البنية التأويلية في رشح الحنين
قد يبدو للبعض أن أدب (منى الشيمي) أدب «نسوي»، لكن هذا الحكم ــ من منظوري ـــ هو نصف الحقيقة، فهو - كما أراه - أدب «إنساني»، وسرد واقعي يجسد واقعا مأزوما للإنسان المصري، ذلك الإنسان الذي يبحث عن اكتشاف ذاته فيما ورثه من منظومة قيم اجتماعية تتحكم فيه ويصعب عليه تغييرها، وفي الوقت نفسه يشق عليه التأقلم معها، فهي محاولة لتعرية الذات البشرية أمام نفسها، صحيح أن أدبها يهتم بجوانب من قضايا «النسوية»، إلا أنه أيضا يهتم ببعض مشكلات الذكورة، ويهتم بالمنظومة الاجتماعية ومنظومة القيم ككل، لكن بشكل أخف حدة؛ لذا لا أوافق المنشور على غلاف المجموعة القصصية بوصفها نوعا من أدب «التلصص» على النساء، لأقدم بدلا من ذلك أطروحتي بأن هذه المجموعة محاولة لتشكيل «رؤية» عن الذات البشرية في المجتمع الشرقي من خلال تصادم الذكور والإناث مع منظومة القيم الاجتماعية، لتكون بذلك مجموعة قصصية تتحاور مع إحدى عناصر «المنطقة المحرمة» )التابو) في العقلية الشرقية، وهذا الفهم تمليه البنية التأويلية لمجمل العمل الأدبي بحسب ما سأدلل عليه في دراستي هنا.
سأبدأ بسؤال: هل صدفة أن يبدأ السرد بين أشجار المانجو، وينتهي بين أشجار المانجو؟ هل صدفة أن يبدأ بحوار داخلي، وينتهي بحوار داخلي؟ بينما يبدأ برغبة قتل «الرجل»، وينتهي بمحاولة المصالحة مع «الرجل»! وإعطائه فرصة أخرى إن استطاع فهم رسالة التغيير؟ إن الناقد لا يتعامل أبدا مع أي معطى داخل النص الأدبي على أنه صدفة، بل إن أية مفردة أدبية قد تساعده في توصيف جمالية النص؛ لذا من المفيد جدا المقارنة بين الأقصوصتين (النص الغائب) و(نوار شجر المانجا)، من حيث تَشَكُّل شخصية الرجل والأنثى بينهما.
فالأنثى في الأقصوصتين متزوجة، لكنها لا تصل لمرحلة السعادة الزوجية، في الأولى يخونها الرجل خيانة صريحة مع أخريات، وفي الثانية يخونها ضمنيا بكونه ليس فارس الأحلام الذي كانت تتوقعه، في الأولي الرجل ميت لا حياة فيه، يفارق الدنيا بعد نجاح مكيدتها بقتله - أو بعدما توحي لنا بذلك-، فبفضل تقنية الحكي المتداخل مع القصة، لا نعرف إن كان فعل القتل يحدث حقيقة، أم أنه في مخيلة الراوية بطلة القصة الأولى.
في القصة الأخيرة الرجل يشع حيوية ونشاطا وهو شغوف لمزيد من الحياة، وفي الاثنين المرأة تدخل في حوار طويل مع الذات، طُعم الأول بالكتابة المتداخلة، باللجوء لفعل «الانزياح» بمفهومه عند (نورثروب فراي) كما أحالت إليه كاتبة القصة في ثنايا كتابتها، أما الأخيرة فتعتمد على مراجعة الذات، ومقارنة ما تحقق من الأحلام وما لم يتحقق. فما الدلالة التي تحملها تلك المفردات، والعناصر السابقة؟
من منظوري يشير هذا إلى أن هاجس السرد الأساسي هو العلاقة بين المرأة والرجل في بنية سردية دائرية ملتحمة، جوهرها الجوانب المختلفة لهذه العلاقة ما بين علاقة زوجة بزوجها، وابنة بأبيها، وعشيقة بعشيقها وهكذا - ويلاحظ أنه لم يشذ عن ذلك إلا أقصوصتين هما (عزبة المحطة)، و(اسم العائلة)، من بين المجموعة التي تحتوي على 14 قصة، تلك العلاقة تصل لأبعد مدى في التتبع السردي حتى بعد الموت، كما يتضح في (صليل الأساور)، التي يمكن تحميلها بالكثير من الرؤى والإسقاطات إذا ما استحضرنا مفاهيما خارجية عن النص المعطي هنا، لكني أميل إلى تحميلها برؤية العتاب للرجل الذي يلقى حتفه قبل أن يؤدي ما عليه من مهام تجاه زوجته وابنته.
خاصة إذا ما ربطنا بين هذه الأقصوصة وقصة (حفيف قدميك)، صحيح أن في (حفيف قدميك) الطفل الصغير هو فتاة، وفي (صليل الأساور) الصغير ذكر، لكن ماذا يُعطَى في الأدب واضحا ومباشرا؟ ومع ذلك يشير السياق التأويلي أن الشخصية هي نفسها، ففي الأولى تَوغَّل السرد خلف الرجل حتى في الممات؛ ليصور حزنه لفراقه عن زوجته الصغيرة التي يتمناها نصف القرية، وفي الثانية تحكي بعضا من حياة هذا الرجل قبل وفاته، وتحكي بعضا من التواصل بين عالم البرزخ وعالم الأحياء حين تشعر الفتاة بأن والدها الميت يحضر لها في الأوقات العصيبة، وأنها بعد أن كانت تتضايق من تواجدها معه وهو على قيد الحياة في الصغر، أصبحت تستأنس لهذا الحضور وتشعر بمقدار مساندته لها في الكبر، وإن كان حضوره في الكبر مُتخيلا غير حقيقي، لكنه يحقق لها الدعم المعنوي.
لكن افتراض أن شخصية ما في قصة ما امتداد لشخصية أخرى في قصة أخرى داخل مجموعة قصصية واحدة، وأن الأحداث هنا هي تكملة لأحداث في أخرى، هو افتراض على قدر كبير من الخطورة قد يغير طريقة فهم النص، لتصبح دلالة النص ممتدة داخل المجموعة القصصية بأكملها بين قصة وأخرى، لذا يحتاج هذا لسند تأويلي يؤيد تكاملية السرد، سند يعزز أن هذا ليس مجرد ملاحظة نتجت عن توافق داخلي لقارئ ربط بين شخصيات السرد دون أن تكون هناك رابطة حقيقية. مما يهدد بوجود قراءة خاطئة للمجموعة.
لكن عملية القراءة هي نتاج تفاعل بين النص الأدبي والذات القارئة، والكاتبة نفسها أهدت مجموعتها لقارئ جميل، فلنُنِّح إذن الحرج في تكاملية الدلالة ونعتمد على سياقات تفسيرية تعزز عملية التأويل، ولنضرب مثالا لذلك بشخصية المعيد التي تظهر في (حفيف قدميك)، ثم تختفي لتظهر مرة أخرى في (يا هناااااااا عبود)، ففي القصتين راوية القصة هي بلديات هذا المعيد الذي سمعت عنه كثيرا، وفي القصتين تحاول البطلة أن تتواصل مع هذا المعيد - وواضح أن سبب التواصل عاطفي وليس دراسي- لكن الخجل يحول لدى الفتاة الصعيدية عن إتمام مهمتها في التعارف، وبفضل مساعدة إحدى صديقاتها تتاح لها تلك الفرصة، هذه الصديقة كان اسمها "وفاء" في (حفيف قدميك)، لكننا نكتشف مع المضي أكثر أنه قد تم إفراد أقصوصة لها باسم (يا هناااااااا عبود)، وهي محاولة للراوية الموجودة معنا في هذا الزمان للبحث عن صديقتها عبر الانترنت بعد التطور الحديث، وتقلب بين المنتديات والمواقع آملة أن تجد صديقتها، فلا يعقل أن تمر هذه الصديقة بهذا الانفتاح التكنولوجي دون أن توجد لنفسها موقعا الكترونيا تعبر به عن نفسها، ويجدر الإشارة إلى أن قصة (يا هنااااا عبود) تشهد توظيفا غريبا للزمن، فالفعل الحادث الآن هو محاولة البحث عن صديقة قديمة عبر الانترنت، مشيرة في ثنايا السرد إلى بعض نتائج البحث، لكنها تعود للماضي للحكي عن هذه الصديقة، وهي عودة غير موصولة بالحاضر، فانزياح الزمن في الماضي للحكي لتوضيح "الحكاية" الأصلية، أما الزمن الحاضر فهو محاولة لصياغة عناصر الحبكة، لكن الماضي يرسخ نفسه، ليأتي الفعل الصادم الذي لم نتوقعه من الراوية بكشفها عن سر خطير، فرغم كل ما قدمته هذه الفتاة (وفاء) أو (هَنَا) من مساعدة للراوية في تعرفها على المعيد، إلا أن السر الخطير الذي يتم الكشف عنه هو قيام الراوية بالاشتراك مع أخرى في تقديم شكوى ضد (هَنَا) لطردها من المدينة الجامعية، إن الرواية تعاتب نفسها بعد هذه السنوات على غيرتها الأنثوية من (هَنَا)، التي حققت كل ما تريده كأنثى في الجامعة، إنها قابلت إحسانها بإساءة، أليست تلك قضية البشرية كلها منذ خلق الله أدم ووضعه على الأرض، أليست «الغيرة» هي سبب الخلاف بين قابيل وهابيل، صحيح هو يأخذ هنا منحى أنثوي بتفاصيل «الغيرة»، تلك «الغيرة» التي تتكرر في أكثر من موقع في المجموعة، لتظهر جلية في (كتافيوس) من خلال المقارنة التي تعقدها الراوية بين نفسها وهي تمارس ألعاب الجيم لكي تصل لقوام رشيق، وأخرى بدون أي تعب أو مجهود لديها هذا القوام والتفاصيل الجسدية الأنثوية، لكن هناك «غيرة» أخرى تظهر من الجراءة والتواصل مع الرجل، كما في قصة (المهندس الجديد) ليتم تناول قصة الفتاة التي في يوم وليلة أوقعت بهذا المهندس الجديد في حبائلها ليتزوجها، بينما هي ظلت صريعة وقت وحوار طويل مترددة من الخجل، إن الالتزام الأخلاقي هنا يبدو على الحياد، فالوصف يحدد الصراع الذي تقع فيه شخصيات القصص بين الإحجام والإقدام، وبين عدم القدرة الداخلية على كسر حاجز الخجل، والذهول والصدمة من قدرة البعض على كسره بسرعة وحرفية في الوقت نفسه، والأهم تقبل الآخرين لهذه الجراءة والاستجابة لها من فتاة دون تقبلهم لها من أخرى، بينما المنظومة الاجتماعية تنص على أن الخجل هو المفضل هو صاحب الأولوية، لكن يبدو أن تلك المنظومة شيء والواقع شيء آخر من وجهة نظر قصص (منى الشيمي).
ألاحظ أن ضمير السرد يأتي دائما بضمير المتكلم في حالة ما تكون القصة تتعلق بانفعالات وأمور أنثوية، ولكن في حالة القضايا العامة يتحول إلى ضمير الغائب، ففي (عزبة المحطة)، تكثر الأفعال للغائب (التقوا ــ ساد ـ لم يتمالك ـ ....)، أما في (المهندس الجديد): (يجب أن استعد ـ التقيته ـ شاركتني ...) وهكذا، تشذُّ عن هذه القاعدة قصة (جدي الطلوقة) والتي تهتم بقضايا أنوثة ــ متمثلة في العلاقة الآثمة لبطلة القصة مع أحد الأشخاص، لكن بعد افتضاح العلاقة ينسحب هو ليتركها وحدها في المواجهة)، ويبدو أن رؤية الاشتراك في فعل الإثم بين الرجل والأنثى هي ما جعلت ضمير الراوي يتحول لصيغة الغائب، ورغم أن الكاتبة تستخدم أسلوب الوصف في الكثير من قصصها، إلا أن أسلوب السرد نفسه ــ «الصيغة» بتعبير جرار جينيت ــ أو «الحبكة» بتعبير الشكليون الروس ما تزال تحتاج لمزيد من المخاتلة من الكاتبة، فالكثير من جمال قصصها ترسخ عبر اقتحامها لمنطقة الـتابو، لكنه يحتاج لسند سردي قوي.
إن تواتر وتبادل الدالات التأويلية بشكل متعاضد بين القصص المختلفة، يجعلني أطرح هنا فكرة قراءة مجمل أعمال (منى الشيمي) بوصفها بنية تأويلية كبرى متكونة من عدة بنى متعاضدة، سياقاتها تعتمل عبر مجمل أعمالها وقد يكشف ذلك عن فهم أعمق ورؤية أوضح لسردها المتشكل عبر محاولة تخليص الإنسان من مشكلاته في مواجهة ذاته ومنظومة المجتمع.