الرمز الشعري واغتراب اللغة فى المنظور الصوفى
إضاءة- الرمز والإشارة وتجاوز ظاهر اللغة:
إن التجربة الجمالية التى يعيشها الصوفى لا تتعامل مع الحسن الظاهر بصورته الفعلية الحقيقية ولكن على أنه عارية مستعارة من الجمال الإلهى، ومن ثم فالصوفية دائما يبحثون عن الباطن ولا يعولون - كثيرا - على المباشرة؛ لأنها لا تؤدى إلى معرفة حقيقية ولا إلى تعبير شعرى يرضى حاستهم، ويقوى دعائم الخيال، ويفسح المجال لانطلاق أجنحته وراء الألفاظ والعبارات الوضعية إلى معان أخرى يتحملها اللفظ بالتفسير والتأويل مما يجعل القارئ يغوص فى داخل الصور وما وراءها لاستكشاف أمور ربما لا تخطر للشاعرعلى بال"من أجل ذلك كله جرت الرمزية وراء التعبير مما لا يقع تحت الحس، واتجهت وجهة صوفية نفسية، وآمنت بعالم وراء هذا العالم الحسى تحاول أن تعيش فيه وأن تستمد موضوعاتها منه؛ لأنه هو العالم الكامل الجميل الأبدى الدائم.
لقد كان طابع الرمزية طابعا صوفيا يبحث عن كل مثالى وجميل، ويتمثل ذلك الطابع فيما كان يؤمن به"بودلير"من الجمال المثالى..."
وبالطبع إن تحديد مفهوم للرمز فى وسط الركام النقدى الهائل شئ يعجزعنه نطاق هذا الفصل من البحث، وقد أغنت دراسات كثيرة عن تفصيل ذلك، ولكن سأحاول البحث عن مفهوم للرمز من خلال هذا المنطلق الجمالى الباطنى الذى قدمت الحديث عنه.
فلقد أطلق النقاد العرب القدماء الرمزعلىالإشارة التى عرفها قدامة بن جعفرأن يكون القليل من اللفط مشتملاً على معان كثيرة بإيحاء إليها أو لمحة تدل عليها كما عرفها ابن رشيق القيروانى بقوله:"وهى لمحة دالة واختصار وتلويح يعرف مجملاً، ومعناه بعيد من ظاهر لفظه". والمدقق فى هذين التعريفين يجد الإشارة لا تقف عند ظاهراللفظ، ولكن تنفذ إلى المعنى المبيت فكريا من حيث التبادل بين الكلمة وما ترمز إليه، فيما اختزنة الذهن من دلالة تكتسبها الكلمة بواسطة الانفعالات الوجدانية، قال الشاعر:
أشارت بطرف العين خيفة أهلها | |
إشارة محزون ولم تتكلـــــــم | |
فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا | |
وأهلا وسهلاً للحبيب المتيم |
فالإشارة - وفق هذين البيتين- موافقة للرمز فى معناه على أنه"عمل ذهنى تشترك فيه طاقات باطنة فى ذات الشاعر يتخذ الرموز محاولة للتعبير عنه".
ولهذا أدمج ابن عربى الرمز بالإشارة فى قوله: اعلم أن الرموز والألغاز ليست مراده لأنفسها، وإنماهى مرادة لما رمزت له، ولما ألغز فيها ومواضعها من القرآن آيات الاعتبار كلها والتنبيه على ذلك قوله تعالى:"وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ..."
وكذلك شأن الإشارة و"الإيماء"قال تعالى لنبيه زكريا:"أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا"أى الإشارة، وكذلك فأِشارت إليه فى قصة مريم. ومن ثم يعرف الرمز بقوله"الرمز أو اللغز هو الكلام الذى يعطى ظاهره ما لم يقصده قائله،وكذلك منزلة العالم فى الوجود:ما أوجده الله لعينه وإنما أوجده لنفسه"
ومن ثم فإن الذى يقوم بالدور الفعال فى الدلالة الرمزية - فيما ذكر ابن عربى عن الإشارة والرمز - إنما هو المدلول الكامن وراء هذه الظواهر، وهذا جعل سوسير يصفه بقوله:"ما يتميز به الرمزهوأنه ليس دائما كامل الاعتباطية، إنه ليس فارغا، إن هناك بقايا الرابطة الطبيعية من الدال والمدلول، أن الميزان كرمز للعدالة لا يمكن تعويضه بأى شئ كالدبابة مثلاً..."ويقول:"إن الكلمات إنما هى مجرد علامات أو إشارات للأشياء , ويعنى بهذه العلامات الكل المزدوج الذى يفيد الدال والمدلول معا ً، وذلك لأن العلاقة بين العلامة ومعناها اعتباطية، أما الرمز فيفترض علاقة طبيعية بسببه بين الدال والمدلول، كأن نقول: إن الماء رمز الصفاء , فبينما ينطبق الدال على المدلول تماما فى حالة العلاقة اللغوية فإنما الأمر يختلف عن ذلك فى الرمز"الذى يرتبط ارتباطا قويا فى تكوينة بما يطلق عليه السيميولوجية أوعلم العلامات.
ويرى تشادويك أن الرمزية ليست مجرد استبدال شئ بشئ آخر, إنما هى عملية استخدام صور محددة للتعبيرعن أفكار مجردة وعواطف , وعلى الرغم من هذا التعريف , فإن معنى الرمزية ما زال واسعا حيث يقول ت. س إليوت فى مقال عن هاملت: الطريقة الوحيدة للتعبيرعن العاطفة فى شكل فنى هى إيجاد معادل موضوعى - أى مجموعة من الأشياء أوالمواقف أو سلسة من الأحداث تكون فى النهاية هى التركيبة المعادلة لهذه العاطفة، أوهى تركيبة هذه العاطفة على وجه الخصوص...".
وهذا التعريف يركز على المهمة التى يقوم بها الرمز فى الربط بين الواقع المادى والمعنى المجرد على اعتبار أن الرمز هو"المقارنة بين المجرد والملموس، حيث إن أحد طرفى المقارنة يشار إليه دون أن يذكر"ولكن أنا بلكيان ترى أن أكثرأشكال الرمز نجاحا ما نشأ عن مزج الملموس أو الحقيقة المجسدة بالمجرد أو بالمزاج الباطنى أو بين الواقع والمثالى.
وتخطى الواقع إلى المثالى يحتاج إلى نوع من الرمز يطلق علية الرمزية المتجاوزة"التى تستخدم فيها الصور الملموسة، ليس كرموز لأفكار ومشاعر خاصة، تعتمل بداخل الشاعر، وإنما كرموز لعالم شاسع ومثالى يعتبر العالم الواقعى بالنسبة له شبيها غير متكافئ".
هذا المفهوم الخاص بوجود عالم مثالى يوجد فيما وراء الحقيقة يعود إلى أفلاطون، وحاول بودلير الوصول إليه عن طريق الشعر يقول:"إنه بالشعر ومن خلاله تدرك الروح الروعة الكامنة فيما وراء الحياة، ولكن برغم أن هدف شاعر الرمزية المتجاوزة هو أن يذهب إلى ما وراء الواقع، فمن الواضح أنه مثل شاعر الرمزية الإنسانية يستخدم الحقيقة والواقع كنقطة انطلاقة". بحيث إذا أراد رسم صورة لشئ مثالى علية أن يرسم صورة موازية له، حتى يصل إلى الجوهر الذى يجمع بين الاثنين فى النهاية.
إذن فالرمز وفـق هـذا المفهـوم يستـلزم الخبـرة بمـا تكنـه المحـسوسـات الخـارجيـة مـن جمـال أو علاقات ترسم مدلولاً معيناً، وتؤدى إلى مزيج من الواقع والشعر، ويكون الرمز ساعتها"
لمحة من لمحات الوجود الحقيقى يدل عند الناس ذوى الإحساس الواعى على شئ من المستحيل أن يترجم عنه بلغة عقلية، دلالة تقوم على يقين باطنى مباشر.
الرمز كما يقول يونج:"وسيلة إدراك ما لا يستطاع التعبيرعنه بغيرة فهو أفضل طريقة ممكنه للتعبير عن شئ لا يوجد له أى معادل لفظى هو بديل من شئ يصعب أو يستحيل تناوله فى ذاته". ولذلك يقول ابن عربى:"مما يحوى عليه منزل الرموز أيضاً منزل الآيات الغريبة والحكم الإلهية ومنزل الاستعداد والزينة، والأمر الذى مسك الله به الأفلاك السماوية ومنزل الذكر والسلب.وفى هذه المنازل قلت:
منازل الكون فى الوجود | |
منــــازل كلهـــــــا رموز | |
منازل للعقول فيهـــــــا | |
دلائــــل كلها تجـــــــوز | |
لما أتى الطالبون قصدا | |
لنيــــل شئ بـــذاك جـــوزوا | |
فيا عبيد الكيان حوزوا | |
هذا الذى ساقكم وجوزوا |
إن وراء الواقع أموراً ربما ليس لها معادل فكرى فيقوم الحدس بدورة فى مساعدة الرمز على مجاوزة صعوبة المعرفة الكونية، وتكون الرمزية وقتها"محاولة لاختراق ما وراء الواقع، وصولاً إلى عالم من الأفكار سواء كانت تعتمل داخل الشاعر، ربما فيها عواطف أو أفكار بالمعنى الأفلاطونى، بما تشتمل عليه من عالم مثالى يتوق إليه الإنسان". وبالطبع إن هذه المهمة لا تكفى فيها مجرد المجاوزة فى الرمز, ولكن لابد من الغوص فى التجربة الرمزية واستكناه جوهراللغة الكامنة فى العلاقات بين الصور التى تتوحد فيها مختلف الأحاسيس المنغرسة فى شعور الشاعر، واستكشاف التكوينات الداخلية داخل البناء الشعرى، وما يتشكل داخلة من علاقات باطنية , وما يحمله من قيمة إيجابية تمثل قيمة الرمز وسر متعته.
فإن لغة الرمز موقوفة فى روعتها على مقدرتها على تمثيل الأشياء وتصويرها تصويرا خيالياً عن طريق التماذج بين التجربة الداخلية وبين التجارب الخارجية للإنسان عامة، والقصيدة الرمزية توحى بعوالم خيالية تتألف من عناصر مستخلصة من تجربتنا للعالم الحقيقى"
فالأدب يعبـرعن التجارب فى صـوره ألفاظ , والألفـاظ بـدورها رموز لهـذه التجارب، وهذه الوسيلة الرمزية أى الألفاظ هى وسيلة محدودة ولكن ليس هناك حد لتجارب الخيال البشرى، لهذا كان فن الأدب فن استخدام وسائل محددة كرمز لتجارب غير محددة، فكان لابد للفنان الأديب أن يعرف كيف يجمع فى فنه كل ما احتوته الألفاظ من قوة التعبير والتصوير , وكل ما من شأنه أن يساعد على التوصيل، بحيث يستثير الخيال ويصرفه كيفما شاء , ويجب أن تكون الألفاظ قوية التعبير لكى تستطيع الإبانة عن تجارب المؤلف المراد توصيلها وتفهيمها
ويستلزم التركيب اللفظى للرمز الأدبى مستويين:
مستوى الصور الحسية التى تؤخذ قالبا للرمز، ومستوى الحالات المعنوية التى ترمز إليها بهذه الصور الحسية، والمعول فى تكوين الرمز على وجود علاقة تربط بين هذين المستويين، بحيث إذا تحققت الصور الحسية أثارت تلك الحالات المعنوية التى ترمز إليها ,ولكن هذه العلاقة لا تعتمد على وجه الشبه الحسى بين الرمز والمرموز، ضرورة أن المرموز ليس شيئاً حسياً وإنما هو حالة تجريدية إنها بالأحرى علاقة مرجعها إلى الشعور، ومن ثم هو علاقة حدسية وليست تقريرية واضحة، ثم هى علاقة ذاتية تتجلى فيها الصلة بين الذات والأشياء، وليس بين بعض الأشياء وبعضها الآخر
فلأن الرمز يتجاوز حدود العقل ليحتضن الأطراف المتناقصة،وتتكشف حقائقه عن طريق الحدس الذى يمس باطن الذات ويمتاح من نبع العاطفة والوجدان، ويأخذ من مخزون اللاشعور ما يكون به صور الشعور. فالرمز إذا يتضمن فى نفسه عناصر شعورية وأخرى لا شعورية،ولا يستطيع خلق رمز جديد سوى الذهن المرهف المرتقى الذى لا ترتضيه الرموز التقليدية الموجودة فعلا، وكما أن الرمز يصدر من أسمى مرتبة ذهنية كذلك يلزمه أن يصدر عن أكثر حركات النفس بدائية ليمس فى الإنسانية وترا مشتركا.
فالرمز يعتمد فى ظهوره إذن على الحدس من ناحية والإسقاط من ناحية أخرى., بالحدس يصل الفنان إلى الوتر المشترك، وبالإسقاط يحدد مشهده ويخرجه من نفسه واضعا إياه فى شئ خارجى هو هذا الرمز..."الذى يعكس كل خفايا النفس من عواطف وانفعـالات وأمـور أخرى مكبوتة فى اللاشعور يصعب عليه التصريح بها بصورة مباشرة فتصاغ الرموز كبدائل لتنوب عن الأصل الذى ترمز إليه.
وما قدمت عن الرمز بوصفة تجاوزا للواقع ومعادلاً موضوعيا لما يعتمل فى نفس الفنان والأديب من عواطف ومشاعر وانفعالات، فيربط بذلك بين الواقع والمثال بمساعدة الحدس الذى يملك القدرة على الغوص فى باطن الذات , يمتاح من نبع اللاشعور ويستكنه أسراره , وهذه الأمور موجودة فى جوهر التجربة الصوفية التى تملك رمزاً غريبا ً ونمطا عجيبا يضربون خلاله فى عالم ما وراء الحس ,محاولين الوصول بقلوبهم ومشاعرهم إلى ما لا يتسنى للعقل الوصول إليه ,وقد اطمأنوا إلى ما وافتهم به أذواقهم وأرواحهم من معان وما صورت به عالم ما فوق الواقع من صور لا توجد إلا فى أذهانهم وأخيلتهم وبواطنهم. وهذا يغذي عندهم روح الاغتراب، بل يضيف بعداً جديداً إلي أبعاده، ألا وهو اغتراب اللغة، وساعد على ذلك وجود ظاهرة وجدانية ولغوية فى الوقت نفسه، وهى ظاهرة الشطح.
– الشطح وعلاقته باغتراب اللغة:
عندما يجد الصوفي السالك نفسه وقد وصل إلي حضرة الألوهية، ووقف علي عتبة الاتحاد بالذات الإلهية، لا يستطيع تحمل الموقف، فيحدث له وجد عنيف، لا يستطيع معه كتمان الأسرار التي يطلع عليها، فينطق لسانه بعبارات مستغربة يتجاوز بها حدود العقل والمنطق والواقع، يطلق عليها"الشطح"الذي يعرفه السراج بقوله:"عباره مستغربة في وصف وجد فاض بقوته، وهاج بشدة غليانه وغلبته"
.
وقد حدد الدكتورعبدالرحمن بدوي عناصرضرورية لوجود ظاهرة الشطح هي:
أولا شدة الوجد، وثانيا أن تكون التجربة تجربة اتحاد؛ وثالثا أن يكون الصوفي في حالة سكر؛ ورابعا أن يسمع في داخل نفسه هاتفا إلهيا يدعوه إلي الاتحاد، فيستبدل دوره بدوره وخامسا أن يتم هذا كله والصوفي في حالة من عدم الشعور، فينطق مترجما عما طاف به متخذا
صيغة المتكلم، وكأنه الحق هو الذي ينطق بلسانه. أما الشطحة نفسها فتمتاز بعدة خصائص منها: أنها
بصيغة ضمير المتكلم، وإن كان هذا الشرط غير متحقق باستمرار، وأنها تبدو غريبة في ظاهرها، لكنها صحيحة في باطنها، أو علي حد تعبير السراج"ظاهرها مستشنع"، وباطنها صحيح مستقيم"
و لأن عبارات الشطح غريبة علي العامة، لا يستطيع فهما ولاتحمل مقاصدها إلا المحققون أو – كما وصفها ابن عربي – عليها رائحة رعونة ودعوى، وهي نادرة ما توجد بين المحققين؛ لأن قائلها نطق بأسرار ما كان يجب عليه البوح بها، فإنها كانت من أهم أسباب اغتراب قائليها منذ بداية العصر الأول للتصوف"إذ بدأ التصوف بإعلان عقيدته فيما اعتبر شطحا، وقد أودي بحياة بعض الصوفية الأوائل، وأشهرهم الحلاج، وبه اضطهد الآخرون بسبب كلمات لهم قيلت، فتعرضوا للنفي والطرد والمحاكمة"
وكان الشطح كذلك من أهم أسباب اغتراب اللغة عند الصوفي"فإن الشطح هو صفه البكارة اللغوية يلبسها النطق. إنه غيبوبة عن اللغة – الاصطلاح، إنه باطن اللغة الموازي لباطن الألوهة – كما أن باطن الألوهة لا نهائي، فإن باطن اللغة أو الشطح يوحي بأبعاد لا نهائية، إنه اللغة فيما وراء اللغة"
فباطن اللغة عند الصوفية يتناول – دائما – علم الأذواق والحقائق التي لا تستقيم مع ظاهر الشرع وتقاليده، مثل قول أبي يزيد البسطامي:"لأن تراني مره خير لك من أن تري ربك ألف مره"وقوله مخاطبا الله:"طاعتك لي يارب أعظم من طاعتي لك". فلو حكمنا علي هاتين العبارتين وأمثالهما بحكم الظاهر لاتهمنا قائلهما بالكفر؛ لأن الظاهر يحكمه الشرع، أما الباطن فتحكمه أذواق الصوفي ومواجيده، هنا تحدث المفارقة التي هي السمة الأساسية التي تميز الشطح"
فالمفارقة التي تحدث بين الظاهر المستشنع، والباطن الصحيـح المستقيـم. ومـن هـذه الوجهـة يمكـن أن نعـد الشطـح بمثابة إفراغ لما ينطوي عليه الوجدان من التوترات، وهو إفراغ يأخذ شكل الدلالة اللغوية المزدوجة، وازدواج الدلالة في الشطح ليس سوي تأكيد لطابع المفارقة..."
ويبدو أن تلك السمة اللغوية – إن كانت قد بدأت مرفوضة، وتؤدي بصاحبها إلي الاضطهاد – فإنها في العصور المتأخرة، وخصوصا في العصر المملوكي لم تعد مستبشعة، ولذلك نري أحد الأقطاب المحققين وهو إبراهيم الدسوقي يهتف بمريده قائلا:
مريدي لا تخف واعلم بأني | |
قريب السر من مولي الموالي | |
مريدي طب وهم واشطح وغني | |
وافعل ما تشاء فالاسم عالي | |
مريدي إنني أدعي الدسوقي | |
وشيخ المصطفي كاسي ملالي |
وقوله:
ليس لي شيخ ولا لي قدوة | |
غير طه من أتاني أولا | |
مريدي طب وهم واشطح وغب | |
أنت من بيت به الخير ملا |
وهنا يتضح أن الرفض يأتي من أن أصحابها يفصحون بها دون إذن إلهي، وعند ذلك لا تصبح من درجات الكمال الروحي.
ونستخلص مما سبق أن شعراء الصوفية كان لهم أسبابهم فى اللجوء إلى الرمز وأهم هذه الأسباب ما يلى:
1- أن الصوفى يعيش تجربة وجدانية شديدة الخصوصية يتحد فيها بخالقه اتحادا شهوديا، تتجلى له الذات من خلاله وتتكشف له الحقائق والأسرار... التى لا توهب لأحد غير العارفين والأولياء؛ لأن السرعند أئمة الصوفية هو الذى ينفرد به الأولياء والعارفون بالله بما أودعه الله فى قلوبهم من الأسرار الإلهية والحقائق الربانية التى لا يعرفها إلا أحباء الله ,ولذلك كانت هذه الأسرار مما يجب سترها على العامة"الذين لا يفهمون مقاصدهم ولا يتحملون أسرارهم.,لأن"عبادتهم إما لفيضان وجد أو لقصد هداية على حد قول ابن عطاء الله فى حكمه ومن ثم قال الشاعر:
لم يكتم السر إلا كل ذى ثقة | |
فالسر عند خيال الناس مكتوم |
ولذلك لجأ الصوفى إلى أسلوب الستر واصطنعوا أسلوبا رمزيا شيقا وشائكا فى الوقت نفسه، يعبرون من خلاله عن مكنون نفوسهم وأنات قلوبهم وحالات الوجد والشوق والغيبوبة التى تمر بهم.
2- أن كثيرا من نزعاتهم وأقوالهم يخالف ظاهر الشريعة، فلا يمكن الإفصاح عنها خوفا من سلطان الفقهاء الذين كانوا يتتبعون الصوفية فى كل عصر بالتشهير، وربما وصل الأمر إلى المحاكمات والقتل، مثلما حدث مع الحلاج والسهروردى المقتول , فكان هذا"التمييز بين"المعروف"بالكشف والإلهام وبين"المسموح"بالبوح به فقط تمييز هام فى الفكر الصوفى، منذ تعرض الصوفية للمحاكمات والقتل بسبب بوحهم بالأسرار الإلهية التى لا تطيقها ولا تتحملها عقول العامة، بل لا تطيقها بالأساس المؤسسات الدينية الرسمية"وهذا ما دفع زين العابدين حفيد على بن أبى طالب إلى القول:
يارب جوهر علم لو أبوح به | |
لقيل لى أنت ممن يعبد الوثنا | |
ولاستحل رجال مسلمون دمى | |
يــــرون أقبـــح ما يأتونه حسنــــا | |
إنى لأكتم من علمى جواهره | |
كى لا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا |
3- وأهم أسباب لجوئهم إلى الرمز يتمثل فى عجز اللغة العادية عن الوفاء بحق التعبير عن مواجد الصوفية ومعارفهم"كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، هكذا يقول النفرى محمد بن عبد الجبار بن الحسن ت 366 هـ، 977 وابن عربى يؤكد أن"قوالب ألفاظ الكلمات لا تحل عبارة معانى الحالات". ويذكر نيكلسون أن الصوفية قد اصطنعوا الأسلوب الرمزى , لأنهم لم يجدوا طريقا آخر ممكنا يترجمون به عن رياضتهم الصوفية والعلم بخفايا عالم الغيب المجهول الذى ينكشف فى رؤيا جذبية... ليس فى الطوق تبيانه دون اللجوء إلى صور ومشاهدات منتزعة من عالم الحس، وهذه الصور والأمثال - مع أنها ليست خالصـة الصـدق – تكشـف عـن معـان وتوحـى بصـور أعمـق مما يبدو على ظاهرها.
ولكن لابد من الإشارة إلى أن تلك الرموز لا تعنى اصطلاحات الصوفية التى استخدموها فى الإشارة إلى أحوالهم ومقاماتهم فى شكل مركز مضغوط، وفى حالة سكونية , ولكنها لا تحمل فنية الأسلوب الرمزى أو جمالياته التى تأتى فى حالة تصويرية انفعالية.
– الغموض والتأويل:
والمطلع على الرمزية الصوفية يواجه بلون غريب من الغموض , وهذا شئ طبيعى مع أدب ينحو نحو تجريد المحسوسات وإلباسها معان ربما تكون مبيته , ولكنه يمتاحها من باطن الذات , ويرى فيها أصلا ترتد إليه جزئيات الواقع ومظاهره , ثم هو طبيعى حين يرى الشاعر أن الدلالة اللغوية قاصرة عن تقرير حالات النفس بكل ثرائها وعمقها , فيلجأ إلى الإيحاء بها وإثارة ما يشبهها فى وجدان المتلقى عن طريق الرمز والموسيقى الشعرية، وقد يضطره ذلك إلى أن يحدث فى متن اللغة وقواعدها ما لا عهد لها به، حتى يهيئ لها كيانا جديدا تستطيع به أن تؤدى وظيفتها الإيحائية المبتغاة. فيقترن تعقيد التركيب الكلامى بتعقيد الجو النفسى المراد إثارته , بل لقد يتعمد الشاعر إلقاء بعض الظلال على معانية وتغليفها بغلالة سحرية تجنبها خطر البوح المبتذل.
ولأن أساس الرمز الإيحاء فلا يجب أن يكون المستوى التجريدى المرموز محدداً بكل قسماته وأبعاده، فالإيحاء ضد التقرير المباشر للأفكار والعواطف , وخصوصاً عندما يريد الشاعر التلويح بلغته ليس فقط لمشاعره الخاصة، ولكن معان وأفكار فلسفية لا يريد البوح بها، ويتوافق هذا مع ما رآه حازم القرطاجنى من أن أحد أسباب الإغماض فى المعانى أن يكون المعنى قد قصد به الدلالة على بعض ما يلتزمه من المعانى ,ويكون منه بسبب على جهة الإرداف أو الكناية به عنه أو التلويح به إليه أو غير ذلك
ولفك شفرة التعقيـد الموجـود فى النـص الصوفـى لجـأ مـن تعرضـوا لـه إلى التأويـل لفهمـه
وتوسيع دائرة استيعابهم له. وكلمة التأويل كلمة دارت فى اللغة واستخدمها القرآن الكريم فى سبع عشرة مرة،ويعنى التأويل العودة إلى أصل الشئ سواء كان فعلاً أو حديثا وذلك لاكتشاف دلالته ومغزاة
ويرى د. مصطفى ناصف أن فكرة التأويل قديما ليست هى بعينها فكرة المدلول أو التفسير النفسى حديثاً؛ لأن كلمة التأويل كانت تطلق كثيرا للدلالة على مناهج المتصوفة والأخذ منها بالتفسير الشيعى أو الإشارى أو الباطنى، وهؤلاء يدخلون على النص ببعض الأفكار السابقة وكذلك المفاهيم والأذواق الخاصة التى يطبقونها على الآيات ويطوعونها لمذاهبهم ولا يؤمنون بالظاهر إلا بما يصل بهم إلى الباطن وفق نظرياتهم وآرائهم الفلسفية عن المعرفة والعقل والقلب.
ويمكن الوصول إلى مفهوم للتأويل يتوافق مع هذا الاتجاه"فالتأويل - بوصفه نوعا من المعرفة- يعد ضربا من الحدس النفسى حيث لا يقتصر على مجرد التماس ما يقوله النص بل يبحث فى عبقرية المبدع وبالدخول إلى عالمه الروحانى بلغة روحية تكون صالحة لتفسير وتحليل الظواهر النفسية والحيوية للرمز الذى يحتويه هذا النص الصوفى 0
الرمز والإشارة عند شعراء الصوفية
فى القرن السابع
أولا- موقفهم من الرمز والإشارة:
ارتبط الرمز عند شعراء الصوفية فى القرن السابع بالتجربة الصوفية التى عاشوها وورثوا فكرها من السابقين عليهم، فنبت فى تربتها وجمع خلاصة مغزاها وفلسفتها فوجدت فيه هى الأخرى حياتها ومنفذ التعبيرالأهم عن مكنون أسرارها التى لا يجب أن يطلع عليها غيرأهلها، فاتخذوا الرمز والتلويح وسيلة لذلك كما يقول ابن الفارض:
وعنى بالتلويح يفهم ذائـــــــق | |
غنى عن التصريح للمتعنـت | |
بها لم يبح من لم يبح دمه وفى | |
الإشارة معنى والعبارة حدت |
لا يفهم كلامه إلا اولو الذوق ومن ذاق عرف الذين يفهمون الكلام بالتلويح لا بالتصريح، ولهذا أغنته الإشارة عن العبارة التى قد تبيح دمه للغوغاء الذين لا يفهمون مقاصده وكلامه، أو حتى للمؤسسات الدينية التى يسيطر عليها فقهاء الظاهر.
ويعلن ابن الفارض أنه اعتمد علىالإشارة والرمز بدلاً من لغة المباشرة والتصريح، يقول:
وأسماء ذاتى عن صفات جوانحى | |
جوازاً لأسرار بها الروح سرت | |
رموز كنوز عن معانى إشارة | |
بمكنون ما تخفى السرائر حفت |
ويقول:
أشرت بما تعطى العبارة والذى | |
تغطى فقد أوضحته بلطيفة |
ويقول:
وآخر ما بعد الإشارة حيث لا | |
ترقى ارتفاع وضع أول خطوتى |
فالأبيات تشير إلى أن استخدامه للرمز والإشارة بدلاً من التصريح والعبارة، لإخفاء أسرار لا يجب البوح بها , بالإضافة إلى أن العبارة عاجزة عن التعبير عن مقدار المعارف المستكنة، يوضح أنه إذا رمز لشئ فإنه سيوضح هذا الشئ بلطيفة، وأظن أن هذه اللطيفة هى القرائن التى
يجعلها مصاحبة للرمز حتى تساعد فى فك شفرات النص، وفتح ما استغلق من أبواب فهمه، وجلاء ما غمص فيه مثلما يقول:
سأجلو إشارات عليك خفية | |
بها كعبارات لديك جلية | |
وأعرب عنها مغربا حيث لات حـ | |
ـين لبس بتبيانى سماع ورؤية | |
وأثبت بالبرهان قولى ضاربا | |
مثال بحق والحقيقة عمدتى | |
بمتبوعة ينبيك فى الصرع غيرها | |
على فمها فى مسها حين جنت | |
ومن لغة تبدو بغير لسانها | |
عليه براهين الأدلة صحت | |
وفى العلم حقا أن مبدى غريب ما | |
سمعت سواها وهى فى الحسن أبدت |
الإشارة والعبارة هنا ليس بما يتعلق بالنص ولكن ما يتعلق بإثبات ما قدمه على هذه الأبيات من وصوله إلى درجة رفيعة من الاتحاد بالذات الإلهية، ولكن أتيت بهما وبالأبيات لإثبات دراية ابن الفارض بحقيقة استخدامه للإشارة والرمز ومحاولته فك الغموض الذى يدور حولهما وبهما، فيضرب المثل على ما يدور على لسانه من حديث أثناء اتحاده بما تنطق به المصروعة حال الصرع ولبس الجن لجسدها وحديثها - رغماً عنها - بلغات متعددة غير لغتها ,و ما أراد إلا إثبات جوازالاتحاد مطلقا بشرط وحدة النفس وعدم تكثرها
أما عفيف الدين التلمسانى فإنه كان كثيراً ما يشير إلى كتمانه لسر المحبوب وصيانته له فى داخله يقول:
أمثلى يسلوا أو يبوح بسره | |
وفى قلبى المحزون سرك مخزون |
و يقول:
إذا رمت أن تبدى مصونات سره | |
فحدث بذاك الحى عن ذلك الخبا |
وإذا كان يصون السر ويحفظه فى قلبه فإنه عادة ما كان يصرح ببعضه، ولا يأتى ذلك جهلاً منه وإنما من أثر النشوة التى يشعر بها من الخمر الإلهى وغلبة الوجد عليه يقول:
وما صرح العشاق جهلا وإنما | |
إذا سكر العشاق من طرب غنا |
وفى هذا المعنى يقول الدسوقى:
ما على العاشق إذ بـــــا | |
ح وابـــدي مـــــا أسره | |
كيــــــف يخفى وهواه | |
قـــــد سقاه الحب خمرة |
وإذا أراد العفيف التعبير عن هذه الأسرار عبر عنها بالإشارة لا بالعبارة:
مشارا إليه صورة من جهاتها | |
جميعاً ومعنى من حقائق غيب |
ومن أجل توضيح المعنى المغيب خلف العبارة نوه شعراء الصوفية إلى استخدام التأويل، أى محاولة التفسير والتوضيح للوصول إلى المعنى المراد أو القريب منه يقول ابن الفارض:
وأوضح بالتأويل ما كان مشكلاً | |
علـــى بعلم نالــــه بالوصيـــة |
وذلك عودة إلى العلم الباطن وإفصاح عن هذه الفكرة الراسخة فى البيئات الصوفية أن المتلقى لا يجب أن يقف عند ظاهر العبارة، بل لا بد أن يخترق السطح إلى الباطن.
ويقول الدسوقى:
فإن سمعت أحاديث الصفات فقل | |
آمنت بالله تصديقا وإيمــانا | |
ورد علــــم خفايــــاها لعالمهــــا | |
و إن تأولت قد أولت بهتانا |
ويعتمد التأويل أحيانا على حركة الذهن فى اكتشاف"أصل"الظاهرة أو فى تتبع عاقبتها ,وبكلمات أخرى يمكن أن يقول"التأويل"على نوع من العلاقة المباشرة بين الذات والموضوع فيعيش المتلقى النص الصوفى بقلبه وروحه , لأن النص لا يعطى مفاتيحه إلا لمن عاش التجربة وتذوق حقيقتها، ولا يؤول تأويلا خاطئا كالذى ذكرة الدسوقى.
ثانيا- أنماط الرمز فى الشعر الصوفى:
جمعت التجربة الصوفية بين نوعين من الرمزية: الرمزية الأسلوبية بما تتضمنه من صور بيانية وخيالية وبديع وبيان ولوحات كلية، ورمزية موضوعية تتناول موضوعات الصوفية وفلسفاتهم عن الحب الإلهى والخمر والكون والاغتراب ووحدة المعرفة والنفس وغير ذلك.
والذى يعنينا هنا مناقشة النوع الثانى أى الرمزية الموضوعية ومعرفة أبعادها وكيفية توظيف شعراء الصوفية لها لخدمة أغراضهم ومعتقداتهم، وإذا كان الدكتورعزالدين إسماعيل يرى أن"النظر إلى الرمز فى الشعر بوصفه مقابلا لعقيدة أولأفكاربعينها , فإن هذا النظر يخطئ معنى الرمز الفنى ورمزية الشعر إجمالا , وهو عيب يتورط فيه بعض النقاد أحيانا , فالرمز المقابل لعقيدة أو فكرة يخضع لعملية تجريد عقلى تختلف تماما عن العملية النفسية التى تصحب استكشاف الرمز واستخدامه".
فإننا إذا أسقطنا هذا القول على الرمز الصوفى نجد أن الشعر الصوفى ليس مجرد شعر ناشئ عن عقيدة وفكر فلسفى، ولكنه ناشئ عن تجربة وجدانية صادقة ونفس فياضة اتصلت بخالقها، فصفت وصقلت مرآتها , فتلقت الحقائق الإلهية التى لم تجد فرصة للتعبيرعنها سوى أن تستمد من مخزون الخيال صورا رمزية ملائمة تعبر خلالها عن مشاعر راقية وروح ذابت فى محبوبها , فوصلت بالكشف إلى رموز ملائمة دون ترتيب أو وضع المجاور تجاه مجاورة فى عملية آلية حسابية لخلق معادل موضوعى، وهذا فيه رد على قول د0 رجاء عيد:"إننا نرى أن الشعر هو الذى يخلق إشاراته، وهو الذى يوحى إلى تضميناته ولا يحق للصوفى أن يفرض علية إشارات من غير قدرة يطوع بها الأداء , حتى يستطيع أن يتحمل تلك الإشارات والتلويحات التى يريدها الصوفيون0
ربما صدق ذلك على شاعر فيلسوف كابن عربى خصوصاً فى شعر الفتوحات المكية وترجمان الأشواق , ولكن لا يصدق على شعراء عاشوا التجربة الصوفية بنقائها دون تعقيدات الفلسفة , هذا بالإضافة إلى أن الشعر الصوفى يعبر عن حالة فنية خاصة يجب على المتلقى مراعاة خصوصيتها وصدق وجداناتها , وعدم الحكم عليها من خلال الشروح التى تركها صوفية ربما لا يتفقون مع الشاعر فى نفس اتجاهه، كشرح النابلسى لديوان ابن الفارض، الذى أصاب أشياء وأجبر النص على النطق بأشياء أخرى قد لا تتجاوب مع حقيقتها.
والمهم أن شعراء الصوفية فى مصر قد عاشوا تجربة الحب الالهى فوجدوا فى ميدان الغزل الإنسانى والخمريات والطبيعة - بما تتضمنه بين جنباتها من مظاهر الحس الإلهى - رموزاً على حياتهم الروحية ,فإن نوع الرمزية التى يفضلها الصوفى"يتوقف على خلقه وجبلته، فان كان دينا فنانا أى شاعرا روحيـا فأفكـاره كذلـك عـن الحقيقـة تتشـح تلقائيـا ثيـاب الجمـال والصـورالمشتعلـة
بالحب البشرى"ولهذا سيكون أول رمز استعمله الصوفية هو الرمز الأنثوى.
أ- الرمز الأنثوى فى الشعر الصوفى:
اتخذ الصوفية من الأنثى رمزا موحيا دالاً على الحب الإلهى، وحاولوا التأليف بينهما؛لأن الأنثى تمثل رمزاً من رموز الجمال المطلق، وحين يبثها الشاعر وجده فإنما هو فى الحقيقة يعبر عما ترمز إليه إلى الحق والجمال، إذ الحق كما يقول ابن عربى:"لا يشاهد مجردا عن المواد أبدا لأنه بالذات غنى عن العالمين , فإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا ولم يكن الشهود إلا فى مادة، فشهود الحق فى النساء أعظم الشهود وأكمله"، ومن ثم يجعل التغزل بهن والتشبيب لتعشق النفوس لهذه العبارات، فتتوافر الدواعى على الإصغاء إليها , وهو لسان كل أديب ظريف، وقد نبهت على المقصد فى ذلك بأبيات وهى:
كل ما اذكره من طلل | |
أو ربوع أو مغان كلما |
الى أن يقول:
أو نساء كاعبات نهد | |
طالعات كشموس أو دما | |
منه أسرار وأنوار جلت | |
أو علت جاد بها رب السما | |
لفؤادى أو فؤاد من له | |
مثل مالى من شروط العلما | |
صفة قدسية علوية | |
أعلمت أن لصدقى قدما | |
فاصرف الخاطر عن ظاهرها | |
واطلب الباطن حتى تعلما |
لا يقصد بالألفاظ معناها الظاهر – إنما يريد معنا خاصا به وبالعارفين، ويلجأ إلى ذكر ألفاظ النسيب فى الغزل، ليجذب السامع ويستولى على لبه وعاطفته ويقرب مشاهد التجلى الإلهى إلى النفس فإذا"شاهد الرجل الحق فى المرأة كان شهودا فى منفعل، وإذا شاهده عنه- شاهده فى فاعل، وإذا شاهده فى نفسه- من حيث ظهور المرأة عنه - شاهده فى فاعل، وإذا شاهده فى نفسه من غير استحضار صورة ما تكون عنه كان شهوده فى منفعل عن الحق بلا واسطة، فشهوده للحق فى المرأة أتم وأكمل؛ لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل...فلهذا أحب النبى عليه الصلاة والسلام النساء لكمال شهود الحق فيهن، إذ لا يشاهد الحق مجردا عن المواد أبدا، فإن الله بالذات غنى عن العالمين، وإذا كان الأمر مـن هذا الوجـه ممتعـا ولـم تكـن الشهـادة إلا فـى مـادة، فشهـود الحـق فـى
النساء أعظم الشهود وأكمله"
فإذا كان الحب الإلهى قائم على المعنويات المحضة، والأمور المجردة، ولا يمكن بث صبابتها وإطلاق شرارة هيمنتها كما هى فى مكنون النفس الا بضرب من واقع الحياة مما هو مانوس ومستقر من عالم الأكوان، فكان رمز المرأة هو صاحب الخطوة، فإذا كان الإنسان أعظم مجلى لجمال الله ولا سيما النساء،"لإن كل آخر يتضمن ما قبله، والمرأة خلقت بعد آدم ولذا تتضمن صورة العالم، فهى أجمل ما خلق الله". وحتى نكون أكثر واقعية فإن"أعظم ظهور لله تعالى هو تجليه فى المرأة للرجل وفى الرجل للمرأة وذلك أن الله أوجد هذا المخلوق المسمى إنسانا حبا له وتوددا إليه فهو الودود، ثم ينفخ فيه من روحه فما اشتاق إلا لنفسه، ثم اشتق له منها شخصا على صورته، سماه امرأة، فظهرت هذه المرأة بصورة تشبه صورته فحن إليها حنين الشئ إلى نفسه، وحنت إليه حنين الشئ إلى وطنه"، وهذا جعل شعراء الصوفية يضربون بالمرأة المثل للجمال الإلهى ويتخذونها رمزا للذات الإلهية.
يقول الدسوقى مبينا أن ما يذكره من أسماء إنما يشير بها فى الحقيقة للذات الإلهية التى هى محبوبته الحقيقية:
وما شهدت عينى سوى عين ذاتها | |
لأن سواها لا يلم بفكرتى | |
بذاتى تقوم الذات فى كل زروة | |
أجدد فيها حلة بعد حلة | |
أنا موجد الأشياء من غير حاجة | |
بكره كان الكون من غير التى | |
فليلى وهند والرباب وزينب | |
وعلوا وسلمى بعدها وبثينة | |
عبارات أسماء بغير حقيقة | |
و ما لوحوا بالقصد إلا بصورتى |
و يقول التلمسانى فى هذا المعنى فى قصيدته:
وقفنا على المغنى قديماً فما أغنى | |
ولا دلت الألفاظ منه على معنى |
يقول فيها:
نرى للغيد الحسان له سنا | |
وهم من بدور التم فى حسنها أسنا | |
نسائل بانات الحمى عن قدودهم | |
ولا سيما فى لينها البانة الفنا | |
ونلثهم ترب الأرض أن قدمت بها | |
سليمى ولبنى لاسليمى ولا لبنى | |
فوا أسفى فيه على يوسف الحمى | |
ويعقوبه تبيض أعينه حزنا |
و المثالان يشيران إلى طريقة الصوفية فى التلويح بالرمز الأنثوى، حيث يضايفون بين العينى والمجرد، ويحيلون- بضرب من التبادل- التصور الذهنى للأزل بوصفة نفيا مفزعا وسلبا لمفهوم البدء الزمانى، إلى مدرك محسوس يوحى ياستطيقا المرأة وما تؤديه من جمال بصورة مجردة، حيث تنتفى الأشخاص المشار بها ويبقى المشار إليه. فهم ينظرون إلى المرأة - مثل - غيرها من تعينات الجمال الإلهى – نظرة تجريدية ميتافيزيقية لا يحفلون خلالها بالأشكال العادية، وإنما كان احتفالهم بالمفاهيم الرحبة التى ترتبط بقدرة هذه الأشكال على الرمز عما يكن بداخلهم من مشاعر الحب المشتعل تجاه محبوبتهم التى لا يريدون التصريح بحبهم لها.
وهذا هيأ لهم الحرية والانطلاق فى عالم من الجمال المطلق الذى يشير إلى الأبدية أو اللانهائية
1- رمز الغزل العذرى:
وخير ما ظهر فيه الرمز الأنثوى هو الغزل العذرى، فإذا كان شعراء الصوفية قد وصفوا حبهم الإلهى من خلال عواطفهم التى سمت وارتقت، وكان لهم أن يعبروا عن العلو فى تنزله وتدليه وتجلياته فى الصور بما يناسبه فوجدوا فى رمز المرأة بغيتهم"وكان الصوفية المتأخرون قد أهابوا فى تركيب رمز المرأة بأمشاج من مذهبين رائدين فى فن الغزل، فأخذوا من الغزل الصريح شيئا من الحسية الشهوانية والتغنى بمظاهر الجمال الفزيائى، واستعاروا من الغزل العذرى لغته المفعمة بالتعالى والتطهر والعفة والمعاناة والرومانسية التى تدور حول الهجر وتمنى الوصال، ومزجوا هذين النمطين فى بناء شعرى مرموز لم يكن بمعزل عن تصورات غنوصية خاصة تعد فى نظرنا الأساس الجوهرى لرمز المرأة فى شعرهم..."
والغزل العذرى ظهر فى الحجاز بأثر من الإسلام فى الحياتين الاجتماعية والأدبية ودعوته إلى جهاد النفس ومقاومة الهوى، حتى كان بعض الغزلين من الزهاد الأتقياء؛ لأن عماد هذا الغزل العفيف أمران: صـدق العاطفـة وصـدق العقيـدة. ومـا لبـث هـذا الغـزل العـذرى"أو التطابـع
الإنسانى أن تطور إلى حب صوفى، وفى الحب الصوفى اتسع معنى الحب وعمقت معانية الإنسانية والروحية وغنيت العاطفية فيه بالنظريات الفلسفية". والمهم أن الأدب الصوفى وجد فى الغزل العذرى معينا طيبا ونبعا سلسالاً من الشعر الذى يتوافق مع مواجيدهم فأنشدوه فى مجالس السماع، وكذلك وجدوا فى قصص العشاق العذريين التى وردت فى صورة ثنائيات عاشقة مثل: قيس وليلى - جميل وبثينة - كثير – وعزة وجدوا فيها رموزاً على حبهم الإلهى مع وجود بعض الفروق والاختلافات بين التجربتين: تجربة الحب العذرى وتجربة الحب الإلهى أهمها:
1- أن الحب العذرى متعلق بمحبوب فان والحب الإلهى يتعلق بمحبوب خالد باق، ولهذا كان من الطبيعى أن تختلف نتيجة كل تجربة؛ ذلك أن العاشق العذرى يدخل تجربته سليما معافى ثم لا يزال به الحرمان والشوق والجوى حتى ينحل جسمه ويذوى عوده وتضطره مشاعرة أن يختلط عقله، وإذا هو يهذى هذيان المحموم أو المجنون.
وليس كذلك الصوفى فى عشقة أنه يبدأ بالتجربة راعشا مضطربا مختلطا أشبه بالطفل لأول خطوات يخطوها، ثم لا يزال يشتد رويدا حتى تثبت أقدامه وتستقيم خطواته على الطريق.
2- أن الحب العذرى قد ينظفئ بالوصول إلى المحبوب فينتهى بتحقيق المراد، ومن ثم تهدأ النفس بعد أن تضيع جذوتها المشتعلة. أما الحب الصوفى فهو بحرلا ساحل له وطريق لا ينتهى مسلكه، وعين ثر لا تطفئ الظمأ، حيث إن تجليات الحق قد لا يرتوى بها عارف ولا يشبع منها مشتاق". كما ذكر فى وصف حال الاغتراب الدائم عند الصوفى. ولقد تمثل توظيف الصوفي لرموز الحب العذرى فى مظاهر أهمها:
توظيف قصص الحب العذرى وأسماء العشاق العذريين، ويتمثل ذلك فى قوله ابن الفارض:
وصرح بإطلاق الجمال ولا تقل | |
بتقييده ميلا لزخرف زينة | |
فكل مليح حسنة من جمالها | |
معار له، أو حسن كل مليحة | |
بها قيس لبنى هام بل كل عاشق | |
كمجنون ليلى أو كثير عزة | |
فكل صبا منهم إلى وصف لبسها | |
فظنوا سواها، وهى فيهم تجلت |
ثم يقول:
وتظهر للعشاق فى كل مظهر | |
من اللبس فى إشكال حسن بديعة | |
ففى مرة لبنى وأخرى بثينة | |
وآونه تدعى بعزة عزت | |
ولسن سواها لا ولا كن غيرها | |
وما إن لها، فى حسنها، من شريكة | |
كذاك بحكم الاتحاد بحسنها | |
كما لى بدت فى غيرها وتزيت |
فكل جميل إنما يستعير جماله وملاحته من الجمال المطلق لمحبوبته، وإذا كان عشاق العرب كقيس بن زريح وكثيرو قيس بن الملوح المجنون قد هاموا بمحبوباتهم لبنى وليلى وبثينة فإنهم هم فى الحقيقة يهيمون بمحبوبته هو التى تجلت بجمالها وحسنها فى مظاهر المعشوقات السابق ذكرهن، ومثلما ظهرت بوادر الاتحاد الروحانى بين المحبين العذريين ومحبوباتهم ظهرت بينه وبين محبوبته، فمن مظاهر نضج واكتمال تلك العاطفة التى ظهرت بين العذريين نظرية"الاتحاد"التى لم تظهر فى الأدب الصوفى إلا بعد ردح طويل من الزمان ويتجلى ذلك عندما"قيل لمجنون بنى عامر أتحب ليلى"؟ قال لا: قيل ولم ؟ قال لأن المحبة ذريعة للوصلة وقد سقطت الذريعة فليلى أنا وأنا ليلى"
ويرمز الشاعر لنفسة حالة الاتحاد بمحبوبته بعشاق العرب العذريين يقول:
بدوت لها فى كل صبت متيم | |
بأى بديع حسنه وبأية | |
وليسوا بغيرى فى الهوى لتقدم | |
على، بسبق فى الليالى القديمة | |
وما القوم غيرى فى هواها وإنما | |
ظهرت لهم اللبس فى كل هيئة. | |
ففى مرة قيسا وأخرى كثيرا | |
و آونه أبدو جميل بثينة | |
تجليت فيهم ظاهرا واحتجبت يا | |
وطنا بهم،فاعجب بكشف بسترة | |
فكل فتى حتى أنا هو وهى حـ | |
ـب كل فتى والكل أسماء لبسة |
ويظهر تأثر الشاعر برومانسية الحب العذرى ورموزه التي تجلى فيها لمحبوبته، وكان لشخصيتى"قيس وليلى"النصيب الأوفى من الرموز، حيث يتبدى فى تفاصيل قصتهما المراحل التى يجتازها الصوفى المحب للوصول إلى درجة الفناء فى محبوبته"ويمكن أن تقسم مراحل هذه العاطفة من حياة"قيس"إلى ثلاث: مرحلة الأثرة ومرحلة الإيثار ومرحلة الفناء الصوفى.
أما مرحلـة الأثـرة فهى بدو الحب،...، وما لبثـت أن أعقبـت ذلك مرحلـة الإيثـار إذ دفعـه
الإخلاص فى هذا الحب إلى أن تكون الحبيبة آثر لديه من ذاته فمرضاتها مقدمة على مرضاته،والمرحلتان محصورتان فى دائرة الحب العذرى،وهذا الحب عند"قيس"كما هو عند الصوفية حب مجازى أى قنظرة إلى ما بعده من حب حقيقى، ومرحلة الإيثار طويلة ويصحبها قلق التفكير، وشبوب العاطفة الإنسانية، والوفاء الذى لا يعرف حدودا، وليلى عنده لا بديل لها فى كل ما رأى من العالم".
وهذه - فى الغالب- مراحل الصوفى فى الوصول إلى الاتحاد بمحبوبته، حيث يسلك المحب كل طريق حتى يصل إلى محبوبته، التى يؤثرها على كل شئ،وتصبح هى مالكه قلبه وحياته كلها. يقول ابن الفارض:
أو ميض برق بالابيرق لاحا | |
أم فى ربى نجد أرى مصباحا ؟ | |
أم تلك ليلى العامرية أسفرت | |
ليلا،فصيرت المساء صباحا | |
يا راكب الوجناء وقيت الردى | |
وإن جبت حزنا أو طويت بطاحا | |
وسلكت نعمان الأراك فعج إلى | |
واد، هناك عهدته فياحا | |
وإذا وصلت إلى ثنيات اللوى | |
فانشد فؤادا بالأبيطح طاحا |
الأبيات ترمز إلى تجلى الذات الإلهية التى أشرق نورها فى عالم الأرواح،وتمثل ليلى العامرية الذات الإلهية فى هبوطها وتدليها على قلب العارف بالعلم والمعرفة الذوقية، وتجلى السر الباهر والأمر القاهر، والأبيطح كناية عن المقام الذاتى الجامع لجميع الأسماء والصفات، فنلاحظ توفر المعادل الموضوعى لما يداخل ابن الفارض من مشاعر، وربما أفكار، يريد أن يبثها رمزاً ماديا على المعنويات التى بداخله، وكأنه قيس الذى يجوب شعاب بنى عامر. يقول فى التائية الصغرى:
غرامى بشعب عامر شعب عامر | |
غريمى وإن جازوا فهم خير جيرتى | |
ومن بعدها ما سر سرى لبعدها | |
وقد قطعت منها رجائى بخيبتى |
ويقول فى التائية الصغرى كذلك:
ولما أبت الإجماحا ودارها إنـ | |
تزاحا وضن الدهر منها بأوبة | |
تيقنت ألا دار من بعد طيبة | |
تطيب وألا عزة بعد عزة | |
سلام على تلك المعاهد من فتى | |
على حفظ عهدا العامرية ما فتى |
يشير إلى المحبوبة النافرة التى عز وصلها بعزة محبوبة كثير، وأشار بشعب عامر معاهد العامرية إلى حضرات الحقيقة المحمدية، والعامرية كناية عن المحبوبة الحقيقة المشار إليها وهى الذات الإلهية.
بل إن ابن الفارض يفتتح مطالع بعض قصائده بذكر اسم المحبوبة كليلى وسلمى مرتبطة بتجليها عليه ليلا، ساعة يجن الليل ويخلد كل حبيب إلى حبيبه فيسكن هو إلى محبوبته الدائمة:
هـل نار ليلى بدت ليلا بذى سلم | |
أم بارق لاح بالزوراء فالعلــــــم |
وفى قصيدته:
ابرق بدا من جانب الغور لامـــع | |
أم ارتفعت عن وجه سلمى البراقع |
فى هذه القصيدة يغوص فى الملامح البدوية المعبقة بعطورالرومانسية، ويذكر أكثر من رمز أنثوى مثل ليلى وسلمى وعزة وسليمى وأم مالك يقول مثلاً:
أنار الغضا ضاءت، وسلمى بذى الغضا | |
أم ابتسمت، عما حكته المدامع | |
أنشر خزامى فاح أم عرف حاجر | |
بأم القرى أم عطر عزة ضائع | |
ألا ليت شعرى: هل سليمى مقيمة | |
بوادى الحمى حيث المتيم والع.. |
ثم يقول:
وهل عامر من بعدنا شعب عامر | |
وهل هو يوما للمحبين جامــع | |
وهـــل أم بيت الله يـــا أم مـــالك | |
غريب لهم عندى جميعا صنائع |
فأولئك المحبوبات اللاتى ذكر أسماءهن يرمز بهن إلى الذات الإلهية التى تجلت على الكون بحسنها، وتمثل هذا الحسن فى المرأة متمثلة فى النساء اللاتى ذكرهن.
ونلاحظ التأثر الكبير بتلك الروح البدوية فكأن حياة ابن الفارض فترة طويلة فى الحجاز جعلته يجوب - بدلاً من العشاق العذريين - فى فيافى الجزيرة وقراها، وخصوصا بنى عامر، ويحاول - بذكر هؤلاء المحبوبات - التماس معنى الجمال الروحانى، بتخطى متعلقاتهن التاريخية والمادية للوصول إلى الجوهر النقى الذى تحمله رموزهن"ولا يكون ذلك إلا من خلال تجربة"الحب الحقيقى"أى الحب من أجل ما هو حى، فهنا لا ينظر المحب والمحبوب إلى كل منهما على أنه"موضوع"بل على أنه هو"الكل"أو هو"الحياة".
فالحب الحقيقى يستبعد كل ألوان التناقض والتضاد القائمة بين الأفراد، ويتطلب تسليما تاما، أى أن يسلم كل من المحب والمحبوب ذاته إلى الآخر، ويتجاوز فرديته حتى يتحقق الاتحاد الكامل".
ومن أجل ذلك نرى ابن الفارض يأخذ من العذرية معنى التعالى على الغرائز والمحافظة على العفة والسمو الروحانى، يقول:
ولما تلاقينا عشاء، وضمنا | |
سواء سبيلى دارها وخيامى | |
وملنا كذا شيئا عن الحى، حيث لا | |
رقيب، ولا واش بزور كلامى | |
فرشت لها خدى، وطاء، على الثرى | |
فقالت: لك البشرى بلثم لثامى | |
فما سمحت نفسى بذلك، غيرة | |
على صونها منى لعز مرامى | |
ويتنا كما شاء اقتراحى، على المنى | |
أرى الملك ملكى والزمان غلامى |
إنه ترفع بمحبوبته عن رغبات الأجساد الرخيصة، وبحث عن تعاشق الأرواح. يقول النابلسى:"قوله عشاء اى أول ظلام الليل كناية عن الملاقاة الكونية بينه وبين تجلى الحضرة الإلهية، وقوله دارها كناية عن الروح الأعظم الذى هو أول مخلوق صدر عن الأمر الإلهى، وهو العقل والقلم الأعلى والنور المحمدى... فالرقيب إشارة إلى النفس الأمارة بالسوء... والواشى هو القرين الشيطانى الذى يوقع العداوة بينه وبين ربه... على الثرى كناية عن جسده المركب من التراب والماء... وقوله: بتنا أى أنا والمحبوبة المذكورة، وهو الدخول فى عالم الكون، لأنه ظلمة لازمة... وقوله
كما شاء اقتراحي على المنى، فالذى اقترحه أمر ذوقى معرفته من وراء دائرة العقل... لأنى ظهرت بالمظهر الربانى فى التجلى الرحمانى بعد فناء شأنى الجسمانى وأمرى الإنسانى...".
فاستطاع ابن الفارض أن يسقط ملامح هذا الرمز العذرى على مشاعره، ويخرج من معطياته بمعادلات لأحواله الصوفية التى تعجز اللغة المباشرة عن التعبير عنها.
وإذا نظرنا إلى شعر عفيف الدين التلمسانى نجد أنه يستحى حينا من ذكر اسم المحبوبة وحينا أخر يهاب ذكر اسمها يقول:
أحـــــب حبيبا لا اسميه هيبــــة | |
وكتم الهوى للقلب أنكى وأنكأ | |
أخاف عليه من هواى فكيف لا | |
أغار عليه من سواى وأبـــرأ |
ويقول:
وبـــى من لا أسمية حيــــاء | |
بحكم حضوره فهو الرقيب | |
يميس قوامه فيكاد قلبـــــى | |
يطير من اللذاذه إذ يطيب |
إنه يغار على حبيبه حتى من مجرد ذكر اسمه، مع أن كتم سره فى قلبه يزيد حرقته ولهيبه، وفى المثال الثانى لا يسميه حياء لأن الحبيب حاضر حضوراً طاغيا على قلبه، ولذا فإن أى اسم لا يجمع له مقدار الحسن والجمال الذى يتمتع به هذا المحبوب حتى جعله يشعر باللذاذة فى قلبه.
ومع ذلك لا يخفى تأثره بالتراث الغزلى، وخصوصاً العذرى منه وهذا ظاهر من ذكر معشوقات العرب العذريات أمثال: أسماء – علوه – ليلى – سعدى – هند محاولا إلباسهن ثيابا رمزيا فلسفيا وإخراجهن من النظرة الفزيائية التى تعلقت بهن وبالحب المادى – معاً - إلى لون ميتافيزيقى ذى معان غنوصية وطبيعة رومانسية، وهذا لا يعنى – بالطبع – إغلاق الدلالة الخاصة بتلك الأسماء وما تشير إليه وإنما محاولة بث مكامن النفس العاشقة من خلالها، حتى تمثل معادلاً موضوعياً وتصويرياً، وإيصال ذلك إلى وجدان المتلقى الذى حجبت عنه الحقائق خلف هذه الرموز.
يقول التلمسانى:
منعتها الصـفات والأسمـــاء | |
أن ترى دون برقع أسماء | |
قد ضللنا بشعرها وهو منها | |
وهــدتنا بها لها الأضــواء |
ويقول:
دعوا إلى باب علوة كرما | |
ووجهها بالجمال محتجب | |
فقدموا سجدة وهم زمر | |
لغافر سبح اسمه الأدب |
فأسماء المذكورة فى البيت الأول معشوقة عربية يشير بها الصوفية إلى الذات الإلهية وتجلياتها فى الوجود، ولكن حجبتها الصفات والأسماء الإلهية عن الظهور والتجلى دون حجب لا تنجلى ويتبدى منها النور إلا للواصلين من العارفين والأولياء.
ويرمز باسم"علوة"أيضا للذات الإلهية وبيانها لمقام الحضرة الإلهية التى يرقى إليها صفوة الصوفية، ولا يخفى ذكر التلمسانى للقرنية الدالة على المعنى الأصلى فى قوله"فقدموا سجدة وهم زمر"إجلالا واحتراماً، وهم على باب علوة، فهل السجود يكون على باب بشر ولهذا يشير بقوله أيضا:
بروق الحمى هل دمعكن يجود | |
وهل عطشت بعد الفريق زرود | |
منازل من سعدى سعيد نزيلها | |
كان بهاتيك البيوت عقود |
فالتلمسانى يجتهد فى توظيف فلسفته عن الوحدة المطلقة ويلبسها أثوابا مادية، وكذلك يلبس الماديات صفات التجاوز والتعينات المادية، لترمز إلى معنويات أو ماورائيات غير متعينه عن طريق التجاوز"والصور المحسوسة بهذا الاعتبار لغة حية تتحدث بها الحقيقة إلينا، والشاعر وحده هو القادر على التقاط هذه اللغة وتحويلها إلى رموز، كما تبدو هذه الصور وحدة جامعة بين الديمومة والفناء".
ويظهر هذا فى قصيدة التلمسانى:
مقيم للمقيمة فى فؤادى | |
هوى بين السويدا والســــــواد | |
ووجد ما تغيره الليالى | |
حفظت به عهود هوى سعاد |
ومنها:
بحيث دنو سعدى من تدان | |
كما نهوى وبعد من بعادى |
يرمز إلى الحكمة العرفانية التى أختزنها ويضايف ذلك بالرمز الأنثوى"سعاد"أو"سعدى"الذى يحفظ عهده وسره، ويحيل كل منهما للآخر. وبذلك تكون استطيقا المرأة بوصفها مجازا لجمال أكثر ديمومة وكلية، والعلو ذاته فى تنوع ظهوره، وفى تجليه المشهود فى المرأة على أنها شكل فزيائى ومنعكس التجلى الذى يعانيه الصوفى فى رؤية ثيوفانيه مشبوبه ومظهر يجمع فى إحالة تبادلية بين التأثير والقابلية وبين الفعل والانفعال".
ويمثل رمز"ليلى"دوره الفعال فى الإشارة إلى الذات الإلهية فى شعر التلمسانى يقول:
ومشتاق ذكرت له اسم ليلى | |
فهام بها وذكر الحب يعدى |
ويقول:
وقفنا بربع العامرية موقفا | |
به الحر مبذول الحشاشة كالعبد |
إن المحب عندما يسمع ذكر حبيبته يهيم بها شوقا؛ لأنه استغرق فى عشقها بجميع حواسه ومعنوياته بكليته كذلك الصوفى الذى يسعى إلى الاتحاد، وينزع نحو الاستغراق فى الخالق والفناء فيه الحر مبذول الحشاشة كالعبد."فالمحبة الإلهية فى نظر أصحاب الخبرة الصوفية هى"محو المحب بصفاته، وإثبات المحبوب بذاته"وهى"خروج عن رؤية المحبوب"وهى أيضا"ميلك إلى الله بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك وروحك..."وكل هذه التعريفات – وغيرها – إن دلت على شئ فإنما تدل على أن الصوفى يريد أن يفنى عن نفسه، لكى يقبل بكل همته على ربه... وليس من شك فى أن مثل هذه"التجربة الصوفية"إنما تفترض منذ البداية أن الحب الإلهى هو صلة مشخصة بين الخالق والمخلوق...".
ومن هنا جاء ذكر"ليلى"وغيرها من المعشوقات كرموز حية على هذه العلاقة العشقية السامية.
وهذا شاعر آخر هو ابن الخيمى الذى يحسن توظيف الرمز الأنثوى حيث يقول:
وديار انس بالعقيق أحبها | |
وربى عليها آل علوة خيموا | |
وبضجة الركبان فى بطحائها | |
طربا إذا ما شارفوه وسلموا | |
فيها بلغت الفوز فى الدارين إذ | |
وفيت خدمتكم وكنت وكنتم |
فذكر فى هذا المثال اسم"علوة"وهو ذكر للذات الإلهية، وعبر عن مقدار الحب الذى يكنه الشاعر لمحبوبته التى تواصله حينا وتتأبى عليه حينا آخر.
ويبدى الدسوقى تأثرة بالشعراء السابقين عليه فى التعبير عن حبه لمحبوبته بالرمز الأنثوى"ليلى"وذكر الدكتور يوسف زيدان: أن أشهر الرموز التي استخدمها الصوفية الإشارة بالمحبوبة العربية ليلي إلي الذات الإلاهية... وهو رمز لا نكاد نجد شاعرا صوفيا في الفترة الممتدة من القرن السادس الهجري إلي اليوم إلا استخدمه، بحيث صار هذا الرمز ليلي كما وصفناه بحق من تقاليد الرمز الصوفي.
فنسمع الدسوقي ينشد قائلا:
رفعــــت ليلى التدانى | |
فى دجى الليل نقابــــا | |
واذا جئـــت خيامــــ | |
وربوعـــــا وقبـــــابــا | |
قل مشوق مستهــــام | |
جسمــــه أسى مذابــــــا |
فرمز بها للذات الرائعة الحسن التى محا نورها ظلمة القلوب،حتى حصل التجلى وحلت الحكمة فى قلوب العارفين.وهنا يتنازع تياران فى شكل مفارقة: تيار التجلى الخيالى الذى يجعل المحبوب محضراً بواسطة التمثيل الباطن للعلو فى ظهوره لعيان المشاهدة متلبساً بالأشكال من حيث إنه يؤخذ فى حد كل صورة صورة من الوجه التشبيهى، وتيار الوهم الذى يثيره تعلق الشاعر من ناحية أخرى يتنزيه المحبوب ويتمثل هذا القول أيضا فى بعض أبيات أبى العباس المرسى فى اعتماده على الرمز الأنثوى يقول المرسى:
أعندك من ليلى حديث محرر | |
بإيراده يحى الرميم وينشر | |
فعهدى بك العهد القديم وإننى | |
على كل حال فى هواها مقصر | |
وقد كان منها الطيف قدما يزورنى | |
ولما يزر ما باله يتعذر | |
ومن وجه ليلى طلعه الشمس تستضى | |
وفى الشمس أبصار الورى تتميز | |
وما احتجبت إلا برفع حجابها | |
ومن عجب أن الظهور تستر |
يهيب برمز"ليلى"الذى يجمع بين المحبة الإلهية، والعلو، وكذلك"على الرغم من تقليديته يكتسب من خلال السياق الروحى للتجربة طابعاً رمزيا يلوح الى الحكمة والمحبة الإلهية وما تشيعانه من انبعاث وحياة فى النفوس الهامدة، والأرواح التى أنامتها الجهالات والأوهام".
وهذا الرمز ليلى الذى يشير إلى الذات الإلهية - بوظفه الشاعر توظيفاً جيداً حيث يجعله فى مقام الذات لمشاهدة العهد الذى أخذه الله على الخلق، وكذلك الجمع بين التجلى والخفاء بحكم جمع الذات الإلهية للصور المتضادة، كما أشار إلى تجل خيالى للمحبوب فى حضرة مشاهدة مثالية، تأتت بعد رفع الحجب.
ب - الاعتماد على أساليب الحب البشرى:
بجانب الاعتماد على الغزل العذرى سلك شعراء الصوفية طرقا أخرى فى التعبير عن الحب فاصطنعوا أساليب الشعراء الغزليين واستعاروا أساليبهم وألموا بمعانى النسيب عند سابقيهم، سواء كان عفيفاً أو صريحا، ومزجوا ذلك كله فى روح عذرية وإطار فنى عالى المستوى، له دلالته من جميع جوانبه؛ لأن المتلقى ربما أغفل جانباً كان فيه قصد الشاعر ومغزاه.
فهذا ابن الفارض الذى عاش تجربة واحدة هى تجربة الحب الإلهى ورمز له بالحب البشرى، فجمع بذلك بين باطن الرمز وظاهر الأسلوب، وضايف بين مظهرين:
مظهر العلو واللاتعين، ومظهر التنزل والتجلى فى الصور والتشبيه والتعبير، ولوحظت"الدلالة التلويحية فى رموزه الشعرية التى أهاب فيها بالجوهر الأنثوى، إذ وصف من خلال العواطف الإنسانية والجمال الأرضى الزائل حبه الإلهى وتعشقه بالجمال فى علوه وإطلاقه، مميزا فى هذا الوصف الشعرى بين الجمال الحقيقى المتسم بالوحدة والشمول والأبدية والجمال المجازى أو المعار بحسبانه مظاهر متنوعة للتجلى". وصار الجمال الأنثوى تعينا للإلهى، ووحد بين الروحى والفزيائى فى إيقاع متكامل.
ويرى بعض النقاد أن شعراء الصوفية فيما يبدو قد مروا بتجربة الحب الإنسانى قبل أن يدخلوا فى منطقة الحب الإلهى؛ لأنه لا يعرف الشوق إلا من يكابده، ويؤيد ذلك أنهم تركوا لنا تراثاً فى الغزل ينم عن تجربة كاملة للحب، وتشبيب بمواضع السحر وتصوير خلجات القلب عند التلاقى والافتـراق، وعلـى الجملـة فقـد وضعونـا أمـام مشكلـة تاريخيـة علـى جانـب كبيـر مـن الأهميـة إذ
يصعب فى كثير من الأحيان الاهتداء إلى قرينة تكشف عما ينسب إليه من أقوال.
وقد تكون تجربة الحب البشرى قد حدثت لبعض الشعراء قبل دخولهم فى تجربة الحب الإلهى، ولا نستطيع أن ننفيه، ولكن أن يكون ذلك أساسا لمعانى شعراء الصوفية وصدق مشاعرهم فيها، فهذا أمر مردود عليه؛ لأن الصدق نابع من صدق التجربة الوجدانية التى يعيشها الصوفى، وأما المعانى والتراكيب فمردها إلى ثقافة الشاعر وتشربه لميراث شعراء الغزل من قبله، ولنا فى المتنبى وأبى تمام وغيرهما من الشعراء الذين تغزلوا، ولم يؤثر عنهم معايشتهم لتجربة حب بشرى صادق مثال علي ذلك.
بالإضافة إلى أن شعراء الصوفية نظروا إلى المرأة وجمالها وحسن قسماتها مثالا عاليا على الجمال الإلهى. ولنسمع ابن الفارض يقول:
أشاهد معنى حسنكم فيلذ لى | |
خضوعى لديكم فى الهوى وتذللى | |
واشتاق للمغنى الذى أنتم به | |
ولولاكم ماشاقنى ذكر منزل | |
فلله كم من ليلة قد قطعتها | |
بلذة عيش والرقيب بمعزل | |
ونقلى مدامى والحبيب منادمى | |
وأقداح أفراح المحبة تنجلى | |
ونلت مرادى فوق ما كنت راجيا | |
فوا طربا لو تم هذا ودام لى | |
لحانى عزولى ليس يعرف ما الهوى | |
وأين الشجى المستهام من الخلى | |
فدعنى ومن أهوى فقد مات حاسدى | |
وغاب رقيبى عند قرب مواصلى |
نلاحظ استخدام ابن الفارض لألفاظ الحب البشرى ومعانيه مثل: الحسن - الخضوع – الهوى – التذلل - الشوق – اللذة – الرقيب – الخمر – اللاحى - الشجى المستهام – الخلى والحاسد، كل أولئك وكثير غيره ألفاظ شاعت فى تغزل ابن الفارض بالذات الإلهية، وتكاد تفيض بها كل قصائده، ملوحا بها لعلاقته بالمحبوب الحقيقى. يقول النابلسى:"وقوله معنى حسنكم أى اثر حسنكم والخطاب للأحبة من حيث الظهور الإلهى بالمظاهر المتعددة. والحسن هو الجمال الحقيقى، وهو
حضرة الأسماء الحسنى... وقوله ذكر منزلى أى وطنى الأصلى، وهو علم الحق تعالى به فى الأزل... وقوله وغاب رقيبى أى ذهب عنى خاطر الأغيار واتضح عندى سر الأسرار".
ونلاحظ كذلك اعتماد ابن الفارض على الرمز بالدلالة الجنسية فى رسم صورة للتواصل بينه وبين المحبوب فى"بلذة عيش – الحبيب منادمى – نلت مرادى فوق ما كنت راجيا". يقول د. زكريا إبراهيم:"وأما المتصوفة فإنهم قد لاحظوا – من جانب – أن الاتصال الجنسى هو أعمق صور الاتحاد، ومن ثم فإنهم قد وصفوا علاقتهم بالله وصفا غراميا، واستخدموا فى التعبير عن حبهم للذات الإلهية عبارات مليئة بالرموز الجنسية"ويفسر د. أبو العلا عفيفى وصلة النكاح هذه بأن المرأة فى هذه العلاقة رمزعلى أى موضوع محبوب، والشهوة رمز على الرغبة الملحة فى الحصول على المطلوب و"وصلة النكاح"رمز على الاتحاد الصوفى، ويصير الاغتسال بعد ذلك رمزا على الطهارة الروحية.
إذن هذه العلاقة نوع من الاتحاد بالوجود، والاستغراق به إلى حد الشطح وإبراز الحقائق فى صورة مادية قد يرفضها البعض من المتعجلين فى التفسير.
وعلى ذلك فإن هذا التغزل جامع بين الحب والشعور بالاغتراب، يجمع فيه بين
الروحانى والفزيائى فى منظومة واحدة، تعين القارئ المتذوق على عقد الموازنات بين شتى الأمور، ويتلمس القرينة التى يضعها الشاعر الصوفى فى ثنايا سياقه، فتكون بمثابة رباط التناسق اللغوى بين المعنى الأصلى والمعنى الرمزى، وهذا يجعله يختلف شيئا عن الرمز الفنى فى صوره الأخرى، حيث"ينأى عما هو من خصائص المجاز كالقرينة؛ لأن التأويل فيه غالبا ما يعتمد على مجرد ارتباطاتنا وذكرياتنا العاطفية التى لا أساس لها فى أية مقارنة منطقية".
ولكن ابن الفارض قد يكشف عن قرينته فى ثنايا أبياته مثل قوله:
أدر ذكر من أهوى ولو بملام | |
فإن أحاديث الحبيب مدامى | |
بروحى من أتلفت روحى بحبها | |
فحان حمامى قبل يوم حمامى | |
أصلى فأشدو حين أتلو بذكرها | |
وأطرب فى المحراب وهى إمامى | |
وبالحج إن أحرمت لبيت باسمها | |
وعنها أرى الإمساك فطر صيامى | |
ولما توافينا عشاء وضمنا | |
سواء سبيلى دارها وخيامى | |
تثنت فخلنا كل عطف تهزه | |
قضيب نقا يعلوه بدر تمام |
فمن يقرأ الأبيات يظن لأول وهلة أنها فى الحب الإلهى بأسلوب مباشر، ولكن من يعد إلى القصيدة يعلم أن هذه الأبيات مقتطفات منها، تحتوى على مجموعة القرائن الدالة على غرضه الحقيقى، ومع ذلك نراه يستعين فيها لإبراز الرمزبالتصوير الخيالى، فيستعير لحلاوة ذكر المحبوبة وأثره على المحب كأس الخمر الدائرة على الندامى فتسكرهم، وتثنى المحبوبة ولين قوامها. وهذه المعانى العذرية التى يبثها فى تضاعيف أبياته، فتختلط مع القرائن الدائرة بين الحج والصلاة والخلوة بالمحبوب بالقيام بين يديه للصلاة، فتجاوز مرحلة العشق البشرى، وعلا فوق فيزيائية الصورة، ليدخل فى ميتافيزيقية مجردة يقول:
وجاوزت حد العشق فالحب كالقلى | |
وعن شأو معراج اتحادي رحلتى | |
فطب بالهوى نفسا فقد سدت أنفس الـ | |
ـعباد من العباد فى كل أمة |
فقد وصل إلى درجة القرب والنضج الروحانى، حتى صارت التعبيرات المادية تمتزج عنده بمخزون عاطفى وجدانى فيمضى إلى العالم الروحى ومعه من عالم المادة أدواته.
أما عفيف الدين التلمسانى فنراه مثل سلفه تنسال روح الحب فى شعره فتخرج أدبا رفيعاً بعيداً عن تكلف البديع - فى الغالب - وعن الصنعة الممقوتة التى أصابت الكثير من شعراء عصره، فعبر عن مواجيده وأذواقه، مستعينا بميراث الأحبة السابقين، وكذلك بمقدرته الفنية الخاصة على خلق الحياة فى معانى الغزل الحسى أو البشرى، جريا على طريقة الصوفية فى الإشارة والتلويح بالرمز، وهم بذلك يربطون بين المثال المادى السفلى والمثل فى علوه وارتقائه ويرى سويدنبورج أن اللغة كائن من الإشارات يتأرجح ما بين الحقائق الملموسة على الأرض ونظائرها الروحية فى السماء، ولهذه يحاول الصوفى الوصول إلى اللانهائى والمطلق عن طريق ضرب المثل المادى له، والذى يقرب بينهما هو التراسل الذى يمكنه من تجاوز المادى والنهائى إلى الإلهى واللانهائى.
ولنأخذ بعض أمثلة من شعر التلمسانى يقول مثلاً:
احكم ففيك العذاب عذب | |
ما بعد حلو الخطاب خطب | |
لى وله فى هواك فار | |
ودمع صب عليك صب | |
وما تنزهت فيك حتى | |
فيك نزهت حين أصبو | |
وامكننى من لماك برق | |
بين الحيا لا يكاد يخبو | |
يا سائلى عن شذا نسيم | |
قميصه بالوصال رطب | |
ذاك سلام الحبيب وافى | |
فى عهده للثام قرب | |
إذا تجلى على الندامى | |
فهو لهم خضرة وشرب | |
وعاذلى عاد لى بلطف | |
تكاد منه الصبا تهب | |
اضمر غدرا فعاد عذراً | |
اذ رفعت للمحب حجب |
تحتوى الأبيات على ألفاظ الحب الإنسانى، وما يتصل به من وصل وهجر ولوعة ونحول واستعذاب العذاب وحلو الخطاب والوله وشدة العشق ويحولها الشاعر عن طريق التجاوز والتراسل إلى الرمز عن شدة عشقة للجمال الإلهى ومواطن تجلية. ويفسر نيكلسون هذه الرموز الغزلية بقوله"فوجنات الحبيب الموردة تمثل عنده ذات الله منكشفة فى صفاته، وغدائرها الليلية تصور الواحد محجوبا بالكثرة، وان قال أدر الكأس علها أن تحل إسارك فإنما يريد أن يقول أمح نفسك الترابية فى السكر بالتأمل الإلهى". وكأن الصوفية بذلك يلمون بأوصاف المرأة الجسدية إلماما محلقا، فلا يلبثون أن يصفوا شيئا من جمالها المادي حتي يحلقوا بروحهم متجاوزين المادة، وكأنهم بذلك يلفتون النظر إلي أن الجمال المادي ليس هو المقصود لذاته، بل هو صورة مقربة، ولا يني الشاعر بين حين وحين أن يذكر من الألفاظ مايرفعنا عن عالم المادة، ويسمو بنا إلي رحاب قدسية.
ويعطينا التلمسانى بعضا من القرائن مثل التجلى على الندامى فيسكرهم، وهبوب الصبا، والصبا عند الصوفية تعنى"النفحات الرحمانية الآتية من جهة مشرق الروحانيات والدواعى الباعثة على الخير". وآخر القرائن رفع الحجب بين المحب والمحبوب، وتجلى الذات. والصوفى"يحوز من رؤى التجلى أعلاها فى تأمله صورة الكائن الانثوى، إذ تفضى بنا ثنائية تركيب الإيجابي و
السلبى إلى توقع شئ من عودة أسطورة الخنثى وإلى أن تؤول روحية الصوفية المسلمين بضرب من الاستمرار إلى ظهور الأنثوية الأبدية بوصفها صورة للألوهية، إذ يتأمل الصوفى فى الأنثى سر الإله الرحيم الذى يبدو فعله الخالق تحريرا لأسر الموجودات".
ويبدو أن التلمسانى كان أكثر بهرجه وحرية من ابن الفارض فى استخدام رمز الغزل البشرى بمعانيه وألفاظه بل حريته وانطلاقه، ولذلك جاءت مواجيده فى صورة مقطعات خاطفة لا يطيل فيها الغوص فى النفس واستخراج مكامنها مثلما فعل ابن الفارض، مما يجعل رمز التلسمانى أكثر خفاء؛ لأن الوسائط المبينة لحقيقة الرمز تكاد تختفى خلف غلالة من الألوان الأسلوبية. يقول مثلا:
ترى يا جيرة الشعب | ||
يسر بوصلكم قلبى | ||
وتجمع بيننا دار | ||
على الإكرام والرحب | ||
أهيل الحى واعطشى | ||
لذاك المنهل العذب | ||
وما شوقى إلى عيش | ||
مضى فى ظله الرحب | ||
وأيام بلا عتب | ||
تقضت فى هوى عتب | ||
إذا ذكرت لياليه | ||
تهيج لواعج الصب | ||
ويحيى قلب عاشقه | ||
حديث نسيمه الرطب | ||
ومحتجب تبسمه | ||
يمزق ظلمه الحجب | ||
يصان حماه بالإجلال | ||
لا بالسمر والقضب | ||
من الأقمار منزلتاه | ||
من طرفى وفى قلبى | ||
وظبى نقا وبالأسرار | ||
يأنس ليس بالسرب |
يوجه خطابه إلى محبوبه الذى يسر قلبه بوصله، ولكنه هجره ولذا فهو يقاسى مرارة الفراق، ويرمز للذات الإلهية بمعشوقة عربية هى"عتب أو عتبى"ويتبعها بقرينة تدل على توجيهه للذات الإلهية بأن نورها يمزق ظلمة الحجب التى تحجبه عنها حتى أشرق نورها على قلبة ونفسه، وحظى
بأسرار المعارف الإلهية، وبهذا تشرب الجوهرالأنثوى رمزاً معرفيا؛ لان الأنثى باعتبارها رمزاً للذات الإلهية وللنفس كذلك،"ولما كانت معرفة النفس هى معراج الإنسان إلى معرفة الرب لزم أن تكون معرفة المرأة من خلال عاطفة الحب المتوهج موصلة إلى الله، تبدو حالة النوستالجيا التى ألمع إليها كوربان فى وضع تماثل وموازاة، فحنين الرجل إلى المرأة إنما هو حنين الكلى إلى جزئه، والشئ إلى نفسه، كما أن حنين المرأة إليه حنين الشئ إلى وطنه".
هكذا يستطيع الشاعر عن طريق رمزالأنثى أن يخترق حجب الحقيقة إلى الفردوس البعيد، وهو قادر على أن ينقل رؤياه للآخرين، مدركاً لطبيعة هذا الرمز، وما تملكه طبيعته من تراسلات يحسن توجيهها والتجاوز من خلالها الى الحقيقة اللامنتاهية.
ب- رموز الطبيعة أو الإلهام الروحى للطبيعة:
لقد نظر الصوفى إلى الطبيعة بوصفها تعينات وفيوضات مادية للجمال الإلهى فحاول استنطاقها والتوصل من خلالها إلى فك شفراتها التى يخاطبنا بها العلو، وهذا يئول بنا إلى فرق جوهرى يحيل على اختلاف أساسى بين نمطين: الأول عينى حسى خالص فى وضع لا تجاوزى، والثانى عينى حسى يتعالى بواسطة الكيف الحسى الخيالى إلى تركيب شهود عيانى لسريان الألوهية فى الطبيعة التى تحولت من خلال الموقف الروحى، والتشكل الغنوصى للتجربة الصوفية فى إهابتها بالعلو المحاديث إلى شفرة أو شفرات يقرأ الصوفى فيها بضرب من الكشف لغة ذات حدين إحاليين أحدهما حسى فزيائى والآخر روحى إلهى"، فيرسى تصور عرفانى للطبيعة يعتقد فى سريان الجوهر الإلهى فيها جامدها وحيها وتحليلاً للعلاقة بين الوحدة والكثرة المنبثقة فيها، فعالم الطبيعة على حد قول ابن عربى"صور فى مرآة واحدة بل صورة واحدة فى مرايا مختلفة".
ولظهور الوجود الواحد الحق فى مرايا الحقائق والأعيان فان العارف يستطيع- عن طريق التراسل - وأن يصل إلى جوهرها ويضايف بينهما وبين الحقائق العلوية.
وبذلك يحدث التضايف بين المفاهيم المجردة والمرائى المادية والتعينات التى عينها الوجود الحق. وبالطبع لا نستطيع أن نحصى كل الرموز المأخوذة من الطبيعة،ولكن نقتطف منها بعضها.
1- رمــز الطيــر:
نظرت العرفانية الصوفية إلى الطير نظرة خاصة رمزوا بها عن النفس الكلية والروح المنفوخ فى الصور المسواه، كما يقول الكاشانى:"الورقاء هى النفس الكلية التى هى قلب العالم وهو اللوح المحفوظ والكتاب المبين".
والنفس هنا لا تعنى الحقيقة الذميمة فى الجسد الترابى، ولكن ربما رمز الشعراء بالطير إلى الروح، وهو رمز ميثولوجى صورت الروح بواسطته على هيئة طائر ذى راس إنسانى يحلق بعيدا عن الجسم بعد الموت ولكنه يتعشقه فيعود إليه كرة أخرى.
وفى تراث الشعر الصوفى اكتسبت صورة الطير الدلالة ذاتها، ورمز الشعراء بها إلى تذكر الروح عالمها المثالى الأول وحنينها إليه حنين الغريب إلى وطنه، ويظفر القارئ بهذه الدلالات فى قصيدة ابن سينا العينية وفى رسائل الطير والمنظومات المطولة كالقصيدة المعروفة"بمنطق الطير"لفريد الدين العطار..."الذى استخدم الطير أسلوبا رمزيا فى صياغة شعرية حافلة بخيال واسع وصور مبتكرة متنوعة كما أتضح فى كتابه"منطق الطير".
وكان لهذا السبق لابن سينا والعطار أثرهما فيمن جاء بعدهم من شعراء الصوفية الذين استخدموا الحمام الورق الذى يشير إلى الروح التى تحن إلى مصدرها النقى، فنجدها فى تنازع بين العلو والهبوط تشدو تارة وتبكى أخرى. يقول ابن الفارض فى التائية الصغرى:
ولولاك ما استهديت برقا، ولا شجت | |
فؤادى فابكت إذ شدت ورق أيكة | |
فذاك هدى أهدى إلى وهذه | |
على العود إذ غنت عن العود أغنت |
كنى بالورق عن الروحانيات الكاملات من أرواح المشايخ المحققين، وبالأيكة عن الجسم المختلف المزاج والطبيعة، وجمع الورق لكثرة اختلاف مشارب الأرواح وإفراد الأيكة لاتحاد الجسمانى من العناصر والطبائع، فكل ورقاء على غصن من تلك الشجرة الواحدة. ويكون البكاء والفرح على قدر قرب تلك الروح من حقائقها التى تبحث عنها أو بعدها عنها.
وكان عفيف الديـن التلمسانـى مغرمـا بذكـر مظاهـر الطبيعـة الغنـاء ومنـها الطيـر والحمـام
على وجه الخصوص يقول:
وورق حمائم فى كل فن | |
إذا نطقت لها لحن صواب | |
لها بالظل أزرار حسان | |
وأطواق ومن ورق ثياب |
وفيها:
وللأغصان هينمة تحاكى | |
حبايب رق بينهم العتاب | |
تثنت والحمام لها يغنى | |
كشرب مدامة شربوا وطابوا |
ويقول:
على عطفة حتى من الورق غيرتى | |
ألم ترها هاجت على الغصن الرطب | |
.دعانى انكسار الجفن منه لضمة | |
فجاوبنى: ما للغصون سوى الهضب | |
وغردت تغريد الحمام توصلا | |
إليه لما بين الحمائم والقضب | |
وقلت زكاة الحسن فرضا فقال لا | |
تميل الغصون الورق إلا على الندب |
ومن خلال هذه الأمثلة وغيرها فى شعر التلمسانى نلاحظ تخطى الشاعر لرمز الحمام ككون محسوس، وينعطف منه تجاه الحياة الباطنية وما تحمله النفس والروح من مجاهل وأعماق، فمثلما تحلق الطيور فرحا ومرحا وغناء، كذلك تحلق الروح فرحا وغناء حالة الاتحاد والفناء الذى يحقق لها القرب من المصدر النقى الذى يمثل الوطن الأصلى لها، وتبكى إذا نأت عنه، وتتطلع للعودة إليه مرة أخرى. يقول أبو الحسن الصباغ:
حمام الأراك ألا فاخبرينا | |
بمن تهتفين ومن تندبينا | |
فقد سقت ويحك نوح القلوب | |
فاجريت ويحك ماء معينا | |
تعالى نقم مأتما للغرام | |
ونندب أحبابنا الظاعنينا | |
واسيتك بالنوح كى تسعدينا | |
كذاك الحزين يواسى الحزينا |
فى هذه الأبيات وفى غيرها التى يقول فى مطلعها:
أتبكى حمام الأيك من فقد إلفها | |
واصبر عنه كيف يكون | |
ولم لا أبكى ثم أندب ما مضى | |
وداء الهوا بين الضلوع دفين |
فعلام تبكى الحمام ؟ إنها تبكى على فقد إلفها،وهنا إشارة للنفس والروح اللذين يبكيان لفقدانهما مصدرهما النقى، وهكذا يمثل الطير أو الحمام وسيلة ربط بين العلو والأرض، حيث إن الروح تتطلع إلى العلو ولكن الأرضى المادى يجذبها إليه ولا يوافق على فقدها، ولذا فهى تبكى لذلك.
2- رمز الظباء والغزلان:
يوظف الصوفية من الطبيعة – رمز الغزال الذى تردد فى الشعر العربى إشارة إلى الجمال، ولكن مع النفور وعدم الاستقرار، ولذلك نرى شعراء الصوفية يحسونه توظيف هذا الرمز بدلالتيه يقول التلمسانى:
غزال الحى من أثلاث نجد. | |
لوجهك وجهتى وهواك قصدى | |
ودينك فى مداومة التصابى | |
على ولى وفى قلبى وعندى | |
أحن إذا تبسمت النعامى | |
معطرة بمسحب زيل هند |
إذا كان الغزال هنا ملمح جمال ورمز للذات الأهية التى يوجه إليها وجهه ويدين بهواها، منذ أخذ عليه العهد وهو فى عالم الأرواح قبل خلق الأجساد، فى يوم عرف عند الصوفية باسم"ألست"إشارة إلى قوله تعالى"أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى"الأعراف.
ويرمز للذات النافرة عنه الجامحة بهواها عن مواصلته بظبى فلاة شرود:
وظبى فلاة آنس فكأنه | |
لرائيه عند الالتفات شرود | |
ترقرق ماء الحسن فى وجناته | |
وليس لظمآن إليه ورود |
فالرؤية الفنية للتلمسانى مختلطة بتجربته الصوفية وأفكاره الفلسفية التى لا يمكن تنحيها جانبا أثناء تحليلنا لشعره، ومن ثم فلفظ الظبى يمثل الذات الإلهية فى حسنها وتعينها، ويؤكد هذا المعنى ابن الخيمى فى قوله:
بالشعب من شرقى نجد غزال | |
حلو الجنايات مليح السلال | |
لا الأهل أهل حين يبدو لنا | |
حسن محياه ولا المال مال | |
هون شكواى الهوى عنده | |
زل المحين وعز الجمال | |
أهلا وسهلا بوصال الضنى | |
فى حبه إذ لم يجد بالوصال | |
لعلنى ألقاه وقتا إذا | |
ما كان وسناناً وجسمى خيال |
وفى قصيدته:
ما ضر من ملك فؤادى باسره | |
لو لم يضع بعض الجميل بهجره |
يقول فيها:
لم اسمه بالشمس حيث طلوعه | |
ما كان إلا فى دجنة شعره | |
منح الغزال ملاحة من لحظه | |
وكسا الغزالة خلقة من بشره | |
وأقام فى قلبى وأوقد ناره | |
فيه ورد فقيره عن بره | |
تدعو محاسنه ويزجر صده | |
قد حرت فى إذن الحبيب وزجرة |
فى المثالية حدث تضايف بين الذات الإلهية كمحبوبة عليا حقيقية وبين الرموز التى ترمز إليها وللمعانى الروحانية التى تتعلق بها، ولأن الرمزية بصفة عامة كانت مذهب الجمال الأمثل وكانت مظهرا صرفا للجماليات فالرمزية الصوفية تفوق الرمزية الفنية وارتباطها بالجمال وبحثها عن مواطنه، ولهذا نرى الشاعر يرمز للذات الإلهية بالغزال فى جماله ورشاقته وكذلك بالشمس فى ملاحتها وضيائها، ولكنها محجبة خلف غلالة من الكثرة المادية، وهذا الرمز ليس بجديد ولكن نجده عند ابن عربى فى قوله:
بذى سلم والدير من حاضر الحمى | |
ظباء تريك الشمس فى صورة الدمى |
وفى قوله:
فللظبى أجيادا وللشمس أوجها | |
وللدمية البيضاء صدرا معصما |
ويفسر ابن عربى هذا الرمز فى شرحه لترجمان الأشواق بقوله و"للشمس أوجها"من قوله عليه السلام: ترون ربكم كما ترون الشمس". والشمس هنا رمز أنثوى، وكذلك الغزال،
ويغلف ابن الخيمى ذلك بحديثـة الرائـع عـن الجمـال، ويضـع فـى طريـق المتلقـى القرائـن الدالـة
على المعنى الحقيقى مثل كون الله فى القلب، لأن"القلب بيت الله"كما جاء فى الحديث الذى كان لمعناه شأن كبير عند الصوفية، وقرينة أخرى فى كون ذكر هذا المحبوب شافع لغفران الذنوب.
ويستخدم ابن الفارض رمز الغزال مشيراً به إلى الجمال والحسن الإلهى، وكذلك للنفس النافرة حينا والطبيعة حينا آخر، ففى قصيدته:
صد حمى ظمإى لماك لماذا؟ | |
وهواك قلبى صار منه جذاذا |
يقول فيها:
عنت الغزالة والغزال لوجهه | |
متلفتا، وبه عياذاً لاذا | |
وبجزع ذياك الحمى ظبى حمى | |
بظبى اللواحظ إذ أحاذ إخاذا |
فالغزالة والغزال إشارة إلى النفس الإنسانية التى ألهمت صوابها، يقول النابلسى:"كنى بالغزالة عن الروحانية الإنسانية المشرقة على العالم الجمسانى، وبالغزال عن القلب الإنسانى المتلفت بالفكر والخيال إلى عالم الإمكان.. كنى بالحمى عن قلب العارف أيضا، وكنى بالظبى عن جناب الغيب المطلق الذى لا يزال نافرا عن الحصول لكمال تنزهه عن مدار العقول...".
ت- الرموز الدالة على الاغتراب:
إن الصوفى - كما أسبقت فى الفصل الأول - كان فى حالة اغتراب دائمة لا تنقطع داخل وطنه وخارجه وبينه وبين ذاته، وكذلك الشعور الدائم باغتراب الروح عن موطنها الأصلى الذى تحن إليه وتتطلع لاجتياز كل العقبات التى توصلها إليه وورد في شعر الصوفية بعض الرموز الدالة على الاغتراب نتناول أهمها فيما يلي.
1- رمز الناقة والعيس:
رمز شعراء الصوفية للنفس الإنسانية السالكة إلى ربها بالعيس والناقة والوجناء التى يركبها المريدون حتى توصلهم إلى مراتب المعرفة والولاية، وهذا يعنى أنها وسيلتهم فى سفرهم إلى الله، يقول ابن الفارض:
يا راكب الوجناء، بلغت المنى | |
عج بالحمى، إن جزت بالجرعاء | |
متيمما تلعات وادى ضارج | |
متيامنا عن قاعة الوعساء |
ويقول فى قصيدة أخرى:
يا راكب الوجناء، وقيت الردى | |
إن جبت حزنا، أو طويت بطاحا | |
وسلكت نعمان الأراك، فعج إلى | |
واد هناك، عهدته فياحا | |
فبأيمن العلمين من شرقيه | |
عرج، وأم أرينة الفواحا |
نلاحظ التكرار بين الرمزين مما يعطينا دلالة على حرص ابن الفارض على ذكر الملامح البدوية والصحراوية ذات الدلالة فى شعره، والتى تجمع أذواقة فى صور مادية وطبيعية، وكذلك تدل على معايشتة لتجربة روحانية واحدة يقول النابلسى:"كنى بالوجناء أى الناقة الشديدة على النفس المطمئنة فإنها شديدة القوة لاطمئنانها على أمر الله تعالى القائمة به، وهى نفس السالك الصادق فى سلوكه فإنه راكبها وهى مطمئنة معه ومطاوعة له، وكنى بالحمىعن الحضرة الإلهية يعنى أقم فى مراقبتها وكنى بالجرعاء عن مقام المجاهدات النفسانية والمكابدات الإنسانية فى طريق الله تعالى"ويقول فى موضع آخر:
وهل نزل الركب العراقى معرفاً | |
وهل شرعت نحو الخيام شرائع | |
وهل رقصت بالمأزمين قلائص | |
وهل للقباب البيض فيها تدافع |
الركب كناية عن الأولياء العارفين بربهم، وقوله"قلائص"كناية عن النفوس الإنسانية فى حال سلوكها فى طريق الله، وهى حاملة اثقال التكاليف الشرعية وعهود المشايخ.
ونلاحظ هذا الرمز كذلك عند ابن دقيق العيد فى مثل قوله:
لقد بعدت ليلى وعز وصالها | |
كما عز بين العالمين مثالها | |
فمن لى بنوق لا تزال تمدها | |
قواها ولا يدنو الى كلالهــــا | |
ولكنها جسم يذوب وصبــره | |
يحول وأرواح يخاف زوالهـا |
فى هذه القصيدة نلاحظ أسلوبا مكتملاً من الحب العذرى والاغتراب؛ للوصول إلى جانب هذه المحبوبة التى عز وصالها فتحركت الأنفس شوقا - على الرغم من ضعف قدرتها - فى سفرها تركب مطايا الأجسام التى تفارقها عند وصولها إلى بغيتها، وفى قوله،"ولكنها جسم"، أى مازالت تتعلق بالجسم الترابى وبصفاته الكثيفة، ولم تصل بعد إلى اللطافة المرجوة.
ولا يخلو ديوان من دواوين الصوفية من رمز الناقة، لأنه يدل على صدق مجاهداتهم وسلوكهم المستمر الى الله والرياضة النفسية التى يتبعونها لتنقية نفوسهم من شوائب الذنوب، حتى تصبح روحانية لطيفة، وهذا ما نلحظه فى قول على بن منصور الأرمنتى ت 695 هـ:
أقول وقد لاحت بروق على قبا | |
وعنق اشتياقى عن رفاقى لا يلوى | |
وحادى المطايا بالركائب قد حدا | |
بسفح اللوى وهنا ترنم بالشكـــوى | |
أأحبابنا بالبيت بالركن بالصفـــا | |
بزمزم زيحوا ما بقلبى من البلوى |
وبعد أن وصلت إلى مرادها يقول ابن عطاء الله السكندرى:
قف بالديار فقد بدا مغناها | |
فلمن يسير وما المراد سواها | |
وأرح قلوصك فقد بلغت المنحنى | |
فلطالما جهدت ودام سراها | |
ولطالما قطعت مهامة واغـــتدت | |
أرساغها مخضوبة بدماهــا | |
تمسى وتصبح لأتمل من السرى | |
حتى شكت بأنينها ووجاهـــا |
يمزج الوقوف على الديار بوصف الناقة، ويسقط على الأنماط الفنية الموروثة رموزاً وتلويحات يحكمها بناء عرفانى يستمد كيانه من ذاته، وهذا ما لاحظناه فى رمز الناقة الذى ألبس – على يد الصوفية – لباسا جديدا معبقا بروائح التقوى، ويشير بالحادي إلى الله الذى يسوق النفوس الى مستقر الرحمة والرضوان.
2- رمز الأماكن البدوية والحجازية:
مثلث الأماكن البدوية والحجازية رمزاً صوفيا ذا طبيعة غنوصية لما ترمز به على القرب من الحضرة الإلهية، ومن ثم أحالها الصوفية رموزاً وتلويحات مشوبة بالوجدان والمعرفة، فخطت بها خطوات نحو تجريد ميتافيزيقى، والغوص فيما تنطوى عليه صورها من كيف حسى مفعم بالإيحاء.
ونأخذ من ابن عربى مثالاً على التلويح بهذه الأماكن الحجازية، يقول فى ترجمان الأشواق:
ألا يا ثرى نجد تباركت من نجد | |
سقتك سحاب المزن جودا على جود | |
وحياك من أحياك خمسين حجة | |
يعود على بدء، وبدء على عود | |
قطعت إليها كل قفر ومهمة | |
على الناقة الكوماء والجمل العود |
أراد ثرى نجد مركب العقل وسحائب المعارف تسقيه على علم وخمسين حجة عمر المركب فى هذا الوقت...".
فلقد أخذت الأماكن منحاً معرفيا غنوصيا بإشارتها إلى أمور معنوية لا يصل إلى جوهرها إلا العارفون، ولذلك أكثر منها شعراء الصوفية فى القرن السابع بطريقة مفرطة، وهذا نابع من مقدار ما بداخلهم من أسرار وفيوضات أرادوا الرمز لها بأمور ذات شرف لقربها من أماكن الفتوحات الإلهية.
ولضيق المجال ننتخب بعض الأمثلة السريعة التى يستطيع القارئ القياس عليها، فابن الفارض – مثلاً - كان يكثر من ذكر أماكن الفتوحات وخصوصاً الحجازية منها، وربما يعود ذلك لمقامه فى الأراضى الحجازية طيلة خمسة عشر عاما، ويتضح ذلك بجلاء فى قصيدته:
سائق الأظعان يطوى البيدطى | |
منعما عرج على كثبان طى |
فمن ينظر إلى هذه القصيدة يجد ذكر الأماكن فيها وصل إلى ستة وثلاثين موضعا وجميعها تحمل دلالات وتلويحات تتفاعل مع غيرها في البناء الفني للصورة الكلية،"وخصوصية الرمز فى الصورة تكمن فى تحقيق نوع من التفاعل فى السياق العام به، تتجدد علاقات المعنى وتتوالد وبه يتحرك المعنى بقدرة الإيحاء الذى يعوض النقص فى الدلالة المعجمية. ونأخذ بعضا من أبيات هذه القصيدة للدلالة على الرمز بهذه الأماكن:
خففى الوطء، فبالخيف سلمـ | |
ـت على غير فؤادى لم تطى | |
كان لى قلب بجرعاء الحمى | |
ضاع منى، هل له رد على | |
إن ثنى، ناشدتكم، نشدانكم | |
سجرائى، لى عينة عن عمى | |
فاعهدوا بطحاء وادى سلم | |
فهو ما بين كداء وكدى | |
ياسقى الله عقيفا باللوى | |
ورعى ثم فريقاً من لؤى |
فى رحلته إلى الله يناشد العيس أن تخفف الوطأ فإنها لا تدوس إلا على قلوب المحبين"وكنى بالخيف عن مقــام الهيبة والجلال فى حضرة القرب من الله الحق المتعال، الجرعاء كنـاية عن مقــام المجاهده فى الله وأضافها إلى الحمى أى حمى الحضرة الإلهية كنى ببطحاء وادى سلم عن عالم الأرواح الذى هو الوادى المقدس... وبطحاؤه موضع قبول الفيض الإلهى...".
ونشعر من تحليل النابلسى أنه يحاول إخضاع النص لمفاهيم وقياسات فلسفية قد تعارف عليها الصوفية الكبار فى مسألة تأويل النص، إلا أن طبيعة النص - كما نلاحظ - يتحكم فيها فيض نفسى يحيط بها ويتغلغل فى ثناياها، ويكفى أن نذكر أن الشاعر كانت تتلبسه حالات خاصة بين الصحو والإغماء، وهذه الحالات كانت عنده تمهيدا للإبداع.
وكان ابن الخيمى مفرطاً - كأستاذه - فى حشد الأماكن الحجازية والبدوية فى قصائده، وكأنه أراد لفت انتباه القارئ إلى مقدار ما بداخله من أسرارأراد أن يبثها من خلال هذه الأماكن بالإضافة إلى توفر روح التفصيل والتوضيح لما بداخله من مشاعر، ولا نعدم ذكر الأماكن فى أى قصيدة من قصائده، خصوصاً وأن ديوانه كما أسلفت معزوفة شوق نحو المحبوب الأعظم، وكل ما يشير إلى حضرته أو يمثل تعينات لجماله المطلق، وهذا ظاهر فى قصيدته:
لم توف اشواقى ولا لوعاتــى | |
حق الهوى لكم ولا عبراتى |
التى يقول فيها:
لو أن دمعى فى الغوير يكون فى | |
تلك الديار وغنيت عن دعواتى | |
دمع على سفح الغوير سفحته | |
شوقا الى زمن بذى الاثلاث | |
أيام ماريع الوصال بجفوة | |
فيها ولا شمل اللقا بشتات | |
وديار منعرج التنبة ما خلت | |
منهم ولا امتلأت من الحسرات | |
والأنس روح فى الديار واهلها | |
فقد انقضى فالكل كالأموات | |
ذاك الزمان هو الذى أصبوا له | |
وكذا ديار الخيف هن اللاتى |
إن الأماكن الحجازية وما يدور حولها مثل: الغوير - ذى الاثلات - منعرج الثنية – الخيف كلها ترمز عنده إلى أماكن الحضرة الإلهية، وتجلى النور المحمدى ومهابط الوحى بالواردات الإلهية، ومن ثم فالبكاء على عتباتها بسبب ما أصابه من الاغتراب وانقطاع الأنس عنه، وما يؤكد الرمز فى هذه الأماكن قوله:
ورعى الإله على المصلى حيرة | |
مازلت أرعاهم على العلات | |
قوم على الجمرات من وادى منى | |
نزلوا ومن قلبى على الجمرات | |
نصبوا على ماء النقا أبياتهم | |
وهم معانى الحسن فى الأبيات | |
وتحجبوا عنا بنور جمالهم | |
كتحجب المصباح بالمشكاة |
فهؤلاء القوم إشارة إلى الذات الإلهية التى بحجب الحسن والنور، ولكنها أرسلت بفيض حسنها على الماديات فصارت انعكاساً لهذا الجمال المطلق.
أما عفيف الدين التلمسانى وإن كان حريصا على تجريد الأماكن وتحويلها إلى رموز على مواجيده وأسراره، إلا أنه لم يحشدها فى شعره، ولم يثقل بها النص الشعرى، ولكن ذكرها وفق ما يقتضيه الموقف النفسى، وهذا راجع إلى أنه موغل فى الرمز لا يعطى قيادة لمن أراد اقتناصه من قريب، إلى جانب عدم وضوح التجربة الحجازية فى شعرة كسابقيه، ولم يكن مغرما بذكر تفصيلات التجربة، مما جعل قصائده قصيرة نوعا ما كما أسبقت يركز فيها على دفقات شعورية مركزة، يرسل خلالها الرمز مركزاً أو غير مشتت ولا متفرق الإيحاءات، كقوله:
متى زرتم نجداً فانى أراكم | |
تضوع عليكم نفحة من شذى نجد | |
أظن حمى ليلى حللتم بربعه | |
فضاع لكم منه شذى مسحب البرد | |
عريب لهم عندى رعاية عهدهم | |
وما عندهم لى: نقض عهد ولا عقد |
"فنجد"ترمز إلى مواطن الحضرة الإلهية، وكذلك"حمى ليلى"أى خدرها ومأمن وجودها، ولذا فهو يشتاق إليهما ويزرف الدمع بل الدم على بعده وفراقه للحبيب الكامن بهما.
ونلاحظ فى البيت الثالث ذكر التلمسانى للفظ العرب مصغراً عريب وهو لفظ ذكره التلمسانى كثيراً يشير به إلى مهد الرسالة المحمدية وما يحتوى علية من الأماكن المقدسة، مما يجعله مناسبا للإشارة به إلى الحضرة الإلهية ومكمن الأرواح الطيبة، ومثلما كانت الأماكن العربية مكانا لتلقى الوحى فإنها أيضا مكان لتلقى الواردات الإلهية، والعرب بالتالى إشارة إلى الذات الإلهية والمقامات المحمدية، وهذا واضح من تعليق النابلسى على بيتى ابن الفارض فى التائية الصغرى:
وعرج بذياك الفريق مبلغا | |
سلمت عريبا، ثم عنى تحيتى | |
فلى بين هاتيك الخيام، ضنينة | |
على بجمعى، سمحه بتشتتى |
وقوله"عريبا"تصغير عرب من العروبة وهى إشارة إلى المقامات المحمدية المشار إليها فى البيت قبله.
ويقول التلمسانى:
عرب نجد منا قبلتم فريقا | |
وفريقا بلحظكم تأسرونا | |
مات من هجركم سمير هواكم | |
فاطلبوا اليوم سامراً تهجرونا |
ويؤكد رمزية لفظ العرب ارتباطه الدائم عند التلمسانى بالأماكن المقدسة، وما تمثله من إشارة إلى الحضرة الإلهية، وهذا واضح فى المثال السابق الذى يعبر فيه عن شوقه إلى الذات الإلهية بل الفناء فيها بالموت الإرادى الذى فقد فيه السمير، ومن ثم يقتبس من الآية القرآنية معنا لسمير جديد معرض للهجر.
ويدعم الصوفية هذا الرمز برمز الأسماء البشرية خصوصاً اسمى سعد وسعيد الذى تردد فى ثنايا قصائدهم، يقول ابن الفارض:
يا أخت سعد من حبيبى جئتى | |
برسالة أديتها بتلطف | |
فسمعت ما لم تسمعى، ونظرت ما | |
لم تنظرى، وعرفت ما لم تعرفى |
يعلق النابلسى بقوله: أخت سعد كناية عن روحه المنفوخة فيه من روح الله، عن أمر الله فكأن روح الله الذى هو أول مخلوق هو السعد المحض الذى لأشقاء معه، وهو روح أرباب العصمة من الأنبياء عليهم السلام. وتنكير سعد للتعظيم، والروح المنفوخة فى غيرهم أخت لأنهما صادران عن أمر الله تعالى، وقوله برسالة يريد بالرسالة هنا العلوم الإلهية والمعارف الربانية والحقائق الرحمانية...".
فاسم سعد قد تجرد من صفته كاسم يشار به إلى إنسان، وانتقلت منه طبيعته أو بعض متعلقاته، وهى صفة السعد المحض الذى لا شقاء معه لتشير إلى روح الله. ويقول التلمسانى:
عيناك أن سلبت نومى بلا سبب | |
فالنهب يا اخت سعد شيمة العرب | |
وقد سلبت رقاد النــاس كلهــــم | |
لذاك جفنك كسلان من النقب |
ويقول:
وصل على رغم الحسود | |
إليك سعداً يا سعيد | |
فدنا البعيد وياهنا | |
المشتاق إذ يدنوا البيعد |
إنه ينحى شخص"سعد"جانبا، لأنه نهائى ويستعير منه صفة"السعد"اللانهائية للإشارة بها إلى عالم المثال، وحدث ذلك عن طريق تجاوز المادة وخلق المعادل الموضوعى بين أمرين جوهريين، وهو أول رمز يكتسب هذه الصفة.
ويقول عبد الغفار الاقصرى:
وهم نهاية آمالى ومرتجعى | |
إليهم آل قصدى وانتهى الطلب | |
كرر حديثهم يا سعد فى أذنى | |
فلست أنسى ولكن هزنى الطرب |
ويقول محمد بن أحمد بن عبد الرحمن المعروف بالشيخ تاج الدين الكندى المولود بقوص 646هـ:
يا سعد عرج بالمطى لروضها | |
فبعرفه قد أرشد الظعان | |
وارفق بها فلقد غنيت بشوقها | |
عن سوقها لما بدت نعمان |
فالأمثلة السابقة ترمز"بسعد"إلى الذات الإلهية التى تدلى بحديثها إلى قلوب العارفين الذين وصلوا إلى درجة العرفانية بعد اجتيازهم لمقامات السلوك، ولذلك يأتى هذا الاسم دائماً مع الظاعنين الراحلين أو بمعنى آخر المغتربين الذين يفارقون صفاتهم الترابية، ويعرجون إلى ربهم فيركبون مطاياهم ويحدوهم الحادى أو"سعد"الذى يشار به إلى الله لما بين الرمز والمرموز له من عامل مشترك وهو تحقيق السعادة للخلق 0
ث ـ رموز العبادات:
لم تكن العبادات الصلاة – الزكاة – الصوم – الحج عند الصوفية مجرد شعائر يؤديها المسلم أداء ظاهريا وكفى، وإنما ينظرون إليها نظرة ذوقية خاصة عمادها الذوق وقوامها التحقيق،
حيث تمثل تطهيراً للقلب من النقائض الكونية، والآفات الدنيوية التى تتعلق بها النفس الإنسانية. يقول الجيلى:
أصلى إذا صلى الأنام وإنما | |
صلاتى بأنى لاعتزازك خاضع |
فالحب لله هو الأساس فى عباداتهم التى عاشوا فيها تجربة روحية وإيمانية عالية، ويؤسس ابن عربى باطن الشريعة على أساس أنه انعكاس لباطن الوجود، فكما أن للوجود ظاهراً أو باطناً، وكما أن للإنسان كذلك ظاهراً وباطناً، فالخطاب الإلهى يتضمن بالضرورة هذين الجانبين: الظاهر والباطن، ومن المنطقى إذن أن يكون للشريعة ظاهر وباطن، فالشريعة تطل من حيث الباطن، وليس من المعقول أن يكون الله سبحانه فى خطابه إلى البشرقصد مخاطبة ظاهرهم دون باطنهم"فاحتاج ذلك إلى التأويل للوصول إلى الحقائق المستورة خلف الظاهر.
ونأخذ مثالاً لابن الفارض لبيان حقيقة ذلك يقول:
أصلى فأشدو حين أتلو بذكرها | |
وأطرب فى المحراب وهى إمامى | |
وبالحج إن أحرمت لبيت باسامها | |
وعنها أرى الإمساك فطر صيامى | |
وشأنى بشأنى مغرب،وبما جرى | |
جرى وإنتحابى معرب بهيامى |
يوجه الضمير فى قوله ذكرها"إلى المحبوبة الحقيقة والحضرة الإلهية"وفى هذا دلالة على أنه إنما يعيش هذه المناسك بروحه لا بجسده، فالحج رمز للسفر الروحى وأول مراحله الحسية التى رأى فيها"البيت العالم وإدراكه إدراكا حسيا، وفى الحج الثانى أدرك البيت وصاحب البيت أى إدراك"الاثنينية"إدراكا عقليا، وفرق بين الله والعالم، وفى الحج الثالث أدرك بقلبه شهوده الكل الذى لم يميز فيه بين البيت وصاحب البيت، فمراتب الحج ثلاث إدراك الحسى فإدراك عقلى فشهود قلبى، أو فردية فثنوية فوحدة مطلقة تنمحى فيها الكثرة العقلية والحسية.
وهذه المرتبة الأخيرة مرتبـة الفنـاء أو التوحيـد الصوفـى التـى نلمحهـا – أيضـا – فـى
قول ابن الفارض فى نفس المعنى:
وفى حرم من باطنى أمن ظاهرى | |
ومن حوله يخشى تخطف جيرتى | |
ونفسى بصومى من سواى تفرداً | |
زكت وبفضل الفيض عنى زكت | |
وشفع وجودى فى شهودى، ظل في | |
تحادى وتراً فى تيقظ غفوتى | |
وإسراء سرى عن خصوص حقيقة | |
إلى كسيرى فى عموم الشريعة |
فعبادته عبادة خصوص الخصوص الذين يتطلعون من خلال ظاهر العبادة إلى تزكية باطنهم يقول الهجويرى"اعلم أن الصلاة عبادة يجد فيها المريدون طريق الحق من البداية إلى النهاية، وتتكشف فيها مقاماتهم".
وأما الصوم - كما يذكر ابن الفارض- فهو صوم عما سوى الله أى الخلوة بالله والفناء فيه بالاغتراب عن الخلق وعن نفسه حتى تسمو، فيتمكن من مشاهدة الحق،"فثمرة الجوع المشاهدة؛ لأن المجاهدة قائدته، فالشبع مع المشاهدة خير من الجوع مع المجاهدة؛ لأن المشاهدة معترك الرجال والمجاهدة ملاعب الصبيان، فالشبع بشاهد الحق خير من الجوع بشاهد الخلق"، وبذلك يستطيع الوصول عن طريق أتباعه لخطى الشريعة إلى المعرفة الإلهية التى يرجوها.
ويفرق التلمسانى بين نوعين من الصلاة فى قوله:
إذا صفت الأقدام منا وأمنا | |
صلاة شهود لا صلاة تحجب |
فالصلاة – عنده- ليست صلاة حركات وسكنات، وإنما تنضاف إلى ظواهرها حقائق تجعل منها صلاة شهود لا تحجب بالشكل الظاهر عن حقيقة هذا الفرض، وهى فى حقيقتها معراج للوصول إلى الخالق سبحانه.
يقول ابن الخيمى:
يا حسن سجادة المصلى | |
وهو يناجى ذاك الجنابا | |
مقترنا بالسجود منه | |
عند مناجاته اقترابا | |
صيرها دونة حجابا | |
رجاء أن يسمع الجوابا |
فالنفس البشرية عند سجودها بين يدى خالقها تعرف حقيقتها، وتذل وتخضع لبارئها، وتجاهد من أجل مفارقة الأغيار، حتى لو كان زخرف السجادة التى تؤدى فوقها الصلاة؛ لأن هذا الزخرف يمثل نوعا من الحجاب الذى يجب تجاوزه للوصول الى الحقائق لعلوية دون شاغل، فيحظى بالأنس والقرب من المحبوب.
جـ - الخمـــر الصــوفـى:
مثل الخمر بابا كبيرا من أبواب الشعر العربى، وكان له عمق تاريخى يمتد - كما يقول د محمد مصطفى هدارة - قبل الشعر الجاهلى،"فالخمر كما تروى الأساطير القديمة قد عرفتها الإنسانية منذ نشأتها الأولى، ووصلت فى بعض البيئات إلى حد التقديس، حتى أن اليونانيين جعلوا لها إلها هو ياخوس كما تصوره الأساطير الإغريقية".
ولم تأخذ الخمر حقها من الوصف والتعبير الأدبى المتعمق فى المنعويات سوى فى العصر العباسى، حيث استبدت شهوة الشراب بشعرائه"فجعلتهم أسرى وعبيداً لها، حتى إنهم فى حديثهم عنها يصورونها معشوقة قد عشقوها، وتفانوا فى حبها، وقد استطاعت هى أن تأسر قلوبهم وتسخرهم لها"فعبروا عن عواطفهم من خلالها، وربما بثوا بها بعضا من آرائهم فى الحياة، كما حدث فى شعر أبى نواس الذى توسع فى وصفها ولم يفته شئ من معانيها المعنوية أو الحسية.
وورث المصريون الميراث الفنى فى وصف الخمر عن السابقين، وصار لهم فى ذلك جولات لعب فيها خيال الشعراء، فظهر فى شعرهم بعض المعانى الجديدة التى لم تخطر على بال الشعراء السابقين. وكثرت عوامل الاغتراب النفسى والاجتماعي فلاذ كثير من شعراء العصرين الأيوبى والمملوكى إلى الخمر، وشغفوا بوصفها والاستغراق فى عالمها هربا من الواقع. فكما لاذ الصوفية بعالمهم إلى الباطنى لاذ أدباء الخمر بعالمهم الحسى، يتفيأون فيه ظلال اللذة، ويجدون فى عالمهم الكئوس والأقداح ما ينسيهم الواقع أو يتلمسون عنده النسيان.
حتى إذا وصلنا إلى شعراء الصوفية نراهم يستلهمون تراث الشعر الخمرى بصورته وأخيلته وأساليبه ولم تستلهم ما حفل به من مجون وإباحية، وإن كان هذا لا ينفى أن بعض الغلاة والإباحيين من فرق الصوفية كالمطاوعة والقلندرية كانوا يعاقرونها فى الخفاء.
وهكذا نخلص إلى حقيقتين أساسيتين: الأولى أن للخمريات الصوفية بواكير ترجع إلى النصف الأخير من القرن الثانى الهجرى، والثانية أن الصوفية أفادوا من شعر الخمر الذى ازدهر فى العصر الأموى وازداد ازدهارا ونماء فى العصر العباسى، وألموا منه فى ألفاظهم التوقيفية
بمصطلحين يسيطر عليهما طابع التقابل الوجدانى، فعندهم أن السكر يقابله الصحو، كما أن البسط يقابله القبض...".
وإذا كان الشعراء السابقون وقفوا عند ظاهر الخمر ولم يتعمقوا في بواطنها، فان شعراء الصوفية لم يقفوا عند السطح وتوغلوا إلى حقيقة السكر والخمر، حيث أعملوا فيهما الخيال ومزجوهما بالذوق الصوفى، وبثوا فيهما مواجيدهم وأذواقهم، حتى صار وصفها ترجمة لحياتهم الروحية ورمزاً للمحبة الإلهية، ولمقدار ما وصلوا إليه من أحوال، فاستندوا إلى مسميات الخمر الحقيقية ومتعلقاتها من السكر والشراب والرى والصحو، ويعبرون بذلك عما يجدونه من ثمرات التجلى، ونتائج الكشوفات، وبواده الواردات، وأول ذلك الذوق ثم الشرب ثم الرى، فصفاء معاملاتهم يوجب لهم أدق المعانى، ووفاء منازلاتهم يوجب لهم الشرب، ودوام مواصلاتهم يقتضى لهم الرى، فصاحب الذوق متساكر، وصاحب الشرب سكران، وصاحب الرى صاح، ومن قوى حبه تسرمد شربه وأنشدوا:
عجبت لمن يقول ذكرت ربى | |
فهل أنسى فأذكر ما نسيت | |
شربت الحب كأسا بعد كأس | |
فما نفذ الشراب ولا رويت |
فإذا كان الصوفى يتبع ميراث السابقين باعراقة وتقاليده، فانه يتجاوزه ويتجاوز كذلك ظاهر الشريعة، الذى يحرم الخمر المادية تحريما قاطعا، فيلجأ الصوفى إلى التأويل لإيجاد أوجه التقاء بين جوهر الخمر، وما يحدث للصوفى من نشوة، وتغيب أثناء الفناء فى الذات الإلهية. فالسكر والغلبة"عبارة صاغها أرباب المعانى للتعبير عن غلبة محبة الحق تعالى، والصحو عبارة عن حصول المراد"، ويعنى السكر عند الصوفية"أن يغيب عن تميير الأشياء، ولا يغيب عن الأشياء، وهو أن لا يميز بين مرافقه وملاذه، وبين أضدادها فى مرافقة الحق... والصحو الذى هو عقيب السكر هو أن
يميز فيعرف المؤلم من الملذ فيختار المؤلم فى موافقة الحق، ولا يشهد الألم بل يجد لذة فى المؤلم... وانشدوا لبعض الكبار:
كفاك بأن الصحو أوجــد كآبتــى | |
فكيف بحال السكر والسكر أجدر | |
فحالاك لى حالان صحو وسكرة | |
فلازلت فى حالى أصحو وأسكر |
وهكذا يكون السكر عند الصوفية مختلفاً عن السكر الناتج عن الخمر المادية فى كونه يعقبه الصحو، ولا يعنى الصحو هنا مفارقة حالة السكر بصورة تامة، وإنما الترقى إلى حال أرقى هو حال"صفاء العشق والذوق بأحدية الجمع والفرق".
وبهذا تعمق الصوفية فى حقيقة الخمر وأخذوا منها أثرها، وتحولوا به الى رمز يعبرون به عن حالهم. يقول عبد الحكيم حسان:"والصوفية فى كلامهم عن الحب يعمدون فى رمزهم الى جانب أخر هو جانب الخمريات، فهم يتكلمون عن الحب على أنه شراب".
واذا بدأت فى تناول الرمز الصوفى بالخمر عند شعراء الصوفية فى مصر، نجد أنفسنا بالطبع أمام أبى حفص عمر بن الفارض الذى صور نشوتة بالحب الإلهى بنشوة الخمر فاتخذوا نفس لغة شعراء الخمر السابقين بما تحتوى عليه من دنان وسقاة وكئوس، ولا شئ من ذلك"إنما هو جمال الذات الإلهية التى دلع فى قلبه الحب، وكأنما شرب من إناء قدسى رحيقه المسكر فهو لاينى منتشياً ولا ينى منجذبا، وكأنه فى غيبوبة لذيذة توشك أن تسلبه حواسه".
يقول ابن الفارض فى تائيته الكبرى:
سقتنى حميا الحب راحة مقلتى | ||
وكأسى محيا من عن الحسن جلت | ||
فأوهمت صحبى ان شرب شرابهم | ||
به سر سرى فى انتشائى بنظرة | ||
وبالحدق استغنيت عن قدحى ومن | ||
شمائلها لا من شمولى نشوتى | ||
ففى حان سكرى حان شكرى لفتية | ||
بهم تم لى كتم الهوى مع شهرتى | ||
ولما انقضى صحوى تقاضيت وصلها | ||
ولم يغشنى فى بـسطها قبض خشيتى | ||
وأبثثتها ما بى ولم يك حاضرى | ||
رقيب لها حاظ بخلوة جلوتى | ||
وقلت وحالى بالصبابة شاهد | ||
ووجدى بها ماحى والفقد مثبتى | ||
هبى قبل يفنى الحب منى بقية | ||
أراك بها لى نظرة المتلفت | ||
ومنى على سمعى، بلن إن منعت أن | ||
أراك فمن قبلى لغيرى لذت |
يستخدم ابن الفارض نفس ألفاظ الخمر الحقيقية من شراب وحميا وقدح وشمول وحال وسكر وصحو ولكنه يلجأ إلى تراسل الحواس، حيث تأخذ عينه صفة كفه التى تسقيه خمر المحبة
الإلهية حيث تنعمت فى الجمال الإلهى، فسرى أثر الخمر فى عروقه وشعر بنشوته، وصارت روحه المحبوبة كأسه الذى يشرب منه، فأهلكه وأفناه حتى أوقع أصحابه فى الوهم؛ لعدم إدراكهم؛ لأنهم من عشاق الصورة فكأن الجمال شراب، والحب حمياه، وهذا كله موهبة من الله، عندما ذهب صحوه مكنه سكره من المباسطة مع الحق فأخبره بما أصابه من أثر العشق والهيام بالمحبوبة التى عاهدها بالولاء والإيمان يوم الصحو الميثاقى فى عهد الربوبية المأخوذ على الذر.
ونلاحظ أن المقطعة مثقلة بالمصطلحات الصوفية التى اندرجت فى السياق فانطبعت عليها روح الرمز مثل: السكر – الصحو – السر – النشوة – البسط – القبض – الخلوة – الجلوة – الصبابة – الوجد – المحو – الفقد – الإثبات – الفناء – الحضور – الشرب – الوهم، فكلها مصلحات تشير إلى أحوال شريفه يعيشها الصوفى فى تجربة الارتقاء لدرجة وصوله إلى النشوة والسكر، ثم الصحو بعد ذلك.
وهكذا تقترن رمزية الخمر عند ابن الفارض بالحب الإلهى الذى ملك عليه كيانه، وكذلك بالمعرفة والفيوضات الإلهية التى وردت على قلبه، فأعقبت إبداعا ذا قيمة كان يأتيه فى الغالب بعد صحوه من غيبته وسكره بغير مدامة.
والرمزية الخمرية عند ابن الفارض رمزية ميتافيزيقية تصحبها نظرة فلسفية إلى النفس والكون، قبل ان تكون نظرة فنية فى الأداء الشعرى يتخطى المحسوس وتجرده وتنحو نحو الباطن بكل ما فيه من مجاهل وأعماق"وتخطى المحسوس يتم فى الآونة التى تنطوى فيها الذات باطنة فى خفايا الروح وزوايا النفس عن ذلك العالم الحقيقى، وتلك نظرة مثالية تحتذى ما كان يحاوله الرمزيون من نقل الإحساس بالعالم الخارجى منعكساً على صفحة الذات الشاعرة".
وقد تجلت موهبة ابن الفارض الفنية وقدرته على صياغة الرمز الشعرى من الخمر المادية فى قصيدته الميمية التى تعد أروع ما كتب من شعر الخمر الصوفى على الإطلاق"ففى هذه القصيدة يبدو ابن الفارض شاعراً بحق، لا مجرد صوفى يصور مراحل الطريق والفناء والشهود والعروج القدسى كما فى قصيدتة"نظم السلوك"وهو هنا يصنع رمزه الشعرى فى تصوير بديع، ويقدم عملاً مكتمل البناء، فالقصيدة من مطلعها إلى ختامها فى موضوع واحد هو الخمر والرمز فيها رمز فنى لا اصطلاحي قابل للتأويل".
ويبدأ ابن الفارض قصيدته بقوله:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة | |
سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم | |
لها البدر كأس وهى شمس يديرها | |
هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم | |
ولولا شذاها ما اهتديت لحانها | |
ولولا سناها ما تصورها الوهم | |
ولم يبق منها الدهر غير حشاشة | |
كأن خفاها، فى صدور النهى كتم | |
فان ذكرت فى الحى أصبح أهله | |
ج نشاوى ولا عار عليهم ولا إثم | |
ومن بين أحشاء الدنان تصاعدت | |
ولم يبق منها فى الحقيقة إلا اسم | |
وان خطرت يوما على خاطر امرئ | |
أقامت به الأفراح وارتحل الهم |
من بداية هذه القصيدة لا يستطيع القارئ إلا أن يحكم عليها بأنها فى وصف الخمر المادية؛ لما يرى من صفاتها المتبدية من خلال الأبيات، إلا أن القصيدة تبدأ بتصوير الخمر فى صورة أسطورية رمزية محملة بمعان وإيحاءات عميقة، حيث يرمز بها إلى المحبة الإلهية بوصفها أزلية قديمة، منزهة عن العلل، مجرده عن حدود الزمان والمكان، ولذلك يرى النابلسى أن هذه القصيدة مبنية على اصطلاح الصوفية؛ فإنهم يذكرون فى عباراتهم الخمرة بأسمائها وأوصافها، أو يريدون بها ما أدار الله تعالى على ألبابهم من المعرفة أو من الشوق والمحبة، والحبيب فى عبارته عن حضرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد يريدون ذات الخالق القديم جل وعلا".
وهذه الخمر مثل المحبة: قديمة أزلية ظهرت بواسطتها الأشياء وتجلت الحقائق وأشرقت الأكوان"وهى الخمر الأزلية التى شربتها الأرواح المجردة فانتشت، وأخذها السكر واستخفها الطرب قبل أن يخلق العالم".
ويؤكد ابن عربى هذا المعنى فى قوله:
واشرب سلافة خمرها بخمارها | |
واطرب على غرد هنالك ينشد | |
وسلافة من عهد آدم أخبرت | |
عن جنة المأوى حديثاً يسند |
ويعلق على البيتين بقوله: قال تعالى"وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ"محمد 15 وصرفه إلى المعانى والمعارف التى يكون عنها السرور والابتهاج والفرح، وإزالة الغموم والتجريد من الكم والكيف والهياكل،... وجعل الخمر سلافة... فهى علوم ربانية ومعارف قدسية إلهية تورث ما ذكرناه... هذا ذكر ما جاء به الناطق الفرد المنشد فى خطابه فى نعت هذه العلوم الخمرية ومرتبتها والتنبية على أصلها واصل عطريتها وقدمها".
وكون الخمر الإلهية تحمل علوما خاصة، فهذا يسوغ لنا قبول أبيات ابن الفارض على وجهها الرمزى، حيث بث فيها علوما ومواجيد خمرية، فقد شرب هو والسالكون خمرة، والمعنى بها هنا شراب المحبة الإلهية الناشئة عن شهود آثار الأسماء الجمالية للحضرة العلية، فإنها توجب السكرة والغيبة بالكلية عن جميع الأعيان الكلية وقوله"من قبل أن يخلق الكرم"يعنى أن مساره المذكور سابق فى الحضرة العلمية قبل ظهور كل مقدور وهو خمر الوجود الحق، والخطاب الصدق، ولكن بالندمان عن السالكين فى طريق الله تعالى، وكنى بإنائها عن النفس الإنسانية، فإن الختم واقع عليها بالتجلى.
وبعد أن يوضـح الشاعـر بعـض طبيعـة هـذه الخمـر، يبـدأ فـى وصفـها بوصـف خـاص نابـع
من خصوصية هذه الخمر الإلهية، وأيضا خصوصية الحالة التى تتلبسه ساعة الإبداع، يقول:
يقولون لى: صفها فأنت بوصفها | |
خبير، أجل، عندى بأوصافها علم | |
صفاء ولا ماء، ولطف ولا هوا | |
ونور ولا نار،وروح ولا جسم | |
تقدم كل الكائنات وجودها | |
قديما ولا شكل هناك ولا رسم | |
وقامت بها الأشياء ثم لحكمة | |
بها احتجبت عن كل من لا له فهم | |
وهامت بها روحى، بحيث تمازجا اتـ | |
حادا ولا جرم تخلله جرم | |
فخمر ولا كرم، وآ دم لى أب | |
وكرم ولا خمر ولى أمها أم | |
ولطف الأوانى فى الحقيقة تابع | |
للطف المعانى، والمعانى بها تنمو | |
وقد وقع التفريق،والكل واحد | |
فأرواحنا خمر، وأشباحنا كرم | |
ولا قبلها قبل، ولا بعدها بعد | |
وقبلية الأبعاد، فهى لها ختم | |
وعصر المدى من قبله كان عصرها | |
وعهد أبينا بعدها، ولها اليتم |
ويذكر القرينة فى قوله:
وقالوا شربت الإثم كلا، وإنمـا | |
شربت التى فى تركها عندى الإثم | |
هنيئا لأهل الدير كم سكروا بها | |
وما شربوا منها، ولكنهم همـــــوا | |
فعندى منها نشوة قبل نشأتـــى | |
معى أبدا تبقى، وإن بلى العظــــم |
لأن الوصف والقرينة كلاهما نابع من المقدمات التى سبقت بأزلية هذه الخمرة النابعة من أسبقية المحبة الإلهية الدالة على"التوحيد الخالص وشهود الحق بالحق، والتحقق بفناء ما سواه، أما الخمر الممتزجة فحرى أن تكون رمزا عرفانيا على مزج الوجود الحق بصور الكائنات العدمية...".
ويفرق ابن الفارض – من خلال وصفه للخمر – بين الروح والجسد فى قوله:"فأرواحنا خمر، وأشباحنا كرم"ولعلنا نلاحظ هذا التجريد المثالى فى وصف الخمر العرفانية بالخلوص من كثافة العناصر، فهى صافية لطيفة نورانية بها قامت الأشياء، وإليها اشتاقت أرواح العرفاء حتى اتحدت بها".
وهكذا نقل ابن الفارض الحديث عـن الخمـر مـن مجـرد وصـف حسى، إلى حالـة وجدانيـة
ميتافيزيقية تتجاوز الواقع، وتنفذ إلى باطن التجربة الصوفية الزاخرة بالمعانى والمعارف الكونية والوجودية والفلسفية التى لا تعترف بالحس لكونه، وإنما نتجت عن كيفه والمعادل الذى قد يحققه عن طريق التراسل الذى يتخطى حدود النهائي حتى يسبح فى ملكوت اللانهائي.
وأما إبراهيم الدسوقى، فكان شعره عبارة عن خمرية واحدة تدور حول خمر المحبة الإلهية وتناقشه من كافة الجوانب، فما من قصيدة ولا مقطعة، إلا وذكر فيها الخمر وأوصافه ذكرا مفصلا أو إشارة إليه عن طريق ذكر الكأس والساقى أو الشاربين ودعوة الصاحب إلى السكر. يقول:
على مذهبى كل المحبين يمنوا | |
ونشأة خمر هيمتهم فهمهموا | |
وكل ملاح الحى أرخوا لثامهم | |
على وعن غيرى أبوا وتلثموا | |
أنا الصاحى السكران فى غير خمرة | |
أنا الضاحك الباكى وسرى مكتم |
هذا السكر من غير خمرة يوحى بأنها ليست خمرة طبيعية، ولكنها خمرة المحبة التى أسكرته عند التأمل فى جمال الخالق، ولذلك يقول الدسوقى نفسه:"ولما دخل الأولياء وهم أشباح الجنة، ونظروا إلى أرواح المؤمنين الذين يدخلون الجنة سكروا بغير مدام، وأسبلت الحور العين لثامهم فبكوا الأولياء، وضحكوا لما رأو ما أضحكهم وأبكاهم، ثم سكروا وطربوا ثانيا بغير مدام، وهاموا وغابوا وتواجدوا، وأبكوا وضحكوا فلهذا قلت الأبيات السابقة... فالسكر هنا بسبب رؤية وجه الذات الإلهية بعد كشف الحجب:
رفع الساقى حجابا | |
وسقى العانى شرابا | |
أبرز الكاس وفيها | |
من سنا الوصل حبابا | |
ادخلوا حان اتصالي | |
تسمعوا فيه خطابا | |
صن جمالا قد تغالى | |
وسنا أضحى مهابا |
ويقول:
سقانى محبوبى بكأس المحبة | |
فتهت على العشاق سكرا بخلوتى | |
ونادمنى سرا بسر وحكمة | |
فما كان أهنى جلوتى ثم خلوتى | |
ولاح لنا نور الجلالة لو أضا | |
لصم الجبال الراسيات لدكت | |
وكنت أنا الساقى لمن كان حاضرا | |
أطوف عليهم كرة بعد كرة | |
وكان دليل يوم حضرة قدسه | |
على المرتضى الكرار يوم الكريهة | |
بإذن من المختار خير مهذب | |
وإن رسول الله شيخى وقدوتى |
إن الدسوقى يجول فى باطن الروحانى، فيستخرج ما بداخله من حالات وجدانية، ويعادل بينهما وبين صور الخمر الحقيقية، حيث يمثل صفاء الخمر الحقيقية بصفاء القلب وإشراقة. ومن ثم ارتبط وصف الخمر عنده باشراق القلب وتجلى الحق عليه دون حجاب، وتوالى المعارف اللدنية"وهذا جعل الحلاج يقول:"ما فى الجبة إلا الله"وأبو يزيد البسطامى يقول:"سبحانى ما أعظم شأنى"فتعددت الطرق بتعدد السالكين، وهذا تأكيد لخصوبة التجربة"فالخمر المحبة والله هو المنادم الذى ينادم أحبابه بإطلاعهم على جماله ونور معرفته، فيصيرون أولياء يفيضون على مريديهم من علمهم اللدنى.
فلقد"استعمل الصوفية لفظ الخمر وما فى معناه بمفهومات متعددة كان من بينها الإشارة إلى الذات الإلهية والإشارة إلى الأسرار والتجليات الإلهية والإشارة إلى الحب الإلهى، والإشارة إلى حقائق الغيب، والإشارة إلى التصوف أو علم الحقيقة، وغيرها الكثير من المعانى"
وتتضح هذه المعانى فى قول الدسوقى:
أيها المنكر حالى | |
وهو لا يعرف قدره | |
قم فذق من كأس عشقى | |
خمرة بل أى خمرة | |
هى للقلب شفاء | |
هى للسر مسرة | |
هى للعين إذا ما | |
جلبت فى الكأس قرة | |
هى للأرواح راح | |
هى للأشباح خضرة | |
هى للمشتاق نور | |
هى للعشاق خمرة |
الشاعر فى وصفه هذا يصف أحوال الوجد الروحى الذى يمتلكه، ومن ثم نراه يضايف بين الحسى والمعنوى، ويؤلف بين الكم الحسى، والتركيب الميتافيزيقى، ولكن نلاحظ أن الدسوقى - على الرغم من تأثره بابن الفارض فى وصفه للخمر – لا يؤكد كثيرا على المعانى الحسية للخمر إلا بقدر ما تؤدى المعنى الذى يريده بل إن أحواله الوجدانية، والروحية تطغـى علـى حسية الخمـر وكونهـا
المادى.
ويعلن التلسمانى عن اتجاهه التجريدى للخمر الحسية من متعلقاتها المادية والرمز بها على الخمر الإلهية فاكتسب الرمز – عنده وعند سابقيه – ظلالا جديدة،"ومن ثم أخذت طريقه الكتابة الرمزية فيما يتصل بهذا الانسحاب إلى عالم الفكر الباطنى، وأساليب الاتصال الخفية".بالعالم الماورائي، والتلمسانى دائما يؤكد على أن سكره ليس بخمر مادية، وإنما بنشوة النظر إلى وجه الحبيب ولواحظه، وكذلك من أثر الحب الإلهى فيهم يقول مثلا:
حلت لنا الراح من لواحظه | |
فليحرم الخمر بعد والعنب | |
خذا نديمى سلوتى لكما | |
عطاء من لا يمن إذ يهب | |
وخليانى وقهوة جليت | |
ليست سوى الثغر فوقه حبب | |
إنى امرؤ من عصابة كرمت | |
أذهب فى الحب حيثما ذهبوا | |
سقوا ولم يسكروا وكم فئة | |
أسكرهم عطرهم وما شربوا |
فالسكر هنا من نشوة النظر إلى جمال المحبوب، وليس من العنب أو النبيذ المحرم ولذلك يشير إلى القهوة وهى كثير ما استخدمت إشارة إلى كأس المحبة الإلهية التى يشرب منها بعض الشاربين دون سكر لأنهم لم يصلوا إلى درجة القرب، أو التجلى، ولكن غيرهم يسكرهم عطرها لوصولهم إلى حقيقة الحب الإلهى.
وهكذا جاءت رمزية الخمر عند الصوفية فوق مستوى الواقع، ينسحب خلالها الشعراء من العالم الحسى إلى عالم الحب الإلهى، والعلم اللدنى اللذين يتسمان بالقدم والقدرة على النفاذ إلى حقائق الوجود.
[1]