اللغة العربية مقرر وطني
مقبول أن تغترب لغة في غير موطنها، ولكن ليس مقبولا أن تعاني لغة من الاغتراب بين أهلها وبنيها الذين هم نتاج رحمها مثلما هو الحال مع اللغة العربية الفصيحة التي صار الكثير من أبنائها ينظرون إليها بازدراء، فأصبحوا يتسامرون، ويديرون شؤون حياتهم بالإنجليزية أو الفرنسية، وإذا حدثتهم بالعربية تصيب جلودهم قشعريرة ووجوههم بؤس الحانق المستطير، يتمنون لو أن هذه اللغة البائسة وئدت أو ألقوها في بئر عميق حتى لا تزعجهم عباراتها أو تشيكهم شوكات حروفها، ويجتهد القاصي والداني كي يضعوا لغتهم في متحف المومياوات المحنطة، فعمّت العامية وشاعت الأخطاء اللغوية في الكتابة والحديث، وإذا نبهتهم لأخطائهم قالوا: عفوا! نحن غير متخصصين، فصارت هذه الجملة علكة يلوكها كل مسيء في حق لغته كي يداري سوأة لسانه، ولكن، هل بالفعل صارت لغتنا العربية مجرد تخصص اقتصر العلم به على دارسيها ومعلميها وواضعي مناهجها دون غيرهم؟ متى تصير لغتنا العربية لغة اللسان العربي في كل المحافل العلميَّة والتعليميَّة والدبلوماسيّة والإعلاميّة؟
لن يحدث ذلك إلا إذا انتقلت اللغة العربية من مجرّد مقرر دراسيّ إلى مقرر وطني يتحمل مسؤوليته كل أبناء العروبة في كافة التخصصات، يعيشون بها حياتهم باعتبارها عزهم ووعاء هويتهم وهم في عز ما دامت عزيزة، وإذا ذلّت جلبوا على أنفسهم الذِلة والخسران. فاللغة العربية اليوم في تحدٍّ عظيم وهي في حاجة إلى روح وطنيّة جديدة تعتز بالهوية والانتماء للوطن، وما اللغة إلا وعاء هذه الهوية ومالكة كيانها، ولن يخلق هذه الروح إلا أبناء العروبة ونتاج رحمها من معلمين وإعلاميين وأدباء وكتاب ودبلوماسيين تلتصق اللغة بحياتهم، وتعبر عن فكرهم وتواصلهم.
فليست اللغة العربيّة مجرد مقرر يدرسه الطالب فإذا انتهى منه ألقاه خلف ظهره، وليست مجرد مادة تخصص يتحمل هم تعليمها معلمو العربية دون غيرهم بل يجب أن يحمل همّها المعلمون في كل التخصصات يتحدثون بها أمام طلابهم؛ كي يعتادوها، فتقوى ألسنتهم في الحديث بها. بل إن شاء المعنيّيون ألزموا كل من يريد العمل في حقل التعليم إتقان العربية الحديثة، كتابة وتحدثا، حتى يكونوا قدوة لطلابهم في صحة اللسان وسلامة اللغة. ويجب أن نطور في مناهج تدريس العربية وطرق عرضها على طلابنا بما يجعلها لغة حياة محبّبة إلى النفوس، يقبلون عليها دون كلل أو ملل، لا لغة قواعد يمر عليها الطالب في ضيق وينتظر اليوم الذي يتخلص منها، بل يجب أن نوفّر لأبنائنا العربية الحديثة المتكاملة العلوم المستندة على التراث غير الغائرة فيه، القائمة على تنمية المهارات غير المكبّلة بكم القواعد النحويّة والصرفيّة التي لم يعد لبعضها مجال لاستخدامها.
ويأتي هنا دور الإعلام –مقروءً ومسموعا ومرئيا- باعتباره أهم المؤسسات الوطنيّة في الاهتمام باللغة الفصيحة حديثا ودعاية وتقويما، وقياما بالوظيفة الأساسية للغة ألا وهي التواصل، فلابد أن يكون الإعلامي فصيح اللسان مهتماً بمهاراته اللغويّة (استماعا وتحدثا وقراءة وكتابة) يستخدم الفصحى الحديثة السهلة القريبة من الفهم والاستعمال. حتى يصبح قدوة يكتسب منه المواطنون العرب (مثقفون وغير مثقفين) صحّة اللغة وسلامة التعبير، بل يجب أن يتحمل الإعلام رسالته، فيحمل همّ اللغة، فيتفنن في البرامج والمسابقات في فنون العربيّة كالإلقاء والخطابة وتأليف الشعر والقصّة، وطرح الجوائز التحفيزيّة لذلك، فتعود إلى الأسماع والمشاهدات البرامج اللغوية التوجيهيّة كالتي تربيّنا عليها، مثل لغتنا الجميلة وقل ولا تقل في مادتها الخفيفة المحبّبة إلى نفوس المستمعين دون تقعّر أو تمعن في ذكر القواعد فاللغة مهارات وتواصل قبل أن تكون علما وقواعد.
ويتجلى كذلك دور الأدباء والكتّاب في دعم اللغة باهتمام بكتاباتهم وتوجيهها توجيها تربويّا سليما، وفي تدعيم أنفسهم بالمهارات اللغويّة، فكم من كتَّاب اليوم اسما لا واقعا، ضجَّت المجالس بذكرهم، وإن فتشنا عن محتوى ما يكتبون وجدناه هشّا ضعيفا كضعف ألسنتهم وعدم إدراكهم لصحيح اللغة وصوابها، إن لغتنا العربية شاعرة بذاتها أديبة في بينانها كالفتاة الحسناء في سحرها ودلالها، ولكنها لا تعطي قلبها ووجدانها إلا لمن بذل لها مهرها ورأته فارسا ماهرا في اعتلاء صهوتها وترويض جموحها. والكاتب الحق هو من يغوص دلالاتها الموحية ويستفز إيحاءاتها البعيدة. يقترب بلغته من الحياة والمجتمع، وقبل كل شيء يكون معتزا بلغته، لا يفض بكارة أفكاره فوق حروفها، ثم يسبح بحمد اللغات الأجنبية يتحدث بها ويتوارى من لغته من سوء ما بشّر به، وما السوء إلا ما فعل.
كذلك يجب أن تكون اللغة العربية مقررا وطنيًّا في ألسنة الدبلوماسسين العرب يحملونها في عقولهم ويستشعرون عظمتها في قلوبهم، ويتحدثون بها في كافة المحافل الدولية فخرا واعتزازا، وهم إن فعلوا ذلك فهم يحثون العالم لتعلم هذه اللغة العظيمة كي ينهلوا من معينها العذب الذي لا ينضب. فاللغة العربية شابة حسناء دائما لا تهرم ولا تشيخ، فتيّة قادرة على حمل رسالتنا نحو المستقبل فاجعلوها مقرركم الوطني وهدفكم الذي تسعون دوما لإنجازه.
د. شعبان أحمد بدير
جامعة الإمارات العربية المتحدة