الثلاثاء ٢٩ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم سامي العامري

الانفلات في بنية اللون

قراءة في قصّة (فتاة البسكويت)

في سعيها الحثيث للقبض على كامل خيوط وألوان لوحة السرد الحكائي، تعمد القاصة زينب علي البحراني إلى تكريس اجتراحها السردي بثوب اللوحة الفنية التي تستبيح بداهة البياض، في بنية مشاعيته وبكارته، لتسجل حضورها الحكائي في فن القص. عن الانفلات من وفي أسر الذات وبنية انقباضها وتشظيها، في لحظة وأدوات التعبير والانهمار، تحدثنا لوحة حكي زينب البحراني.

ولكي تقدم لنا نصها دون وساطة أو شفاعة، فإنّ القاصة تعمد إلى تحرير نصها، سلفا، من هيمنة، حضورها (الاجتراحي) في النص، عن طريق خلع مهمة الرّواية - رواية النص - على شخص مذكر، بطل الحدث وصانع حيثيّاته ومقارباته الفنية والفكرية. ولتستكمل القاصة عملية سبك خيوط البنية الإشاريّة والترميزية الباطنية للحدث، فإنّها تعمد إلى إشراك أحاسيس وخيال بطل القصة، الفنّان التشكيلي، في إنّماء وبلورة موضوع الحدث ومديات مقاصده وأهداف بلورته وتمظهره.

فتاة (البسكويت) رمز مثخن وملبد لبؤرة سردية،جهدت القاصة (من خلال تمكينه من شخصية البطل وفرشه على كامل مساحة تفكيره وأحاسيسه)، توظيفه لحمل إشارات النص وشفراته ورهاناته. وزينب إذ تلون إحالات النص ووجهات طروحه، فإنّها تعدد مستويات قراءاته وتقتص لها مديات مضافة. ليس من شأننا هنا إصدار بيان ولادة لفتاة البسكويت من أجل تحديد ظروف وأسباب ولادتها، وإنّما من أجل تلقف بعض ملابسات تلك الولادة وخباياها.. وبطل القصة الذي تستبيحه الحاجة إلى حضور المرأة في حياته ويكويه لهب ذلك الحضور المغيب، يلجأ إلى خياله لتعويض ذلك التغييب القهري..

(منذ أسابيع مضت على زمني كالدّهور، وأنا أحارب بكل قواي النفسية، التي بلغت حدود الاحتضار، صورة وجه تلك الحسناء التي استولت على أحلام نومي ويقظتي في الليل والنهار... ولو أن لساني أسرف في تهوره إلى درجة تبلغ إخبار مخلوق ولو ببعض سر تلك الفتاة التي تجثم صورتها على صدري.... لكنت اليوم في عداد المتهمين بالجنون).

زينب البحراني لا تفرض علينا نوعا محددا لأسباب تغييب المرأة من حياة رجل (ها) أو (بطل القصة)، بل تترك الساحة (فضاء التقدير والافتراض لكل متلقي وبما يناسب ثقافته وأسبابه وعقده النفسية) لملئه بما يناسبه من الأسباب، وهي بهذا تحقق أهم ضربة في تكنيك المنجز الإبداعيّ (على مستوى التنظير للعملية الإبداعيّة، وفق معايير الحداثة) بترك هامش لمشاركة المتلقي في إعادة إنتاج النص أو ملء فراغاته أو إعادة كتابته، وفق ما يناسبه من مستويات القراءة.. وهي بهذا أيضًا تكون قد حققت ثاني ضرباتها الإبداعيّة بتنويعها لمستويات قراءة النص... نصها - وهو هنا قصة فتاة البسكويت على وجه التخصيص. ومن جهتي، كمتلقي، سأعيد أسباب تغييب المرأة من حياة الرجل إلى طبيعة البيئة وثقافتها الاجتماعية التي أنتج فيها النص، وهي بيئة صحراء العرب وثقافتها البدوية وأيديولوجيّتها الإكليروسيّة العازلة التي تقوم على النظرة الدونية للمرأة باعتبارها عورة فاضحة.

القاصة، تتخذ من بهجة الفن ودهش ضربة اللون وسيلة لإعلان احتجاجها على أيديولوجيا العزل والإقصاء التي يمارسها المجتمع ضد هوية جنسها.. (معلوم أن رسم الوجوه محرم وفق الفهم اللاهوتي لأغلب رجال الدين المسلمين) ؛ وخاصة وجه المرأة وشعرها السافرين، دون حجاب ونقاب باعتبارهما من مصادر إثارة الشهوة، رغم أنها - القاصة - لا تمنح صيغة إحجامها المساحة الكافية للتمظهر أو الوضوح بثوب الاحجاج، تلافيا لغضب الفهم الخاطئ عينه. ورغم حرص القاصة على عزل (في لحظة الكتابة) أو عزل بطلها (بطل القصة) عن تأثير أيديولوجيا العزل، الا أنها تلمح لنا - نحن المتلقين - كجمهور يقع تحت طائلة وتأثير هذه الأيديولوجيا القهري، بحكم تسلّطها على حياتنا عبر مفاعيل المنظومة الاجتماعية، كبنية وثقافة، بطريقة حضورها المستتر كتابوات ومحددات تمارس هيمنة ردعها غير المباشر من خلال رسوخها في اللاوعي والوعي الجمعي للمجتمع: (فكرت للحظة أنني كنت رجلا محظوظا خلال الأيّام القليلة الماضية، فوق حظي بسلامة ميلاد لوحتي الجديدة، لأنني لم اسمع شيئا من أخبار التلفاز أو المذياع التي تجعل نفسي تطفح بالكآبة، ولم يتطفل على سلامي الروحي شيء من إخبار عامّة الناس الذين يشحنون نفسي بالغيظ والانفعال بتصرفاتهم...). معلوم أن أحد أسباب إحساس الكآبة في النفس هو الشعور بالعجز حيال المهيمنات الخارجية التي تمارس دور القمع القهري داخل النفس. ولكي تحصر القاصة (بطلها) في البؤرة التي تقترحها لفعل القص، ومن ثم إلى الذروة التي تناسبها في فعل التقاطع، فإنّها حرصت على أن تحميه من تأثير المؤثرات الخارجية: (التي تجعل نفسي تطفح بالكآبة)، من كافة مصادرها الخارجية، المباشرة: عامّة الناس، أو غير المباشرة: المذياع والتلفاز، لتتركه يتلظى تحت مهيمن فعل القص (فتاة البسكويت). وفتاة البسكويت، المهيمن البؤروي (الذي استقت القاصة عنوان القصة من دلالته)، يأتي كمحرك بؤروي جامع لخيوط الحكي ومهيمن محفز لقيادة فعل القص إلى ذروته (العقدة، أو ذروة الحبكة). ومن أجل أن تهيئنا، نحن المتلقين، لتلمس خيوط الحبكة ومجاراتها في فعل تصاعدها، فإنّها تعمد إلى إقامة (حفلة بسكويت صغيرة) تهيّء للحظة اندلاع فتاة البسكويت: كأنثى ومهيمن دلالي: (وبدأت أقضم أقراص الكعك المحلى بشهية بدأت تسترد وعيها أكثر أمام إغراء طعم السكر. كان ذهني خاويًا من الأفكار، وكانت عيناي مغمضتين باسترخاء... وفجأة رأيت صورتها قد تسللت إلى قعر مخيلتي على غفلة من يقظتها، واحتلتها دون استئذان). ورغم الادعاء المجازي لـ (حفلة البسكويت) تلك، إلا أنها تشكل محفز فاعل ومفعّل لفعل القص وبناء الحبكة..، وأيضًا لسحب المتلقي إلى (ورطة) الحدث وهو مدجج بالمعرفة المسبقة عن بعض مساربه والتواءاته..

وقبل أن تتحول فتاة (البسكويت) إلى (هم) يثقل مشاعر وأحاسيس فنّان (القاصة (لنتوقف لحظة أمام هوية وأسباب وسر (ولادة) هذه الفتاة... هل كان علي أن أقول الأنثى...؟ هل هي فتاة أحلامه ؟ هل هي تعويض عن حرمان لعلاقة مفقودة ؟ ما سر بكائها ؟ هل هي صورة أو رمز لفتاة كأن لها دور في حياة بطل القصة ؟

بطل القصة – ولن نقول القاصة، لأنها أنجزت النص وأشاعته وحررت نفسها من فعل
ارتكابه – يدعي:) لست أعرف تلك الفتاة، ولم أرَها من قبل تمشي أمام بصري على أرض الواقع، ولا استضافتها يوما أحلام نومي أو يقظتي قبل هذه المرة !(
فأي كهف من كهوف الذات – ذات الفنّان – اجترح تلك الفتاة: (سجينة جمود المشهد الذي هي فيه إلى الأبد) التي (أشعلت النار في إحساسي) ؟

القاصة لا تلقي إلينا أي إشارة أو ومضة ضوء على هذا الجانب، بل تترك لنا، نحن المتلقين، أن يقدر كل منا وفق قراءته..، هي تكتفي بوصف صورتها الراكزة في خيال الفنّان: (حية سجينة جمود المشهد الذي هي فيه إلى الأبد. أحسست أنها تود لو تصرخ، أو على الأقلّ أن تبكي بصوت عال، لكنها كانت خرساء، أو ربما كانت حنجرتها مبحوحة عاجزة عن البوح بصوت.... لذا لم يكن بوسعها غير أن تنتحب همسا بدموع لا تنضب....). أي فتاة تناسب مثل هذه الارتهانات ؟ وأي سؤال تجسد في إحساس الفنّان الذي اجترحها ؟ وأيضًا، على أي سؤال قد تجيب مثل هذه الصورة ؟.... هل كان علي أن أقول مثل هذه الفتاة...؟

لننظر في صفاتها الشخصية، فلربما أضاءت لنا جانبًا من خبيئة وجودها أو كينونتها: (عينين واسعتين براقتين بقزحية بنية ورموش طويلة فتاكة السحر...) وهذه الصفات تركز على الجانب الجنسي الاستثاري في داخل الرجل(... في وجه ممتليء بوجنتين حمراوين تجاوزت حمرتهما حدود حمرة العافية إلى المرض، وشفتين مطبقتين حمراوين حمرة البكاء). ولكنها – القاصة – تنسف تلك الصورة بصورة صبية مشردة... وربما دون سن البلوغ من الأساس، أنهكها الجوع والتعب وفقدان الأمان والسكينة وحنان الحضن الدافئ. فلماذا هذا الانقلاب على الوجه الأول من الصورة – الفتاة بمفاتنها الجنسية – بوجه يثير الشفقة ويثبط مشاعر الإثارة والانجذاب الطبيعي وميل الذكر إلى الأنثى أو العكس ؟.. ورغم نجاح الصورة في تجسيد مأساويّة الحالة الإنسانيّة التي تجسدها هذه الصورة، إلا أنها لا تملك مبررات مقنعة – كفعل دهش قصصي – لتحول: (كل ما سبقها من مخزون الصور في مخيلتي إلى رماد وهم)، وهذا ما يجبرنا على العودة أو اللجوء إلى بيئة القاصة الاجتماعية والثقافية المحافظة للبحث عن تفسير لمثل هذا التناقض، والذي فحواها خوف القاصة من الاتّهام – اتهام المجتمع لها – بكتابة شيء إباحيّ أو يتعلق بمسألة الجنس دون حرج أو مراعاة لمحاذير المجتمع المنغلق، وليس المحافظ فقط، والذي يتعامل مع المرأة على أنها عورة أو قائمة تابوات لا يجوز الاقتراب منها في أي حال من الأحوال.

(كانت أحاسيسي تلتقط موجات مشاعر فتاة البسكويت تلك بتضخم يجعلني أحسّ بما كانت تحس على الرغم مني........ ثم اختارتني لأكون توأم العذاب معها بعد أن احتلت مخيلتي واستحالت بآلام فجيعتها هاجسا يطارد حواسي ويوسوس لي وسوسة هي اقرب إلى صوت الإكراه)

الإشكال الذي وقعت فيه زينب البحراني هو شطرها بطلة القصة إلى نموذجين متناقضين، لأنها لم تستطع تحرير نفسها من نظرة المجتمع الدونية للمرأة – وهي نظرة متأصلة في ثقافتها الاجتماعية، لذا فإنّها نظرت إلى (فتاتها) على طريقة (الرجل الذي يهتم بحسناء قيصر: أن يراها تحت أشعة إكس)، وليس على طريقة البناء الجدلي والثقافي – الحداثوي للمرأة كإنسان أولا، وبناء النّماذج الأدبيّة التي تجترح الوضع الثقافي المتطلع إليه.
ولكن ؛ (مهمّة الناقد ليس في كونه أن يرى الحقيقة، ولكن أن يخلقها) كما يقول كافكا، وعليه فأننا سنلجأ إلى إعادة توحيد شطري الفتاة (فتاة البسكويت) في نموذج المهمّشة، منزوعة الإرادة، والعاجزة عن الانتفاض والتمرد على واقعها الاجتماعي، وهو نموذج انهزاميّ مستكين ومستسلم... وهذا هو واقع المرأة السعودية للأسف الشديد.

(حاولت أن أحرر ذهني من تلك الصورة بصب ألوانها على القماش والأوراق، لكنها هزمتني ونالت من ثقتي بنفسي...)، وهذا ليس له من تفسير سوى الهروب من مواجهة حقيقة الجسد كعالم حقيقي قائم لا يمكن التغاضي عنه تحت أي اعتبار تقنيني، سواء كأن اجتماعيا أو إكلوريسيا، بوجهيه: الحب، كعلاقة إنسانيّة تتعلق بالنزوع الفطري للمشاعر الإنسانيّة، وما يتبعها من فعل العلاقة الجنسية، كجزء مكمل، ضمن نفس السياق، وخارج سياق منظومة التابوات القهرية المفروضة من السلطة البطريركية للرجل، كوجه آخر. وهذا ما تنتصر له القاصة البحراني في النّهاية، أعني صورة المرأة بشكلها ودورها الإنساني الطبيعي: (وحين استيقظت في الصباح لم اسمع صوت النحيب الهامس)، وهذا يعني بداهة، أن المرأة في فتاة البسكويت قد انتصرت على دور الفتاة التابعة المستكينة أو الدمية الجميلة التي يكرسها الرجل لأداء دور خدمته في الفراش والمطبخ: (... كانت فتاة البسكويت التي أرهقتني تحتل مساحة ما كان قبل نومي بياض الجدار المقابل لي، وعليها إمضائي.. لكنها كانت تحدق في بعينين ليس لهما شبه بعيني تلك التي كانت تسكن مخيلتي ؛ وحين اقتربت منهما وجدتهما نسخة من عيني). وهنا يأتي دور أهم سؤالين: هوية الإمضاء، فإمضاء من كان على اللوحة: إمضاء بطل القصة أم كاتبتها الأنثى الرافضة لواقعها: زينب البحراني ؟ وعيني من كانت عينا فتاة البسكويت تشبهان: عينا بطل القصة أم، أيضًا، عينا زينب ؟ قراءتي تقرر أن الإمضاء والعينين للمرأة في زينب البحراني، وهما بمثابة صرخة احتجاج على واقعها الاجتماعي والمجتمع البطريركي الذكوري الذي تعيش فيه، والذي لا يرى فيها، وباقي بنات جنسها، أكثر من (وليمة فوق السرير) بحسب توصيف الراحل نزار قبّاني، الممنوعة كتبه من دخول البيت السعودي !

قراءة في قصّة (فتاة البسكويت)

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى