الأحد ٤ آب (أغسطس) ٢٠١٩
بقلم رامز محيي الدين علي

البيتُ والوطنُ

البيتُ أوالمنزلُ هو الوطنُ الذي يعيشُ فيه أفرادٌ وُلدوا ونشؤُوا وترعرعُوا فيه في كنفِ أوبوينِ، فأضحى ذلك المنزلُ وطناً يألفُه أفرادُه ويعشقونَ كلَّ ركنٍ فيه: جدرانَه وسقوفَه، وسائدَه وأرائكَه، حجارتَه وترابَه، تنُّوره وخبزَه، أوانيَه وملاعقَه، فئرانَه وعصافيرَه، أسوارَه وسياجَه، أبوابَه ونوافذَه، أشجارَه ودواليَه..

والوطنُ هو البيتُ الكبيرُ الذي يضمُّ كلَّ بيتٍ تنسَّمَ أفرادُه من نسيمِه العليلِ، وتنشَّفُوا بنورِه الوضَّاءِ، واستحمُّوا بأشَّعةِ شمسِه الدافئةِ، ورضعُوا لبانَه صغاراً، وانتشَوا بخمرةِ حبِّه كباراً، فهل ثمَّةَ نعيمٌ في الأرضِ يعشقُه الفتى مثلما يهْوى ويَهيمُ في هواهُ لبيتِه الصَّغيرِ وبيتهِ الكبيرِ؟!
ليس ثمَّةَ حبٌّ جديدٌ يتمكَّنُ من الفؤادِ يستطيعُ أن يمحوَ ذكرياتِ القلبِ والخيالِ والحبِّ والوصالِ لأوّلِ بيتٍ أو وطنٍ سكنَ جوارحَ الإنسانِ وغدَا وجودَه وتاريخَه، وليس ثمّةَ حبٌّ ينفِي ذكرياتِ الحبِّ الأوّلِ لأولِ حبيبٍ، ولعلَّ ما قالَه شاعرُنا أبو تمّامٍ الطّائيُّ خيرَ رسالةٍ يخطُّها يراعٌ شاعريٌّ في ذلك، إذْ يقولُ:

نقِّلْ فؤادَك حيثُ شئْتَ من الهَوى
ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأوّلِ
كم منزلٍ في الأرضِ يألفُه الفتَى
وحنينُــهُ أبــداً لأوّلِ منــزلِ

وإذا كان الطّائرُ يحنُّ إلى أوكارِه، فالإنسانُ أحقُّ بالحنينِ إلى أوطانِه، وقد عبَّر الفلاسفةُ عن حبِّ الوطنِ ووصفُوه وصفاً رائعاً، فقال بعضُهم: فطرةُ الرّجلِ معجونةٌ بحبِّ الوطنِ، وقالَ بُقراط: يُداوَى كلُّ عليلٍ بعقاقيرِ أرضِه، فإنَّ الطَّبيعةَ تتطلَّعُ لهوائِها، وتنزعُ إلى غذائِها. وقالَ أفلاطون:

غذاءُ الطَّبيعةِ من أنجعِ أدويتِها. وقالَ جالينُوس: يتروَّحُ العليلُ بنسيمِ أرضِه، كما تتروَّحُ الأرضُ الجدبةُ ببللِ القطْرِ. وممَّا جاءَ في حبِّ الدِّيارِ والأوطانِ ومواقعِها في النُّفوسِ قولُ الله جلَّ وعَلا:

(ولو أنَّا كتبْنا عليهِم أنِ اقتلُوا أنفسّكُم أو اخرجُوا من ديارِكم ما فعلُوه إلا قليلٌ منهُم).

نعمْ إنَّه البيتُ.. إنَّهُ السَّكنُ.. إنّه الوطنُ.. مهمَا تغرَّبَ عنه الإنسانُ وأبعدتْه عنه صروفُ الدَّهرِ والمحنِ ولقمةُ العيشِ المغموسةُ بالدَّمِ، سيظلُّ الحنينُ إليه ناعورةً تغرِّدُ ترانيمَ الحزنِ والألمِ والمرارةِ والأسَى كلَّما دفعتْها مياهُ نهرِ الحياةِ للدَّورانِ؛ لتتدفَّقَ مشاعرُ الحبِّ والحنينِ تدفُّقَ مياهِ النَّاعورةِ في جداولِ الحقولِ والبساتينِ!

ستظلُّ الغربةُ تدقُّ ناقوسَ العودةِ إلى الوطنِ، كلّما لمحَت عينُ الإنسانِ بارقةً تذكِّرُه بذكرياتِه الجميلةِ في كلِّ ركنٍ وفي كلِّ زاويةٍ وفي كلِّ حانيةٍ من حنايَا بيتِه الصَّغيرِ ووطنِه الكبيرِ؛ إنَّهُ الحنينُ إلى الوجودِ.. إنهُ الحنينُ إلى الأبديَّةِ.. إلى الأزليَّةِ التي تنغرِسُ في أوابدِ النَّفسِ البشريَّةِ المتطلِّعةِ إلى الخلودِ.

سيظلُّ الحنينُ إلى البيتِ والأهلِ والأحبَّةِ مزموراً من مزاميرِ داوودَ ترتِّلُهُ أوتارُ الفؤادِ في حنايَا الذَّاتِ المتطلِّعةِ إلى الأبديَّةِ، وستظلُّ الذِّكرياتُ سياطاً تجلدُ الذَّاتَ، كلَّما لاحَت في الأفقِ سانحةٌ تحملُ بريقاً أو شعاعاً أو أريجاً من ذكرباتِ الماضي، وسيبقَى الحنينُ إلى ملاعبِ الطُّفولةِ لهيباً يُذيبُ الأوصالَ، كلّما وقعتْ عينُ البصيرةِ على مشهدٍ طفوليٍّ نضيرٍ، وستَمضي النَّفسُ تتلظَّى بنارِ الحمِيَّة والشَّبابِ والرُّجولةِ، كلَّما استيقظَت في الذَّاتِ ملحمةٌ من ملاحمِ التَّحدِّي الأبديِّ.. (المزمورُ: ما يُترنَّم به من الأَناشيدِ والأدعيةِ).

إنّهُ الحنينُ! حنينُ التُّربةِ العطشَى إلى قطراتِ النَّدى وحبَّاتِ المطرِ..
إنّهُ الحنينُ! حنينُ البلابلِ للتَّغريدِ بينَ السَّنابلِ والحقولِ والجداولِ..
إنّهُ الحنينُ! حنينُ الينابيعِ إلى التَّدفُّقِ في أحضانِ الطَّبيعةِ حينَ يوشِّيها الرَّبيعُ بأبهَى ألوانِ الأزاهيرِ..
إنّهُ الحنينُ! حنينُ الأنهارِ لمصبَّاتِها في رحِمِ البحارِ كلَّما أضناها طولُ المسيرِ..
إنّهُ الحنينُ! حنينُ الفراشاتِ إلى الدِّفءِ والجمالِ والحيويّةِ والنَّشاطِ في أحضانِ الطَّبيعةِ على أنغامِ الرَّبيعِ..
إنّهُ الحنينُ! حنينُ الظَّاعنينَ عبرَ الفيافي إلى القيلولةِ في ظلالِ ربوةٍ أو أفياءِ نخلةٍ أو خيالٍ في وادٍ سحيقٍ..
إنّهُ الحنينُ! حنينُ الظَّامئينَ إلى المعرفةِ المطْلقةِ فيما وراءَ الطَّبيعةِ من أسرارٍ وألغازٍ..
إنّهُ الحنينُ! حنينُ العبقريَّةِ البشريّةِ لاكتشافِ الكونِ في أزليَّتِه وأبديَّتِه..
إنّهُ الحنينُ! حنينُ الذَّاتِ البشريّةِ إلى المثاليَّةِ المطلقةِ والخلودِ الأبديِّ..
إنّهُ الحنينُ! حنينُ الإنسانيَّةِ للخلاصِ من أسقامِها وأوبئتِها وشرورِها وآلامِها وعللِها وهمومِها وأوجاعِها..

الحنينُ إلى الوطنِ إحساسٌ إنسانيٌّ فطريٌّ طبيعيٌّ ينبعُ من أعماقِ الآدميِّ الذي كوتْه نارُ الغربةِ كما تتدفَّقُ ينابيعُ الرَّبيعِ من رحمِ الأرضِ، بعد أن انتشَت أوصالُها بغيثِ الشِّتاءِ، وليس دروساً تعليميَّةً تُحشى بها الأذهانُ يُمليها الرُّعاةُ على قطعانِهم كما يشاؤونَ!
والوطنُ دمٌ يَجري في العروقِ، ونبضٌ يُجدِّدُه الفؤادُ، وذكرياتٌ تُعشِّشُ في النَّفسِ كما تعشِّشُ النَّحلاتُ في حنايا الخليَّةِ، وليس جوازَ سفرٍ أو بطاقةً رقميَّةً أو وساماً يمنحُه الآلهةُ الأرضيُّونَ عبيدَهم!

والوطنيَّةُ سلوكٌ وإحساسٌ وانتماءٌ، وليسَت هتافاتٍ وشعاراتٍ تمجِّدُ تلك الآلهةَ!

الوطنُ أرضٌ وشعبٌ وحرِّيةٌ وكرامةٌ، وليس معبَداً وإلهاً وعبوديَّةً وعبِيداً!

والوطنُ سماءٌ وأرضٌ، تاريخٌ وتراثُ، ألمٌ ولذَّةٌ، هواءٌ وماءٌ، غذاءٌ ودواءٌ، روحٌ وجسدٌ، كوخٌ وحصيرٌ، غمامٌ وذُكاءٌ، حرُّ وقرٌّ، حلُمٌ ويقظةٌ، خيالٌ وحقيقةٌ.. وليس براءةَ ذمَّةٍ، أو شهادةَ حُسنِ سلوكٍ، أو وثيقةَ ولاءٍ يمنحُها صاحبُ الجلالةِ الخانعينَ الأذِلَّاءَ!

وسيظلُّ الحنينُ إلى الوطنِ أنشودةً يغنِّيها الشُّعراءُ، وقصَّةً وروايةً يرويهَا الأدباءُ، وفلسفةً معجونةً بالشَّقاءِ تخبزُها تنانيرُ قرائِحِ المفكِّرينَ أرغفةً من الَّلوعةِ والأسَى، ولن تستطيعَ قوَّةٌ في الأرضِ أن تستأثِرَ بالوطنِ وتحوِّلَه إلى مزرعةٍ تُدجِّنُها كيفَما تشاءُ.. وسيظلُّ الوطنُ دماً يَجري في عروقِ الشُّرفاءِ، وليس إبرَ تخديرٍ تُغرسُ في أجسادِ الأمواتِ وهمْ على قيدِ الحياةِ..
لقد ولَّى الطُّغاةُ جميعاً، وظلَّ الوطنُ أنشودةً على أفواهِ المشرَّدينَ والمبْعدينَ والمهجَّرينَ، وسيرحلُ المستبدُّون وتتَهاوى عروشُهم، وستظلُّ أغنياتُ الأملِ بالعودةِ نواقيسَ ومآذنَ تصدحُ صباحَ مساءَ.. وهاكمُ إحدى أغنياتِ الحنينِ إلى الوطنِ كانت حُلماً، فغدَت حقيقةً.. ذهبَ الطُّغاةُ وعادَتِ الطُّيورُ المشرَّدةُ إلى أوكارِها.. إنَّها قصيدةُ النَّجوى لشاعرِنا خيرِ الدّينِ الزِّركْلي الذي شرَّدتْه أعوادُ مشانقِ المحتلِّ من وطنِه سوريةَ إلى أرضِ الكِنانة في مصرَ:

العـيـنُ بعـد فـراقـِهـا الـوطَـنا
لاسـاكِـنـا ألـِفـتْ ولا سـكنـَا
ريَّـانـةٌ بـالـدَّمعِ أقـلـقَـهـــــا
ألا تـُحِـسَّ كـرىً ولا وسـَـنا

فالوطنُ، ولو كان كوخاً حقيرأ، سكنٌ يألفُه المرءُ، فلا يجدُ أُلفةَ السَّكنِ في أجملِ بقاعِ الكونِ، ولو كانَ في أحضانِ كوكبِ المرِّيخِ.. وأناسُه أهلٌ وأحبابٌ، ولو كانُوا غَجراً، فلا تألفُ العينُ غيرَهم، ولو كانُوا من عالمِ الملائكةِ..

والوطنيَّةُ عينٌ امتلأتْ بعبراتِ الحزنِ والألمِ والأسَى التي حرمَتْها من النَّومِ والنُّعاسِ بسببِ البُعدِ والحرمانِ، وليسَت مسيراتٍ شعبيَّةً لتأييدِ عبدٍ متمسِّكٍ بقوائمِ كرسيِّه حذرَ الموتِ، أو خشيةَ عاصفةٍ مزمجرةٍ عابرةٍ!

كـانـَتْ تـرَى فـي كـلِّ سانـِحـةٍ
حُسْنا، فباتَتْ لاترَى حَسَنا

والعينُ، في الوطنِ، ترى في كلِّ سانحةٍ جمالاً، والعينُ،في الغربةِ، لا ترى أيَّ جمالٍ.. فالوطنُ جميلٌ بكلِّ ما فيهِ، والغربةٌ خاليةٌ من الجمالِ، وفلسفةُ الحالِ تقولُ: حبُّك الشيءَ يُعمِي ويُصِمُّ، والوطنُ جنَّة لتغريدِ الطُّيورِ، لا غابةٌ لصراعِ الوحوشِ!

لـيـْتَ الّـذينَ أحـبـُّهـم عـلمُوا
وهـمْ هـنالكَ مالـقِـيـْتُ هُـنـا
ماكـنـْتُ أحـسـبُـنِي مفـارقَهُم
حـتَّى تـُفـارقَ روحِيَ البَــدَنا

فالوطنيَّةُ هوىً في النَّفسِ إلى الأرضِ وأناسِها، وفراقٌ قسريٌّ ما كانَ ليكونَ لولا كيدُ الطُّغاةِ والمستبدِّينَ.. ولو فارقتِ الرُّوحُ جسدَها، لكنَّه فرارٌ عزيزٌ من الذُّلِّ والقهرِ، وليستْ رقصاً وتصفيقاً للطُّغاةِ في معابدِ الذُّلِّ وهمْ يجثمونَ فوقَ المدنِ المدمَّرةِ انتشاءً بالنَّصرِ اليائسِ البائسِ المَصوغِ من الهزيمةِ المُرَّةِ التي هزَّتْ كيانَهم، ودمَّرت أوابدَهم،وحطَّمَت أساطيرَهم، ودفنَت أحلامَهم بين قبورِ الرَّاقصينَ حولَهم، وكشفَت عوراتِهم أمامَ العالمِ، حتَّى غدَوا مزابلَ تُلقي أممُ الأرضِ قاذوراتِهم فيها!

يـامـوطـِناً عـبَـثَ الـزَّمانُ بــهِ
مَــنْ ذا الَّذي أغْرى بكَ الزَّمَنا؟
عـطـَفـُوا عليكَ فأوسعُوكَ أذىً
وهُـــــمْ يُـســمُّونَ الأذى مِـنـَنا
وحَـنَـوا عـليكَ فجرَّدُوا قـُضُباً
مـسـْنـُونـةً وتـقـَـدَّمـُوا بـِقَــــنَا

إنَّه الإحساسُ الوطنيُّ الفطريُّ بالوطنِ وآلامِه ممَّا حلَّ به من صروفِ الدَّهرِ ومن أذى المستَعمِرين والطُّغاةِ الذين تشابهُوا في الأذى والتَّدميرِ، أولئكَ احتلُّوا الوطنَ ونهبُوا خيراتِه وثرواتِه باسم الحضارةِ والتَّنويرِ، وهؤلاءِ أحالُوا الوطنَ إلى مزرعةِ غلالٍ يُحرقُون أشجارَها الباسقةَ التي تُطاولَ أعنانَ عروشِهم، ويقلِّمُون غراسَها كما تشتَهي أطماعُهم، ويبذُرون فيها بذارَ نباتاتٍ مفيدةٍ تحقِّقُ أحلامَهم لا تنمُو إلا بالهرمُونات الوطنيَّة المصنَّعة في مختبراتِ غسيلِ الأدمغةِ ومصانعِ مسحِ القيمِ التَّاريخيةِ التي أنتجَتْها حضارةٌ متجذِّرة منذ فجرِ التّاريخِ.. وشتَّانَ ما بينِ إحساسٍ وطنيٍّ إنسانيٍّ فطريٍّ بسيطٍ، وما بينَ إحساسٍ وطنيٍّ تِقنيٍّ متطوِّرٍ يحقِّقُ أهدافَ التوجُّهاتِ الدِّيموغرافيّةِ والجيوغرافيَّةِ العُليَا!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى