«الشــفـرة» في رواية (ليلي أنطون)
علي الرغم من أن مصطلح "الشفرة" من المصطلحات ذات الأهمية الخاصة في "نظرية الأدب المعاصرة"؛ إلا أنه ما يزال مصطلحا غائما ومجهولا بالنسبة للكثيرين من القراء العرب، خاصة القراء غير المتخصصين في "الأدب" أو في "النقد المعاصر"؛ وهو ما يفرض علي هذه الدراسة تقديم تعريف بمصطلح "الشفرة"، قبل المضي في الحديث عن رواية ((ليلي أنطون)) لمؤلفها ((نائل الطوخي)) [1]. مع الأخذ في الاعتبار أن التعريف الذي سوف يقدم هنا هو علي درجة كبيرة من التبسيط؛ وذلك لكي يتلاءم مع هدف تبصير أكبر قدر ممكن من القراء بالمعني العام لهذا المصطلح.
والذي يدفعني إلي القيام بهذه المحاولة، هو اعتقادي بأنه من الواجب القيام بمحاولات تهدف إلي إخراج "نظرية الأدب المعاصرة" من دروبها السرية والنخبوية التي تسير فيها منذ فترة، إلي علنية التواصل والتلاحم مع جموع القراء؛ وذلك حتى يتسنى للقراء التعرف علي ما تقدمه "نظرية الأدب المعاصرة" من إضاءات واستبصارات عظيمة الفائدة حول "الأدب"، وحول "الأعمال الأدبية". ولا شك أن ذلك سوف يكون له أثر كبير علي تعاملهم مع "النصوص الأدبية" بعد ذلك، وهو ما يسهم في ايجاد اسهام نقدي عربي يمكن من وضع نظريات واطروحات عربية تستبصر بما في العالم من نظريات، وتراعي احتياجاتنا الأدبية الخاصة.
وعودة إلي مصطلح "الشفرة"، لقد قدم ((حوناثان كولر)) تعريفا فريدا حقا لهذا المصطلح في كتابه "الشعرية البنيوية"، يقول: ((إن الشفرة هي مجموعة من الموضوعات أو المقولات المستمدة من منطقة بعينها من مناطق الخبرة، والتي تتعالق علي نحو يجعل منها أدوات منطقية تفيد في التعبير عن علاقات أخري)) [2]. إذن "الشفرة" هي استخدام مجموعة من الترميزات المستمدة من مخزون الخبرة الموجود سلفا في "المؤسسة الأدبية"، من أجل تقديم "رسالة" معينة، يعمد "الأدب" إلي إيصالها للقراء بشكل غير مباشر عادة، وهي احد أهم مصادر المتعة في الاعمال الادبية.
وفي مقابل ذلك، فإن العملية التي يقوم بها القارئ عند قراءته للأعمال الأدبية، هي عملية "فك" لهذه "الشفرة". إذن "الشفرة" هي مجموعة من المعايير والعناصر التي توجد في بنية العمل الأدبي ذاته، وهذه المعايير تتحكم بدرجة كبيرة في تأويل المعني عند المتلقيين، وهو ما يعني أن الكشف عنها أمر له أهميته وخطورته، وذلك هو سر الاهتمام "بالشفرة" في "نظرية الأدب المعاصرة".
ومن المهم هنا ملاحظة أن فكرة "الشفرة" تتعلق بنظرة تقوم علي اعتبار أن هناك "رسالة" معينة يرغب "المرسل" ــ المؤلف هنا ــ، في إيصالها إلي "المرسل إليه" ــ القارئ ــ، وبدلا من أن يقوم المؤلف بإعلام القارئ بالمحتوي الذي يرغب في إيصاله إليه بشكل مباشر وواضح، يقوم بصياغة "الرسالة" علي نحو لا تكون فيه واضحة تماما، وإنما تكون غامضة وملغزة إلي حد ما، أي تكون "الرسالة" في هذا التواصل "مشفرة"، ويلزم القارئ لكي يتمكن من فهم "الرسالة"، ومن الوقوف علي محتواها، يلزمه القيام بعملية معاكسة لعملية "التشفير" التي قام بها المؤلف من قبل، أي يلزمه القيام بعملية "فك الشفرة" التي تم ترميزها في بنية العمل الأدبي، وذلك من خلال هذه البنية نفسها [3]
وبعد هذا العرض المبسط، فإنه من الممكن الآن توضيح أن هذه الدراسة تدور أساسا حول "تقنيات الشفرة"، و"آلياتها" المستخدمة في رواية ((ليلي أنطون))، وذلك نظرا لما تمتاز به "الشفرة" في هذه الرواية من حضور وتأكيد قوي، بحيث يظهر وكأنه لا يتم التأكيد علي أي شيء في ثنايا النص، إلا علي "عملية التشفير"، وعلي "تقنيات الشفرة" نفسها، أما عنصر "الرسالة"، العنصر الذي من المفترض أن "الشفرة" تحمله بشكل متوار ضمن ترميزاتها، هذا العنصر لا يولي له النص القدر الكافي من الأهمية والتوضيح، بل الأغرب من ذلك أن هذه الرواية تعمل في الحقيقة علي نفي عنصر "الرسالة"، وتأكيد استمرارية هذا النفي أيضا، وفي المقابل تعمل علي تأكيد وجود واستمرارية عملية "التشفير".
يتبدى ذلك منذ العنوان في هذه الرواية، فأولي التقنيات التي تقابلنا هي عنونة الرواية باسم ((ليلي أنطون))، وعنونة الرواية بهذا الاسم تثير في ذهن القارئ تداعيات توجهه نحو تساؤلات مثل: من هي ((ليلي أنطون))؟ ما هي سماتها؟ لماذا جعلها المؤلف تتصدر العنوان؟ ما علاقتها بأشخاص الرواية وببنيتها؟ هل من أشخاص آخرين معها؟ وهل هم علي قدر أهميتها؟ أم أن أهمية ((ليلي أنطون)) أهمية ثانوية في النص أصلا ؟ وهكذا.
ومن الملاحظ أن كل هذه التساؤلات، تتوجه إلي تأكيد وجود وحضور هذه الشخصية في العمل أساسا، وذلك ما أدى إليه التأكيد عليها في عنوان الرواية، وبالطبع سوف يحاول القارئ التوصل إلي إجابة لهذه الأسئلة من خلال قراءة الرواية، وكلما أحس بأنه لا يحصل علي إجابة واضحة، أو أن الإجابة ليست وافية بعد، كلما توغل أكثر في قراءة النص، وذلك في إطار استغلال المؤلف لعامل الغموض والإدهاش، الذين يعملان عملهما في جذب القارئ للنص.
ومن المفيد توضيح أن القارئ كلما توغل في داخل أعماق النص، يقوم بإسلام ذاته "لمنطق النص"؛ وذلك لأن أي عمل أدبي له "منطقه" الخاص الذي يعمل وفقا له، وهذا أساسي في "عملية التشفير"، وهذا المنطق ــ بتعبير الدكتور صلاح السروي ــ هو منطق "بذرة"، يغرسها النص في نفس القارئ، وتنمو هذه "البذرة" كلما مضى القارئ أكثر في قراءة النص؛ لكي تؤتي ثمارها فيما تتركه لدي القارئ من انطباعات حول ما قرئ. وتقبل هذا المنطق وتمثله من قبل القارئ، له دور كبير في مجريات "عملية التأويل" التي يقوم بها القارئ عند قراءت للنص تجاه النص.
لكن "إسلام الذات" هذا، لا يتم بكيفية مجانية في الحقيقة، فأولا علي القارئ أن يحاول تقبل هذا "المنطق"، ثم علي هذا "المنطق" بعد ذلك أن يقنعنا بنفسه من خلال آلياته، ومن خلال طريقة عمله في النص، وذلك هو ما يضمن تماسك العمل الأدبي، ويضمن سلامة "بنائه"؛ إذ علي هذه "البذرة" التي سمحنا لها أن تنبت في عقولنا، عليها أن تنمو بشكل سليم، وليس بشكل سقيم به تناقض أو تنافر، قد يجعلنا عاجزين عن تقبلها حتى من منظور "منطقها" هي ذاتها.
ولنبدأ بإتباع مبدأ "إسلام الذات" لمنطق العمل الأدبي في هذه الرواية، والطريق إلي ذلك ــ من منظوري ــ في هذا العمل، هو بمحاولة الإجابة عن السؤال التالي: من هي ((ليلي أنطون)) كما تبدو في هذه الرواية؟ ونتلقى أولي الإجابات عنها منذ الصفحة الأولي من العمل [4]، كما أن الحديث عنها لا ينقطع في كل صفحة ن صفحات النص تقريبا، وهو ما يعني أنها شخصية جوهرية في العمل، أو علي الأقل هكذا يريدنا المؤلف أن نتوهم في هذه المرحلة الباكرة من التعامل مع النص.
فلننظر إلي الكيفية التي يتم بها تقديم هذه الشخصية، إنه وفي أسلوب خبري تقريري يتم التأكيد علي أن جميع اللذين رأوا هذه الشخصية لم يتيقنوا من وجودها، بل إنهم يراودهم شك كبير في أنهم رأوها فعلا، ولا نعرف لماذا؟ و لا يجيب لنا النص عن ذلك. وعلي الرغم من كون هذا التأكيد علي غموض هذه الشخصية يعطي لها طابعا هلاميا منذ البداية، إلا إنه يؤكد كذلك علي الوجود الفعلي لها، علي الأقل وجودها كشخصية فاعلة في داخل بنية هذا العمل، لكن ما يُقـَدَّم من تعريفات حولها بعد ذلك، يعمل بكيفية تحدث اضطرابا شديدا في الصورة التي يمكن أن يتخيلها القارئ عن هذه الشخصية، ومرد ذلك مجموعة الأوصاف الغريبة التي يتم تقديمها عن هذه الشخصية.
لنراجع معا هذه الأوصاف؛ فمبدئيا من أوصافها أنها لديها نقود في خمسة بنوك عالمية [5]، ولديها ابنة يعلم الجميع بوجودها لكنهم يتكتمون الإشارة إليها، ويتكتمون التعبير عنها بلغة ما؛ خشية أن يؤدي هذا التعبير عنها ــ أي ذكر اسمها ((ليليان)) ــ إلي إحداث مشكلة حقيقية [6]، وهي امرأة تزوجت من خمسة رجال لكن زواجها هذا لم يدم طويلا [7]، والحديث يدور وكأنها تزوجتهم في وقت واحد وليس بالتوالي، ويؤكد ذلك انتحارهم أو قتلهم معا في حادث واحد، وبشكل يوحي وكأنهم يتلاوطون معا كما يُحكـَي فيما بعد [8]، وهي امرأة متوحشة متغولة مستفحلة [9]، وهي امرأة مراوغة كإخطبوط [صـ54]]، وهي امرأة تعيسة حزينة؛ لم تستطع قتل زوجها كما قتلت أزواجها الخمسة السابقين، فقد عجزت عن تقشيره كما قشرتهم من قبل، وما أدل علي ذلك من أنه مات مرتديا بدلته، أي مات وهو غير مقشر [10].
وكل هذه الأوصاف من الممكن تقبلها حتى الآن، ومن الممكن توظيفها في فهم طبيعة هذه الشخصية، التي ما من شك أنها شخصية مريضة وشريرة وسيئة أيضا، لكن عند النظر إلي مجموعة الصفات الأخرى التي يتم إعطائها عن هذه الشخصية فإن الأمور تضطرب كثيرا، فهي امرأة كانت موجودة في دليل التليفونات، ثم لم تصبح موجودة فيما بعد!!، إذ حل بدلا منها خمس ((ليليانات))؟!! [11]، وهي امرأة لا تغار من الشرر، وإنما تريد أن تأتي بمثله؟!! [12]، وهي ابنة ولدت من رحم شرر اندلع من جاكت تريكو في يد سيدة عجوز [13]، وهي بعد تفكير عميق منها في سر حنينها للكهرباء والصواعق، تعترف لنفسها ببنوتها لأمها الكهرباء، وتعبر عن حنوها علي أمها بعادة غريبة، تقف عارية حافية بعد أخذها دشا ساخنا، لكي تحك قدميها بالبلاط المبتل، وبالمفتاح الكهربائي، وبدلا من أن تشعر بصعقة كهربية حادة، تشعر بأنها تحصل علي حضن دافئ من أمها، حضن تصرخ بعده الابنة ببكاء شديد يعبر عن رغبتها في المزيد من هذا التعذيب الغريب، لكي تصرخ قائلة: "احضنيني يا ماما" [14].
كيف يمكن فهم دلالة هذه الأوصاف العجيبة حتى الآن، هل نحن بإزاء شخصية من شخصيات الكرتون التي تتحول إلي أشياء عجيبة، ما معني ولادتها من رحم شرر اندلع من جاكت تريكو في يد سيدة عجوز؟!!، ولماذا سيدة، ولماذا عجوز، أم تري هناك معاني ضمنية في هذه الولادة العجيبة أعجز عن الوصول إليها، ولو كان، فإن النص في هذه الحالة قد أخفق في الحقيقة إلي الإشارة إليها، وماذا لو استطعنا تأويل هذه المعجزة، فكيف سنفسر وجودها في الدليل ثم عدم وجودها لكي يحل بدلا منها خمس ((ليليانات))، وبماذا يمكن تفسير الرقم خمسة، وإذا كان من الممكن مثلا تحميل الرقم خمسة هنا مدلول القارات الخمس ــ علي الرغم من أنهم سبع ــ، وبالتالي يمكن القول بأن الحديث يدور عن صراع الحضارات مثلا، فما علاقة ذلك بعادتها في تعذيب ذاتها؟ وما هو المخرَج من عدم يقينية هذه الدلالات في ظل التلاعب النصي المقدم هنا؟
وأيضا ثمة إشكالية أخرى يثيرها النص بالنسبة لتلقي القارئ هنا، وذلك أن "شفرة" هذه الرواية لا تعمل من خلال مستوي أحادي، وإنما تتداخل مع مستويين آخرين، لكي يتشابك معا كل من: شخصية ((ليلي أنطون))، وسيرتها الذاتية الخاصة بها، وذلك باعتبارها مستوي أول وأساسي، مع المستوي الثاني الذي هو: تأليف رواية عن ((ليلي أنطون)) من قبل ((سعاد)) و((أمينة))؛ أي محاولة تأليف نص من خلال شخصيات يقدمها النص نفسه، ولا ننسي أن هذا النص يوهمنا بأنه مقدم أصلا عن ((ليلي أنطون))، وليس عن فعل الكتابة عن ((ليلي أنطون)) من قِبَل آخرين، ثم أخيرا يتداخل ذلك مع المستوي الخاص بكل من ((سعاد)) و((أمينة)) نفسيهما كشخصيتين سرديتين وردتا داخل الرواية نفسها، وإن كانتا ليستا هما الهم الأساسي للرواية كما يفترض.
هناك إذن ثلاثة أنواع من الأحداث، تلك الفعلية عن ((ليلي أنطون))، أو هكذا يفترض، ثم تلك التي تؤلفها كل من ((سعاد)) و((أمينة))، الاثنتين الوحيدتين اللتين قررتا الكتابة عن ((ليلي أنطون)) وظلتا علي قيد الحياة، ثم ما تحكيه لنا الرواية عن ((سعاد)) و((أمينة)) نفسيهما، وإذا كان النص لم ييسر لنا عملية التعرف علي شخصية ((ليلي أنطون))، وذلك سواء في النص الأصلي المفترض أنه مقدم من قبل الراوي الأساسي عنها، أو في ذلك المقدم من قِبَل ((سعاد)) و((أمينة))؛ فإننا نجد أنفسنا عند هذه الحالة مضطرين إلي الانتقال للمستوي الثاني من مستويات هذه الرواية، أي إلي مستوي التعرف علي ((سعاد)) و((أمينة)).
ولا بد هنا من ملاحظة أن عملية "التأويل"، بهذه الطريقة، تنسحب من مستوي إلي آخر دون أن تمسك بأي شيء يقيني بالنسبة لها، أي أن "الشفرة" هنا علي وشك أن تنغلق أمام "عملية الفك"، وعلي هذا فإنه من المتوقع ــ أو هكذا نتمنى ــ أن يكون هناك الكثير من الإجابات في المستوي الثاني من هذه المستويات المتداخلة، مع الأخذ في الاعتبار أنه ليس من المفترض أن يكون هناك شيء مجاني مقدم في النص، أي أنه من المفترض أن يكون للمستوي الأول دلالته الخاصة، التي عميت علينا حتى الآن، ومن المفترض كذلك أن يكون للمستوي الثاني دوره في إيضاح هذه الدلالة علي الأقل، إن لم يكن له هو نفسه أيضا دلالة خاصة به.
المستوي الثاني:
إن التعرف علي ((سعاد)) و((أمينة)) في نص الرواية، يبدأ عندما أرادتا معا وفي التوقيت نفسه، دون معرفة أي منهما بالأخرى، أو ((بليلي)) نفسها، أرادتا الكتابة عن امرأة متعبة ــ بفتح العين ــ، امرأة قاست وعانت في حياتها كثيرا، ثم أصبحت في النهاية مثالا للنجاح [15]، وهي رغبة ساذجة فنيا، تسير في الدرب التقليدي لخطي الروايات في عهد الإحياء، والتي كان يحرص مؤلفوها علي تقديم عظة أخلاقية للقراء، والعظة هنا: أن الصبر وتحمل المعاناة، يؤديان في النهاية إلي الوصول للنجاح، وعلي الرغم من أن هذه الرغبة الساذجة لا تتم علي النحو الذي أرادتاه كل من ((سعاد)) و((أمينة))؛ إلا أنني أتسائل: أينطبق أي من هذه الصفات علي ((ليلي أنطون)) بالطريقة التي قدمها لنا الراوي منذ الصفحات الأولي؟ بالطبع لا، إذن مشروعية ما أرادتاه ((سعاد)) و((أمينة)) تتعرض للنفي منذ البداية من خلال مصادرة الراوي علينا بما قدمه من صفات حول ((ليلي أنطون)) في البداية، ومن الملاحظ أن الراوي في هذه الرواية هو راو ديكتاتوري إلي أقصي درجة، فهو يفرض علينا فرضا المسار الذي نتوجه فيه في كل مرحلة من مراحل هذه المستويات، وهو ما سأوضحه لاحقا.
عودة إلي ((سعاد)) و((أمينة)) الآن، أعتقد أنه من الممكن أن نتلمس لهما العذر قليلا في اختيارهما لشخصية ((ليلي أنطون))، كممثل لما أرادتا الكتابة عنه، فهما في الحقيقة ليسا علي علاقة ((بليلي))، ولا يعرفان شيئا مما يعرفه الراوي عنها، فاختيارهما لها جاء باختيار اسم من دليل التليفونات، وبطريقة عفوية تماما، مدفوعتين في ذلك برغبة في "الكتابة"، وبرغبة في الحصول علي بهجة من هذه "الكتابة"، ولكنهما اكتشفتا بعد ذلك أنهما وقعتا في مزلق صعب، هو مزلق الكتابة عن ((ليلي أنطون)).
فالبهجة المصاحبة للرغبة الطفولية في بري القلم الرصاص، والحصول علي متعة شديدة من كتابة جملة جديدة في نص هذه الرواية، كل ذلك يتبدد مع مرور الوقت؛ لكي تكتشف كل من ((سعاد)) و((أمينة)) أن عملية "الكتابة" رغم متعتها الشديدة، ورغم أنها تكوي وتلسع ((ليلي أنطون)) علي جسدها دون أن تعلم ((ليلي)) بشيء من ذلك، رغم كل هذا، ليست عملية "الكتابة" بالسهولة التي توقعتا أن تكونها. وها هو النص هنا يتحول من الحديث عما هو مكتوب ــ أي عن ((ليلي أنطون)) ــ، إلي الحديث عن فعل الكتابة نفسه، وعما في هذه الكتابة من متاعب ومشاكل جمة.
لكن ثمة أمر محير هنا. إن ((سعاد)) و((أمينة)) قررتا الكتابة عن تلك المرأة في التوقيت نفسه، علي الرغم من اختلاف مكان إقامة كل منهما ــ الإسكندرية والقاهرة [16] ــ، وعلي الرغم من عدم معرفة أي منهما بالأخرى، وهما يتبعا الطريقة نفسها في اختيار اسم بطلة روايتهما، لكن الغريب هنا هو لماذا يتم ذكر هذه الأحداث أصلا؟ ولماذا يتم إعطاء هذه القيمة لدليل التليفونات كرافد أساسي "لعملية الكتابة" في توليد الأسماء.
وثمة شيء آخر غريب أيضا، فبعد مضي ثمانين بالمائة من النص الذي أنبني علي حقيقة أن اسم ((ليلي أنطون)) اسم تم أخذه من دليل التليفونات، تتفجر أزمة التشكيك في حقيقة كل ما تقدم وكل ما تم ذكره عنها، فكل ما تم تقديمه وتأكيده في السابق، يتم نفيه علي نحو مخاتل، إذ في الصفحة الرابعة والخمسين، تتذكر أمينة ــ التي استمرت بالكتابة، إذ استعصت الكتابة علي سعاد ــ، تتذكر بأنها قد اختارت هذا الاسم ــ اسم ((ليلي أنطون)) ــ من دليل التليفونات، وهو ما يعني أن هناك شخصية فعلية في الواقع بهذا الاسم، وهذا شيء مربك بالنسبة ((لأمينة))، فبعدما استطاعت أن تسبر أغوار هذه الشخصية ــ التي لم تلتق بها أو تعرفها من قبل، ولا نعرف كيف تمكنت من سبر هذه الشخصية!ــ، بعدما استطاعت ذلك تذكرت أنه لو كانت هناك شخصية فعلية في الواقع بهذا الاسم؛ فإن ذلك سوف يؤدي إلي استحالة نشر هذه الرواية، لأنها من الوارد أن ترفع عليها قضية وأن تأخذ منها مقابلا ماديا، وتمنع نشر هذه الرواية، وبالتالي حاولت أن تراجع دليل التليفونات لكي تتأكد من وجود هذا الاسم في هذا الدليل، ومن الغريب أن ((ليلي أنطون)) لم يكن لديها تليفون أساسا إلا في يوم: 13/8/1997م، أي قبل أن تشرع أمينة في الكتابة بيوم، وهو ما يعني أن هذا الاسم لم يكن له وجود أبدا في دليل التليفونات الذي أخذت منه ((أمينة)) هذا الاسم، فكيف حدث ذلك أصلا؟! [17].
وحيث أنه ما من إجابة علي السؤال السابق أيضا، فإنني سأحاول أن أطرح سؤالا آخر، ربما يكون أكثر فائدة، وتساؤلي هذه المرة هو: هذان المستويان المتداخلان، الغير ممكن الحصول منهما علي دلالة واضحة حتى الآن، كيف يخدمان عملية "فك الشفرة" هنا؟
أظن أنه من الواضح تماما هنا، أن ما يفعله النص هو نفي هذين المستويين معا والتشكيك في وجودهما ــ علي الأقل من حيث منطق العمل نفسه ــ، فما من امرأة اسمها ((ليلي أنطون)) كانت موجودة في دليل التليفونات من قبل، علي الرغم من أن النص يذكر أن كل من ((سعاد)) و((أمينة)) قد أخذتا هذا الاسم من الدليل أساسا؟!، والنتيجة التي نخرج بها من ذلك، أن ما كنا نعايشه طوال الفترة السابقة مع ((سعاد)) و ((أمينة)) هو وهم جاء من خطأ غير مقصود منهما، وذلك في ظل حيرتنا أيضا بما الذي أوحى لهما بوجود مثل هذه الشخصية في الدليل الذي أخذا منه، وما الذي يجعلهما يشاركان الملف في الكتابة عن هذه الشخصية التي لا يعرفها إلا هو؟!
وفي وسط كل ذلك لا نجد معقولا نصيا يمكن أن نتمسك به في محاولة التأكد من وجود شخصية ((ليلي أنطون)) هنا، إلا شيئا واحدا فقط، وهذا الشيء هو أن هذه الشخصية الأسطورية كان عندها دليل تليفونات في يوم 13/8/1997م، وهو ما يعني أنه هناك بريق أمل يمكن التمسك به من أجل سبر أغوار منطق الحكاية التي هي علي وشك الانغلاق في وجهنا.
المستوي الثالث:
المستوي الثالث هو مستوي خاص بالراوي نفسه في الحقيقة، وأود في بداية الحديث عنه تقديم النص التالي الذي الراوي فيه: ((يمكننا هنا الانتقال بثقة إلي الحياة الخاصة لكل من سعاد وأمينة. سعاد فتاة سكندرية تهوي الكتابة ...)) [18]، ماذا لو قلت أنني في تلك اللحظة لا أرغب في الحديث عن ((سعاد)) و((أمينة))، وإنما أرغب في التعرف أكثر عن ((ليلي أنطون))، لا شك أن الراوي هنا يكشف عن نفسه بافتضاح، ولا شك أنه يحرك مجريات الأمور بكيفية آمرة لا تحقق الإمتاع الفني، ويصل الأمر درجة أعظم من ذلك عندما يعرض علي الراوي تفسيراته الفلسفية في سياق الحكي، تفسيراته هو وليس تفسيرات أي من الشخصيات الموجودة في الرواية، أنظر إلي النص التالي: ((رأتها فقط تستدرجه إلي الأرض التي سيتم ذبحه فيها، أرض الوجود واللا وجود، الأرض التي يمكنك فيها أن تكون موجودا ويعرف الجميع بوجودك في قرارة أنفسهم غير أنه ما إن تخرج هذه المعرفة إلي نطاق العلنية حتى تضحي نارا تحرق الأخضر واليابس، نارا تحرق من تبدت المعرفة بوجوده علي السطح. هكذا كان خيار لبيب وليليان صعبا: عليهما أن ينحبسا بين منطقتين أزليتين: منطقة الوجود واللا وجود (انحصار المعرفة بك في نطاق السر والباطن) أو منطقة العدم الخاص (انجرافك مع النار أو الفوضي اللتان ستوسودان إذا خرجت المعرفة بك إلي نطاق العلن)) [19].
من الذي يملي هذه النظرات الفلسفية هنا، إنه "الراوي" متذرعا بالحلم الذي رأته ((ليلي))، لكن هل كلن بالحلم حديث عن هذه الفلسفة، في الحقيقة لا، إذن وبالخروج عن أية منطقية فنية للعمل، يستغل الراوي كونه المتحدث المباشر إلينا في هذه الرواية؛ لكي يمارس تسلطا شديدا علينا، وقد وصل هذا التسلط ذروته عندما قام "الراوي" بإعطاء أحداث غير موجودة أصلا في الرواية، وهذا من الطرائف في الحقيقة، أنظر إلي ذلك النص: ((في النهاية ربما كان علي كل منهما أن تعرف الأخرى حتى تمتزجا سويا وتقوما بذلك العمل الماهر الواحد الذي يحمل في طياته التقدم الحنون في الغابة مع إطلاق شراسة تشابك أشجارها سويا. لم تعرف إحداهما الأخرى أبدا وربما كان علي واحدة منهما أن تدعو الأخرى إلي مدينتها وإلي بيتها وأن تجلس كل منهما قبالة الأخرى وهي تلوك قطعة الإكلير، ثم تبدأ في مداعبة صدر الأخرى وردفيها (في الحقيقة سيكون مهما هنا أن تتبادل كل منهما دور الذكر ودور الأنثى بالتناوب) حتى تنتهيا إلي السحاق الكامل، وسيكون هذا مدخلا مناسبا لكتابتها[هكذا في النص] رواية عن ليلي أنطون(...))) [20].
ألم أقل أن هذا الصنيع هو أمر طريف حقا، ماذا يعني: ((ربما كان علي واحدة منهما أن تفعل كذا))، إنها محاولة للإيهام بأن النص يكتب ذاته، لكن الحقيقة أن الراوي هنا قد وصل إلي أشد درجات التعنت تجاهنا، إنه يفرض علينا تخيل أشياء لم تحدث في الرواية، ويؤكد علي تصحيح مسار هذا التخيل أيضا، عندما يقول: ((... مهم هنا أن تتبادل كل منهما ....))، فبماذا يمكن الخروج من كل ذلك في محاولة أخيرة لتقديم "مقاربة تأويلية" لهذه الرواية؟ لنؤجل ذلك الآن لأتحدث هنا عن نقطة أخري.
بين الغلاف والخاتمة:
لا شك عندي أن المؤلف هو الذي اختار هذا الغلاف، وبحرص شديد؛ لكي يصبح بالشكل الذي هو عليه، فكأنك تحصل علي "حبة إكلير" كبيرة عند قراءتك لهذه الرواية، و"حبة الإكلير" هي كناية مفضوحة عن فكرة "الرسالة" المختبئة داخل النص كما أوضحت سبقا، فهي قطعة حلوى بداخلها "كراميل" به شيكولاته، والهدف هو الوصول لهذا الجوهر، وإن كانت الطرق تتعدد في كيفية هذا لوصول، كما أشار المؤلف نفسه في الصفحة السادسة والثلاثين من عمله.
"الإكلير" حيلة تكشف عن نفسها إذن، لكن ماذا عن شيء آخر غريب، هو ذلك الختم الباهت المائل الذي وضع علي الغلاف، والموجود بداخله كلمة: "رواية"، إن الغلاف بهذا الشكل ــ إذ هذا الختم يذكرني بذلك الموجود علي أغلفة الخطابات في الحقيقة ــ، يكشف عن فكرة "الرسالة" المقدمة إلي القارئ، فثمة شيكولاته ذائبة في مكان ما بداخل هذه "الرسالة"، وعلي القارئ أن يصل إليها، وفي حالة إذا ما تشككنا في نوعية ما نحن بصدده من جنس أدب،ي فإن هذا الختم هنا يعيننا علي الحكم، وفي الحقيقة أنا لن أتوقف عند جزئية الجنس النوعي لهذا العمل هنا، وإنما سوف أنتقل سريعا من سمات الغلاف إلي الخاتمة.
تختم الرواية علي النحو التالي: ((كانت ليليان تشرع في كتابة الصفحة الأولي من الرواية التي لم تخط أمينة فيها حرفا. بعكوف ودأب كانت تكتب، وكأنها ملبوسة، هذه المرة، بروح بطلة روايتها التي تكتب عنها، لا بالرواية نفسها التي تكتبها، كما حدث في حالة رفيقة كتابة متوارية في القدم [الكلام هنا يشير إلي سعاد]. الآن ليليان ملبوسة تماما ببطلتها، بطلتها التي أنجبتها بنفس العكوف والدأب، الذي تكتب به الآن، عبر التحديق في مرآة بعيدة في ليلة شتوية، عبر رسم ملامح قلبها علي جرح طويل خلف أذنها، أذنها التي تستمع بها الآن إلي سيلين ديون وإلي صرير القلم يخدش الأوراق البيضاء.)) [21]
تقدم لنا الرواية في البداية ــ منذ الغلاف ــ ((ليلي أنطون))، وتنتهي باستمرار الكتابة عنها، أو بمعني أدق باستمرار صرير القلم وهو يخدش الورقة البيضاء، وما بين هذه وتلك ليس من تأكيد علي أي شيء إلا وجود فعل يتم هو فعل الكتابة عن، وكل ما يقدم من معلومات عدا ذلك يتم نفيه؛ لذا فإن في اعتقادي أن ما تؤكد عليه الرواية حقيقة هنا هو عملية "الكتابة" نفسها، وأن ما تشفره "الشفرة" هنا، هو "عملية التشفير" في محاولة كتابة رواية عن ((ليلي أنطون)) لا تكلل بالنجاح، وأن النص بتدخل الراوي، أراد أن ينبهنا إلي ما هناك من صعوبة حقيقية سواء في محاولة "الكتابة" عن شخصية ما ــ أي شخصية ــ، أو حتى في محاولة قراءة ما كتب عن هذه الشخصية، أي أن هذه الرواية في اعتقادي هي تأكيد لعملية الكتابة ذاتها، ونفي لما هو مكتوب في داخلها من أحداث، وقد كانت فرصة عظيمة من خلالها أن نعاين "عملية التشفير"، ونستجلي كيفية بناء مستويات الأحداث، تلك المستويات التي تتوقف في النهاية، بينما يبقي شيء واحد فقط، هو الرغبة في الكتابة نفسها، لقد انتهت الرواية دون أن تكتمل عن ((ليلي))، لكن بقي فعل "الكتابة" نفسه الذي تحاول أن تقوم به شخصية ما ــ وإن كانت هذه الشخصية من صنع الرواية نفسها ــ، لكنها بالرغم من ذلك تستمتع بصرير القلم علي الورقة، تلك الحركة اللانهائية من التأليف التي ستستمر ما دام هناك أدب يقرأ. لقد توقفت الحكاية، لكن الفعل الأساسي نفسه ــ فعل الكتابة ــ، لم ولن يتوقف، كما أن "التأويل" أيضا لم ولن يتوقف، سواء لهذه الرواية، أو لغيرها من الأعمال الأدبية، وربما أراد المؤلف أن يقول لنا: فليكتب كل منكم ما يشاء وكيف يشاء عن ((ليلي أنطون))، تلك الشخصية الغائمة التي لم يتحدد أي شيء عنها بعد.