الترقى إلى الجمال المطلق
إن عشق الصوفية للذات الإلهية جعلهم دائمى التطلع لرؤية هذه الذات، ولذلك عشقوا كل ما تتجلى فيه، وبالطبع إنها لا تتجلى إلا فى كل جميل "ويتخذ الصوفية من الجمال الحسى درجا يرقون به إلى معرفة الجمال المطلق" (1) عن طريق شفافية الرؤية ورقة الذوق.
وهذه النظرية تلتقى مع رؤية أفلوطين التى انتهت فى إدراك الجمال إلى نوع من الطهارة الروحية التى ترتفع بالنفس من العالم الحسى إلى عالم الحقائق الروحية الذى يعلو على الحس, ويلهم من يصل إلي تأمله بالشوق الدائم إليه والعزوف عن العالم الحسى, فيوحد بين الجمال والحقيقة القصوى, يقول "إن الجمال هو الخير ومن الخير يستمد العقل جماله، ومن العقل تستمد النفس جمالها، أما أنواع الجمال الأخرى مثل الأعمال والنوايا فجمالها أيضا مستمد من النفس؛ إذ إن النفس إلهية وهى تحوى كل ما تمسه وتسيطر عليه جميلا فى حدود قدرته على تقبل الجمال. ويقول: تصير النفس جميلة بقدر ما تشبه بالله (2).
ونظرية أفلوطين فى سمو النفس وشوقها وتطلعها إلى جمال العالم الروحانى قربت بين تجربة التذوق الجمالى وتجربة التأمل الصوفى، بل جعل من تجربة التأمل الصوفى غاية التجربة الجمالية.
ويرى الدكتور محمد غنيمى هلال أن الجمال عند الصوفية قسمان: حقيقى وصورى، فالجمال الحقيقى صفة أزلية لله تعالى، وقد شاهده الله فى ذاته مشاهدة علمية، فأراد أن يراه فى صنعه مشاهدة عينية، فخلق العالم كمرآة يشاهد فيها جماله (3) عيانا، وهذا هو الجمال الصورى عند الصوفية، فالعالم كله تعبير عن الحسن المطلق، والقبيح فى العالم كالمليح منه، لأنه مجلى الجمال الإلهى، فلم يبق إلاالحسن المطلق. فالوجود كله صورة حسن الله ومظهر جماله، والتأمل فى جمال الكون سبيل إلى الاهتداء إلى الجمال الحق عن طريق العاطفة والقلب (4).
وهذا الاستغراق فى الجمال يوصل القوم إلى درجة الوجد، والغيبة عن الوعى الحسى، ويجعلهم يهيمون ويرقصون طربا مرددين اسم الله فى حلقات الذكر، ويعكفون على مجالس السماع، ويتخذون منها غذاء لأرواحهم وفتحا لمغاليق وجدانهم، وتربية لأذواقهم، يقول الجامى: "تصرف وجهك من الحب الترابى، ما دام الحب الترابى سيرفعك إلى الحق" (5) عن طريق اكتشاف النفس التى هى قيد للعالم فيكتشف العالم فى نفسه، والله فيهما، وهذا الاكتشاف هو تجل ينتقل فيه الجمال من الصورة إلينا انتقال فيض ننصبغ به كما صبغ الشكل الصورة.
وقد لاحظ د. محمد على أبو ريان أن نظرة الصوفية للجمال كانت أكثر حرية وانطلاقا من علماء الشريعة الإسلامية، فبينما تدخل رجال الشرع بالمنع والتحريم لبعض الفنون وبذلك عطلوا توجيه الإحساس بالجمال عند المسلمين إلى موضوعات هذه الفنون، فى حين أن الإباحة والتحريم لا ينصبان على المظاهر الجمالية فى ذاتها، ولكن على الموضوع نفسه وما يؤدى إليه من مخالفة للشرع , فمثلا إذا نظر الإنسان إلى تناسق جسم المرأة واكتشف فيه ناحية من نواحى الجمال، فإن ذلك فى حكم الشرع لا يعد من باب الحرام، لأن الله جميل يحب كل جميل، وأن جمال المخلوقات يرتبط بحسن صنعة الخالق،وفى ذلك تمجيد وتسبيح لعظمة الله وجلاله. ولكن ارتباط هذه النظرة إلى جمال المرأة بالميل الجنسى أى بالاشتهاء هو الذى يعد من باب الحرام (6).
أما الصوفية – وعلى رأسهم الإمام الغزإلى – فإنهم ربطوا سائر الجمال بالجمال الإلهى، وكأن الجمالات الجزئية سواء كانت عقلية أم حسية إنما تشارك فى الجمال الإلهى وترتبط به لأنها أثر من آثاره، وهذا الموقف يعود بنا إلى أفلاطون حينما يربط الجمالات الجزئية بمثال الجمال بالذات (7).
وقد ميز الغزالى بين طائفتين من الظواهر الجمالية فى قوله: "واعلم أن كل جمال محبوب عند مدرك ذلك الجمال، والله تعالى جميل يحب الجمال. ولكن الجمال إن كان بتناسب الخلقة وصفاء اللون أدرك بحاسة البصر. وإن كان الجمال بالجلال والعظمة وعلو الرتبة وحسن الصفات والأخلاق وإرادة الخيرات لكافة الخلق وإفاضتها عليهم على الدوام إلى غير ذلك من الصفات الباطنة، أدرك بحاسة القلب. ولفظ الجمال قد يستعار أيضا فيقال: إن فلانا حسن وجميل ولا تراد صورته.. وإنما يعنى أنه فى جميع الأخلاق، محمود الصفات، حسن السيرة، حتى يحب الرجل بهذه الصفات الباطنة استحسانا لها كما نحب الصورة الظاهرة..." (8) ثم يقول: "أن لا خير ولا جمال ولا محبوب فى العلم إلاوهو حسنة من حسنات الله، وأثر من آثار كرمه، وغرفة من بحر جوده،سواء أدرك هذا الجمال بالعقول أو بالحواس، وجماله تعالى لا يتصور له ثان لا فى الإمكان ولا فى الوجود " (9).
ووفقا لهذا التحليل الفلسفى الراقى يفرق بين نوعين من الظواهر الجمالية: نوع يدرك بالحواس وهذا يتعلق بتناسق الصور الخارجية وانسجامها سواء كانت بصرية أم سمعية أم غير ذلك، وأما الطائفة الثانية فهى ظواهر الجمال المعنوى التى تتصل بالصفات الباطنة. وأداة إدراكها القلب " فالقلب إذن أى الوجدان هو قوة إدارك الجمال فى المعنويات" (10) عند الصوفية.
ولقد هام صوفية القرن السابع بالجمال الحسى فى شتى صوره، ليس فى المرأة فقط، ولكن فى مخلوقات الطبيعة، ومظاهرها المختلفة: طبيعية كانت أم صناعية، ولم تكن الاستجابة للجمال فى هذه المظاهر غاية فى حد ذاتها " بل تستمد قيمتها من كونها دالة على الحقيقة العقلية الروحانية شأنها شأن الاستجابة لجمال الكون والطبيعة باعتبارهما من آثار المبدأ الإلهى المقدس والعلة الأولى التى تلهم نفوس الصوفية بالشوق الدائم والتطلع إلى معاينة هذا المبدأ والاقتراب منه " (11).
فهذا ابن الفارض الذى يروى عنه أنه كان عاشقا للجمال فى شتى صوره، ومثال ذلك أنه رأى ذات مرة جملا لسقاء فهام به وصار يأتيه كل يوم ليراه، وهو كما زعم بعضهم قد عشق برنية فى حانوت عطار.. كما كانت تحلوله رؤية النيل فى موسم الفيضان، إذ كان يتردد على مسجد المشتهى بالروضة، كما يشير هو بقوله:
لقد بسطت فى بحر جسمك بسطة
أشارت إليها بالوفاء أصابعفيا مشتهاها أنت مقياس قدسهاوأنت بها فى روضة الحسن يانعفقرى به يا نفس عينا، فإنهيحدثنى والمؤنسون هواجع(12)
وكان ابن الفارض – مثل شعراء عصره من الصوفية – يرى الكائنات جميعها على أنها مجال للحسن والجمال الإلهى المطلق الذى تعبر عنه كل مظاهر الحياة (13).
وأجمل ما أثر عن ابن الفارض فى التعبير عن الجمال المطلق قوله:
وصرح بإطلاق الجمال ولا تقلبتقييده ميلا لزخرف زينةفكل مليح حسنه من جمالهامعار له أو حسن كل مليحةبها قيس لبنى هام بل كل عاشقكمجنون ليلى أو كثير عزةفكل صبا منهم إلى وصف لبسهابصورة معنى، لاح فى حين صورهوما ذاك إلا أن بدت بمظاهرفظنوا سواها، وهى فيهم تجلتبدت باحتجاب واختفت بمظاهرعلى صيغ التلوين فى كل برزةففى النشأة الأولى تراءت لآدمبمظهر حوا قبل حكم الأمومةفهام بها كيما يكون بها أباويظهر بالزوجين سر البنوة(14)
فنراه عاشقا للجمال بطبعه، بل متأملا فى حقيقته، يؤكد على أن الجمال صفة لله، وقد ظهر هذا الجمال فى الكون فى صورة الحسن المطلق المتنوع المظاهر - الذى يعد بمثابة عارية مستعارة من الجمال الإلهى، ويضرب المثل بمشاهير عشاق العرب كقيس لبنى والمجنون وكثير عزة، فهم إن كانوا قد هاموا بمحبوباتهم، فهم فى الأصل يهيمون بمحبوبته هو التى تجلت فيهن، باحتجابها، فأظهرت جمالها فيهن مثلما ظهرت فى " حواء " فهام بها آدم. فحسن كل شئ هو معنى من جمال محبوبته الحقيقية كما يقول:
قال لى حسن كل شئ تجلى:
بى تملى فقلت: قصدى وراكالى حبيب أراك فيه معنىغر غيرى، وفيه معنى أراكا(15)
فالحسن هو صورة الجمال الإلهى المتجلى فى الكون " فإذا كان الجمال المطلق هو أسماء الله وصفاته، وكل ما فى الوجود من صور الحسن إنما هى تجليات لهذا الجمال، فإن وجود صور الحسن المتنوعة هذه ليس وجودا قائما بذاته، وإنما هو وجود من حيث الإضافة إلى الجمال الإلهى الذى أعار الحسن إلى كل الموجودات، فكان وجودهما وجودا مجازيا معارا من الله خلال تجليات جماله سبحانه وتعالى... " (16).
يقول ابن الفارض موضحا سر الجمال وفق رؤيته العرفانية:
وسر جمال عنك كل ملامحه
به ظهرت فى العالمين وتمت (17)
أى أن سر جمال الذات متى وجد فى كل شئ سواء كان جميلا أصلا أو غير ذلك، فإنه يصبح - فى نظر الصوفية – جميلا، والمهم فى طبائع الناس، ومقدار ارتقاء أرواحهم لهذا المعنى، إذ إن محبى الصور الكونية يتعشقون الكون، فى حين أن محبي الذات العلية يعشقون العين. والشروط واللوازم والأسباب فى كل من الحبين واحدة " (18).
ونقطف من بستان ابن الفارض زهرة أخرى على تجليات الجمال الإلهى فى مظاهر الكون المتعددة، يقول:
تراه إن غاب عنى، كل جارحةفى كل معنى لطيف، رائق، بهجفى نغمة العود والناى الرخيم، إذاتألفا بين ألحان من الهزجوفى مسارح غزلان الخمائل فىبرد الاصائل، والإصباح فى البلجوفى مساقط أنداء الغمام، علىبساط نور من الأزهار منتسجوفى مساحب أذيال النسيم، إذاأهدى إلى سحيرا أطيب الأرجوفى التثامى ثغر الكأس، مرتشفاريق المدامة، فى مستنزة فرج(19)
فقوله "إن غاب عنى" أى غابت ذاته العلية لإطقلاها عن جميع القيود والحدود الإمكانية, فيتجلى الوجود والحق عند ذلك، وينكشف فى تعينات مختلفة تظهر به ويظهر بها من حيث أسمائه الحسنى العليا لكمال تنزهها عن الألوان ومحوها وإفنائها لكل ما هو كائن أو كان, هذه التعينات مثل الصوت المطرب للألحان الجميلة وقت السماع، ومراعى الغزلان بين الأشجارالمجتمعة الملتفة والمواضع التى تسقط عليها أنداء الأمطار، وألوان الأزهار منتشرة كالبساط المنسوج بأنواع النقوش, والمواضع التى يمر بها النسيم ويتردد فتفوح منه الروائح الطيبة (20).
فالجمال المطلق هو عله الجمال فى كل شئ موجود،ويهون بجانبه كل ما يبدعه الإنسان من آثار فنية. يقول جلال الدين الرومى:" إننى مصور نقاش أصنع فى لحظة تمثالا ولكنى فى حضرتك أصهر كل هذه التماثيل وإنى لأخلق مائة وأنت فيها الروح، فإذا ما رأيت تصويرك ألقيت بهما جميعا فى النار " (21).
ويقدم ابن الفارض فى إحدى قصائده بعض الإشارات على سيادة الجمال على قلبه، يقول:
ته دلالا فأنت أهل لذاكاوتحكم فالحسن قد أعطاكاولك الأمر فاقض ما أنت قاضفعلى الجمال قد ولاكا (22)
وقوله " فالحسن قد ولاكا أى الجمال الحقيقى الإلهى اقتضى أن تكون هذه المثابة من كمال الذات، وجمال الأسماء والصفات، وجلال الأحكام والأفعال " (23).
وقد استخدم ابن الفارض فى كثير من أبيات هذه القصيدة الجمال والحسن وعلاقتهما بالكمال والجلال مما يؤكد أنه يتنزل فى الذات الإلهية " ويرى الجيلى أن الجمال المطلق والجلال المطلق لا يكون شهودهما إلا لله وحده أما فى عالم الخلق، فلا يتجلى الله بتجل مطلق... فلا طاقة للمخلوقات بظهور الجمال المطلق الذى يدهش سناه العقول، ولا مقدرة لهم لقبول تجلى الجلال المطلق الذى تنمحق له التراكيب. ومن هنا كانت معظم تجليات الحق تعالى جامعة بين أسمائه وصفاته الجمالية وبين أسمائه وصفاته تعالى الجلالية، ومن هنا قال الصوفية: لكل جمال جلال، ولكل جلال جمال " (24). يقول ابن الفارض:
عبد رق ما رق يوما لعتقلو تخليت عنه ما خلاكابجمال حجبته بجلالهام واستعذب العذاب هناكا (25)
ويقول:
ومطلع أنوار بطلعتك التىلبهجتها، كل البدور استسرتووصف كمال فيك أحسن صورةجوأقومها فى الخلق، منه استمدتونعت جلال منك، يعذب دونهعذابى، و يحلو عنده، لى قتلتىوسر جمال، عنك كل ملاحةججبه ظهرت، فى العالمين وتمتوحسن به تسبى النهى دلنى علىهوى, حسنت فيه, لعزك ذلتىومعنى وراء الحسن, فيك شهدتهبه دق عن إدراك عين بصيرةلأنت منى قلبى، وغاية بغيتىوأنهى مرادى , واختياري وخيرتى(26)
وهو لا يتعبد للجمال مباشرة ولكنه يتوصل عن طريق الجمال الحسى بالوجدان والرمز والتجريد ( أى بالجمال فى مظهريه الحقيقى والمجازى ) إلى الجمال المطلق للذات الإلهية، وهذا ما لمسه الباحث عند شعراء الصوفية فى القرن السابع بجانب ابن الفارض كعفيف الدين التلمسانى، الذى يرى أن الإيمان الحقيقى بالذات،لا يأتى إلاعن طريق تجلى هذه الذات فى الكون بمظاهرها المختلفة:
وما كنت أدرى فتنة العشق قبلهاإلى أن رأت عينى جمالك يعبدإذا ما ارتشفت الراح من ثغر كأسهاألست تراها نحو وجهك تسجدولو لم يكن معناك فى الكون مطلقايدل عليه منك حسن مقيدولما شهدت عينى جمالك جهرةومن لم تشاهد عينه كيف يشهد(27)
فكل حسن فى الكون إنما هو معار من الجمال المطلق الذى ليس له حدود:
واكسبنى حسنا ولا غرو إنمالكل مليح منه ما قد تكسباوإنى لذاك المغرم العاشق الذىإلى غير ذاك المطلق الحسن ما صبا(28)
وكأن التلمسانى هنا متأثر بابن الفارض فى قوله:
فكل مليح حسنه من جمالهامعار له بل حسن كل مليحة (29)
ويربط التلمسانى بين الكمال والجمال والجلال، يقول نثرا: " قلت هو تعالى يخبرعن نفسه المقدسة بتجليه على خواصه وخواص خواصه، وفهمهم عنه إنما هو شهود جماله وجلاله وكماله " (30) ويعبر عن هذا شعرا فى قصيدة أغرقها بالاصطلاحات الصوفية، مما يجعلها كمنظومة تعليمية، أراد بها توجيه مريديه إلى بعض الحقائق التى تختص بها الذات الإلهية. يقول:
وجود وحسبى أن أقول وجودله كرم منه عليه وجودتنزه عن نعت الكمال لأنهبمعنى اعتبار النقص منه يؤودولكنه فيه الكمال وضدهله منه والمجموع منه صمودوأشرف أشكال الكنائف ما بهاستدارت كراه فهى منه سعودلحيطتها الأشكال فيها بأسرهاوفيها إليها تبتدى وتعودوقوتها تعطى التنوع كلهفليس عليها فى الكمال يزيدسوى قوة الإطلاق فهى محيطةبسطوتها كل الكرات تبيد (31)
فى هذه الأبيات نلاحظ إيمان التلمسانى بمسالة الإطلاق من حيث الوجود الواحد المطلق الثابت، وما التعينات الجزئية، والمظاهر الحسية، إلا تجليات لهذه الحقيقة المطلقة التى تجمع الكمال وضده، باعتبارهما من متقابلات الوجود، فمن خرج عن الإحاطة ممنوع ومعدوم، والداخل فيها قد أحاطت به، والجامع هو هوية الوجود (32).
أما ابن الخيمى فكان يذوب بروحه فى جمال خالقه سبحانه، بل كان يعبد هذا الحسن ويتطلع بوجهه فى مظاهره، حتى يستطيع الوصول إلى حقيقته المطلقة، يقول:
يا من أدار بحسنه المعبودصهباء وصل فى كؤوس صدودملأت محاسنك الوجود محاسنالم يبق قلب فيك غير عميديا من دعانى قبل أوجد حسنهفقضى جمال وجوده بوجودىإنى بحسنك قد حييت وإننىسأموت من شوق عليك شديدوإذا رضيت بأن أموت هوى فقدأحييتنى يا مبدئي ومعيدأضحى جمالك مفرطا وصبابتىلورودها فمتى يكون ورودىولقد رأيت مياهها لكنهارؤيا صد عن ذوقها مصدودأمعذبى بدلاله ومنعمىبجماله وبهائه المشهودإن كنت فى يوم العذاب معاتبىفمتى أفوز بيومه الموعودلى من جمالك حسن وعد يرتجىومن الدلال على حسن وعيدخطوات ذكرك لا تفارق خاطرىوجمال حسنك لم يزل مشهودى(33)</poesieفالأبيات تعكس تطورا فى الفكر الجمالى فى هذا العصر، إذ يحاول الشاعر الموازنة بين الجمال المطلق وما يتخارج عنه من تعينات ظاهرة يمثلها الحسن بشتى مظاهره وأشكاله إذ إن الجمال الإلهى يمتد فى أصلاب الوجود، قبل أن يأخذ الله العهد على البشر بالعبودية فى قوله " أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى " ثم أخذت تجليات هذا الجمال تتبدى فى الكون فتخلب القلوب قبل الألباب.ولكن نلاحظ ارتباط الجمال عند الشاعر هنا بقضية الاغتراب عن الذات الإلهية حيث يشعر أن روحه مغتربة عن عالمها الحقيقى، ولكنها لا تأنس إلاعند استئناسها بالجمال وهذا يجعلها فى تطلع دائم للعودة إلى مصدرها حتى تطمئن فى جوار الجمال المطلق. والشاعر هنا يلتقى مع فلاسفة العصر الحديث أمثال هيجل ولوكاتش , فلوكاتش يرى أن الجمال " هو علاقة التناغم بين الإنسان والعالم ولذلك ففى أوقات الأزمة والإنشقاق بين الإنسان والعالم يهرع الإنسان إلى الجمال ليستعيد توازنه الروحى " أما هيجل فإنه لجأ إلى اللانهائي فى تصويره للجمال، وأعطى القدرة للمخيلة الإنسانية فى التعبير عن الروح فى تكاملها عن طريق التعبير الحسى،وهذا يعنى أن هيجل يرى فى الجمال هذا المعنى الذى يتجاوز الواقع، ويرتبط لديه بمفهوم الجمال المطلق " (34).ويقول ابن الخيمى كذلك معبرا عن الجمال المطلق الذى تتناثر مظاهره فى ربوع الوجود:قوم على الجمرات من وادى منى نزلوا ومن قلبى على الجمراتنصبوا على ماء النقا أبياتهموهم معانى الحسن فى الأبياتوتحجبوا عنا بنور جمالهمكتحجب المصباح بالمشكاةلم يبق عزهم لذلى مطمعافيهم وليس لغيرهم حاجاتىوالحسن يدعو كل قلب فارغفيجيب ما فيه من الذرات(35)
ويتشابه عشق الصوفية للجمال مع عشق الرومانتيكية له حيث إن العنصرين الأساسيين للروح الرومانتيكية هما: حب الاستطلاع وعشق الجمال، ومن دلائل هاتين الخاصيتين الرجوع إلى القرون الوسطى، ففى جوهره المشحون ينابيع غير مستغلة ذات تأثير رومانتيكى حافل بالجمال الغريب الذى يستطيع الخيال القوى الحصول عليه من أشياء معينة غير مألوفة. ويحتل حب الاستطلاع والرغبة فى الجمال – عند الرومانتيكية – موضعا فى الفن يماثل موضعهما فى كل نقد صحيح " (36).
وتلتقى نظرة كل من الصوفية والرومانتيكية للجمال أنهما معا يردان إلى الذوق فى شعورها بالشئ الجميل، إذ مرد الجمال عند الرومانتيكيين " إلى الذوق، والذوق فردى، وخلق الفنان للجمال يستتبع القريحة أو العبقرية " (37)، ولكن وجه الاختلاف بين الرومانتيكيين والصوفية فى النظرة إلى الجمال أن الرومانتيكيين ينظرون إلى الجمال نظرة نسبية، ولا يقصدون إلى الجمال فى قيمته المطلقة، بل فى قيمته النفعية أى أنهم نظروا إلى الجمال بما يروقهم، ولا يروق إلا ما هو نافع (38).
ولكن الصوفية آمنوا كما لاحظنا بمطلق الجمال، وأحبوه على صورته المجردة ولذا تكرر حب الجمال المجرد عن الأعراض، فهو أفضل أنواع المحبة، وهو حب الشئ لذاته أى لجماله المجرد، قال الشاعر:
إنى أحبك حبا ليس يبلغهفهمى ولا ينتهى وهمى إلى صفتهأقصى نهاية علمى فيه معرفتىبالعجز منى عن إدارك معرفته (39)
ويصور إبراهيم الجعبرى حبه للجمال المجرد قائلا:
وأفاضل الناس الكرام أبوةوفتوة فمن أحب وتاهاعشقوا الجمال مجردا بمجرد الروح الزكية عشق من زكاهامتجردين عن الطباع ولؤمهامتلبسين عفافها وتقاها (40)
ووصل عشق الشعراء الصوفية فى هذا القرن للجمال إلى الخضوع له وتلبية ندائه ؛لأنهم يعلمون أن هذا الجمال هو مرآة ذى الجلال، وعن طريق التأمل في مظاهره التى تملأ الوجود يرقي السالك حتى يفنى في الذات الإلهية صاحبة الجمال المطلق , وما جمال الوجود إلا فيض من فيوضاتها.
يقول إبراهيم الدسوقى جامعا بين الحب والجمال ومستجيبا لندائهما:
والله مالى منكم سواكمبالله رفقا بضعف حالىوافيت فى حبكم وفائيمالى وللحياة، مالىحبى دعانى إلى التدانىلبيك يا داعى الجمال (41)
ويجعل محمد بن عبد الوهاب الأدفوى للجمال نبيا مما يؤكد أن هؤلاء ما كانوا يقصدون الجمال فى صورته المادية بل فى حقيقته المجردة، يقول:
يهوى رشا حارت عقول أولى النهىلما تبدى فى بديع صفاتهقامت نبوة حسنه بدلائلدلت على مكنون سر سماتهبعث النواظر خفية توحى الهوىلما أقام اللحظ فى فتراته(42)
وهكذا لم يكن حب الصوفية للجمال وعشقهم له عشقا للظواهر والماديات الحسية، ولكنه كان عشقا مجردا لما وراء الظواهر، لذلك كانت تجربة التذوق الجمالى عندهم تجربة تـأملية هدفها الوصول إلى الجمال الأسمى والمطلق الذى تهفو إليه الأرواح، والذى هو علة الجمال فى كل شئ موجود، وأدى بهم هذا الحب إلى السمو الروحانى والترقى إلى درجة الفناء والاتحاد بالخالق سبحانه.