربحُ فتكونُ النَّتيجةُ الفشلَ، ثمَّ يأتي الجُهَّالُ فيُسمُّونَ ذلكَ كلَّه حظّاً.
وهكَذا يستمرُّ الجدلُ بينَ الملكِ والوزيرِ، ويصلُ الأمرُ بالملكِ إلى أنْ يهدِّدَ وزيرَه بالعزلِ من منصبِه إذا لم يُقنِعْه بوجودِ الحظِّ بشكلٍ قاطعٍ.
ولكنّ الحظّ ساعدَ الوزيرَ، حينَما أظلمَ اللَّيلُ، فأمرَ بأنْ يقبِضَ على أوَّلِ اثنينِ يَسيرانِ في الشَّارعِ، فأُتَي بالرَّجلينِ فحبسَهما في حجرةٍ مُظلمةٍ. كان أحدُهما نشيطاً شُجاعاً، وكانَ الآخرُ كسولاً جبَاناً، قعدَ الكسولُ في ركنٍ من أركانِ الحُجرةِ يَبْكي ممَّا أصابَه، وأخذَ النَّشيطُ الشُّجاعُ يتحسَّسُ الحجرةَ لعلَّه يجِدُ فيها ما يأكلُه، فوقَعَت يدُه على كيسٍ أدخلَ فيهِ يدَه فوجدَه حبّاً، ذاقَه فوجدَه حُمُّصاً، فأخذَ يأكلُ، وحينَ تصطدمُ أضراسُه بحصاةٍ كانَ يُخرجُها فيَرمي بها صاحبَه الكسولَ استهزاءً بهِ واستِخفافاً، فلمّا حلّ الصّباحُ وأشرقَ النُّورُ تبيَّنَ أنَّ الحجارةَ الّتي في حُجرِ الكسلانِ الجبانِ قطعٌ من أفخرِ الماسِ، وتكشَّفتِ الحالُ عن نشيطٍ شجاعٍ أكلَ حُمُّصاً وكسلانَ جبانٍ نالَ ماساً.
فذهبَ الوزيرُ إلى الملِكِ يقُصُّ عليهِ أكبرَ برهانٍ على وجودِ الحظِّ في الدُّنيا.
فقالَ الملكُ: آمنْتُ أنَّ في الدُّنيا حظّاً بمقْدارِ ما يُوجدُ المَاسُ في الحمُّصِ
.
ويُعلِّقُ الكاتبُ أحمدُ أمين على ذلكَ فيقولُ ( ): "وفي الحقِّ أنَّ في الدُّنيا حظَّاً، وأنّه أكثرُ قدْراً منَ الماسِ في الحمُّصِ، فهذهِ تُرزقُ الجمالَ وهذهِ تُرزقُ القُبحَ، وهذا يُرزقُ الذَّكاءَ وهذا يُرزقُ الغباءَ. وأجلسُ في (المِترو) في المقعدِ الضيِّقِ فأُرزَقُ بالرَّجلِ السَّمينِ الّذي يحتاجُ إلى (مِترو) وحدَه، ويركبُ النَّاسُ القطاراتِ فتُوزَّعُ الأرزاقُ أشكالاً وألواناً، هذا محظوظٌ في مكانِه وهذا مَنحُوس في جيرانِه. وهكَذا كلَّ يومٍ آلافُ وآلافُ من الحوادثِ تَجري ليسَ لها تعليلٌ إلّا الحظُّ".
ثمَّ يُبدي موقفَه الصَّريحَ منْ رأيِ الملكِ والوزير ِ( ) : "أنا معَ الوزيرِ ومعَ الملكِ في وجهةِ نظرِهِما: معَ الوزيرِ في أنَّ في الدُّنيا حظّاً وفي الدُّنيا أمُوراً لا يفسِّرُها قانونُ السَّببيَّةِ، ومعَ الملكِ في أنَّ الحظَّ لا يصحُّ أن يُعتَمدَ عليهِ في الحياةِ، فلا يصحُّ للفلَّاحِ أن يَعتمدَ في زراعتِه على الحظِّ، وكذلكَ التَّاجرُ في تجارتِه والطَّالبُ في دراستِه والصَّانعُ في صناعتِه والأمَّةُ في مصيرِها أو في تسييرِ شؤونِها.
لكلِّ إنسانٍ دائرتانِ في الحياةِ: دائرةُ العملِ وهذهِ يَنبغِي أن يُعتمدَ فيها على قانونِ السَّببِ والمسبِّبِ، والارتكازُ فيها على الحظِّ أو البختِ أو القدرِ أو نحوَ ذلكَ منَ الأسماءِ خطأٌ أيُّ خطأٍ، فإذا بذلَ الإنسانُ أقصَى جُهدِه في عملِه، فهناكَ الدَّائرةُ الأُخرى الّتي ليسَت في يدِنا، وإنَّما هيَ في يدِ القدرِ أو الحظِّ، ولتكنْ ما تكونُ بعدَ أنْ يكونَ الإنسانُ قدْ أرضَى ضميرَه وبذلَ ما في وُسعِه". (أحمد أمين، فيض الخاطر ج 6/ 145، -بتصرف-. المكتبة العصرية – بيروت، ط1/2010م).
وأنا أذهبُ إلى ما ذهبَ إليهِ كاتبُنا ومفكِّرُنا أحمدُ أمين، وأظلُّ في حيرةٍ من أمْري حينَما أسمعُ قِصَصاً طريفةً وقعَتْ في زمَني أو أمامَ ناظريَّ، أو نمَتْ إليَّ من أصدقاءَ حدثَتْ معهُم أو معَ أحدِ الأصدقاءِ أو الأقرباءِ وما شابَه ذلكَ!
فمِن ذلكَ قصَّةُ موجِّهِ اللُّغةِ العربيَّةِ والدِ أحدِ الأصدقاءِ الّذي كان يشْكُو ضيقَ ذاتِ اليدِ ونفسُه تحِنُّ إلى الكتبِ حنينَ النَّاعورةِ إلى الماءِ، وها هوَ معرِضُ الكتابِ يَقرعُ أجراسَ الموسمِ في خيمتِه الكبيرةِ وسطَ المدينةِ، لكنَّ أسبابَ الرَّجاءِ ضنَّتْ على مِحفظَةِ الموجِّهِ بالنُّقودِ لشراءِ ما تَهفُو إليهِ نفسُه من كتبِ المعرفةِ والنُّورِ، فيُلهِمُه القدرُ أو الحظُّ، فتستعِرُ في ذاتِه نشوةُ البحثِ والتَّأمُّلِ في أقسامِ المعرضِ، فيصطَحِبُ أسرتَه قاطِعاً مسافةً بعيدةً بينَ مدينتينِ، وقدْ أخبرَ أسرتَه بأنَّ الهدفَ من الرِّحلةِ إلى رحابِ المعرضِ إنَّما للتَّنزُّهِ والاطِّلاعِ فحسبُ؛ فصُرَّةُ الدَّراهمِ لا تَكْفي لشراءِ أيِّ كتابٍ!
ويصِلُ الموجِّهُ برفقةِ أسرتِه إلى مدخلِ المعرضِ، وتتَّئدُ حركةُ عجلاتِ سيارتِه فجأةً، وها هيَ سيَّارة فارهةٌ تحملُ وشماً ألمانيَّاً وبيرقاً توحي ملامحُه بأهمّيّةِ فارسِها، سوداءُ لا شرقيَّةٌ ولا غربيَّةٌ تصدمُ منَ الخلفِ سيَّارةَ الموجِّهِ الّتي يُرثى لحالِها كمَا يَرثي الأمواتُ حالَ الأمّةِ.. وتتسارعُ سيّاراتُ الشُّرطةِ والإسعافِ، الحادثُ بسيطٌ، لكنَّ راكبَ سيّارةِ المرسيدس هوَ حاكمُ المدينةِ جاءَ ليفتتحَ المعرِضَ، فاصطدَمَت سيّارتُه بسيّارةِ الموجِّهِ.. وانتهَتِ الأمورُ ببساطةٍ إذْ حمَّلَ الحاكمُ نفسَه مسؤوليَّةَ الحادثِ، ونادى الموجِّهَ وطيَّبَ خاطرَه بكلماتِ الحكمةِ، ومنحَه بطاقةً خاصَّةً يستطيعُ بموجبِها أنْ يَحملَ ما يشتَهي من كتبٍ دونَ حسابٍ..
في اليومِ التَّالي جاءَ الموجِّهُ بسيَّارتِه بعدَ أنْ أصلحَ حالَها بصُحبةِ أسرتِه، ودخلَ إلى المعرِضِ وبيدِه بطاقةُ الحظِّ يَشتري بموجبِها ما يشاءُ من جليسٍ صالحٍ دونَ مقابلٍ.. وهَا هيَ سيّارتُه تخرجُ من المعرِضِ وهيَ تئِنُّ بثقلِ الكتبِ كمَا تئِنُّ النَّاعورةُ من ثقلِ الماءِ بعدَ أنْ أغرقَ الغيثُ الأنهارَ بأمواجِ المياهِ وهيَ تتدفَّقُ كالشَّلَّالِ متسلِّقةً أدراجَ النَّاعورةِ محمَّلةً بالأتربةِ والحصَى! (وأنا أكتُبُ هذهِ القصّةَ وصلني نبأُ وفاةِ الأستاذِ موجِّه اللُّغةِ العربيَّةِ -رحمهُ الله- بعدَ أن بلغَ من العمرِ 72 عاماً وذلكَ يومَ الاثنينِ 23-11-2021.. وهذهِ ليسَتْ صدفةً).
وهَا هوَ رجلٌ مِسكينٌ تقطَّعَت بهِ السُّبلُ بعدَ أن فقدَ عملَه، وأصبحَ عاطلاً عنِ العملِ يقودُ سيَّارتَه على الطَّريقِ العامَّةِ بينَ مدينتينِ، لقدْ تعِبَ من القيادةِ، وقرَّرَ الاستراحةَ إلى جانبِ الطَّريقِ معَ جُنحِ الظَّلامِ، كانَ وحيداً في سيَّارتِه، وحينَما يقفُ إلى جانبِ الطَّريقِ وإذا بحقيبةٍ دبلوماسيَّةٍ تلتمعُ أمامَ عينَيْهِ، لقدْ جاءَ الرِّزقُ من عالمِ الغيْبِ والشَّهادةِ، حقيبةٌ فخمةٌ ثقيلةٌ، تتلمَّسُها أصابعُه بحنانٍ، وتتلاعبُ بأرقامِها يَمنةً ويَسرةً، وتنفتِحُ الحقيبةُ، وإذا بِها تغصُّ بفئاتٍ ورقيَّةٍ متنوِّعةِ الألوانِ تتدَّرجُ من المئةِ إلى الخمسِ مئةٍ في تسلسلٍ رقميٍّ عجيبٍ وإلى جانبِها قائمةٌ بأسماءٍ تُوحي بأنَّ الحقيبةَ تحملُ مُرتَّباتِ عمَّالٍ وموظَّفينَ.. فكَّرَ الرّجلُ بالنَّتيجةِ جيِّداً لو أنَّهُ حملَ الحقيبةَ وأفرغَ محتوياتِها في خزينتِه، فربَّما ينكشفُ أمرُه حينَما يُنفِقُ منْها؛ لأنَّ هذا التَّسلسلَ الرَّقميَّ أخافَه وأيقظَ ضميرَه وإحساسَه بأنَّ المالَ حرامٌ ربَّما فقدَه موظَّفٌ صغيرٌ مسؤولٌ ماليٌّ عن توزيعِ الرَّواتبِ أو إيداعِها في البنوكِ..
أغلقَ الحقيبةَ وحملَها معهُ إلى أقربِ مركزٍ للشُّرطةِ، وأبلغَهم قصَّةَ الحقيبةِ، وسلَّمَهم إيَّاها، وراحَ مركزُ الشَّرطةِ يتَّصلُ بصاحبِ الحقيبةِ من خلالِ الرَّقمِ المُدوَّنِ على قائمةِ الأسماءِ داخلَها، فيَحضرُ صاحبُ الحقيبةِ، وقدِ ارتسمَتْ علاماتُ الفرحِ على وجنتَيْه، فيأتي ويُقبِّلُ الرَّجلَ الأمينَ الّذي أعادَ لهُ الأملَ في الحياةِ، ويَعرِضُ على منقذِه مبلغاً منَ المالِ مكافأةً لهُ، لكنَّ الرَّجلَ الأمينَ يَأبَى أنْ ينالَ درهماً واحداً، ويطلبُ من صاحبِ الحقيبةِ أنْ يوفِّرَ له عمَلاً، ولا سيَما أنَّ صاحبَ الحقيبةِ ثريٌّ وعندَه شركاتٌ ومعاملُ، فيُمسكُ على شاربيهِ بأنْ يوفِّرَ له ما يُريدُه من عملٍ، فيُرسِلُه إلى مقابلةٍ معَ كبيرِ موظَّفيهِ ليُعيِّنُه عندَهم بمَا يليقُ بهِ من عملٍ، لكنَّ الموظَّفَ رفضَ قبولَ الرَّجلِ الّذي سيكونُ وبالاً عليهِ؛ لأنَّه يملكُ خبرةً وحنكةً في الحياةِ!
فيتَّصِلُ الأمينُ بصاحبِ الأمانةِ والعملِ ويخبرُه بالأمرِ، فيَعِدُه بمكافأةٍ ماليَّةٍ يدَعُها لهُ في مركزِ الشُّرطةِ، فيتَّصلُ المركزُ بالأمينِ، كيْ يَحضرَ لنيلِ مكافأتِه الّتي تركَها صاحبُ الحقيبةِ في ظرفٍ ورقيٍّ، ويحضرُ الرَّجلُ لاستلامِ مكفأتِه، ويُصرُّ ضابطُ الشُّرطةِ على فتحِ ظرفِ الأمانةِ ليَعرفَ ما بداخلِه، إنَّه قطعةٌ ورقيَّةٌ بقيمةِ خمسمئةِ درهمٍ على حقيبةٍ كانتْ تحتَوي على سبعمائةٍ وخمسينَ ألفِ درهمٍ!
يثورُ الرَّجلُ ويرفضُ المكافأةَ، ويغضَبُ الضَّابطُ، ويتعاطفُ معَ الرَّجلِ، فيتَّصلُ بصاحبِ الحقيبةِ؛ ليحضرَ إلى المركزِ من أجلِ استرجاعِ مكافأتِه الّتي ينْدى لها الجبينُ خجلاً، ويُصرُّ الضَّابطُ على حضورِه شخصيَّاً، ويأبَى أنْ يستلمَها أحدٌ من عمَّالِه أو موظَّفيهِ مبالغةً في احتقارِه!
ويُطيِّبُ الضَّابطُ خاطرَ الرَّجلِ بتزويدِه برقمِ هاتفِه ويَعِدُه خيراً، وبعدَ أشهرٍ قليلةٍ يفتتِحُ الضَّابطُ شركةً صناعيَّةً، فيتَّصلُ بالرَّجلِ المغلوبِ على أمرِه للمثولِ إلى مقرِّ العملِ لاستلامِ عملِه.. فيبتسمُ الحظُّ للرَّجلِ، ويصبحُ مسؤولاً كبيراً في الشَّركةِ، فيُعلِّمُ أبناءَه في الجامعاتِ ويعيشُ في بُحبوحةٍ من رغدِ الحياةِ، فحظُّهُ في الحقيبةِ كشَّر عن أنيابِه، فخابَ أملُه في لقمةِ العيشِ، لكنَّ حظَّهُ تبسَّمَ لهُ عندَ الضّابطِ الشَّريفِ، فزحفَتْ إليهِ أسبابُ العيشِ والرَّخاءِ زحفاً.
ومنْ قصصِ الحظِّ الطَّريفةِ الّتي قرأتُها من الأدبِ العالميِّ قصَّةُ (ألِكسندر فلمنج) مكتشفِ مادَّةِ البنسلين، وقدْ تكونُ القصَّةُ حقيقيَّةً، وقد تكونُ من بناتِ خيالِ المُؤلّفينَ، وبالرَّغمِ منَ البحثِ عن مصادرِها، لم أجِدْ مَن يؤكِّدُها مِن مصادرِها، ولمْ أعثرْ على مَن ينفيْها نفياً مُطلقاً، وإنَّما وجدتُ مَن وصفَ جزءاً مِنها بأنَّه كذبةٌ، ولم تمتدَّ التُّهمةُ إلى كلِّ أجزائِها.
وملخَّصُ القصَّةِ: كانَ ثمَّةَ فلّاحٌ اسكُتلندي فقيرٌ يُسمّى (فلمِنج) كان يكِدُّ ويكدحُ في حقلِه لتأمينِ لقمةِ العيشِ لأسرتِه، لم يكنْ يشْكو من ثقلِ الفقرِ عليهِ، وإنّما كانَ يَخْشى على مستقبلِ ابنِه، وذاتَ يومٍ سمعَ صرخةَ استغاثةٍ في مستنقعٍ قريبٍ من حقلِه، فهرعَ إلى مكانِ الاستغاثةِ، وإذا بصبيٍّ يغرقُ في المستَنقعِ، وكانَ الطِّفلُ يصرخُ ويحاولُ جاهداً أن يُخلِّصَ نفسَه منَ الطِّينِ، فأسرعَ الفلَّاحُ (فلمنج) إليهِ، وأنقذَ حياتَه من موتٍ زؤامٍ.
في اليومِ التَّالي، تتوقَّفُ عربةٌ فاخرةٌ أمامَ منزلِ الفلّاحِ الاسكتلنديِّ، ويترجَّلُ منها رجلٌ من طبقةِ النُّبلاءِ، أنيقُ الملبسِ، ويقدِّمُ نفسَه للفلَّاحِ على أنَّه والدُ الصّبيِّ الّذي أنقذَه الفلاحُ في الأمسِ، ويعرِضُ عليهِ مكافأةً ماليَّةً لحسنِ صنيعِه، ولكنَّ الفلّاحَ يرفضُ أيَّةَ مكافأةٍ ماليَّةٍ.. وفي هذهِ اللَّحظةِ يخرجُ ابنُ الفلّاحِ من بابِ المنزلِ المتواضعِ، فيسألُه النَّبيلُ: هل هذا ابنُكَ؟ فيردُّ الفلّاحُ: بـ (نَعم)، فيتعهَّدُ النَّبيلُ ابنَ الفقيرِ بتعليمِه على نفقتِه، إذْ يُرسلُ ابنَ الفلّاحِ (فلمنج) إلى مدرسةِ مُستشفى (سانت ميري) الطّبيَّةِ في لندن، ليُصبحَ ألكسندرُ فلمنج (1881 ــ 1955) من أشهرِ الأطبَّاءِ في العالمِ باكتشافِه عقارَ (البِنسلين) وهو أوَّلُ مضادٍّ حيويٍّ عرفتْهُ البشريَّةُ على الإطلاقِ، ويعودُ إليهِ الفضلُ في القضاءِ على معظمِ الأمراضِ الميكروبيَّةِ. كمَا نالَ جائزةَ نوبل في عامِ 1945.
وممَّا يزيدُ القصَّةَ طرافةً ما أُضيفَ إليها في النِّهايةِ من إثارةٍ، قد تكونُ موضعَ شكٍّ لعدمِ ثبوتِ مرجعيَّتِها في المصادرِ، ولكنَّها وإنْ كانتْ من نسجِ الخيالِ، فإنّها تُضْفي على القصَّةِ طرافةً وملاحةً وجمالاً، وتؤكِّدُ دورَ الحظِّ في خلقِ أحداثٍ جديدةٍ أو نهايةِ أحداثٍ قدْ يتخيَّلُها العقلُ، ويستسيْغُها منطقُ التَّوقُّعاتِ، فلم تنتهِ القصَّةُ بتبنِّي ابنِ الفلّاحِ من قبلِ اللُّوردِ، فحينَ يمرضُ ابنُ اللّوردِ الثَّريِّ بالتهابٍ رئويٍّ، كانَ البنسلينُ الّذي اخترعَه الطَّبيبُ ألكسندرهو ما أنقذَ حياةَ الصَّبيِّ الّذي يغْدو فيمَا بعدُ رجلاً من أشهرِ رجالاتِ بريطانيا، إنَّهُ (ونستون تشرشل بنُ اللُّوردِ راندولف تشرشل)، أعظمُ رئيسِ وزراءَ بريطانيٍّ على مرِّ العصورِ، الرَّجلُ العظيمُ الّذي قادَ الحربَ العالميَّة الثَّانيةَ (1939 ــ 1945) ضدَّ هتلر، ويعودُ له الفضلُ في انتصارِ قوّاتِ الحلفاءِ (انجلترا وفرنسا والولاياتِ المتّحدةِ الأمريكيَّة والاتّحادِ السُّوفياتي) على قوّاتِ المِحور (ألمانيا واليابان).
وأختتمُ كلامِي حولَ حتميَّةِ وجودِ الحظِّ في الحياةِ بأبياتٍ جميلةٍ للشَّاعرِ السُّودانيِّ إدريس محمَّد جَمَّاع ولهُ العديدُ من القصائدِ المشهورةِ الّتي تغنّى ببعضِها المطرِبونَ السُّودانيُّون، وفيها يقولُ: (موقع الدّيوان https://www.aldiwan.net/poem42150.html)
إنّ حظّي كدقيــــــق ٍ فوقَ شـــوكٍ نثَــروهُ
ثمَّ قالُــــــوا لحُفـــاةٍ يـــومَ ريـح ٍ اجمَعُوهُ
صعُبَ الأمــرُ عليهِمْ قلتُ يا قـــومِ اتركُوهُ
إنّ مَن أشــقاهُ ربِّي كيفَ أنتُم تُســعِدُوهُ؟
الشارقة في 23-11-2021

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى