التغريب في العالم الآخر «لنجيب محفوظ»
تكمن فاعلية «نظرية الأدب» المعاصرة في كونها تمد الناقد بمفاهيم واستبصارات تُيسِّر له التعامل مع «النصوص الأدبية»، فتمكنه من الوصول إلي فهم أعمق حول هذه النصوص، وحول «الأدبية» التي عن طريقها يتم إنتاج «الأدب» ذاته. وفيما أرى فإن «نقدنا العربي» ــ لظروف ليس مجال ذكرها هنا الآن ــ لم يتح له بعد الاستفادة من معطيات «نظرية الأدب» بما يتناسب مع ما فيها من خصب وغني؛ وبهذا فإنه علي النقاد أن يعملوا علي تعميق الاستفادة من معطيات «نظرية الأدب» من ناحية، وعليهم أن يعملوا علي ترسيخ مفاهيم هذه النظرية بكيفية تُمَكِّن القارئ العربي من التجاوب معها، ومن الاستفادة منها في قراءته وتعامله مع النصوص الأدبية من ناحية أخرى. وفي هذا الصدد تأتي هذه الدراسة واضعة في خلفيتها هذه المنطلقات؛ لذا أحاول فيها العمل علي تبيان أحد المفاهيم الهامة في «نظرية الأدب»، ليس من خلال الشرح فحسب؛ وإنما من خلال تقديم تمثيل تطبيقي في نص أدبي أري أن أكثر ما يميزه هو التأكيد علي «التغريب» أكثر من أي شيء آخر.
و«التغريب» أحد مفاهيم «الشكلية الروسية» الهامة التي قال بها (فيكتور شكلوفسكي)؛ حيث يرى أننا مع مرور الوقت يحدث عندنا نوع من «الألفة»، بيننا وبين كل ما هو حولنا، كالعمل أو الثياب أو الزوجة أو حتى الخشية من الحرب، ليصبح ذلك مُرسخا في «اللاشعور»؛ لذا هو يحدث بطريقة «تلقائية» تماما، ويكاد «المعني» في ظل ذلك يضيع منا جرَّاء هذا «الاعتياد»، فنحن مثلا نكمل الكلمات الناقصة في حوار ما نتيجة هذا "الاعتياد" المفرط، دون أن نلتفت إلي أن هناك نقصا في "المعني" المُقـَدَّم. وهنا يأتي دور "الأدب" الذي ينبهنا إلي هذا "الاعتياد"، ويعيد إلينا وعينا وإدراكنا بالأشياء علي حقيقتها، من خلال ما يقوم به "الأدب" من عملية أطلق عليها (شكلوفسكي) مصطلح «لتغريب»، وهو نزع «الألفة» الاعتيادية التي أصبحت موجودة بالفعل بيننا وبين الأشياء، عن طريق جعل هذه الأشياء مُدرَكة وملحوظة بكيفية مغايرة، ليست "آلية" وليست "اعتيادية" كما كان الحال في السابق. [1]
ومن خلال القراءة النقدية التي أقدمها هنا سوف أعمل علي تبيان الكيفية التي يسهم بها "التغريب" في بناء النص السردي، وأول ما يجدر ملاحظته في هذا الصدد أن "العالم الآخر" ضمن مجموعة "شهر العسل" ((لنجيب محفوظ))، تقدم لنا نماذج لشخصيات تتوافر في الحياة بكثرة، فهناك المناضل الوطني، وهناك البلطجي، وهناك الراقصة، وهناك المعلمة القوادة صاحبة القهوة. وكلها شخصيات نمر بها في الحياة دون أن نلحظ المعاني الحقيقية العميقة وراء تواجد مثل هذه الشخصيات في الحياة.
ومن ثمَّ علي "الأدب" طبقا لمفهوم "التغريب" أن يعمل علي تنبيهنا لهذه المعاني الكامنة التي ضاعت عبر الاعتياد والألفة في زحمة الحياة؛ لذا تم تقديم هذه الشخصيات في سياقات تخالف السياقات التي اعتدنا عليها في الحياة نفسها، فبدلا من سياق الحفلات والطرب والصخب والمرح الذي نستحضره دائما عند ذكر الراقصة، يتم التركيز علي سياق آخر، هو سياق استعداد هذه الراقصة أثناء البروفات لكي تتمكن من تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح في المساء، وفي أثناء ذلك يتم التركيز علي السخط من قبل "المعلمة القوادة" علي ما تضطر إليه في هذه المهنة التي مآلها إلي جهنم، من تقديم رشاوى تبدد ما تجمعه من المكاسب الحرام.
صورة مفارقة لما في الوعي البشري، لكنها صورة ليست بعيدة عن طبيعة الأمور التي تحدث في الحياة العادية أيضا، وبهذا يمكن القول أن بداية هذه القصة تصوغ سياقا خاصا بذاته هو سياق حياة الراقصات وما ينطوي عليه من مفارقات. لكن "التغريب" يستمر في العمل عبر تصاعد أحداث القصة فيتم صياغة سياق آخر، وهو سياق المناضل الوطني، ذلك الطالب الثائر الذي تستحضر صورته في ذهننا المظاهرات والإضرابات والاعتصامات والمواجهة مع الشرطة وغير ذلك؛ لكن هنا يتم اقتطاع هذه الصورة من سياقها؛ لتقديمها في سياق آخر، فيحدث لقاء بين سياق المناضل وسياق الراقصة؛ فبينما كان هذا المناضل الطالب يمر علي المحلات والمقاهي من أجل مطالبتهم بالإضراب بالغلق احتجاجا علي الغاء دستور الأمة، وبينما هو يمر علي مقاهي شارع كلوت بك، يرى هذا المقهى ومن ثم يتوجه إليه مطالبا إياه بالمشاركة في هذا الإضراب.
وبالطبع لا يتوقع من معلمة قوادة أن يكون لديها حس وطني، فترفض المشاركة في هذا الإضراب، وتصور القصة المناضل هنا بشكل به نوع من السذاجة، فيبدو غير قادر علي فهم طبيعة هذه القهوة بما فيها من دعارة وفجور، لكن نمط "التغريب" هنا يتصاعد عندما يفاجأ المناضل بمقابله شاب آخر كان علي علاقة به فيما سبق، وهذا الشاب علي ما يبدو كان زميلا معه في الدراسة والوطنية أيضا، قبل أن يهجر ذلك كله لكي يعمل كحارس خاص بمفهومنا الحديث، فتوة بمفهوم ذلك الوقت عند هذه المِعلمة، ومن ثم يدعو هذا الشاب زميله المناضل إلي الجلوس والتسامر معه، وفي تلك الأثناء يحدث تعاطف من المناضل مع الراقصة التي يقدمها له زميله الشاب مقابل مبلغ مادي زهيد، وكما هو متوقع من طبيعة هذا المناضل النبيلة يرفض إقامة علاقة جنسية مع الراقصة ويدفع المبلغ المادي المطلوب دون أن يمارس معها الرذيلة.
وفي تلك الأثناء يحدث حوار بين المناضل وزميله الشاب الفتوة حول طبيعة الفارق بين العالم الذي جاء منه المناضل والذي يعيش فيه الشاب، وتكون النتيجة أن العالمين متشابهين إلي حد كبير، فكلاهما بهما الطاغية وبهما القهر والحزن والبؤس، بل ربما بدا عالم الراقصات أفضل لأن به إمكانية للتغيير إذا ما استطاع هذا الشاب التغلب علي الفتوة الأكبر منه، بينما عالم المناضل يكاد يكون قدرا محتوما فيه عدم التغيير وعدم انزياح الظلم منه.
والسمة الملاحظة هنا أن "التغريب" في هذه القصة يحدث بكيفية تصاعدية، حيث يتم الضغط علي إدراكنا الواعي لحقيقة الأمور بالتدريج، ولكي أؤكد ذلك أطالب القارئ بتخيل لو أن المناضل ما إن لم يجد استجابة من المعلمة قد رحل ولم يعر هذا العالم الغريب كل هذا الاهتمام، كيف يمكن عندئذ تخيل باقي أحداث هذه القصة، وكيف يمكن تخيل تأثير ذلك علي إدراكنا نحن للعالم الذي تقدمه القصة، ومن ناحية أخرى ماذا لو خرج المناضل عن سمته النبيل وتم تصويره باستغلال فرصة الدعارة هذه واغتنم اللذة من هذه الفتاة، هل كنا سننظر إلي هذا العمل بالطريقة نفسها التي ننظر بها الآن. وسوف يتضح أهمية مقصدي بشكل أكبر عند إكمال هذه القراءة.
إلي الآن إذن هناك سياقان متوازيان قام العمل الأدبي بخرق هذا التوازي والعمل علي تلاقيهما، لكن الأمر يصل إلي أوجه عند تقاطع هذان السياقان بسياق ثالث هو سياق الفتوة الأكبر ذلك الذي يفرض الإتاوات علي جميع من هم بهذه الحارة، وهذه الإتاوات مادية وعينية، فهو في كل مرة بعدما يحصل علي المبلغ المادي، يأخذ معه أجمل فتاة من فتيات المِعلمة القوادة لكي يستمتع بها، ولا تعود هذه الفتاة إلا مع الفجر، والمأساة بالنسبة لصاحبة القهوة أن ذلك يمنع إمكانية تحقيق أكبر مكسب مادي من جسد هذه الفتاة، وبالنسبة للفتاة المأساة أنها لا تحقق الربح المطلوب بالنسبة لها، لكن كل ذلك أمور أصبحت في هذا العالم الغريب ذاته أمورا اعتيادية، ومن ثم يتم خلخلة هذا النظام عن طريق احداث تصادم بين السياقات المختلفة.
كانت الوسيلة الأولي لإحداث هذا التصادم إدخال الشاب المناضل إلي عالم الراقصات، والكشف عن وجود علاقة صداقة قديمة بينه وبين فتوة صاحبة القهوة، والكشف عن أن نمطا من الفلسفة إلي حد ما يحكم رؤية أفراد هذا العالم، لكن مع تعلق المناضل بالفتاة وفي مقابل ذلك وفاة الفتاة مرة واحدة يحدث رجة في إدراكنا للأمور، فعلي الرغم من التعاطف الذي يثيره في نفوسنا طريقة موت الفتاة، تتولد مشكلة أخرى هي الأعقد والأعمق علي مستوى مسيرة القصة مترتبة علي وفاة الفتاة.
فأولا لا يمكن الكشف عن وفاة الفتاة في ذلك التوقيت لعدة اعتبارات، منها أنه ما من أحد من راغبي المتعة سيجئ ثانية إلي مقهي به موت، وثانيا الإعلان عن موت الفتاة سوف يدعو إلي تدخل الشرطة والطب الشرعي، وثالثا ذلك الفتوة الذي يطالب بهذه الفتاة بالليل، ولن يصدق بأن الفتاة ميتة، ومن ثم سيحاول هو وأفراد عصابته اقتحام المنزل لكي يتأكد من ذلك، وفي مقابل اقتحامه للمنزل علي ذلك الشاب أن يصد هذا العدوان الذي لا قبل له به، وربما يموت في هذه المحاولة، وبالتالي يصبح الشاب فتوة صاحبة القهوة علي موعد مع الموت بعد لحظات قليلة، والطريف أن المناضل أيضا علي موعد مع الموت في اليوم الثاني عند خروجه في المظاهرة التي يدعو إليها.
وبالطبع هناك حل أسهل من ذلك كله بالنسبة للشابين، وهو التخلي عن ذلك كله والمسالمة مع الحياة، والقصة تفتح لنا إمكانية حدوث ذلك في الحوار الذي يدور بين الصديقين والذي يحاول فيه المناضل أن يقنع زميله الفتوة بالتخلي عن ذلك كله وبالرحيل، ولكن في تحد غير عادي يصر الفتوة علي الالتزام بأخلاقيات مهنته التي قد تؤدي في النهاية إلي وفاته، إن "التغريب" هنا يعمل عمله بغلق إمكانية التراجع والعودة في معتقدات وقيم الشخصيات، فما من سبيل لتغيير هذه المعتقدات، ومن ثم ينبهنا العمل الأدبي في هذه الحالة إلي ضرورة إعادة النظر حول من يقتنعون بما يعتقدونه اقتناعا قد يؤدي إلي فقدان حياتهم، حتى لو كان ما يقتنعون به هو غير صائب من الناحية الأخلاقية أو الفكرية.
وفي النهاية تصير كل شخصيات القصة إلي قدرها المحتوم بالبؤس والشقاء، ولو أننا تساهلنا قليلا مع المنظور الأخلاقي سوف نجد أن في كل شخصية من هذه الشخصيات جانبا من النبل والعزة والتصميم، فكل يؤدي دوره طبقا لمعتقداته التي لا يقبل أبدا أن يغيرها، ومع مجيء الشرطة في نهاية المعركة نصبح أمام مفارقة حقيقية، وهي مفارقة أن الرجل الذي هو علي موعد مع مواجهة الشرطة في الغد، يجد نفسه قد تورط في أحداث إجرامية جلبت له الشرطة إلي عنده، وفي وضع ليس مشرفا بالنسبة لمسيرته الوطنية؛ لذا كان تعليق ضابط الشرطة المثير للسخرية والأسى في نفوسنا: ((ما شاء الله ! .. تشعلون الفتنة في البلد وتهرولون إلي المواخير!))، منبعه الحقيقي معرفتنا بالأحداث القهرية التي لا دخل لهذا المناضل بها، دون إمكانية معرفة هذا الضابط داخل هذه القصة بما حدث فعلا، وبالتالي تنتهي أحداث القصة بالتأكيد مرة أخرى علي ما بها من "تغريب" لأحداث الحياة العادية، فتجعلنا نتأمل مقولة هذا الضابط في إطار ما تم صياغته من سياقات مختلفة تقاطعت رغم توازيها، فأدت إلي تنبيهنا إلي خطورة ما في هذه السياقات من معاني صرنا لا نشعر بخطورتها ومقاصدها الحقيقة في ظل الألفة والاعتيادية التي تلازمنا في حياتنا.
وبعد تقديم هذه القراءة أعتقد أنه قد وضح جليا مقدار ما في "نظرية الأدب" من مفاهيم واستبصارات بها الكثير من الإفادة لأدبنا ونقدنا العربيين، وقد وضح أنه ما يزال هناك الكثير مما يمكن الاستفادة منه في قراءاتنا للأعمال الأدبية المختلفة باستخدام "نظرية الأدب"، فإلي مزيد من هذه القراءات والإفادات أدعو نقادنا العرب لتقديمها، وأدعوهم أيضا إلي التحاور حولها ومعها.