كلُّهم شُعراء
قبلَ خمسةٍ وعشرينَ عاماً التقيتُ بالشّابّ (فائق) أحدِ أدعياءِ البلاغةِ والفصاحةِ والشّعر، وراحَ يتشدَّقُ بالفُصحى ويتحدَّثُ عن عبقريّةِ أبي العلاءِ في الشّعرِ وتفرُّدِه في بيانِه وسحرِ معانيهِ وتمرُّدِه الاجتماعيّ ونبوغِه في جِدّةِ موضوعاتِه وأفكارِه الفلسفيّةِ، فذكرَ أنّه لم يتركْ حشرةً إلّا وكتبَ فيها قصيدةً، ولم يدَعْ دابّةً إلّا وكانَ لها نصيبٌ في قصائدِه، ولم يُغفِلْ نباتاً في العالمِ إلّا وتناولَه في دواوينِه حتّى إنّه أطلقَ على بعضِ مجموعاتِه أسماءَ النّباتِ كمجموعاتِ: الزّعتر، والزَّعفَران، والبَقْدونس، والطَّماطِم، والخِيار..
فأثارَ دهشَتي واستِغرابي؛ لأنَّ ما ذكرَه وأفاضَ فيهِ من حيثُ الموضوعاتُ، لم يكنْ ممَّا عُرفَ به أبو العلاءِ المعرّي.
فقلتُ متسائلاً: عن أيِّ أبي علاءٍ تتحدَّثُ أيُّها الزّميلُ، فليسَ في كلامِكَ شيءٌ ينطبقُ على أبي العلاءِ المعرّي سِوى ما ذكرتَهُ من العبقريّةِ والنّبوغِ والتّفرُّدِ والتّمرُّد الفكريّ والفلسفيّ؟!
فأجابَ ضاحكاً: يَبدو أنّكَ لم تقرأْ دواوينَ أخي أبي العلاءِ!
فقلتُ مُستغرِباً: وهل أخوكَ شاعرٌ وعندهُ كلُّ هذهِ الدّواوينِ، ولم نسمعْ به؟! المعذرةَ أيّها الكريمُ! لقد أطفأَ المعرّيّ جميعَ نجومِ الشّعرِ قبلَه وبعدَه، فأنسانا كلَّ شعراءِ المعرّة وما حولَها، بل جعلَنا نجهلُ غيرَه من الشُّعراءِ في مختلفِ العصُور، فيا حبَّذا لو تُزوِّدُنا ببعضِ دواوينِ أخيكَ تكرُّماً حتّى نُعيدَ للشّعرِ كرامتَه المهدورةَ على ألسنةِ أدعياءِ الشِّعر!
فأجابَ: لم تُطبَعْ دواوينُه حتّى اليومِ، لكنّها تتلألأُ كالنُّجومِ الزّاهرةِ في كرّاساتِه وبخطِّ يدِه!
قلتُ: لم تعُدِ الأمّةُ اليومَ تقرأُ كتاباً أو ديواناً شعريّاً مزخرفاً بشتّى الألوانِ والصُّور والألقابِ، فكيفَ لها أنْ تبحثَ عن كنوزِ الشِّعر بينَ دفاترِ أخيكَ كبيرِ الشُّعراءِ المعاصِرين!
فقالَ: أتسخرُ؟!
فقلتُ: حاشَا للهِ! فأنا أحترمُ جميعَ مواهبِ الفنِّ، ولكنّي أصِفُ لك سببَ جهلِ النّاسِ بالشُّعراءِ ولا سيَما شعراءِ هذا العصرِ؛ لأنّ النّاسَ - من كثرةِ الشُّعراءِ في كلِّ بلدةٍ وفي كلِّ حيٍّ وزقاقٍ - باتُوا ينظرُون إلى الشِّعر نظرتَهم إلى البائعينَ في سوقِ الخُضارِ، أو الطبّالينَ والزَّمّارينَ من الغجرِ أو غيرِهم ممّن تعلمُ من فئاتِ المجتمعاتِ!
ألمْ تسمعْ أو تقرأْ ما قالَهُ شاعرُ السَّلميَّةِ الكبيرُ أحمدُ الجُندي حينَما تفشّى الشّعرُ في بلدتِه، فأضْحى أصحابُ الحرفِ والمهنِ والوظائفِ المتنوّعةِ كلُّهم شعراءَ، فقد ضاقَ الجُندي ذرْعاً بكثرةِ الأشخاصِ الّذين يكتبُون الشِّعرَ في مسقطِ رأسِه، فعبَّر عن هذا الضّيقِ بقولِه: كلُّ شخصينِ تراهُما ماشيينِ في أحدِ أزقَّةِ السَّلميّةِ، هما عبارةٌ عن ثلاثةِ شُعراءَ!
فكلُّ اثنينِ يمشيانِ في أحدِ الأزقّةِ هم ثلاثةُ شُعراءَ! فما بالُكَ إذا اجتمعَ عشرةٌ في مقْهى الشُّعراءِ، كم سيكونُ عددُهم الحقيقيُّ؟!
وانتَهى اللّقاءُ بالزّميلِ (فائق) أخِ الشّاعرِ أبي العلاءِ بالمودّةِ والمحبّةِ والضَّحِك، دون حساسيّةٍ أو امتِعاضٍ بعدَ أنْ أحلْتُ الصِّدامَ إلى فكاهةٍ كما أفعلُ حينَما يحتدمُ الصّراعُ بين الشّخصيّاتِ الّتي جمعَ فيها الخالقُ كلَّ تناقضاتِ الحياةِ وعجائبِ خلقِه!
وبعد بضعةِ أعوامٍ جمعَني اللّقاءُ ثانيةً بالزّميلِ (فائق) أثناءَ مهمَّةِ عملٍ تربويّة، فسألتُه ما أخبارُ شاعرِنا الكبيرِ أبي العلاءِ، والأحداثُ جِسامٌ في خِضمِّ الرّبيعِ العربيّ الّذي تحوَّلَ إلى خريفٍ بفعلِ تداخلِ الفُصولِ الأربعةِ، فلم يعُدِ المرءُ يميّزُ بين الحرارةِ والبرودةِ، ولا بينَ العواصفِ والقواصِف من العواملِ الطّبيعيّة والعواملِ البشريّةِ المجرمةِ الآثمةِ، فاختلطَ الحابِلُ بالنّابلِ، وبينَ حَانا ومَانا ضاعَت أحلامُنا وماتَتْ أمانِيْنا؟!
فأجابَ: لقدْ سطَّرَ أخي ملاحِمَ الشّعرِ وخلّدَ أساطيرَ البطولةِ فيها، فنسيَ القُرّاءُ ملحمةَ جلجامِش البابليّةِ، والإلياذةَ والأوديسّةَ لهومِيروس، والإنيادةَ لفِرجيلَ!
فقلتُ: ما شاءَ الله! وماذا سمَّاها؟!
قالَ: (ملحمةُ أبي العلاءِ في الرّبيعِ بعدَ الشِّتاء)!
فقلتُ: رائعةٌ! والرّسالةُ - بالتّأكيدِ - تُقرأُ من عنوانِها! وهل طُبِعتْ ملحمتُه؟
قالَ: لا واللهِ؛ لأنَّ أخي - الشّاعرَ الكبيرَ - هجرَ الوطنَ إلى بلدٍ مجاورٍ!
فقلتُ: شيءٌ رائعٌ يا أخي! في المِهجَرِ سيُبدعُ أخوكَ ما لم يُبدِعْه شعراءُ المهجرِ وكلُّ أعضاءِ الرّابطةِ القلميّة؛ لأنّ المهجرَ موطِنُ الإبداعِ وتفجُّرِ العبقريّةِ الشّعريّة، كمَا كانَت الهجرةُ بدايةَ تاريخٍ جديدٍ في حياةِ أمّةٍ برُمَّتها!
وقبلَ أيّامٍ قليلةٍ التقيتُ ثالثةً بالأستاذِ الكبيرِ (فائق)، فلمْ أسأَلْهُ هذهِ المرّةَ عن أخيهِ، ولكنْ لحسنِ الحظِّ انضمَّ إلينا زميلانِ ونحنُ واقفُون خارجَ صالةِ الأفراحِ حينَ كنّا مدعوّينَ لحفلِ زفافِ نجلِ أحدِ الأصدقاءِ الأفاضلِ وكانَ دكتوراً شاعراً، فسألَهُ الزّميلُ (فاطر) من البيئةِ الجغرافيّةِ و الشّعريّةِ نفسِها: ما أخبارُ أبي العَلاء؟
فائق: بخيرٍ! إنّه ما زالَ يتربّعُ عرشَ الشّعر كما تَعلمُ.
فاطر: صدقتَ، واللهِ أبو العلاءِ أستاذُنا في الشّعر!
فائق: نعمْ الكلُّ يعترفُ بفضلِه؛ إنّه حالةٌ استثنائيّةٌ في الشّعر، لقد طبعَ بعضَ دواوينِه وأبدعَ في توظيفِ الحشراتِ والنّباتاتِ والحيواناتِ في شعرِهِ حتّى أفردَ لبعضِها ديواناً كاملاً. وقد فازتْ مجموعتُه (الفيلُ الظّريف) في مسابقةِ مهرجانِ (فيلةُ الشُّعراء)، أمّا مجموعتُه (الأرنبُ الذّكيّ) فقدْ مُنِعتْ من مسابقةٍ أخرى بعدَ أن طغَى الذَّكاءُ الاصطناعيّ في تصميمِ جميعِ الأشكالِ والصُّورِ وكتابةِ ما يحتاجُه الكتّابُ والشّعراءُ من مقالاتٍ وعباراتٍ شعريّةٍ تعجزُ قرائحُ الأدباءِ المعاصرينَ من الإتيانِ بمثلِها! وأنتَ ما أخبارُكَ الشّعريّةُ أيّها الشّاعر؟
فاطر: عندي ثلاثةُ دواوينَ، وسأطبعُها قريباً دفعةً واحدةً!
فقلتُ: ما شاءَ الله! مباركٌ للشّاعرِ أبي العلاءِ والشّاعرِ (فاطر). وأنتَ أيّها الشّاعرُ (فائق) ما أخبارُ دواوينِك؟
فائق: عندي أعمالٌ أدبيّةٌ كثيرةٌ، لكنّني لم أطبعْ منها شيئاً!
فقلتُ: حرامٌ عليكَ.. اطبعْها يا أخي ولا تحرِمْنا جمالَ أعمالِك!
والتفتُّ إلى الأخِ الثّالثِ معَنا واسمُه (سامح)، بعدَ أنْ سبقَنا الاثنانِ إلى الصّالةِ، فقلتُ: وأنتَ ألمْ تكتبْ شعراً؟
سامح: نعمْ عندي ستّونَ قصيدةً، وسأطبعُها في مجموعتَين.
قلتُ: مباركٌ عليكَ قبلَ الطّباعة!
سامح: وأنتَ يا أخي! ألمْ تكتبْ شعراً؟
فقلتُ: في الحقيقةِ جرَّبتُ وأخفقْتُ، ولكنّي اتّجهْتُ إلى النّثر.
سامح: وماذا كتبْتَ؟
قلتُ: أنا كاتبٌ مغمورٌ، لا يعرفُني إلّا أفرادُ عائلتي وبعضُ أصدِقائي، وقدْ كتبتُ أربعَ أعمالٍ أدبيّةٍ كبيرةٍ إضافةً إلى دراستينِ، وقد طبعتُ جميعَها من فضلِ الله!
ما شاءَ الله! لكنّكَ لم تتحدّثْ عن شيءٍ من ذلكَ أمامَ الفَطحلينِ قبلَ أن يسبِقانا إلى الصّالة!
فقلتُ: حينَما يتحدّثُ الشّعراءُ المشهورُون يخرسُ الكتّابُ المجهولُون!
وانتَهى اللّقاءُ بدخولِنا إلى الصّالةِ للمشاركةِ في حفلِ الزّفاف، وهكذا تَمضي الأيّامُ بين فرحٍ وبهجةٍ وبينَ غصّةٍ وألمٍ، بين ظهورٍ كالشّمسِ بشتّى وسائلِ الدّعايةِ، وبين اختِفاءٍ كالنُّجومِ تنطفئُ حينَما تشرقُ شمسُ الصّباحِ، فالحياةُ مسرحيّةٌ أبطالُها الممثّلُون الثّرثارُون ممّنْ يُجيدونَ نقيقَ الضّفادعِ، وجنودُها الحقيقيُّون حرّاسٌ ومقاتلُون مغمورونَ لا نسمعُ بهم إلّا يومَ يرحلُون، باستثناءِ العظماءِ الّذين تجاوزُوا الحدودَ والسّدودَ، فعرفَتْهم الأممُ، ولم يستطِعْ إنكارَهم الأفّاكُون الآثمُون.