الثلاثاء ٢٥ آب (أغسطس) ٢٠٢٠
بقلم هاتف بشبوش

الدكتورة كريمة نورعيساوي، الشجن الكوني والتهكّم...جزءُّ ثالث

أورفيوس يا صديقي
تمسك بيدي
ورفرف فوق ضباب الرؤيا
فحوافر أسنة الهزيمة تحيك
كفن الرزايا على قفر الأيام
تمسك بيدي...
وامش...
على لجة سحاب مرآتي
أورفيوس يا صديقي
التفت كي أسقط منك..
رويدا
رويدا

أحيانا يتصرف الأديب بروح رواقية ولكن الشئ الذي لايستطيع تقبله هي لامبالاة العالم والتي تكون على نحو غير مريح أقرب الى فتور الشعور وهذه بحد ذاتها تقوده الى المتاهة، ولكي يجتاز هذه المتاهة تتطلب منه مغامرة إنسانية تتصف بالشجاعة والخيال الإبداعي. الكثيرون من الأدباء يلجؤون الى التركيز على الدراما والتعبير المسرحي بإعتبار انّ العالم هو مسرح كبير نحقق فيه حتوفنا ومصائرنا المتعددة فيتخذ الوطن كمركز عصبي للقيادة وتحقيق النفوذ والإنطلاق نحو عوالم رحبة اخرى. الأديب دائما يتصرف في عدم الوقوف عند طبيعة البشر كما وانّ العلاقات الإنسانية مليئة بالمتناقضات والنفاق والتي تؤدي في كثير من الأحيان الى تدمير أي رفقة حقيقية أوحب خالص. الكلمات عنيدة ومضللة لأنها تنقل الحقائق والأكاذيب في نفس اللحظة، و لقد منح الإنسان الكلمات لكي يتمكن من إخفاء افكاره. مهمة الأديب تتجلى من خلال وخز الضمير وتحريك المشاعر وجهده في انْ يدعم رؤيتنا للطبيعة والجنس البشري. لذلك نرى كريمة هنا وهي تستحضر روح الموسيقي ( أورفيوس) تلك الإسطورة التي خلّدت رجل موسيقي ذهب الى العالم السفلي كي يسترجع حبيبته وهناك تحدث مع آلهة الموت لإسترجاعها فأعطوه شرطا حينما يأخذ حبيبته معه وهو في الرواق المؤدي الى الحياة والعالم الأعلى أن لايلتفت. لكن المسكين من شدة لهفته الى حبيبته ولما لاح له نفق الضوء للعبور والخلاص فأراد أن يطمئن على حبيبته من أنها لاتزال وراءه فالتفت سريعا وبهذا خالف الشرط فرجع خائباً بخفيّ حنين، الى نهاية القصة الطويلة التي جعلت من هذا الرجل إسطوريا موسيقيا على مر التأريخ بل إمثولة لمعنى الخلود والفداء والمغامرة كما في النص ( مرمر الفداء):

لا تسألني أن أكون في عرفك أنثى
القداسة غابت في عين الشمس الباردة
أيها القابع في ماخور الليالي
تستجدي ريشتك أن ترسمني حواء
تعتلي معارج نوتاتك لتحيكني سمفونية...
خارج تقاسيم عود زرياب
غرناطة تناديني...
لأرقص رقصة البجع،
على حواشي الوجع،
بين موشح الفواصل الغائبة
في كأس نبيد الرمان
أخرج معتقة بخيبة الرزايا
سحابة محملة بالرماد

الأدب المتميز يستعصي على النسيان ولايمكن انْ يكون مجرد فضفضة سرعان ماتندثر ولذلك فأنّ العلاقة المتبادلة بين الأدب والمجتمع لم تكن موضع شك على امتداد العصور. منذ انهيار النظام الإقطاعي في اوربا وانهاء سيطرة الكنيسة على الفكر وظهور عصر التنوير ومن ثم العلمانية شهدت الفترة التالية نهضة في كافة مجالات العلوم الطبيعية والإجتماعية والتي أدت بدورها الى انعتاق الأديب مما جعله يسبح في فضاء كوني واسع من الإبداع والذكاء واسس له كيانا مستقلا بذاته. ولذلك إستطاعت الشاعرة كريمة أن تعطي الفيتو والرفض بملء قلمها وتقول (لا تسألني أن أكون في عرفك أنثى) ثم تذهب تغني خارج السرب أو خارج نطاق الروح والموسيقى المنعشة لقلب الإبداع والذائقة الإجتماعية ، فزرياب مؤسس أول معهد موسيقي للعالم في قرطبة وقد عرف كيف ينقل إبداعه الى الأندلس بعد صعابِ في أمصار العرب. ثم تستمر كريمة في البوح التهكمي وتقول لاتسميني حسب أهوائك من أنني أنثى وتروح في إبداعك المشكوك بأمره ترسمني في لوحاتك من أنني حواء وتنعتني بالمديح والإطراء والجمال الجسدي والروحي لكنك في سريرتك تحمل لي الضغائن بكوني خرجت من ضلع حواء. لا والف لا بل أنا مثلك ومن جنسك فأنا لست الجنية ولا الساحرة التي كانت تحرق أيام سيطرة الأبالسة على الكهنوت فإتهموني بالشعوذة. بل أنا الحكيمة العالمة التي سطرت إسمها في العديد من البطولات التأريخية مع أبطال التأريخ المخلدين حتى اليوم فأنا هيلين مع آخيل في الإلياذة وأنا سمير أميس وأنا ربة الشفاء وأنا الكاهنة الكبيرة في معبد إيزيس. هذه هي المرأة التي تتطلع اليها الشاعرة كريمة حتى غدت اليوم في أوربا والعالم المتحضر كائن لاينظر له في أن يدرج على قائمة المساواة مع الرجل فهذا الشعار إنتهى هناك بل قل اليوم مساواة الرجل مع المرأة. لايوجد شعار اليوم في أوربا يطالب الدفاع عن حقوق المرأة لآن هذا المشوار إنتهى وبلارجعة منذ ان نصب التذكار التخليدي لشفيعة الموسيقيين في المكسيك (ىسيسيليا) وغيرها من البطولات النسائية على غرار الفرنسية (مدام رولان) التي أعدمتها المقصلة على طريق الحرية الدامية. لذلك ترفع إبهامها محذرة شاعرتنا كريمة فتقول: لاتقترب يامن ترتكن الى شهوتك وأسفلك اللايكلّ لكي تتربص فريستك بطرقٍ ملتوية أخرى مثلما نرى في نص ( أنيابُ دامية):

وأنت تمشي على جناح اللهفة
منتصب القامة تختال في العلياء
تنطلق ببراق السماء
تشاكس الغيمة المبتهجة
التي أمطرت سيول الدهشة...
وشبق الشهوة...
الى أن تقول...
ما لي أنظر لهذه المولودة الموءودة
تلون المزن بلون الرمل
وتسقي البرج العاجي
من حلمة القهر
ولأنك ذئب....
اخترت الضحية
لتنتشي بقبلة الوداع
بأنياب دامية

نرى كريمة هنا تتخذ من الشعر من أنه هو الميراث البوحيّ القادم من الازل هوالميراث الذي لايباع ولايشترى. في الشعر تستطيع الكلمات انْ تذرف حروفها اللامنتهية على السطور، الشعرهو هدير الماء وعليل الهواء المترامي في السموت هو إيقاع الكون وطقوس الأزاهير، هو الجَمال المترامي في الأودية والجبال والهضاب والوهاد. الشعر ماء العين، دم القلب، هو الذي أطلق لنا مفاهيم الحب، الرغبة في حياة بلاموت، وبما انه ليس ثمة حياة اخرى فالشعر أخبرنا بأنها حياة رائعة. أخبرنا الشعر من أن كريمة نور باتت تفهم معنى الذئبية في التربص وماوراءها فهي اليوم قد إستندت الى مفاهيم الحب لا الشهوة الآنية التي تجعل من الرجل تابعاً منقاداً لإندفاع رغبته الجامحة ويريد أن ينقض في أقرب فرصة له على أخيه الإنسان أو على إمرأة في نظره لقمة سائغة يتوجب النيل منها ومن جمالاتها أو أنه ينظر الى (الجنس شريطة الحب بينما النساء تنظر الى الحب شريطة الجنس ) وهناك إختلاف كبير في هذا المنحى. ولذلك نرى هناك الكثيرات من النساء سطرن أجمل المواقف في هذا المضمار الشائك ومنها ماجاء في الفلم الأمريكي الجميل( في وقت الفراشة) in the time of the Butter fly إنتاج 2001 تمثيل سلمى حايك Salma Hayek ذات الأصول الإسلامية مع ادوارد جيمس Edward james بدور الرئيس ( تروخيو). قصة حقيقية عن جمهورية الدومينيكان والدكتاتورية في زمن حكم الرئيس المجرم (تروخيو ) الذي حكم الدومينيكان ثلاثين عام حتى انتهى في العام 1961. هذا الرئيس الطاغي كان مولعاً بالنساء والجنس ولايعرف أي معنى للحب ولا يهمه شعور النساء غير أنه مستعد للإغتصاب في أي وقت وراحت ضحيته المئات من النساء مستغلا سلطته بمساعدة امريكا عدوة الشعوب حتى قتلته المخابرات الآمريكية نفسها بعد انتهاء مهمته القذرة في تدمير الدومينيكان والإعتداء على نسائها. هذا الرئيس ذات يوما دعا كبار الرجال وحتى العوائل الفقيرة في قصره لحفلة لكي يتفرج على بناتهم وفي الحفلة ذاتها طلب من فتاة جمية الرقص معه وفي أثناء رقصة الفالس تحرّش بها بعد أن عبث بكفلها المثير وصدرها اليانع وما كان على الفتاة سوى أن تصفعه على خده أمام الملأ وفي بلاط قصره الفاخر دون أدنى خوف وهذا مما أدى الى إعتقالها هي واسرتها فمات أبوها من جراء ذلك وماتت هي مع أخواتها بعد نضال مرير في السجون حتى أطلق عليها الشعب الدومينيكاني ( بالفراشة ) وأصبحت هي وأخواتها قدوة لأمريكا اللاتينية في أن يقام لهن مهرجان سنوي إسمه ( المهرجان العالمي للعنف ضد المرأة ). فهنا يبرز الدور الذي تنادي به الشاعرة كريمة وهو دور الحب أولا وأخيرا دون التحرّش والإغتصاب الذي يحط من مكانة المرأة وأعتبارها وعاء جنسي ليس الاّ. المرأة عنوان الوفاء فلاتغفل هذا المنوال للمرأة أيها الطارق دروب العشق والاّ سيكون هناك درعاً آخراً للإحتماء. لنقرأ كريمة في هذا المضمار البوحي ونص( شرنقة الوفاء):

عَلقم يجرح عيون الصدق
بمحاذاة وشوشات الأيام
مازال خنجر الحياة ينحَر المرايا
لم تعد نفسي تَصْدُقُنِي
تَكْتُبُنِي قصيدة كاذبة
حروفها معلقة بعيون السماء
كلما دمعت....
ذابت من شدة البَرَد
كم من صفعة معتقة بعسل المجازات
حملت معها نبوءة النهاية،
الصور المتضاربة على شاشة الانهزام
ترسل خيوط الصدفة للعالم السرمدي
اشتاق لرقصتنا على حنايا الهجر
وضعت كفي في صولجان كفي
ودونت ملحمة النكران
أتحسس التراب
يلملم أشلاء وحدتي
ويبعثها براعم نورانية
يصيرني فسيفساء أبدية

(من الممكن للمرأة أن لاتكون مخلصة لفكر أو عقيدة لكنها على إستعداد تام لأن تكون مخلصة تماما لرجل.. توفيق الحكيم)...

عام 1141 في المانية أحتل الملك كونراد الثالث قلعة ونسبيرغ وأمر برحيل النساء وان يحملن معهن شيئاً واحدا لاغيره، فتركن جميع الأشياء الثمينة والنفيسة وإخترن أزواجهن ورحن يحملهنهم على ظهورهن بمشقّةٍ بالغة، فاطلق على القلعة ( قلعة النساء الوفيات ) وحتى اليوم تحتفل المانيا بهذه الساحة وبهذه المناسبة العظيمة لما خلّفته المرأة من شجاعة وتفانٍ للحب.

في النص أعلاه أيضا تتحدث كريمة عن الأبدية من خلال زرع الوفاء في برزخ التأريخ عن طريق إمرأة مثلما فعلتها الملكة الفرعونية (زيوس) حين قتل زوجها (أوزريوس) من قبل أخية تنازعا على السلطة وقطعت أوصاله الى اِشلاء متناثرة فراحت هذه الملكة تبحث عن أجزاء زوجها فجمعتها كلها الاّ عضوه التناسلي لم تجده فأمرت قومها بنحت عضو الإخصاب فكان لها ذلك في إنشاء ثمثال عظيم يجسد الجزء التناسلي لزوجها وظل يُعبد لآلاف السنين. ولازالت هذه الفكرة قائمة في بعض البلدان حتى اليوم ومنها اليابان حيث تقدم النذور والهدايا لتمثالٍ كبيرٍ لعضو الرجل مثلما نفعل نحن شعوب العرب في تقديم الهدايا هذه للأولياء والقديسين. حقا أنّ التأريخ غريب في مانشهده عما لايصدقه العقل وذائقة الروح. هكذا قدّمت لنا الشاعرة كريمة في نصها أعلاه عن الوفاء فكانت موفقة بذلك لغايةٍ عظيمة.

خلاصة ضرورية عن الشاعرة:

الشاعرة كريمة دكتوراه في علم مقارنة الأديان وأستاذة تأريخ الأديان في جامعة عبد المالك السعدي، تطوان/ المغرب. رئيسة للعديد من المنظات الدولية. رئيسة تحرير صحيفة آرارات الثقافية التي تصدر من زيوريخ بسويسرا. لها أكثر من ثمانية كتب صادرة ومنها: كتاب مدخل إلى نقد التوراة، رؤية من الداخل. كتاب الدراسات الأدبية والنقدية في الوطن العربي. ديوان شعر بعنوان صهيل من فلوات الأرواح ومن ثم ديوانها (بقايا إمرأة) موضوع مقالتنا هذه . لديها الكثير من المقالات النقدية في الصحف العربية والمغربية.

التجربة الذاتية للشاعرة كريمة تتمحور بكونها عضوا فعالا لاينفصل عن التجارب الموضوعية للحشود العامة مما جعلها ذلك الضرب الفني الذي له القدرة على عكس الواقع والخيال في آن واحد. هي ذلك الممر الخرافي الطويل العريض الذي يفتح آفاقا مستقبلية عن طريق جمالية التوظيف.هي التشكيل البوحي اللامنهجي الذي يستنهض تواريخ الشعوب بما يمور فيها من صخب واهتزازات وصراعات ولواعج الإنسان الذي عاش مع أزمة حب او غواية ومات كمدا أو جنونا. هي التي يجعل من الشخصيات الثائرة مشجبا تراجيديا كما في حال الشهداء الذين ذكرتهم في أحد نصوصها الذي تقول فيه (ها هي البُوم العابرة/ تتقدم للوراء/ترجف في العراء/تتوارى في العتمات/من جحافل نور شهيد/يزركش ضباب التاريخ /لتشدو السمفونية الأنثوية).

كريمة جعلت من الشعر من أنه في أغلب الأحيان لايحب القدرية والخنوع بل يميل الى التحدي وامكانية التغيير وحتمية التمرّد وإصراره على إجتياز المسافات بين الظلم والفاقة حتى الوصول للسمفونية التي تطربنا بما تفعله النساء في هذا العالم الذي يتمحور أحيانا بين الصمت والصخب من أثر الدمار والحروب التي تخلف وراءها الثكالى العديدات. نفهم من خلال قراءة مونولوجية لإبداع كريمة نور من أنّ الشعر نستطيع ان نجده في ألسنة السادة الأحرار والعبيد على حد سواء حتى غدا صراعاً بينهم من أجل المساواة والإنعتاق. هو الزي الخاص لتأريخٍ ما الذي نستطيع من خلاله التعرف على حقبة زمنية معينة وقرائتها واستكشاف مايدور في بواطنها من تفاصيل دقيقة. الشاعرة كريمة لها تجربة مع الشاعر والإعلامي خالد ديركي الجميل في ديوان مشترك حيث بدوا لي إثنان على درب عروة بن الورد، إثنان على غيم الراية، إثنان على الشفق. كريمة تكتب لكي تبقي الأشياء حية، تريد أن ترى الجمال في الله في النجوم في شجرة سنديان عالية في الأطفال في طبق سباكيتي تعمله ذات حفلٍ عائلي، فهي الأمومة الشاعرة في آخرالمطاف بكل تفاصيلها المزيّنة بالشفاعة. وفي النهاية أقول من أنّ كريمة كتبت عن أزمنة الحب الثلاثة ( الرغبة، الذكرى، الأمل...هيلين أوفرار).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى