السبت ٦ تموز (يوليو) ٢٠٢٤
بقلم رامز محيي الدين علي

فلسفةُ الموسيقى بينِي وبينَ الأدباءِ والمفّكرينَ

الموسيقى هي ألحانُ السَّماءِ في حركةِ أجرامِها وأنوائِها وشُهُبِها وغيومِها وبروقِها ورعودِها، فلكلٍّ منها أنغامٌ وألحانٌ، ولكلٍّ منها هَسِيسٌ لا تدركُهُ ولا تحيطُ بمعانيهِ الأفهامُ مهما بلغَتْ من الحذقِ والعبقريَّةِ والإبداعِ.

لكلِّ نجمٍ وإن جهِلْنا حركتَهُ وأسرارَ خلقِهِ وتكوينِه لغةٌ وهمسَاتٌ وأناشيدُ أغانٍ وموسيقَى..

ولكلِّ مجموعةٍ متآلفةٍ من الكُويكباتِ حركةٌ تتناغمُ حسبَ انسجامِ مكوِّناتِها وعناصرِها، فتتراقصُ وتتهادَى في محبَّةٍ ووئامٍ، لا يستطيعُ الخيالُ -مهْما سَمَا- أن يُدرِكَ أسرارَ لغتِها وحركةَ تناغُمِها في جوقةٍ فريدةٍ تعبّرُ عن فرحِها في عمقِ الوجودِ.
وللمجموعةِ الشَّمسيَّةِ أنغامٌ مختلفةٌ تؤلِّفُ في حركةِ دورانِها وأصواتِها جوقةً تُشبهُ جوقةَ الطّيورِ بشتّى أنواعِها وألوانِها حين تستيقظُ الحياةُ في قلوبِها مع جمالِ الطَّبيعةِ ودفئِها وهي ترتَدي أبْهى ملابسِها، وتتكحَّلُ بأرقِّ ينابيعِها، وتتقلَّدُ أعذبَ جداولِها وغدرانِها حولَ جِيدِها.

للشّمسِ جوقةٌ من أناشيدِ المحبَّةِ والغضبِ، وقصائدُ من دفءٍ وحنانٍ وحُرقةٍ وألمٍ تعزفُها مع كلِّ شعاعٍ ينبثقُ من رحِمِها حينَما تُشرِقُ إلى جزءٍ من الوجودِ، وحينَ تغيبُ عن نصفِه الآخرِ، في لقاءٍ بعدَ مغيبٍ، ومغيبٍ بعدَ لقاء!

وللقمرِ -حينَ يُطِلُّ على الكائناتِ في ليالي أحلامِها- تَفْعيلاتٌ متجدِّدةٌ من أوزانِ موسيقَى الحياةِ لا يَفهمُها إلّا عشَّاقُ الجمالِ، ولا تسمَعُها إلّا آذانُ الشُّعراءِ، ولا يرتادُها إلّا خيالُهم المتوثِّبُ للبحثِ عن أساطيرِ الجمالِ والمثالِ والكمَال.

وللغيومِ والسُّحبِ ألحانٌ وأغانٍ لا تَسمعُ أجراسَها الموسيقيَّةَ إلّا آذانُ الفلّاحينَ وهُم يتأمَّلُونَ أحزانَ حقولِهم بعد انحباسِ قطراتِ الغيثِ عن تقبيلِ خدودِها السَّمراء، ولا يتراقصُ على همسَاتِ موسيقَاها غيرُ الأطفالِ والطُّيورِ والنَّباتاتِ وهي تئِنُّ وتتألّمُ من حرارةِ الشَّمسِ حينَ تَلْفحُ خدودَها في حرِّ الهَجير.

وللرُّعودِ والبروقِ سمفونيَّةٌ ثنائيَّةُ الغناءِ من موسيقَى الوميضِ والزّئيرِ تتوعَّدُ تماثيلَ الحياةِ بالبقاءِ أو الزَّوالِ، وتُنذرُ المتجبّرينَ بالهلاكِ إنْ تفرعَنُوا على تعاليمِ السَّماء، وتدقُّ أجراسَ التَّمرُّدِ في شرايينِ الفقراءِ كي لا يستسلِمُوا للظُّلمِ والظَّلامِ، كما تدعُو المفكّرينَ أن يفجِّرُوا أفكارَهم بُروقاً ورعوداً تُحرقُ براقعَ الحياةِ من الجهلِ والعبوديَّةِ والاستِعبادِ، وتُنيرُ دياجيرَ الإنسانِ في كلِّ حركةٍ من حرَكاتِهِ وفي كلِّ سُكْنةٍ من سُكُنَاتِه.

ولكلِّ نقيضةٍ من نقائضِ الوجودِ كلمةٌ ومعنىً وموسيقَى، أو مظهرٌ وجوهرٌ يتزاوجانِ وينصهرانِ في لغةِ الموسيقَى، فإمّا نَغْمةٌ تُشْجي الرُّوحَ وتُسْكِرُ الجسدَ، وإمّا نَغمةٌ تُزهِقُ النَّفسَ وتُرهِقُ الجسدَ.

للّذَّةِ موسيقَى يَعزِفُها الجسدُ، فتَنْتشي منها الرُّوحُ، وبها تتجدَّدُ خلايَا الأملِ، وتَفِيضُ الأمَاني بالفرحِ والسَّعادةِ وجمالِ الحياةِ في الوجودِ.

وللألمِ موسيقَى يعزفُها الجسدُ بأثقالِ العِلَلِ والأسقامِ وهمومِ الحياةِ، يُترجِمُها الفِكرُ إلى فلسفةٍ تتألَّمُ في ظلالِها الرُّوحُ وتتعذَّبُ في أفيائِها النّفسُ، وتتحطَّمُ من أعبائِها أغصانُ العزيمةِ، وتموتُ من قسوتِها جذورُ البقاءِ..

للقوَّةِ موسيقَى تَعزفُها أوتارُ الرّوحِ، وتردِّدُها الأوصالُ، ويترنَّمُ بها الفِكرُ، فتتأجَّجُ العزيمةُ وينهضُ بغنائِها الجسدُ، وتَقَرُّ بنشوتِها النَّفسُ.

وللضَّعفِ موسيقَى يَعزفُها الخوفُ والتَّردُّدُ، وتنامُ على أنغامِها العزيمةُ، ويغفُو تحتَ نشوتِها الجسدُ، ويَضمحلُّ في ظلمةِ صمتِها الفِكرُ، فيَخبُو الأملُ وتندثِرُ التَّحدّياتُ، ويحِلُّ اليأسُ ويَعلُو ضجيجُ العَقباتِ وصراخُ الاستِغاثةِ والاستِسلام.

للنَّجاحِ موسيقَى يعزفُها التَّصميمُ وقوّةُ الإرادةِ، وتُردّدُ أنغامَها الأيّامُ بالجِدِّ والعملِ والسَّهرِ، وتُنشِدُها النَّتائجُ فرحاً وسعادةً وبهجةً وحبوراً ترتَقي مع الأيّامِ إلى عتَباتِ المستقبلِ ملاحِمَ عِزٍّ وفخارٍ تتفتَّقُ من أغصانِها البراعمُ، ثمَّ تُورِقُ فتُزهِرُ، فتُثمِرُ أناشيدَ حياةٍ وانبِعاثٍ ووجود.

وللفشلِ موسيقَى يعزفُها ضعفُ الإرادةِ ويردِّدُها الخنوعُ والاستِسلامُ إلى النَّومِ والكسلِ وأحلامِ العاجِزين، فيَنْتهي موسمُ البيادرِ، ويَتَناهبُ النَّملُ في جمعِ حبّاتِ القمحِ ليُخزِّنَها في جُحورِه، لكنَّ الصّرصارَ الّذي كانَ يُغنّي صيفَه أناشيدَ الرَّاحةِ فرِحاً باتَ يُنشِدُ أغنياتِ الشِّتاءِ في بردِه وجوعِه حزناً وألماً.

للإيمانِ موسيقَى يعزِفُها الفِكرُ ويصدِّقُها الفؤادُ وتَنتَشي بخمرتِه الرُّوحُ، وتسمُو برقَّةِ أنغامِه النَّفسُ؛ لترتقيَ من عالمِ المادّةِ الشَّيطانيّ إلى عالمِ الرُّوحِ الملائكيّ.

وللكُفرِ موسيقَى يعزفُها الفِكرُ التَّائهُ في ظلماتِ المادّةِ، وتنتَشي به الرّوحُ الغارقةُ في الملذَّاتِ، ويتحطَّمُ فيهِ الأملُ فيمَا وراءَ الوجودِ من نعيمٍ، فتَضيعُ سعادةُ النَّفسِ، وتنسدُّ أمامَ رؤيةِ الفكرِ الآفاقُ، وقد يَنْتهي بالبؤسِ والشَّقاءِ والضّياعِ والانِتحار.

إذا كانَ الطَّعامُ والشَّرابُ غذاءً ورَواءً للجسدِ من أجلِ البقاءِ، وكانتِ القراءةُ والكتابةُ مدادَ العقلِ والفكرِ من أجلِ فهمِ الوجودِ، فإنَّ الموسيقَى والغناءَ هُما إكسيرُ الفؤادِ والرُّوحِ والنّفسِ؛ ليسعدَ الوجودُ بها، وتتسلَّقَ سلَّمَ الأحاسيسِ من الأرضِ إلى السَّماءِ؛ كي تنتعِشَ وتَحْيا في عالمِ الخلودِ، حيثُ نشوةُ الرُّوحِ بعد خلاصِها من أدرانِ الجسدِ، وحيثُ سعادةُ القلبِ بعدَ أنْ تتحرَّرَ من فسادِه الأرضيِّ، وحيثُ سمُوُّ النَّفسِ بعدَ أن تطيرَ من عالمِ الفسادِ إلى عالمِ الأبديّةِ المفْعَمِ بموسيقَى الجمالِ وجمالِ الموسيقَى، المنْتَشي بسحرِ أناشيدِ المحبَّةِ والتَّناغمِ والانسجامِ بعدَ أنْ تحرَّرَتْ من سطوةِ تناقضاتِ الحياةِ، فألقَتْ بالنَّقائضِ السَّوداءِ في حياضِ الدُّنيا؛ لتحتَضِنَ نقائضَها البيضَ بينَ جناحَيها وترفرفَ بها بينَ جنباتِ النّعيمِ الّذي لا يعرفُ الحدودَ والسُّدودَ كما صوَّرَها الأنبياءُ والأصفِياء..

ومن هُنا يُمكنُني أنْ أمتطيَ مركبةَ الفكرِ؛ لأُبحرَ في بحارِ الأدباءِ والمفكّرينَ حيثُ الموسيقَى وجمالُ الرُّوحِ، وحيثُ الفِكرُ وموسيقَى المعاني السَّاميةِ، وحيثُ الإحساسُ المرهَفُ والكلمةُ الحُبلى بالمشاعرِ، وحيثُ الخيالُ الواسعُ الّذي تتزاوجُ فيهِ الكلماتُ والمعاني معَ سحرِ أنغامِ الموسيقَى، فتبدعُ أجملَ سمفونيَّاتِ الوجودِ وأروعَ ملاحمِ الإبداعِ والخلُود.

يتبع..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى