فلسفةُ الموسيقى عندَ الأدباءِ والمفّكرينَ
قدَّمتُ في المقالةِ السّابقةِ شذراتٍ من فكري في الموسيقى، و يُمكنُني في هذهِ المقالةِ أنْ أمتطيَ مركبةَ الفكرِ؛ لأُبحرَ في بحارِ الأدباءِ والمفكّرينَ حيثُ الموسيقَى وجمالُ الرُّوحِ، وحيثُ الفِكرُ وموسيقَى المعاني السَّاميةِ، وحيثُ الإحساسُ المرهَفُ والكلمةُ الحُبلى بالمشاعرِ، وحيثُ الخيالُ الواسعُ الّذي تتزاوجُ فيهِ الكلماتُ والمعاني معَ سحرِ أنغامِ الموسيقَى، فتبدعُ أجملَ سمفونيَّاتِ الوجودِ وأروعَ ملاحمِ الإبداعِ والخلُود.
الموسيقى واللّغةُ
ذهبَ (كارليل) إلى أنَّ الموسيقى لغزٌ في لغةِ تأثيرِها في النُّفوسِ، فلا يَنبغي لنا أنْ نُدركَ هذا اللُّغزَ؛ لأنَّ ذلكَ يُفقِدُ الموسيقَى جمالَها وسِحرَها، حينَ قال: "الموسيقى ضربٌ من الكلامِ غيرِ المنطوقِ به، وغيرِ المحدودِ، وهي تُوصِلُنا إلى حدِّ اللّانهايةِ، وتجعلُنا ننظرُ مليّاً في ذلك مدّةً من الزّمنِ، ومَن ذا الّذي يستطيعُ أن يصِفَ بألفاظٍ منطقيَّةٍ مبلغَ تأثيرِ الموسيقى في نفوسِنا. فلنَدَعْها تبقى لغزاً وذلك خيرٌ مِن أنْ نحُلَّهُ، وتَضيعَ الموسيقى سُدىً".
ويَسمُو (كارليل) بالغناءِ والموسيقى إلى المراتبِ العُليا في سلَّمِ القيمِ السَّماويّة إذ يمنحُهما مرتبةَ العبادةِ والنُّبوَّةِ فيما تعتدُّ به الأممُ في معتقداتِها السَّماويّةِ، حينَ قال: "قد قدّرتِ الأممُ العظيمةُ الغناءَ والموسيقى قدرَهما باعتبارِهما أعلى مرتبةً للعبادةِ والنُّبوَّةِ وسائرِ ما يكونُ سماويّاً في نفوسِهم".
إذنْ فالموسيقى لغةٌ في رأيِ الأدباءِ والمفكّرينَ والموسيقيِّينَ وضربٌ من الكلامِ غيرِ المنطوقِ، فهي لغةُ الطّبيعةِ السَّامية، وربَّةُ الذّوق، وأبرعُ تعبيرٍ عن الجمالِ، وأبلغُ من أيِّ حكمةٍ، ولغةٌ عالميَّةٌ لتبادلِ المشاعرِ، تنقلُنا إلى عالمٍ آخرَ من السِّحرِ والجمالِ قد تعجزُ عنهُ الكلماتُ، والموسيقى العذبةُ هي لغةُ الملائكةِ تفقدُ قيمتَها إذا عجزَتْ عن حملِ رسالةٍ في لغتِها، وتزدادُ رداءةً حينَما لا تحملُ سحراً وجمالاً نابعينِ من ذوقٍ وفنٍّ وإحساسٍ رهيفٍ، وهذهِ ثلَّةٌ من الأقوالِ المنتخَبةِ الّتي تُبرزُ قيمةَ الموسيقى على أنّها لغةٌ:
الموسيقى لغةُ الطّبيعةِ السّاميةِ. (شوبان)
الموسيقى ربّةُ الذّوقِ. (لوثر)
الموسيقى أبلغُ من أيِّ حكمةٍ. (بيتهوفن)
الموسيقى أبرعُ تعبيرٍ عن الجمالِ. (طاغور)
الموسيقا لغةٌ عالميّةٌ لتبادلِ العواطفِ. (فرانز ليست)
الموسيقى لغةٌ صادقةٌ تنقلُ عواطفَ البشرِ، وتصِلُ أحدَهُم بالآخر. (البرتو مورافيا)
الموسيقى لغةُ العالمِ. (جون ويلسون)
أيّتُها الموسيقى: إنّ في أنغامِكِ السّاحرةِ ما يجعلُ جميعَ لغتِنا عاجزةً قاصرةً. (أندريه موروا)
تأخذُنا الألحانُ إلى حيثُ لا تستطيعُ الكلماتُ. (هنري وينكلر)
الموسيقى العذبةُ لغةَ الملائكةِ. (كارليل)
إذا كانتْ للملائكةِ لغةٌ تتحدَّثُ بها فإنّها بلا شكٍّ الموسيقَى. (كارليل).
الموسيقى حبٌّ يبحثُ عن الكلمةِ. (جوته)
نأسفُ لموسيقى بلا كلماتٍ، ونزدادُ أسفاً لموسيقى بِلا موسيقَى. (مارك توين)
الموسيقى والحياة
كلُّ شيءٍ في الطَّبيعةِ والكونِ يدعُوكَ للتَّأمُّلِ تارةً وللإصغاءِ تارةً أُخرى وللحديثِ تارةً ثالثةً، وللنَّجْوى والغناءِ النَّفسيِّ تارةً رابعةً، والسَّعيدُ مَن يُجيدُ هذهِ المهاراتِ بعنايةٍ ورهافةِ إحساسٍ، فالوجودُ كلُّهُ موسيقى، وللموسيقى سحرٌ يهدّئُ الانفعالاتِ الغريبةَ، والحياةُ بلا موسيقى لا مَعنى لها، فهي فنٌّ من فنونِ الإنسانِ وفي مقدِّمتِها، تستطيعُ أن تقولَ ما لا يُقالُ، وتؤثّرُ في النّاسِ تأثيرَهم فيها، وحين يخفُتُ صوتُ الموسيقى يُحدِثُ ذبذباتٍ في الذَّاكرةِ، والموسيقى نظامٌ وأخلاقٌ؛ لأنّها تُهذِّبُ النّفوسَ، وتُثقِّفُ السُّلوكَ، وتُشذّبُ الأخلاقَ، وتُنمّي الفِكرَ، وهذه طائفةٌ من أجملِ الأقوالِ توضّحُ أنّ الموسيقى حياةٌ:
الوجودُ كلُّهُ موسيقى. (هيجل)
الحياةُ بلا موسيقى حياةٌ خاطِئة. (نيتشه)
الموسيقى قبلَ كلِّ شيءٍ. (فرلين)
الموسيقى وراءَها الإنسانُ. (هوبلز)
حينَ لا يُمكنُ السُّكوتُ، فإنَّ الموسيقى تقولُ ما لا يُقالُ. (هيجو)
ما تأثيرُ الموسيقى في النّاسِ بأعظمَ من تأثيرِهِم فيها. (كارليل)
الموسيقى أصواتٌ ناعمةٌ إذا خفتَتْ أحدثَتْ في الذّاكرةِ ذبذباتٍ. (شيللي)
الموسيقى نظامٌ، وعشيقةُ النّظامِ والأخلاقِ الحميدةِ، فهي تجعلُ النّاسَ أكثرَ اعتِدالاً ولُطفاً، وأكثرَ أخلاقيّةً وعقلانيّةً. (مارتن لوثر)
الموسيقى والجمال
عرّفَ الدّكتور عليّ القَيِّم الموسيقى في مقدّمةِ كتابِه (الجمالُ الموسيقيّ): "بأنّها الجمالُ المسمُوعُ، وبأنّها لغةٌ إنسانيّةٌ تَستخدمُ الأنغامَ والإيقاعاتِ لتَنقلَ إلى المستمعِ مضمُوناً لا يَحتاجُ إلى ترجمةٍ أو شرحٍ، فهي تُخاطبُ عقلَ الإنسانِ ووجدانَه؛ لذلكَ يَكفي الإصغاءُ إليها والتّركيزُ على إيحاءاتِها؛ كي تتصاعدَ منها مشاعرُ ومعانٍ تسقطُ تلقائيّاً في أعماقِ نفوسِنا".
وقد تجذبُ الأصواتُ الموسيقيَّةُ أصحابَ السَّماعِ الرّهيفِ إلى العشقِ والهَوى وإنْ حُرمَ هؤلاءِ من نعمةِ البَصر، فقد كانَ الشّاعرُ العبَّاسيُّ بشّارُ بنُ بردٍ ذاتَ يومٍ في مجلسِه الّذي ترتادُه النِّساءُ للسَّمر، إذ سمِعَ كلامَ امرأةٍ أشجاهُ نغمُها وحسنُ ألفاظِها، فدَعا غلامَهُ وأخبرهُ أنّه قد علِقَ تلكَ المرأةَ، وأمرَه بأن يتبعَها بعد انقضاءِ المجلسِ؛ ليُخبرَها بأنّه أُعجِب بها وأحبَّها، وأنشدَ فيها هذهِ الأبياتَ:
قالوا بِمَن لا تَرى تَهذي فَقُلتُ لَهُم
الأُذنُ كَالعَينِ تُؤتي القَلـــــــــبَ ما كانا
هَـــل مِــــن دَواءٍ لِمَشـــــــــــغُوفٍ بِجــــارِيَةٍ
يَلـــــقَى بِلُقْــــــــيانِها رَوْحـــــــاً وَرَيحـــــانا
يا قَـــــومِ أَذني لِبَعضِ الحَيِّ عاشِقَةٌ
وَالأُذنُ تَعشَقُ قَبــــــــــــلَ العَينِ أَحيانا
فأبلغَها الغلامُ الأبياتَ فهشّتْ لها، وكانتْ تزورُه بصحبةِ النّسوةِ، فيأكلْنَ عندَه ويشربْنَ وينصرفْنَ بعدَ أنْ يحدِّثَها ويُنشدَها، دونَ أن تُطْمِعَه في نفسِها، فقالَ فيها:
قالَـــتْ عُقَيلُ بنُ كعبٍ إذ تعلَّــقَها
قَلْبي فأضْحى بــــــهِ من حبِّها أثَــــرُ
أنَّى ولم ترَهَــــــــــــا تَهذي فقـــــلْتُ لهُـــم
إنَّ الفُـــؤادَ يَرى ما لَـــــــــمْ يَرَ البَصرُ
أصبحْتُ كالحائمِ الحَرّانِ مُجْتنِباً
لم يقضِ وِرْداً ولا يُرْجى لــهُ صــدرُ
الموسيقى والنَّفس
ما مِن شكٍّ في أنَّ للموسيقى تأثيراً عميقاً في النَّفسِ البشريّةِ، في قلبِه وروحِه وعقلِه وانفعالاتِه، فهي دواءُ قلبِه المفعَمِ بالعواطفِ والأحاسيسِ، وغذاءُ روحِه التَّوّاقةِ إلى الجمالِ، وشهدُ فكرِه المتوثِّبِ إلى الإلهامِ والخيالِ والإبداعِ، وهي حياةُ الموسيقيّ في وجودِه وكيانِه، وهي غذاءُ الرّوحِ المفضَّلُ، وصلاةُ الرُّوحِ الخرساءِ، ودواءُ العاقلِ وسحرُ العقلِ السّليم، بها ينمُو العقلُ ويسمُو في أفكارِه وتطلُّعاتِه، وهي أكثرُ إلهاماً للإنسانِ من جميعِ الحِكمِ والفلسفاتِ، كما أنّها مقياسُ رقيِّ الأممِ في ذوقِها وسلوكِها وأخلاقِها وحضارتِها، وهذا ما نستشِفُّهُ من نخبةِ الأقوالِ:
الموسيقى هي دواءُ القلبِ المحطَّم. (لي هانت)
حياةُ الموسيقيّ جزءٌ من قلبِه. (شوبير)
الموسيقى صلاةُ الرّوحِ الخرساءِ. (أفلاطون)
الموسيقى دواءُ العقلِ. (جون لوجان)
ليس للعقلِ السّليمِ من سحرٍ سِوى الموسيقى. (بوب)
الموسيقى أكثرُ إلهاماً من جميعِ الحِكَم والفلسفةِ. (بيتهوفن)
ولها تأثيرٌ كبيرٌ في إيقاظِ عواطفِ الإنسانِ وأحاسيسِه، في وحدتِه وفرحِه وحزنِه، في تفكيرِه وحلِّ مشاكلِه، في تأجيجِ حبِّه وهواهُ، في مداواةِ جروحِه وآلامِ نفسِه، في تعبيرِه عمّا يجيشُ في نفسِه من مشاعرَ، في تغريدِه وأفراحِه، في آلامِه وأحزانِه، في طاقتِه وعطائِه وتمرُّدِه، في هدوئِه وقلقِه واختلاجاتِه، في جمالِ إحساسِه بالحياةِ و حرصِه على نُبلِ مستقبلِه، وهذا ما نلمسُه في حزمةٍ من الأقوالِ الرّائعة:
ليس بين الفنونِ الجميلةِ ما يُضاهي الموسيقى تأثيراً في العواطفِ. (نابليون)
غايةُ الموسيقى إيقاظُ الشُّعور. (جورج صاند)
مَن يَسمعُ الموسيقى يَشعرُ النّاسُ بوحدتِه. (روبرت براوننج)
إذا بثَّتِ الحياةُ موسيقى حزينةً في أذنيكَ، بثَّتْها فَرِحَةً في آذانٍ أخرى. (أو كاسيه)
الموسيقى الهادئةُ تساعدُك على التَّفكيرِ في مشكلةٍ.. والموسيقى الصَّاخبةُ تساعدُك على الهربِ من مشكلةٍ. (إحسان عبد القدّوس)
إذا كانتِ الموسيقى غذاءَ الحبِّ فاعزِفْها. (شكسبير)
الموسيقى عطرُ الحبِّ. (كرانتس)
الموسيقى هي ملجأُ الأرواحِ الّتي جرّحتْها السّعادةُ. (إميل سيوران)
عندَما أبحثُ لأعصابي عن علاجٍ سريعٍ أستمعُ إلى الموسيقى. (جون بيتون)
أبدعُ ما في موسيقايَ ثمرةٌ لآلامِي. (شوبرت)
إذا كانتِ الموسيقى صاخبةً غبيّةً، فإنّها تنفِيكَ كالألمِ. (ويلسون)
الموسيقى هي الجمالُ المسموعُ والحلقةُ الّتي تربطُ الرُّوحَ بالحسِّ. (بيتهوفن)
الموسيقى، بعدَ الصَّمتِ، أوَّلُ معبّرٍ عمّا لا يمكنُ التَّعبيرُ عنهُ. (هكسلي)
الأنغامُ رسائلُ تكتبُها النَّفسُ بحبرِ الانفعالِ، حينَ تعجزُ اللُّغةُ عن الكتابةِ. (هايدور)
غرِّدْ لِئلّا يخيّمَ الصَّمتُ على الغابةِ. (هنري دريك)
الضَّحكُ أجملُ أنواعِ الموسيقى. (هوراس)
الموسيقى صورةٌ من صورِ التَّمرُّد. (البير كامو)
الموسيقى هي هديّةٌ عظيمةٌ تستمرُّ في العطاءِ. (كاثي مكلاري)
دعِ الفنَّ الموسيقيَّ ينزعُ فتيلَ كلِّ التّوتُّر. (كاني ويست)
عندَما يخيّمُ السّكونُ تتردَّدُ أصداءُ الموسيقى في النَّفسِ. (شيللر)
الموسيقى اختلاجاتٌ لا إنصاتٌ. (ستيفنسون)
جمالُ الرُّوحِ هو الشّيءُ الوحيدُ الّذي يستطيعُ الأعمى أن يراهُ. (جبران خليل جبران)
العصفورُ لا يبني عشَّاً في القفصِ، حتّى لا يُورثَ ابنَه الخوفَ!! (جبران خليل جبران)
أهمّيّةُ الموسيقى وآثارُها
الموسيقى فنٌّ وسحرٌ وطاقةٌ؛ فهي فنُّ العظماءِ الّذي لا يموتُ، وسحرٌ ناعمٌ يسحرُ الجميعَ، وطاقةٌ متجدِّدةٌ للسَّيطرةِ على الآخرينَ، وصَدى الكواكبِ على الكرةِ الأرضيّةِ، ومقياسٌ يقيسُ قيمةَ عظماءِ الموسيقى والملحّنينَ، وقدرةٌ على التّأليفِ الموسيقيّ، وذوقٌ ينمُّ عن رقيِّ الأممِ وحضارتِها:
الموسيقى فنُّ العظماءِ. (لونجفيلو)
الموسيقى فنٌّ لا يموتُ. (هونيكر)
الموسيقى النَّاعمةُ تسحرُ الجميعَ (وردزورث)
إذا أردتَ أن تسيطرَ فعليكَ أن تُكثرَ من تأليفِ الموسيقى. (قيصر ألمانيا)
ليتَهم يسمعُونَ الموسيقى: فليسَت كرتُهم الأرضيّةُ سِوى صدىً للكواكبِ. (بيرون)
هاتُوا قائمةً بثيابِ الغسيلِ وأنا أقومُ بتلحينِها. (روسيني)
الموسيقى هي مرآةُ حضارةِ الشُّعوبِ. (كونفوشيوس)
إذا أردتَ الحكمَ على مُستوى شعبٍ ما فاستمِعْ إلى موسيقاهُ. (نيتشه)
والموسيقى جمالٌ؛ حينَما نُصغي إلى لحنٍ موسيقيٍّ جميلٍ يمكنُنا أن نتخيَّلَ الجمالَ في أبهى صورِه، والألحانُ بسحرِها وجمالِها لا تمسُّ شيئاً إلّا وتُحيلُ كدرَهُ ودنسَهُ إلى صفاءٍ ونقاءٍ، كما أنَّها ربّةُ التّهذيبِ والتَّذوُّقِ والتّرتيبِ والجمالِ، تستطيعُ أن تطهّرَ الأفئدةَ من جراثيمِ الطَّمعِ والاستئثارِ مثلَما تستطيعُ الرّحمةُ أن تجمعَ بين البشرِ، ومثلَما يستطيعُ الأدبُ أن يوحّدَ قلوبَهم، والحياةُ دونَ موسيقى خاويةٌ من كلِّ جمالٍ وفارغةٌ من كلِّ معنىً، ومَن لا يُجيدُ الاستماعَ إلى أنغامِها السّاحرةِ لا يحملُ قلباً رقيقاً في جوفِه، وحينَ نعلِّمُ النّاسَ كيف يفتحُون قلوبَهم للاستماعِ إليها تنغلقُ أبوابُ السُّجونِ أمامَهم، فهي صِنْوُ الدّينِ القويمِ في تهذيبِ النّفوسِ وتطهيرِها والارتقاءِ بها، وهذا ما عبّرتْ عنهُ جوقةٌ من الأقوالِ الحكيمةِ:
إذا أرَدْنا أنْ نتخيَّلَ الجمالَ في أكملِ صورةٍ فيَكفِيْنا أن نستمعَ إلى لحنٍ موسيقيٍّ جميلٍ. ريتشارد (فاجنر)
عجيبٌ أمرُ هذهِ الألحانِ.. إنَّها لا تمسُّ شيئاً إلّا جعلَتْه صافياً نقيّاً. (فاجنر)
تستطيعُ الموسيقى أنْ تروِّضَ الوحوشَ.. وأن تُليّنَ الصّخورَ. (كونجريف)
ليس هناكَ ما يعادلُ تأثيرَ الموسيقى على الإحساسِ، فهي ربّةُ التّهذيبِ والتّذوّقِ والتّرتيبِ والجمالِ (نابليون بونابارت).
على الإنسانِ أنْ يكونَ رحيماً؛ لأنّ الرّحمةَ تجمعُ بينَ البشر.. وأن يكونَ أديباً؛ لأنّ الأدبَ يوحّدُ القلوبَ المتنافرةَ.. وأن يتمرّسَ بالفنِّ والموسيقى؛ لأنَّ الأخيرةَ تُنقِذُ القلوبَ من جراثيمِ الطَّمعِ والأنانيةِ. (تولستوي)
بدونِ الموسيقى يَبدو لي العالمُ فارغاً. (جين أوستن)
مَن لا يستطيعُ أن يتجاوبَ مع الألحانِ الموسيقيّةِ فلا قلبَ بين ضلوعِه. (هوبمان)
علّمُوا النّاسَ كيف يستمعُون إلى الموسيقى وحينئذٍ لن نحتاجَ إلى السُّجونِ. (لانس)
الموسيقى هي الفنُّ الوحيدُ الّذي يتَّحدُ مع الدّينِ اتّحاداً وثيقاً. (ديكارت)
والموسيقى أنيسةُ الإنسانِ وصديقتُه في وحدتِه وسفرِه وغربتِه واكتشافِ أسرارِ العالمِ من حولِه مثلَما يفعلُ الكِتابُ فعلتَه، كمَا قال الجاحظُ: (الكتابُ نِعْمَ الأنيس ساعةَ الوحدةِ، وَنِعْمَ المعرِفةُ بِبلادِ الغُرْبَةِ، وَنِعْمَ القرِينُ والدَّخِيلُ، وَنِعْم الوزيرُ والنَّزِيلُ. الكتابُ وعَاء مُلِئَ عِلْماً، وظَرْف حُشِيَ ظَرْفاً، وإنَاء شُحِنَ مِزَاحاً وَجِدًّا، إنْ شِئْتَ ضَحِكْتَ مِنْ نَوَادِرِهِ، وَإن شئت عَجِبْتَ من غَرائِبِ فرائِدِه، وإن شِئْتَ ألْهَتْكَ طَرَائِفُهُ، وإنْ شئت أشْجَتْك مَوَاعِظُه". وقد وردَت هذهِ المعاني في كوكبةٍ من الأقوالِ الجميلة:
إنَّ المفتاحَ الوحيدَ الّذي يجعلُ اللّيلَ محتمَلاً يكمنُ في الكتُبِ والموسيقى. (برغسون)
بَدا العالمُ في الكتُبِ أكثرَ حيويّةً من أيِّ شيءٍ في الخارجِ، كان بإمكاني رؤيةُ أشياءَ لم أشاهِدْها من قبلُ، الكتبُ والموسيقى كانا أفضلَ صديقينِ. (هاروكي موركامي)
يموتُ ببُطءٍ مَن لا يُسافرُ، مَن لا يقرأُ، مَن لا يسمعُ الموسيقا. (بابلو نيرودا)
والموسيقى فنُّ التّعبيرِ عمّا لا يستطيعُ الإنسانُ قولَه ولا السُّكوتَ عنهُ، وهي فنُّ العباقرةِ في أحلامِ يقظتِهم لا يشعرونَ بوجودِهم إلّا حينَما يعزفُون ألحانَهم على الآلاتِ الموسيقيَّةِ، وفنٌّ يحيلُ قسوةَ حياةِ الفيلسوفِ إلى رقّةٍ وعذوبةٍ، ويجعلُ حبَّ الأديبِ لجمالِ المرأةِ أنغاماً وألحاناً حين يشكُّ النّاسُ في قداسةِ الحبِّ وطُهره:
الألحانُ تعبّرُ عمّا لا يمكنُكَ قولَه ولا تستطيعُ السّكوتَ عنهُ. (فيكتور هوغو)
لو لم أكنْ فيزيائيّاً من المحتملِ أن أصبحَ موسيقيّاً.. غالباً ما أفكّرُ بالموسيقى.. أحلامُ اليقظةِ لديَّ موسيقَى وأنظرُ إلى حياتي بدلالتِها.. أجملُ أوقاتي هي تلكَ الّتي أقضِيها بالعزفِ على الكمَانِ. (إنشتاين)
الموسيقى ألغَتْ احتمالَ أن تكونَ الحياةُ غِلطةً. (فريدريك نيتشه)
أسيرُ بقلبِ قدّيسٍ وإن حسِبُوه زنديقاً، وحين أحبُّ سيّدةً أحوّلُها لموسيقى. أحمد بخيت
والموسيقى حياةٌ، فكلُّ يومٍ من عمرِ العباقرةِ هو نوتةٌ في تأليفِ سيمفونيّةِ حياتِهم، وهي فضاءٌ شاسعٌ من الحرّيّةِ في التّعبيرِ يتطلَّعُ إليهِ مَن تسمُو به النّفسُ إلى عالمِ الرّوح، وهي تصنعُ الإنسانَ قبلَ أن يصنعَها، والحياةُ دونَها أشبهُ بالفناءِ، وهي كالحبِّ تجدّدُ الحياةَ وتغيّرُها نحو الأجملِ والأفضلِ، وتكشفُ لنا أسراراً لم نكنْ قادرينَ على إدراكِها وفهمِها؛ لأنّها تطهّرُ النّفسَ وتغسلُ الرّوحَ من غبارِ الحياةِ اليوميّة:
كلُّ يومٍ بالنّسبةِ لي هو نوتةٌ موسيقيَّةٌ أستخدمُها لتأليفِ سيمفونيَّةِ حياتي. (باولو كويلّو)
يحدثُ ذلكَ في كلِّ مرّةٍ أقفُ خلفَ جيتارٍ، بغضِّ النّظرِ عمّا أقولُه، لأنَّ الموسيقى هي الحرّيّةُ، والحرّيّةُ هي أقربُ ما شعرتُ به لكوني روحانيّاً. (بن هاربر)
قبلَ أن نصنعَ الموسيقى، هي تصنعُنا. (يواكيم إرنست بيرينت)
الموسيقى هي كلُّ شيءٍ بالنّسبةِ لي. (فرانكي نكلز)
كان وضعُ عقلي على آلةٍ موسيقيّةٍ أشبهَ بالوقوعِ في الحبِّ. بدا العالمُ كلُّهُ مشرقاً ومتغيّراً. (وليام كريستوفر هاندي)
تغسلُ الموسيقى غبارَ الحياةِ اليوميّةِ عنِ الرّوح. (بيرتهولد أورباخ)
يمكنُنا بالموسيقى أن نستبطِنَ كُنهَ أمورٍ لم يسبقْ أن رأيْناها ولن نراهَا. (ريتشنر)
وفي الحروبِ كانتْ تُعزفُ الموسيقى، و تُقرعُ الطُّبولُ، ويُنفخُ في الأبواقِ، وتُنشدُ الأناشيدُ والأغاني الحماسيّةُ، وكم من المعاركِ خلالَ أزمنةِ التّاريخِ المختلفةِ أحالَتِ الموسيقى فيها الضَّعفَ إلى قوَّةٍ، والقلَّةَ إلى كثرةٍ، والتّعبَ والفتورَ إلى همَّةٍ وعزيمةٍ، والخوفَ والتّردُّدَ إلى شجاعةٍ وإقدامٍ! قال مؤرّخٌ ألمانيٌّ عظيم: "إنّ عزفَ (المرسلياز) في الحربِ أثارَ في نفسِ الجنودِ الفرنسيّين حماسةً وشجاعةً، وكانت سبباً في قتلِ خمسينَ ألفِ ألمانيّ، على حدِّ ما قالَ (بروس) الرّحّالةُ: من أنّ النّايَ الحبشيَّ إذا عُزفَ به في ساحاتِ الوغى كان باعثاً على تحميسِ الجنودِ الأحباشِ إلى حدِّ الهوَسِ والجُنون".
ولا يقتصرُ تأثيرُ الموسيقى على الإنسانِ فحسْبُ، وإنّما لها أثرٌ لا يَخْفى على الكائناتِ الأخرى كالحيواناتِ والحشراتِ والأسماكِ وغيرِها، فغدَتِ الموسيقى تُستخدمُ في المزارعِ لزيادةِ الإنتاجِ من الحليبِ مع الأبقارِ ورفعِ الرّوحِ المعنويّةِ للثّيرانِ في زيادةِ خصوبتِها وحماستِها في تلقيحِ الأبقارِ، وكانتِ الموسيقى وما تزالُ مجلبةً للتّسليةِ في الخلاءِ والوحشةِ، يستحضرُ العازفُون الحيواناتِ من أوجارِها والحشراتِ من أوكارِها. وهذا ما أكّدهُ المؤلّفُ الفرنسيّ الكبير (بوسّيه): "أنّ ضابطاً من الضّبَّاطِ في الباستيلِ كان يُخرجُ للعيانِ من مخابئِها فأراً وعناكبَ كلّما كان يعزفُ على النّايِ، فكانتْ مجلبةً للتّسليةِ في وحشتِه، وكذلكَ الأسماكُ عند صيدِها فإنّها كانتْ عندَ سماعِ صوتِ الموسيقى تصعدُ وتتكاثرُ على سطحِ الماء".
ولكنَّ الموسيقى في الحقيقةِ لم تكُنْ فنّاً ساقطاً يلهُو به النّاسُ في أوقاتِ فراغِهم وإحساسِهم بالوحشةِ، ولم تكنْ مصدراً للسُّخريةِ والسُّقوطِ والانحدار، وإنّما كانتْ وما تزالُ من العواملِ الفعّالةِ في تنشئةِ وتنبيهِ وضبطِ عقلِ الإنسانِ بدليلِ صلتِها الوثيقةِ بفنِّ الشِّعر، إذ من المحالِ أن يكونَ الإنسانُ شاعراً دونَ أن يكونَ موسيقيّاً، كما عبّر عن ذلكَ (غلادستون): "إنّ الّذينَ يعتبرونَ الموسيقى من بينِ السُّخرياتِ في هذا الوجودِ ويتّخذونَها آلةً يتلهّونَ بها هُم في ضلالٍ مبينٍ؛ لأنّها لا تزالُ تُعدُّ من العواملِ الفعّالةِ في تنشئةِ وتنبيهِ وضبطِ عقلِ الإنسانِ.. بل كانتْ بعكسِ ذلك أرفعَ مِن أن تكونَ خادمةً لا تتخطّى مراسمَ مَن يلهُو بها هزؤاً وسخريةً، وأبعدَ عنِ الدّعايةِ كلَّ البعدِ، بدليلِ أنّ الصّلةَ بينَها وبينَ فنِّ الشّعرِ الشّريفِ مُوثَقةُ العُرى؛ إذ منَ المحالِ أن يكونَ الإنسانُ شاعراً دونَ أن يكونَ موسيقيّاً، وما مِن شعرٍ تمَّ نظمُه في المراحلِ الأُوَلِ لهذا العالمِ إلّا وكانت للموسيقى اليدُ الطُّولى في صوغِه من خالصِ النُّضارِ، واحتوائِه على لطيفِ الحسِّ، وشريفِ الوجدانِ، فضلاً عن أنّها المرشدُ الأمينُ والسّراجُ الوهّاجُ الّذي يُضيءُ النّهجَ الموصِلَ إلى قلبِ الإنسان".
وتُعدُّ الموسيقى أرفعَ شأناً من السّياسةِ؛ لأنّ الموسيقى فنٌّ رفيعٌ يسمُو بالإنسانِ عقلاً وخلقاً وشعوراً، على النّقيضِ من السّياسةِ الّتي تحطُّ من قدرِ الإنسانِ في فكرِه وأخلاقِه ومشاعرِه، فقد سألَ (كلمَنْصو) رئيسُ وزراءِ فرنسا الأسبقُ الموسيقيّ (بتروفسكي) رئيسَ وزارةِ بولونيا المشهورَ بالعزفِ على البيانُو عندَما دخلَ ميدانَ السّياسةِ قائلاً: هل تركتَ الموسيقى ودخلْتَ السّياسةَ؟ فأجابهُ: نعمْ. فردَّ عليهِ (كلمنصو) وقالَ لهُ: يا لهُ من تَقَهقُر!".
الموسيقى وآثارُها على الصِّحّة
لا شكَّ في أنّ الموسيقى تلعبُ دوراً مهمّاً في تحسينِ الحالةِ الصّحّيّة والنّفسيَّةِ للإنسانِ، فثمَّةَ أنواعٌ عديدةٌ من الموسيقى تساعدُ المريضَ في التَّماثُلِ للشِّفاءِ بإبعادِه عن همومِه وأحزانِه ونقلِه إلى عالمٍ مليءٍ بالأملِ والتّفاؤلِ والسَّعادةِ والإيجابيّةِ، إذ تؤثّرُ الموسيقى في ارتفاعِ هُرمونِ السّعادةِ، وتغرسُ بذورَ الرّاحةِ النَّفسيّةِ في نفوسِ المرضَى، وقد أثبتَتِ الدّراساتُ والتّجاربُ الطّبّيّةُ أنّ الموسيقى الهادئةَ تخفِّفُ من مشاعرِ الغضبِ والتَّوتُّر عندَ المريضِ، وتساعدُه في التَّخلُّصِ من المشاعرِ السَّلبيَّةِ الّتي تنتابُه، فيشعرُ بالاسترخاءِ، والرّاحةِ النَّفسيّة.
وفي حالةِ الإجهادِ النّفسيِّ النّاتجِ عن تأثيرِ المرضِ، تُساعدُ الموسيقى على تهدئةِ المريضِ، وتحسينِ حالتِه المزاجيَّةِ الّتي تُعدُّ أساساً لنجاحِ علاجِه، إذ يلجأُ العديدُ من المستشفياتِ إلى استخدامِ الموسيقى الهادئةِ لتوفيرِ جوٍّ نفسيّ مريحٍ للمرضَى، فتُساعدُهم في تخطّي أزماتِ المرضِ، ولا سيّما مرضَى السَّرطان.
وفي حالةِ الأرقِ الّتي تُعدُّ مشكلةً كبيرةً ولا سيَما في عصرِنا الرّاهنِ بسببِ الضّوضاءِ وكثرةِ الهمومِ والسُّموم وسيطرةِ البلاهةِ والتَّفاهةِ على شتّى ميادينِ الحياة، فتؤثّرُ بشكلٍ سلبيّ على سلوكِ الفردِ في عملِه وإنتاجِه وإبداعِه، فكانَ لا بدَّ من الاستماعِ إلى الموسيقى الهادئةِ الخاليةِ من الكلماتِ من أجلِ الخلودِ إلى النّومِ دونَ أرقٍ؛ لأنّ الموسيقى الهادئةَ تؤدّي إلى شعورِ الإنسانِ بالنُّعاسِ، والغرقِ في نومِ هانئٍ سعيدٍ مفعمٍ بالأحلامِ والرّاحة.
وفي أخبارِ الأوّلينَ نجدُ العديدَ من قصصِ العلاجِ بالموسيقى، من ذلكَ ما رُويَ عن الضِّياءِ (لليازجيّ): "أنّ طبيباً أمريكيّاً يُدعى (ليونار كورننج) قد زاولَ معالجةَ الأمراضِ بالنَّغم، وطريقتُه في ذلكَ أنْ يُضْجِعَ العليلَ على وسادةٍ مستلقياً على ظهرِه ويُظلّلَهُ بخيمةٍ لا منفذَ فيها، فيكونُ ما تحتَها مُظلماً، ويجعلَ في رأسِه كمّيّةً من جِلدٍ ليّنٍ قد نيطَ إلى جانبَيْها مُسْمِتعان يجعلُهما على أذنيّ العليلِ، ويتّصلُ بهما سِلكانِ يُفضيانِ إلى فونوغراف، ويُرسلَ عندَ أسفلِ الوسادةِ حجاباً أبيضَ يستقلُّ عليهِ صورَ أشباحٍ مختلفةٍ بواسطةِ الفانوسِ السّحريّ، فإذا تمَّ إضجاعُهُ على هذا الوجهِ أعملَ الفونوغراف، ووجَّهَ الفانوسَ إلى الحجابِ فيسمعُ العليلُ أنغاماً لطيفةً وتترادفُ أمامَهُ صورُ الأشباحِ والألوانِ البهيجةِ، وبتواردِ هذهِ المؤثّراتِ على سمعِه وبصرِه لا يلبثُ أن يدبَّ النُّعاسُ في عينيهِ ثمَّ ينامُ نوماً هنيئاً يتخلَّلُهُ أحلامٌ طيّبةٌ ومناظرُ جميلةٌ، ويقولُ الطّبيبُ المذكورُ : إنّ تكرارَ مثلِ هذا على العليلِ مرّاتٍ قليلةً يُؤدّي إلى الشِّفاء".
ومن ذلكَ ما نُقِلَ عن (أوميروس) و(بلوطرخس) و(تيوفرست): "أنّ الموسيقى تَشْفي من الطّاعُون والرّثيةِ ولدغِ الهوامِ، وزعمَ قومٌ من المتأخّرينَ منهم (ديمربروك) و(بونيت) و(كرخر) أنّها تَشْفي من السِّلِّ والكَلَبِ، وذهبَ غيرُهم إلى أبعدَ من ذلكَ، وزعمَ (بورتا) أنّه إذا اتُّخِذتِ المعازفُ من خشبِ بعضِ العقاقيرِ الطّبّيّةِ وضُربَ بها على سماعِ العليلِ فعلَتْ فِعلَ العُقارِ نفسِه."
أجملُ ما قالهُ العظماءُ فيها
هُومِيروس
وصفَ هوميروس الشُّعراءَ المغنّينَ في (الأوديسّة) بأنّهم أقربُ البشرِ إلى قلوبِ الآلهةِ؛ فقد وهبَتْهم الربَّةُ فنَّ الغِناء، لا لكي يُطرِبوا نفوسَ النّاسِ فحسْبُ، وإنّما لكي يَسهَروا على رعايةِ أخلاقِ البشرِ أيضاً. فهؤلاءِ الشُّعراءُ هم الرُّسلُ الّذين يعيشُون على الأرضِ، وينقلُون الرَّغباتِ الإلهيَّةَ إلى الإنسان. وبالموسيقى يستطيعُ الإنسانُ بدَورِه أن يبتهلَ إلى الآلهةِ لتُخلِّصَهُ من المرضِ والوباءِ..".
أفلاطون
مَن حَزنَ فليستمِعْ للأصواتِ الطَّيِّبة، فإنّ النّفسَ إذا حزِنَتْ خمَدَ منها نورُها، فإذا سمِعَت ما يُطربُها اشتعلَ منها ما خمَدَ.
الموسيقى هي قانونٌ أخلاقيٌّ يمنحُ الرُّوحَ للكونِ، وأجنحةً للعقلِ تساعدُ على الهروبِ إلى الخيالِ، وتمنحُ السِّحرَ والبهجةَ للحياةِ.
إنَّ هذا العلمَ لم يضَعْهُ الحكماءُ للتَّسليةِ واللَّهوِ، بل للمنافعِ الذَّاتيّة، ولذّةِ الرّوحِ الرُّوحانيّةِ وبسطِ النَّفسِ وترويقِ الدّم، أمّا مَن ليسَ لهُ درايةٌ في ذلكَ، فيعتقدُ أنّهُ ما وُضِعَ إلّا للّهوِ واللّعبِ والتّرغيبِ في لذَّةِ شهواتِ الدُّنيا والغرورِ بأمانيها.
شكسبير
الموسيقى غذاءُ الرّوحِ.. الموسيقى غذاءُ الحبّ.
إذا خلَت نفسُ إنسانٍ من الموسيقى، وانعدمَ تأثُّرُه من اتّحادِ الأصواتِ الرّخيمةِ كُتِب عليهِ ألّا يَصلُحَ إلّا للمخادعةِ، ونصْبِ الحبائلِ للنّاس، والإضرارِ بهم؛ فتخُورُ عزيمتُه، وتموتُ مشاعرُه، وتُظلِمُ عواطفُه كاللّيلِ الدّامس، ويكونُ غيرَ أهلٍ لأنْ يُخلَدَ إليه بالثِّقة.
تستطيعُ الموسيقى أن تُحيلَ آلامَنا سعادةً كما تستطيعُ أن تُحيلَ سعادتَنا آلاماً.
في الموسيقى روعةٌ أخشَاها.. ليَقِيني بإصغاءِ الملائكةِ لِصَداها.
كلَّما انطلقَتْ موسيقى الرّبيعِ أخضرّتِ الأرضُ، وتفتَّحتِ البراعمُ، وذابتِ الثُّلوجُ.
ميخائيل نُعَيمة
الشّاعرُ نبيٌّ وفيلسوفٌ ومصوِّرٌ وموسيقيٌّ و كاهنٌ. نبيٌّ - لأنّه يرى بعينِهِ الرّوحيّةِ ما لا يراهُ كلُّ بشرٍ. ومصوّرٌ يسكبُ ما يراهُ ويسمعُه في قوالبَ جميلةٍ من صورِ الكلامِ. وموسيقيٌّ - لأنّه يسمعُ أصواتاً متوازيةً حيثُ لا نسمعُ نحنُ سِوى هديرٍ وجعجعةٍ. العالمُ كلُّه عندهُ ليس سِوى ألحانِ نسماتِ الحكمةِ الأبديّة. هو يسمعُ موسيقى في ترنيمةِ العصفورِ وولولةِ العاصفةِ، وزئيرِ اللُّجّةِ وخريرِ السَّاقيةِ، ولثغِ الطِّفلِ وهذيانِ الشَّيخِ. فالحياةُ كلُّها عندهُ ليسَت سوى ترنيمةٍ - مُحزِنةٍ أو مُطرِبةٍ - يسمعُها كيفَما انقلبَ. لذاكَ يُعبّر عنها بعباراتٍ موزونةٍ رنّانة..".
في الكونِ أصواتٌ لا تستوعِبُها أُذنٌ ولا يُحصِيها خيالٌ. فللكواكبِ في أفلاكِها رنّاتٌ، وللنَّسائمِ والرّياحِ في أجوائِها هَيْنماتٌ وولولاتٌ، وللأمواجِ في بحارِها زفيرٌ وهديرٌ، وللأعشابِ والأشجارِ وشوشةٌ وحفيفٌ، وللحشراتِ بأنواعِها دبيبٌ وطنينٌ، وللطّيرِ بأشكالِها صفيرٌ وترنيمٌ. ثمّ هنالكَ الحيوانُ بأصواتِه. وثمَّ الإنسانُ بأصواتِه - وما أكثرَ أصواتَهُ!
يا لها من جوقةٍ لا تُوصَفُ. ويا لهُ من لحنٍ ساحرٍ رهيبٍ. وألفُ طوبى للأذُنِ الّتي تستطيعُ سماعَه، وللقلبِ الّذي يَسكرُ به، وللفكرِ الّذي يَضيعُ في معانيهِ.
أصواتٌ، وأصواتٌ، وأصواتٌ. وكلُّها يقولُ أشياءَ وأشياءَ، ويهدفُ إلى أشياءَ وأشياءَ، ولكنَّها في النّهايةِ تندغِمُ كلُّها في صوتٍ واحدٍ هو صوتُ الكونِ الشّاملِ، وتهدفُ إلى شيءٍ واحدٍ هو هدفُ الكونِ الأبديِّ..".
جُبْران خليل جُبران
هي لغةُ النّفوس، والألحانُ نُسيماتٌ لطيفة تهزُّ أوتارَ العواطف. هي أناملُ رقيقةٌ تطرقُ بابَ المشاعر وتنبّهُ الذّاكرةَ فتنشرُ هذه ما طوتْه اللّيالي من حوادثَ أثّرتْ فيها بماضٍ عَبَر.
هي نغماتٌ رقيقةٌ تَستحضِرُ -على صفحاتِ المخيّلةِ- ذكرى ساعاتِ الأسى والحزنِ إذا كانت مُحزنةً، أو ذكرى أُوَيقاتِ الصّفاء والأفراحِ إذا كانتْ مُفرحةً.
هي مجموعُ أصواتٍ محزنةٍ تسمعُها فتستوقفُكَ وتملأُ أضلعَكَ لوعةً وتمثّلُ لك الشّقاءَ كالأشباحِ.
هي تأليفُ أنغامٍ مفرحةٍ، تعِيها فتأخذُ بمجامعِ قلبِك فيرقصُ بين أضلُعِك فرحاً وتيهاً.
هي رنّةُ وترٍ تدخلُ سامعتَكَ محمولةً بتموُّجاتِ الأثير، فقد تُخرِجُ من عينيكَ دمعةً محرقةً أثارتْها لوعةُ نأيِ حبيبٍ أو آلامُ كُلومٍ خرقَها نابُ الدّهر. وربّما خرجَت من بينِ شفتيكَ ابتسامةٌ كانت -والحقِّ- عنوانَ السّعادةِ والرّخاء.
هي جسمٌ من الحشاشةِ، له روحٌ من النّفْسِ وعقلٌ من القلبِ.
الموسيقى كالمصباحِ، تطردُ ظلمةَ النّفس، وتنيرُ القلبَ، فتُظهر أعماقَه. والألحانُ في فضائي أشباحُ الذّات الحقيقيّة أو أخيلةُ المشاعر الحيّة، والنّفسُ كالمرآة المنتصِبةِ تجاهَ حوادثِ الوجود وأفعالُه تنعكسُ عليها رسومُ تلك الأشباحِ وصورُ تلك الأخيلةِ.
تسيرُ الموسيقى، أمامَ العساكرِ، إلى الحرب فتُجدِّدُ عزيمةَ حمِيَّتِهم، وتُقوّيهم على الكفاحِ وكالجاذبيّة تجمعُ شتاتَهم، وتؤلّفُ منهم صفوفاً لا تتفرَّقُ. ما سارتِ الشُّعراء، أمامَ الكتائب، إلى ساحاتِ القتالِ، موطنِ المنيَّة، لا ولا الخُطباءُ، ما رافقتْهمُ الأقلامُ والكتبُ، بل مشَت أمامَهم الموسيقى كقائدٍ عظيم، يبثُّ بأجسامِهم الواهِنةِ قوّةً تفُوقُ الوصفَ، وحمِيّةً تنبّهُ في قلوبِهم حبَّ الانتِصار، فيُغالبُون الجوعَ والعطشَ وتعبَ المسير، ويدافعُون بكلِّ ما في أجسادِهم من القوّة، ووراءَها يسيرُون بفرحٍ وطرب ويتْبعُون الموتَ إلى أرضِ العدوّ البغيضةِ، كذا يستخدمُ ابنُ آدمَ أقدسَ ما في الكونِ لتعميمِ شرورِ الكون.
الموسيقى رفيقةُ الرّاعي في وحدتِه، وهو إنْ جلسَ على صخرةٍ في وسطِ قطيعِه نفخَ بشبَّابتِه ألحاناً تعرفُها نِعاجُه فترعى الأعشابَ آمنةً. والشبّابةُ عند الرّاعي كصديقٍ عزيز لا تُفارقُ وسطَه، ونديمٍ محبوبٍ، تستبدلُ سكينةَ الأوديةِ الرّهيبة برياضٍ مأهولةٍ، وتقتلُ بأنغامِها الشَّجيّة وحشَتَها، وتملأُ الهواءَ أُنساً وحلاوةً.
الموسيقى تقودُ أظعانَ المسافرينَ وتُخفّفُ تأثيرَ التّعبِ وتُقصّرُ مديدَ الطُّرقات. فالعِيسُ لا تسيرُ في البيداءِ إلّا إذا سمِعَت صوتَ الحادي. والقافلةُ لا تقومُ بثقيلِ الأحمالِ إلّا إذا كانتِ الأجراسُ معلَّقةً برقابِها. ولا بِدعَ، فالعقلاءُ في أيّامِنا هذه يربُّون الضّواري بالألحانِ ويدجِّنونها بأصواتٍ عذبةٍ.
الموسيقى ترافقُ أرواحَنا وتجتازُ معنا مراحلَ الحياة، تشاطرُنا الأرزاءَ والأفراح وتقاسمُنا السّرّاءَ والضّرّاء. وتقوم كالشّاهد في أيّامِ مسرَّتِنا وكقريبٍ شفيقٍ في أيّام شقائِنا.
وأقولُ في ختامِ مقالتي: إنَّ الموسيقى فنٌّ من الفنونِ الإنسانيَّةِ الّتي رافقَتِ الإنسانَ منذُ الأزل، فكانتْ أنيستَه في وحشتِه، وشجوَهُ وغَبطتَهُ في مجالسِه، وغذاءَه في روحِه وعقلِه، وبلسمَ جسدِه في عللِه وأسقامِه، ودواء نفسِه في وهنِه وبؤسِه وشقائِه، ونشوةَ روحِه في سرورِه وسعادتِه، وسحرَ تخديرِ أحزانِه وآلامِه، وناقوسَ إيقادِ حربِه وبسالتِه، ونوحَ حمامِه في استقرارِه وأمنِه وسلمِه.