دراسة في حلق الريح
يمثل التساؤل حول ما يجب أن يقوله الناقد تجاه عمل أدبي ما، تحديا كبيرا للدراسات النقدية التطبيقية، وهو ما يفتح الباب ـ من جديد ـ للتساؤل حول دور الناقد، وحول مناهجه وإجراءاته. ومن منظوري؛ فإن النقد التطبيقي يمثل فرصة للناقد للتحاور مع العالم عبر منظور الكاتب من ناحية، وعبر فعاليات مؤسسة الأدب من ناحية أخرى، كما أنه يهيئ إمكانية اختبار فعالية مفاهيم نظرية الأدب المعاصرة، التي أرى أنه إلى الآن لم يستفد منها نقدنا العربي الاستفادة المثلى، خاصة مع ما بها من إمكانات واستبصارات حول الأعمال الأدبية. وفي ضوء ذلك، وعلى خلفيته، تأتي دراستي لرواية ـ أو ملحمة إن شئنا الدقة ـ حلق الريح، للدكتور صالح السنوسي، الصادرة عن دار الهلال المصرية، عام 2002م.
وأشد ما لفت نظري في هذه الملحمة أنها تستخدم نمطـًا رائعًا من أنماط التشفير، وهو ما أسميته: بشفرة الذاكرة، وذلك لأن "الشفرة" Code في العمل الأدبي هي: ((استخدام مجموعة من الترميزات المستمدة من مخزون الخبرة الموجود سلفا في "المؤسسة الأدبية"، من أجل تقديم "رسالة" معينة، يعمد "الأدب" إلى إيصالها للقراء بشكل غير مباشر عادة.)) [1]، وأرى أن من أولى الخطوات التي يجب أن يقوم بها الناقد أن يحاول الوقوف على هذه الشفرة، وعلى دلالاتها، وقد لاحظت في رواية حلق الريح، أنها تستخدم "شفرة الذاكرة"، أي أنها تعتمد في إنشاء أدبيتها ـ شعريتها ـ على خاصية إحالتنا إلى مفهوم الذاكرة العربية، ذلك المفهوم الذي له ما له من مخاتلات تداعب عقل أي إنسان عربي، وتتبدى آلية عمل الشفرة بشكل واضح منذ بداية الرواية في صفحاتها الأولي؛ إذ بدايتها الحقيقية مخادعة زمنيا كما سيتبين، تقول الرواية في أولها: ((سنقص عليك ـ بعون الله ـ الحوليات الريحية حسب رواياتها التي وصلت إلينا (...) ننقلها بلغتها وأسلوبها وبأخطائها لا ننقصها حرفا ولا نزيده ولا ندري إن كانت هي صحيحة أم منحولة ((فالله ورسوله أعلم))........الراوي)) صـ2
وفيما أرى فإن وظيفة هذا الاستهلال المبدئي هو تهيئة القارئ لاستقبال نظام التشفير في الرواية، فما سيقرؤه هو الحوليات، وكأننا أمام الشعر الجاهلي في حولياته المعروفة، كما أن تلك اللفظة توحي بشيء آخر، بالتدوين والتوثيق، ولكن في هذا الاستهلال نفسه توجد مفارقة تناقض، بين الالتزام بنقل الحوليات كما هي بلغتها وأسلوبها وأخطائها، وبين حيرة الراوي هل هي صحيحة أم منحولة، لماذا يطرح علينا هذا الشك فيما يقال؟ ولن نجد سببا مقنعا لهذا التردد في الرواية إلا مع اقتراب القراءة من نهايتها، على أية حال، تبدأ الرواية ـ بعد تمهيد الراوي ـ بحدث عودة ((سليمان الأعرج)) من جزر الكهرمان، تلك الشخصية الأسطورية التي يتم التأكيد على محوريتها في الأحداث منذ هذه البداية، لكن الرواية تنسحب من سرد أحداث ((سليمان))، إلى مناقشة بعض أمور السرد نفسها، حيث: ((كل الجهود التي بذلها أحفاد الريحيين لتحديد ذلك اليوم لم تسفر سوى عن روايتين شفهيتين منسوبتين إلى رجل وامرأة عاصرا الحدث.))صـ3، هنا يتم التأكيد مرة أخرى على نظام عمل الشفرة في الحوار، فما سيتم سرده في الرواية يجب على القارئ أن يتلقاه ضمن منظومة خاصة به، منظومة تحدد معالمها وأطرها الرواية نفسها، فما يتم تقديمه هنا هو جهد موثوق ومدقق من أحفاد الريحيين في التعرف على تراثهم، ذلك التراث المرتبط وثيقا بعودة ((سليمان الأعرج))، وهنا يتم الإحالة إلى روايتي الشيخ ((جلغاف أبو صوفة))، البالغ من العمر مائة وخمسة وعشرين عاما، والحاجة ((سعدة))، ومن الملاحظ أنه منذ البداية يتم إحالتنا إلى تواريخ وتأكيدات، لها دورها في تأكيد عمل الشفرة، فقد عاد ((سليمان الأعرج)) في عام الربيع الكبير، وهو ما يسحبنا دون أن نشعر إلى أيام التأريخ الأولي للعرب وللمسلمين، يوم كانت السنون تسمى بأهم ما فيها من أحداث، مثل: عام الفيل، عام الحزن، وعام الرمادة، كل ذلك للتأكيد على سحب القارئ إلى جو عربي خالص، يغادر فيه أرض الواقع، لكي يبحر عبر فضاء الرواية، تلك الرواية التي يتعهد لنا الراوي بنقل حوليات الريحيين، تلك الحوليات التي يتم التأكيد على ما بها من خلافات، على النحو التالي:
((لم يكن الخلاف حول تاريخ عودة سليمان الأعرج سوى فاتحة لخلاف أطول وأمر حول حياته وحقيقة شخصيته، وحول ما جرى قبل عودته وبعدها في حلق الريح، حيث تجمعت ألاف الروايات الشفهية، منها الصحيح ومنها المنحول، ولم يكن أمام أحفاد الريحيين سوى أن يتبنوها جميعا وأن يطلقوا عليها اسم ((الحوليات الريحية))))صـ5، فهنا سوف نتلقى في هذه الرواية ـ التي نقرأها ـ العديد من الروايات المختلف حولها، لكن ذلك لا يهم، المهم أن نحاول من خلال عملية الإبحار في الرواية أن نقف على حقيقة تاريخ الريحيين، وعلى أبعاده.
تبدأ الأحداث الحقيقة للرواية مع زواج ((أبو قيلة الأعرج)) من ((ميسونة)) ابنة الفقيه ((عبد الله الزيتوني)) رابع زوجاته، ويلي هذا الزواج حدث خطير، هو خروج ((أبو قيلة)) لمحاربة تركيا، ثم نصره عليهم، ثم انتصاره على الأسبان، ثم انتصار الأتراك عليه، ولدور ((أبي قيلة الأعرج)) في طرد الأسبان يتم نفيه بدلا من قتله، ولكن ما يقف كنقطة محورية في حركة الأحداث، تلك النبوءة التي يتركها ((أبو قيلة الأعرج)) من أنه سوف يعود واحد من نسله، لكي يقود الريحيين للنصر على النصارى والترك، وأمارة عودته أنه سيكشف للريحيين عن سر خبأه ((أبو قيلة)) في أرضهم، تلك الحكاية التي تتناص مع بعض المفاهيم الدينية من عودة المهدى، والتي تمرر عناصر الرواية، دون أن تجعلنا نتساءل إذا ما كان ((أبو قيلة الأعرج)) الجد نفسه لم ينجح في محاربة الترك والنصارى، فما الذي سيجعل حفيده ينجح في ذلك؟ أم أنه لم يذكر شيئا أصلا، والمخيلة الريحية هي التي قالت هذا الكلام أملا منها في التخلص مما تعيشه، أم أن هنا تناصا ما بين الأصل البشرى كله عندما أخطأ آدم عليه السلام بإتباع الشيطان في الجنة، وكانت الوصية لأبنائه ألا نتبع الشيطان ونحن على الأرض ولسنا في الجنة، في الحقيقة الرواية تفتح الباب أمام الكثير من التساؤلات، حول الكثير من الأشياء الكونية والمصيرية.
تمضى وتيرة السرد في الرواية بشكل طبيعي إلى أن نصل للصفحة التاسعة، تحت عنوان:
((خبر صاحب البرنس الأحمر))، وهنا يتولد تساؤل حول هذه العناوين الفرعية، هل هي حولية من الحوليات، خاصة وأن الحوليات تلتزم بمدة عام في العرف العربي، وأغلب هذه العناوين تأخذ أكثر من عام في أحداثها، أم هذا هو الراوي الذي يصنف كل مجموعة من الحوليات في عنوان فرعي، أم أنها لازمة من لوازم السرد بالتأكيد على أهمية أحداث بعينها، مع التظاهر بالبراءة في كونها وسيلة نقل الأحداث.
لقد تم التأكيد فيما قاله الراوي سابقا عن الحوليات في الصفحة الثانية، أن أول الأشياء هي ((قمر مراد))، لماذا يتم الآن عرض خبر صاحب البرنس الأحمر، وهنا سرعان ما سنعرف أننا نقع تحت وطئة فعل السرد للأحداث، إن صاحب البرنس الأحمر ((مراد)) هو أهم الشخصيات التي ادعت كذبا أنها ((الأعرجي)) المنتظر، وكأننا أمام ادعاءات للنبوءة، ولكن هذا المدعي بالذات هو من أهم المدعين في الحكاية، لذا يتم سرد أخباره، دون التلميح كثيرا لباقي المدعين، ومن خلال حكاية صاحب البرنس، وعبر شخصية ((الأشتر أبو جبيرة))، يتم بث الصفات الأسطورية لقوم بني الأعرج، هؤلاء القوم الذين يكادون أن يكونوا أنبياء، أو أنصاف آلهة، لهم تصرفات عجيبة، كما أن السماء تستجيب معهم، فهناك تناسق رهيب بين سنن الكون، وبينهم، والطريف أنه يتم تسمية مثل هؤلاء القوم ((بالأعرج)).
والشيء الوحيد الذي لم تستفض فيه الحوليات هو استقصاء أسباب تلك التسمية ذاتها، وبعد أن تنتهي فضيحة ((مراد قطيش)) حفيد أحد الريحيين الذين حاربوا مع ((أبي قيلة)) قديما، وهنا يتم التأكيد على دور التاقزة رامية الودع في معرفتها بالغيب، تلك المعرفة التي لا تكذب، وينتهي الحال بمعاقبة مراد بتزويجه من ((دللوز)) الخادمة السوداء، ولم تكن هذه المعاقبة بسيئة الأثر على نفس ((مراد))، إذ مع صنيعها به إبان تعليقه من قدميه وجعل الكلاب تبول عليه، من تقديم بعض الطعام وبعض المسك له، جعله ذلك يهيم بها حبا، ولكن ما يبدو أكثر محورية في الأحداث هو ابنة ((مراد))، تلك الابنة التي تقول الرواية عنها: ((رزق مراد من دللوز ببنت أسماها قمر فكانت آية من آيات الجمال التي أخص الله بها حلق الريح، فقد ورثت عن أبيها بشرته الحليبية وعن جدة أبيها الكبرى ناعسة ورثت عينيها وشعرها وعن أمها دللوز ورثت قامتها وموهبتها الشعرية)) صـ20، تريد الرواية أن تؤكد على خطورة هذه الصفات إذا ما اجتمعت معا، خاصة في ظل ما ستفعله ((قمر)) هذه بأبيها وأمها من ناحية، وبتاريخ الريحيين من ناحية أخرى، بدلا من الوضع الهامشي لوالديها، يصبح مكانها مزارا للشعراء، ثم مع رغبة ابني مشايخ الريحيين الشرقيين والغربيين، من الزواج من ((قمر))؛ ولأن العرف العربي يقضي بأولوية البنت لأبن عمها الأقرب، ولجمالها الباهر، يبدأ الريحيون في التنافس على قرابة ((مراد)) منهم، بعدما كان مبعدا ومنفيا أصبح شخصية محورية بفضل ابنته في تاريخ الريحيين، ومع التنافس الشديد بين ((خليل رشيد الجعار))، و((مرعي عبد الدائم شعرانة))، وهو ما أورد الريحيين المهالك، مع قتلهم لبعضهما، ومع الحرب التي نشأت بين الريحيين الشرقيين والغربيين، وهنا يبرز دور آل الزيتوني كفقهاء وراغبي نشر السلام بين الريحيين، وهنا تتولد مفارقة في وعي القارئ بين ما يبذله الريحيون من جهد لمحاربة بعضهم البعض، في الوقت الذي يدفعون فيه "الميرى" للأتراك، ويتنظرون مجيء الأعرجي لكي يقودهم في حربهم ضد الأتراك، وهنا تفتح الرواية أفقا لنا أن نتخيل ماذا كان سيحدث لو أنهم تركوا الحرب بينهم، وتوجهوا للحرب ضد الأتراك، والغريب أنه لا يتم توضيح سبب الكراهية الحقيقية للأتراك في ثنايا القصة، هل السبب هو ما يدفعونه من ضرائب، ما موقفهم من كون الأتراك ممثلين للدولة الإسلامية كما هو متعارف في دعواهم في التاريخ العربي ـ لاحظ أن أحداث الرواية تسير بعيدا عن أفق التاريخ المتعارف عليه، وإنما وفقا لتاريخها الخاص ـ، لماذا لم يتم التعامل مع "الميري" هذا على أنه علامة على طاعة ولي الأمر، الذي سيقدمون حياتهم بطيب نفس له عندما يتولى ((سليمان الأعرج)) هذا المنصب، هناك الكثير من المساحة متروكة للقارئ لكي يشكلها في ذهنه هنا من نمط "المسكوت عنه".
تمض الرواية في مسيرتها بسرد الأحداث التوثيقية لحياة ((قمر))، وزواجها من ((عبد الرحمن الزيتوني))، ذلك الزواج الذي يؤدي إلى انتقال الجمال من الريحيين إلى آل الزيتوني، وقد نتج عنه توالد شخصيات مؤثرة في تاريخ الريحيين من نسل ((قمر مراد))، لكن توترا شاملا في مسيرة السرد في أحداث القصة يحدث مع بداية حرب الريحيين، ولتأكيد الرواية على عنصر تبدل الأحوال في العالم العربي، لم يكن هنا فقية في آل الزيتوني بقوة ((عبد الرحمن الزيتوني)) لكي يوقف هذه الحرب، والطريف أن الحرب سببها عض كلب لعرقوب راحلة، ولعل هنا يتم طرح قضية الكراهية المضمرة بين الريحيين، وما يوحي به ذلك من أوضاع عامة لها تبعات كثيرة.
استمرت الحرب بين الريحيين قرابة الخمسين عاما، وفي خضم ذلك تتوالد أجيال جديدة، لم يكن لها دور في هذه الحرب سابقا، وعن طريق طفلتين هما: ((خود))، و((غزالة))، يتم التوصل إلى محاولات تهدئة بين الشرقيين والغربيين، خاصة مع مجيء الفقيه ((أحمد الزيتوني))، ذلك الشخصية الفزة التي تخالف ما كان عليه آل الزيتوني من ضعف سابقا، وقد كانت الظروف مهيأة لتولى ((أحمد الزيتوني)) السيادة على حلق الريح، لولا مجيء ((سليمان الأعرج))، الذي قلب كل الموازين، ومع إثباته للجميع بأنه من نسل الأعرج، تمت مبايعته كأمير عليهم، وتم إطاعته طاعة عمياء، وهنا ألاحظ شيئا آخر في مسيرة الرواية.
مع مجيء ((سليمان الأعرج)) لحلق الريح، يبدأ الراوي في استخدام نمطا خاصا من أنماط التأويل علينا، صحيح أنه كان يستخدم هذا النمط من قبل، لكن ليس بهذه الكثافة التي حدثت مع مجيء ((سليمان))، وليس للغرض نفسه أيضا، فمن الذي كان يستخدمه الراوي سابقا التالي: ((لم يعان مراد منذ أن وصل إلى حلق الريح مثلما عانى من هذه التهمة، فالسنوات التي قضاها راعيا للماعز منبوذا معزولا مع دللوز، كانت أقل قسوة على نفسه، مما أخذ يعانيه بعد انتشار هذا [هكذا في النص] الشائعة، ففي سنوات العزل واستصغار الشأن كان العقاب منصبا عليه هو شخصيا بسبب ما قام به من تصرف، ولكن لم يكن أحد يجرؤ على الطعن في ريحيته، أما هذه المرة فقد طال الأمر أصله وذريته)) صـ57، ورغم أن هذه العبارة تقع أساسا ضمن إطار "التبئير" كما حدد ((جيرار جينيت)) G.Genette ، وتحديدا "التبئير الداخلي" [2]، إلا أن هذه التأكيدات بهذه الكيفية من "التبئير" تلعب دورا هاما في عملية التأويل لدى المتلقي، حول ما يشعر به ((مراد))، وحول كيفية فهمه للأمور، ذلك الفهم الذي يتبع الإطار العام للفهم العربي للأمور من منظور الرواية الداخلي.
لكن مع تسارع وتيرة السرد، واتخاذها أبعادا أخرى بعد مجيء ((سليمان الأعرج))، أصبحت عملية "التأويل" من قبل الراوي تمارس بشكل مكثف على وعي المتلقي، من ذلك التالي: ((أخذت الظواهر الطبيعية غير المألوفة في حلق الريح تتابع وبدت وكأنها تمعن في إحراج آل الزيتوني وتعاضد نبوءة التاقزة مسعودة أبو طلاق، فلم يمض شهر حتى فوجئ الناس بحدث آخر كان أكثر غرابة من الحدث الأول (...)))صـ79، كان من الواجب أن يترك الراوي لنا أن نفهم قضية إحراج آل الزيتوني، لكنه يفرضها علينا فرضا هنا، لكي يجعلنا نتخيل مقدار ما يشعر به آل الزيتوني من حرج، لكن مع اقتراب الرواية من نهايتها، تبدأ أنماط التأويل التي يفرضها الراوي على المتلقي في التصاعد، وفي التأكيد على المفارقة التي حدثت في مسيرة تاريخ الريحيين بقيادة ((أبي سليمان الأعرج)).
تأمل مقولة الراوي التالية: ((فكانت تلك المرة الأولي التي ينادي فيها سليمان الأعرج بهذا اللقب الذي يجمع بين إمارة حلق الريح ومدينة البحر، ولعل ذلك كان وعدا من حميد بن زيغون باشا مدينة البحر أوحى به إلى شوق فنطقت به أمام سليمان الأعرج)) صـ126، كيف يمكن فهم كلمة لعل هنا، لماذا يلقيها الراوي، وماذا يريد منها، ولماذا يتدخل في تفسيرنا للأحداث، فلنتأمل أيضا المقولة التالية: (((...) وتضاربت الروايات حول أول فيلق استطاع اجتياز باب المدينة والدخول إليها، فبعضها تقول بأن أول فيلق دخل المدينة من بابها الشرقي وهو الفيلق الأول الذي يحمى هودج غزالة الكيلاني بوعمود، وبعض الروايات تقول هودج خود الساعدي (...) وبعض الروايات الآخرى تقول أنهما عبرا المدينة في وقت واحد، بينما تأخر الفيلق الثالث، لكن رواية رابعة وهي المعتمدة في تاريخ مدينة البحر المكتوب، تقول أول فيلق اقتحم المدينة عنوة هو الفيلق الثالث وأن أول زغرودة ريحية انطلقت داخل أسوار المدينة، كانت هي زغرودة شوق الزيتوني (...)))صـ130-131.
لكن ألم تخبرنا الرواية بأن التاريخ المكتوب لمدينة البحر نفى كل ما يتعلق بالريحيين، كيف أبقى على هذه إذن، ومن ناحية أخرى، ما العامل الجوهري في اختلاف الروايات حول أي الهوادج هي التي دخلت أولا، وبما نفسر مقتل ((خود)) و((غزالة)) عند دخولهما، بينما نجت ((شوق))، ألا يتم الضغط على عملية التأويل هنا لصالح أشياء معينة، على أية حال، سوف نجد التأويل يأخذ أشكالا من الضغط على زرع الحيرة لدى القارئ حول تصرفات ((سليمان الأعرج))، دون تقديم مبرر لذلك، ((فسليمان)) الذي أصر على أن يتزوج ((خود)) و((غزالة)) حتى لا يحدث شقاقا في الصف الريحيي، يعجب ((بجنات بنت زيغون)) المتزوجة، فيقوم ((عبد الحميد بن زيغون)) بتطليقها من زوجها وتزويجها من ((سليمان))، ولا يعترض أحد على هذا الصنيع ذي المؤشر الخطر لبداية تطور جديد في شخصية ((سليمان))، عهد أعرج بكل معنى الكلمة، ومع تحول الريحيين لحياة المدينة، واستبدالهم زوجاتهم بزوجات حضرية، كل ذلك يمر بعجالة شديدة من الراوي، لا يتوقف أمامه كما هو المعهود من تدقيق وتحقيق كالذي كان في أول الرواية، ويتصاعد خط الانحراف في شخصية ((سليمان الأعرج)) إلى أقصى درجة عندما يلغي منصبي مشايخ الريحيين، والقبول به شيخا وأميرا لهم جميعا.
ومن منظوري فإن حدث مثل هذا هو على قدر كبير من الأهمية عن قضية مثل قضية مَن دخل قبل مَن إلى مدينة البحر، أو غيره مما توقف أمامه الراوي سابقا لكي يحلله، ولكي يستكنه اختلاف الروايات وانطباعات الريحيين حوله، أما في هذا الموقف فإنه يتم تنميط عملية التأويل لدى القارئ بالضغط على وعيه بالمقولة التالية: ((ونظرا لبلوغ سليمان الأعرج مرتبة قريبة من مرتبة الأنبياء وأنصاف الآلهة بعد أن حقق حلما راود كل أجيال الريحيين السابقة وعجزت عن تحقيقه وهو هزيمة الترك فلم يعارض مشايخ الريحيين قراره بإلغاء هذين اللقبين الذين يعدان من أقدم وأعلى الألقاب عند الريحيين))صـ135، يكتفى فقط الراوي بهذا التعليق، لماذا لا نجده هذه المرة يبحث في أعماق الشخصيات، ودواخل النفوس، وما دار من حوارات داخلية وخلافه، أيعقل أن حدثا بمثل هذه الخطورة ـ المعقولية هنا من منظور القصة نفسها وليس من منظور القارئ الخارجي، من منظور منطق السرد نفسه ـ يمر هكذا دون إثارة حقد أو ضيق في نفوس مشايخ الريحيين، أم أنهم استسلموا لحياة الدعة واللين في مدينة البحر، أم هو الخضوع الكامل لسلطان ((سليمان الأعرج)) وعدم القدرة ــ القدرة الداخلية للأشخاص نفسها ــ على الخروج من تحت طوعه، ولكل من هذه التفسيرات معان خطيرة، وماذا عن التفسيرات والاحتمالات الأخرى التى ربما تكون ممكنة لهذه الظاهرة، ولم تخطر لنا على بال.
على أية حال، في نهايات الأحداث السردية يحدث الكثير من المفارقات بين الأسس والمنطلقات الأولى التي انطلقت منها محاربة الريحيين من أجل مدينة البحر، والتي هدفها الأساسي إزاحة سلطان الأتراك عن هذه المدينة، وتطهيرها من النصارى الذين يستقبلهم الترك في المدينة، ويقبلون لهم بوجود سفارات وقنصليات وغيره، ينتهي ذلك بالتحالف مع النصارى من أجل تجنب خطر ضربات الأسطول التركي، أي ما بدأ به الأمر، ينتهى بما هو أكبر منه، وهو ما يمكن الاختلاف حوله وفق هذه المنطلقات، هل هو نصر أم هزيمة ((لسليمان الأعرج))، الذي تستمر شخصيته في التغير تماما بعكس ما بدأ به من قناعات، لقد قبل مقولة ((حميد بن زيغون)) التي قال فيها: ((أيها الأمير، إن الرعية كالطفل تلاقيها أمور كثيرة لا تعرف ما يضرها منها وما ينفعها، ولذا فقد اصطفى الله لهم أولي أمر منهم، وأمدهم بفيض من عنده، لكي يختاروا ما هو أنفع لرعيتهم ويحملونهم على السير في الطريق الأقوم ولو على كره منهم))صـ136، وهنا مرة أخرى يصمت الراوي ويتوقف عن التدخل في نفوس أشخاص روايته، لكي لا يحكى لنا ما دار في نفس ((سليمان الأعرج)) من أفكار دفعته إلى قبول هذه المقولة، وهو الذي استمد شرعيته من هذه الرعية، وكان يعمل بكل الطرق على كسب ودها في السابق، أليس هذا أمر أخطر من قضية عدم زواج ((قمر))، أو اتهام ((مراد)) في نسبه أو هيبة آل الزيتوني، أو غيره مما توقف الراوي من قبل أمامه وحاول استجلاءه، أم أن الراوي ليس لديه مبرر لما يحدث هنا أصلا، أم أنه يريد دفعنا نحو تأويلات معينة.
وفي مواجهة هذا الصنيع نجد مشايخ الريحيين يهبون للوقوف في وجه ((سليمان الأعرج)) لأول مرة، لم يعترضوا على إلغاء منصبهم، ولكنهم يرغبون الآن في الاعتراض على الصلح مع النصارى، ذلك الصلح الذي من الطريف أن ((سليمان الأعرج)) نفسه سيكتوى منه، وهنا نجد ((سليمان)) يقول: ((إنني لا أسمح لأحد أن يدعى له الحق في مطالبتي بتفسير ما أقوم به من تصرفات وأفعال لإدارة الأمة )) صـ139، ويمض بعد ذلك في تسويغ قراره للناس في خطبته في يوم الجمعة بقوله: ((إنها ليست مولاة للكفار ضد المسلمين، فالأتراك ظلمة باغون يريدون العودة إلى مدينة البحر بعد أن طردناهم (...)))صـ140، ولم تنجح محاولات الريحيين في الوقوف في وجه ((سليمان))، ومضى الأمر، وهو ما انتهى بزوجة ((سليمان الأعرج)) بأن تمارس الرذيلة مع أحد هؤلاء النصارى، وهو ما أدى إلى مرض ومقتل ((سليمان)) نفسه في النهاية، بل مقتل زوجته نفسها من قبل أخيها ((عبد الحميد بن زيغون))، وهنا يتبين أن مسمى ((زيغون)) هذا له تناص مع بعض المعطيات الموجودة في أرض الواقع، خاصة مع استيلاء بنى زيغون على حكم مدينة البحر، وهو الحكم الذي ما كان لهم أن يصلوا إليه لولا مجموعة الأحداث الطويلة التي شارك فيها الريحييون أنفسهم، وكان لهم دور في تسلط بني زيغون عليهم، هؤلاء العالة المتسلقون.
من ناحية أخرى، يبدأ آل زيغون في ممارسة عمل له مؤشرات خطيرة على عملية السرد نفسها، وهو محاولة محو تاريخ الريحيين تماما من الوجود، والتشكيك في ((سليمان الأعرج)) نفسه وتحويله لأحد قدماء بني زيغون أنفسهم، وهو ما يعد إمعانا في إثبات أحقيتهم في الملك والحكم من ناحية، ونفيا لجهود الريحيين من ناحية ثانية، وإثارة التساؤلات حول عملية السرد نفسها من ناحية ثالثة، أنظر لتلك المقولة: ((يقول التاريخ المكتوب لإمارة بني زيغون: إنه في الواقع لم يوجد في أي يوم من الأيام فيما تقدم من الزمان شخص يدعى سليمان الأعرج ولا قوم يدعون بالريحيين أو مكان اسمه حلق الريح، فكل هذا في الأساس هو محض خرافات وتسميات لواقع آخر مخالف تماما، فسليمان الأعرج لم يكن في الحقيقة سوى عبد الله بن زيغون الأكبر، ذي النسب الشريف ومؤسس الدعوة الزيغونية المناوئة للأتراك في مدينة البحر.))صـ155، وإذا ما كان التاريخ المكتوب يؤكد على عدم وجود هؤلاء الريحيين، فكيف تم التأكيد على وجودهم في التاريخ الشفهي، وماذا يمثل هذا التاريخ بالضبط، أهو ذاكرة الريحيين، أم الذاكرة العربية كلها التي نجح الكاتب في وضعنا في داخلها والابحار فيها متحررين من أسر الواقع، مستبصرين بحال الأمة كلها، بما تعيشه من صراع مع هويتها من ناحية، ومع الأمم الأخرى من ناحية أخرى، إن ما في الرواية أكبر من محاولة إفراز تعبير فني عن أحداث تاريخية يؤولها المؤلف بعين الفن والأدبية محلقا في سماء الخيال، إنها مخاطبة لوعي ولاوعي الأمة العربية لكي تستفيق وتستفيد بما هو مخزون في تاريخها من عبر وقيم ضاعت مع مر الزمن، وما أدل على ذلك من الخاتمة التي يقول فيها الراوي: (((...)غير أن سليمان الأعرج لم يكن هو الأعرجي الأخير، فنسل آل الآعرج باق إلى يوم القيامة، أما دعوة الأعرجي المنتظر فلا بد أن تسبقها علامة كبيرة في الكون وهي ظهور دولة اليهود التي تنتصر راياتها وتصل حدودها إلى ضريح سيدى الكوني بودومات في حلق الريح، وعندها يحل موعد مجيء الأعرجي المنتظر ويأتي زمانه فيعود إلى حلق الريح فيهزمهم ويعيدهم من حيث أتوا ويعز به الله الريحيين فتخفق راياتهم ويصبحون هم الأعلون..))صـ159.
ألا يكشف هذا النص الأخير الكثير من ترميزات الرواية من ناحية، وبالتالي هو يساعد في فك شفرتها، ويوجه التأويل إلى فهم معين، وأطر معينة من ناحية أخرى، وهو ما أكدت عليه في دراستي هنا، التي حاولت فيها فك شفرات هذه الرواية، ودراسة ما بها من أنماط تأويلية.