الأحد ١٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم شعبان أحمد بدير

عمالقة الحزن وعمالقة السعادة

قاسية هى مواجع الحياة وآلامها المتتابعة على الإنسان ، فتنتج فى نفسه الأحزان و تخلق فى قلبه جبالا من الهموم ، فقد يتركنا الأحبة فى مفترق الطرق ، يخطفهم الموت منا : آباء وأمهات ، إخوة وأخوات ، أبناء وبنات هم حبات القلوب وسر سعادتها . وقد يتعرض الإنسان لفقد ماله ، فيجد نفسه فقيرا بعد غنى ، أو يداهمه المرض فيأخذ منه لذة الحياة ويحرمه من عبيرها الأخاذ ، أو تعدو عليه جيوش الباطل فيصير ذليلا بعد عز . هنا يشعر الإنسان فى لحظة يأس قاتلة أن صرح الدنيا قد انهار فوق رأسه ، وصار مثل الشجرة الجافة القاحلة التى سقطت ثمارها وأوراقها ففقدت جاذبيتها وانصرف الراغبون عنها إلى غيرها ، وصدق الشاعر :

المرء فى زمن الاقبال كالشجرة
ـ والناس من حولها ما دامت الثمرة

حتى اذا راح عنها حملها انصرفوا
ـ وخلفوها تقاســى الحــر و الغبرة

هنا يجد بعض الناس أن طريقهم إلى دنيا الحزن صار ممهدا ، فيعيشون فى التعاسة ، ويرتدون السواد ، ويحرمون على أنفسهم زينة الله والطيبات من الرزق . فيصبحون عمالقة فى الحزن واليأس والتشاؤم . ولكن يا عمالقة الحزن أنتم بذلك لستم مؤمنون حقا ؛ لأن المؤمن الحق هو الذى يعلم أن كل شىء بقضاء الله تعالى وقدره . أليس هو القائل :وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَُ أولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ، قالتها أم سلمة عندما مات زوجها أبو سلمة فأبدلها الله سبحانه برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ حيث تزوجها فصارت من أمهات المؤمنين . وعندما قبضت روح إبراهيم ولد رسول الله وهو على يد أبيه ، الذى فقد أولاده الذكور واحدا بعد الآخر ، فلم يعلن العصيان على قضاء الله وقدره ؛ بل راح يعلم الدنيا الصبر إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ الزمر10 فقال : " إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، إنا لله وإنا إليه راجعون " ولم يحرم على نفسه ما أحل الله له ، وظل بسام الثغر ضاحك الوجه لأهله وأصحابه . وهذا أيوب عليه السلام الذى كان عملاقا فى الابتلاء حيث فقد ماله وأولاده وصحته ، جاءه إبليس يقول له : يا أيوب لوكنت نبيا حقا ما أصابك الله بما أصابك به ! فقال أيوب : يا إبليس إن الله رزقنى بنعمة لو علمتها لحسدتنى عليها قال : وما هى ؟ قال أيوب نعمة الرضا .. ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس . فماذا كانت نتيجة الرضا ؟ قال تعالى :وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ .

علمتني الحياة أن أتلقى كل ألوانها رضا وقبـــولا
ورأيت الرضا يخفف أثقالي ويلقي على المآسى سدولا
والذي ألهم الرضا لا تراه أبد الدهر حاسدا أو عذولا
أنا راض بكل ما كتب الله ومزج إليه حمدا جزيلا

والإسلام دين السعادة والأمل والتفاؤل والمستقبل المشرق ، ومن ثم نهانا عن أن ندفن أنفسنا فى الحزن واليأس . فالموت فيه موعظة وبداية لحياة جديدة . والهزيمة درس لعلاج الأخطاء ومعاودة المحاولة لتحقيق النصر . فعندما هزم المسلمون فى غزوة أحد أصاب اليأس والحزن بعض القلوب فقال تعالى : وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 139، فعلمنا أن ملازمة الهوان والإصرار على الحزن ضد مبدأ الإيمان بالله تعالى ، وأن الابتلاء ليس معناه كراهية الله للإنسان ؛ وليسمع كل مبتلى قول رسوالله صلى الله عليه وسلم : " إن عظم الجزاء من عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوما ابتالهم فمن رضى فله الرضا ومن سخط فله السخط " . فهيا نعلنها جميعا أننا لسنا أمة يائسة أو حزينة أو متشائمة . ولكننا أمة الأمل والعمل والتفاؤل . إذا مات لنا عزيز سألنا له الرحمة والمغفرة واحتسبنا أجر صبرنا عند الله وعاودنا ممارسة الحياة على طاعة الله ، وإذا أصابنا الفقر كافحنا وجعلنا بيوتنا جنة فيحاء : أليست زوجة الحطاب الفقير فى الجنة بوعد رسول الله . وإذا أصابك مرض أوعاهة فلا تحزن وتذكر عمرو بن الجموح الذى خطر بعرجته فى الجنة ، والأحنف بن قيس حليم العرب كان نحيف الجسد أحدب الظهر ، والأعمش محدث الدنيا كان ضعيف البصر فقير ذات اليد . فلم يعجزوا بل خلقوا من عاهاتهم أوسمة تسجل بأسمائهم فى سجلات التاريخ . وإذا عدت عليك جيوش الباطل وتنافس على محاربتك ذئاب الدنيا وكلابها مثلما يحدث فى المسجد الأقصى فاعلم ساعتها أن شجرة الخير فى نفسك ما زالت خضراء ، وأن صرح الإيمان العملاق فى قلبك يحتفظ بقوته التى تخيف أحزاب الباطل فى كل مكان . واجعل نداء العقيدة يهتف عاليا من غير خوف :

ضع في يدي ّ القيد ألهب أضلعي

بالسوط ضع عنقي على السكّين

لن تستطيع حصار فكري ساعةً

أو نزع إيماني .. ونور يقيني

فالنور في قلبي وقلبي في يديْ

ربّي .. وربّي ناصري ومعيني

سأعيش معتصماً بحبل عقيدتي

وأموت مبتسماً ليحيا ديني

ساعتها يهون العذاب ويستعذب الموت ، وتهفو أرواحنا إلى الخلود وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ آل عمران169. و لنا فى سير أسلافنا الشهداء الذين تحملوا تبعة الدعوة إلى الله خير زاد ، فأين سمية وعمار وأين حمزة وزيد وابن رواحة وجعفر الطيار ؟ ! ألم يبيعوا النفس رخيصة لله ، فأغلى الله لهم الثمن إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التوبة111.

تهون علينا فى المعالى نفوسنا ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر

واعلم يا أخى المسلم فى كل مكان أنه بقدر علو قيمتك وارتفاعها وتمسكك بعقيدتك يكون النقد والحسد والاضطهاد الموجه إليك ، وثق ساعتها أنك فى نعمة وأنك على الحق فلا تحزن ولا تيأس ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " لكل نعمة عدو " قيل: ومن عدو النعمة يا رسول الله ؟ قال : " الذين يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ " . وقد أسمع صوتا : أين هذا الفضل ونحن على هذه الدرجة من الضعف والهوان ؟! أقول له : فضل دينك وعقيدتك ، ألست من "خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" ، ومن أجل ذلك يقول الرسول الكريم : " الخير فى وفى أمتى إلى يوم القيامة " . فلأنك صاحب الخيرية وصاحب العقيدة الوحيدة السليمة على مستوى الدنيا – مهما انحرفت أنت قليلا – فلا بد أن تكون مهيئا نفسك للتحمل والجهاد المستمر . واسمع صوت الشاعر يجيبك من بعيد :

وإذا الفتى بلغ السماء بمجده كانت كأعداد النجوم عداه

ورموه عن قوس بكل نقيصة لا يبلغون بما جنوه مداه

ويقول الآخر :

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا قدره فالكل أعداء له وخصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسدا ومقتا إنه لذميم

فيا أخى يا عملاق الحزن جدد إيمانك وحياتك لتصبح عملاق السعادة والأمل والتفاؤل ، وإياك أن يقنعك أحد بأنك ضعيف أو قليل الشأن طالما أن عروق العقيدة مازالت تنبض ، فضخ إليها دماء العزة والهمة والرجولة ، ولتسمعك الدنيا كلها ضحكتك بل اجعل الشمس كل يوم تشرق من بريق عينيك .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى