عبدالوهاب لاتينوس مرثية الاغتراب والضياع
يعد الاغتراب سمة أساسية من سمات الشاعر الحداثي، الذي نشأ في واقع مرير، وأقسى أنواع الاغتراب هو (الاغتراب النفسي) والذي يعرف بـ "أنه اغتراب ارتكاسي مؤلم يغترب فيه الشاعر عن الواقع؛ لدرجة يقوم الشاعر من خلاله بالانسلاخ عن الواقع، وإيثار العزلة، وهو شكل من أشكال الاغتراب الداخلي القائم على الإحساس بالكآبة والحزن، والقلق، والغضب، والانفعال" يعزز هذه المشاعر الواقع المجتمعي المتفسخ، والطبقية الرأسمالية التي تصيب صاحب الفكر بالشعور بانتكاسة القيم، وتصيب الذات الشاعرة بالاستلاب من خلال ضياعه في واقع غريب عنه، أو من خلال شعوره بالانفصام عن فاعليته، أو عن منتوج عمله الذي سلب منه. مما يجعله أمام خيارين: إما أن يستسلم لواقعه ويبحث بين طيات قصائده عن واقع بديل يهرب إليه بالعزلة أو التشرد والضياع، وإما أن يهاجر بحثا عن حلمه الضائع، وسعيا لبناء مدينته الفاضلة في واقع بديل.
هذا الشعور هو ذاته الذي عاشه الشاعر السوداني (عبدالوهاب لاتينوس) في صدامه النفسي مع الواقع المحيط، هذا الصدام الذي اضطره في النهاية إلى أن يلقي بنفسه في مخالب الهجرة غير الشرعية بحثا لنفسه عن أرض خصبة يغرس فيها بذور الأمل، ولكن عاجله البحر مثل آلاف الشباب غيره فأرداه وحلمه قتيلين معا. وهو الذي تحدى الموت قبل ذلك في إحدى قصائده، واعتبر نفسه رقما عصيا على الموت، بل أقسم أن لا يموت قبل أن يصلب التاريخ، وينتقم لنفسه وللحب والموت أيضا، يقول:
لم أمت بعد
رغم أنني أسكن تحت شجرة الموت
منذ وقت طويل
ما زلتُ رقماً عصياً على الموت
رغم أنني وفرتُ له كل الأسباب
أقسمتُ أن لا أمت
قبل أن أصلب التأريخ
وأسلخ جلده في وضحِ النهارِ
أقسمتُ أن لا أمت
قبل أن أنتقم لنفسي
للحب
وللموت أيضاً
وما التاريخ سوى رمز للزمن الراهن، وللواقع الذي جعل الشاعر صاحب الفكر، يعيش الحرمان والجوع، في مقابل فئة لم تعد تقدر حتى قيمة الشعر والشاعر على السواء، هذا الشعور بالأسى والاحتراق، دفعاه إلى الاغتراب الذاتي، بل السعي إلى البحث عن هذه الذات الضائعة في كل شيء حوله، يقول لاتينوس:
ابحث عن ذاتكَ في كل شيء
ابحث عنها في الفوضى
ابحث عن ذاتكَ في العزلة
حيث لا أحد إلاكَ
ولكن حذار مِن أن تبحث عنها
داخل وطن تتناسل منه جراثيم الكُره
فالشاعر يبث اغترابه من خلال عبارات قصائده التي تجعله أشبه بالشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي الذين هجروا القبيلة بحثا عن ذواتهم في صحبة كل شيء ما عدا القبيلة وأعرافها، يقول الأحيمر السعدي:
عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى
وصوَتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ
يــرى اللهُ إنـّي للأنيـــسِ ِلكــــارهٌ
وتبغضهم ْ لــي مقلة ٌ وضميـرُ
إن هذا الاغتراب الموجع والأنين الداخلي الذي يلهب ذات لاتينوس، جعله يبحث عن ذاته في كل شيء ما عدا محيطه الذي تتناسل فيه الكراهية، يذكرنا ذلك بوصف التوحيدي للغريب في رسالة (الغربة): " يا هذا ! هذا وصفُ غريبٍ نأى عن وطنٍ بُنِيَ بالماءِ والطين، وبَعُدَ عن أُلاّفٍ له عهدهم الخشونة واللين.. فأين أنت عن غريبٍ طالت غربته في وطنه، وقلَّ حظّه ونصيبه من حبيبه وسكنه ؟!"
وقوله: يا هذا ! الغريبُ من غَرُبتْ شمس جماله، واغتَرَبَ عن حبيبه وعُذّاله، وأغرَبَ في أقوالِهِ وأفعاله، وغرَّبَ في إدباره وإقباله.. يا هذا ! الغريب من نَطَقَ وصفُهُ بالمحنةِ بعد بالمحنة.. الغريب من إن حضَرَ كان غائباً، وإن غاب كان حاضراً. الغريب من إن رأيته لم تعرفه، وإن لم تره لم تستعرفه.
إنها حالة من الخواء والوحشة واليأس، والانكسار الشعوري مما انعكس على كل عبارات الشاعر وصوره ومعانيه، التي عبرت عن مكنونات ذاته المنكسرة، وخوافي شعوره، وما يعيشه من أزمات، مما دفعه إلى طريق اللاعودة، وقد بدا ذلك في تنبئه لنفسه بالموت شعرا مما نسب إليه:
أن تموت في عرضِ البحرِ
حيث الموج يصطفق بصخب في رأسكَ
والماء يؤرجح جسدكَ
كقارب مثقوب .”
ليس سيئاً أبداً أن تموت
فى مقتبل العمر
دون أن تبلغ الثلاثين بعد
ليس سيئاً أن تغادر باكراً أبداً
السيء، أن تموت وحيداً
دون امرأة
تقول لك : تعال إلىَّ، حضنى يتسع لكَ،
دعنى أغسل روحكَ مِن درنِ البؤسِ
أمرأة كلما ضحكتْ
هرب الليل على أصابع الوقت.