الأحد ١٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم عناق مواسي

السبب بديعـة

لو لم تـكُن بديعـة لما كُنتُ أنا وبقية البجعات...

حبيبي عمار

بدأت علاقتي بعمار على سطور دفاتر التاريخ، كان خطي جميلاً جداً مما آل بزملائي أن يتهافتوا على دفتري ليصوره قبل الامتحان فهم لا يجيدون التلخيص وراء الأستاذ رؤوف كثير الشرح، سريع الاسترسال، لكن الأستاذ رؤوف - بصراحة- كان معجباً بإجاباتي وحلي للوظائف، الأمر الذي جعلني أعشق التاريخ كثيراً ولم أشعر بمعاناة في فهمه وحفظه، ربما لأننا كنا نتعلم عن حكايا وأسرار قصور أوروبا وظلم النظام الإقطاعي في العصور الوسطى أكثر مما كنا نتعلم عن القرى المهجرة التي نسمع عن أطرافها عندما نزور الآثار في عكا أو يافا ونتعلم عن الموانئ وكاسر الأمواج.

أغلب الأحيان كنت أرفض، وكنت أتدلل على أولاد وبنات صفي بحجج مختلفة كي أحظى بالتميز في الإجابات في امتحان التاريخ.

ذات درسٍ ممل، أخر الدوام تعامد الأستاذ رؤوف أمام اللوح وطلب منا أن نقدم له وظيفة عن النهضة الكارولنجية في عهد شارلمان ...

انتهت الحصة وتداخلنا نحن الطلاب في بعضنا البعض، فجأة أحسست أن أحداً يلمس كتفي ويناديني، فاجأني زميلي عمار أنه يريد التحدث إلي على انفراد، اذكرُ أنني خجلت جداً ورفضتُ ثم قال لي بجرأة لذيذة، وحدة:

 سأساعدك في الرياضيات!!

 والمطلوب!!!

 وظيفة التاريخ!!

 نعم!!

 أحبُ عنادَكِ، وابتسامتكِ الماكِرة، لكن أحبُ ذكاءَك أكثر!!

أنا متيقن انك لن تخذلي طلبي!

سكتتُ، وحدقتُ في عيني عمار كثيراً... كثيراً، وأغراني اختزاله للمواقف وحدته وصدق عينيه!!

 لكن الأستاذ رؤوف طلب أن نحلها بشكل انفرادي!

 اسمعي، أنا اعمل في الليل، ولا وقت لدي لأكتب إنشاءً وتاريخاً وأحداثاً و"الذي منه"!!

خطك بجنن وأكيد سيعجب الأستاذ!!

الله ينولك اللي في بالك يا نوال!

تحركت كل أقانيم ذواتي العليا في بهاء كلمات عمار.

الله كم تمنيت تلك اللحظة أن تتوقف عقارب الساعة عن العمل وأن يحقق الله لي ما في بالي وما سيأتي في بالي!! ولا أعرف لماذا رضخ إحساسي لعمار في تلك اللحظة.

ومع أن الساعة العاشرة والنصف صباحاً كانت أمتع ساعات الغزل الصباحية في استراحة الأكل وهي أمتع لحظات المدرسة، والأكثر تداولاً من بين المواضيع بيننا هي جاذبية الشباب، وأظن أن الأمر كذلك لدى الطلاب، وكان عمار محور أغلب الجلسات الرومانسية شفهياً، لكني لم أكن اكترث كثيرًا لتفاصيل الإثارة والجاذبية، ربما لشغفي في أن أحصل على أعلى معدل امتحانات الإنهاء.

الحقيقة أن عمار كان باكورة رجل، يدرس في الضوء ويعمل في غيابه، وكان فذاً في الرياضيات وهذا ما شجعني أن أساعده بوظيفة التاريخ!

ترى سيتتوأم التاريخ والرياضيات وينصهران في قالبٍ واحدٍ من الحب؟؟

كنتُ أحيانًا أتظاهر أنني لم افهم المسائل الكلامية وتحويلها إلى معادلات كي يبقى عمار بجانبي ويساعدني على فهمها فأتمتع في شرحه للمادة أكثر من أستاذ الرياضيات شديد العصبية، مع انه كان ايضا يمتعض من غبائي المبرر وبطء استيعابي المعجون بالشوق.

كأني كنت أقرا الأرقام والمعادلات حروفاً من حبٍ، وكنت أضاعفها في قلبي، وأقسمها على ساعات أيامي.

وكبرنا معاً زنبقتين باسقتين جميلتين ترفرفان معاً في بستان من الورد الليلكي.

وصار الاتفاق أن يأتي أهل عمار بعد الحصول على شهادة الإنهاء ليقرأوا الفاتحة!!

ونلت شهادة إنهاء الثانوية وبعلامات عالية!!

وأنا بانتظار عمار..

وعمار حب حياتي الأنضج، ذكرياتي المعجونة بالبراءة والتفتح، اكتمال نضوجي وانفعالاتي وكل ما كنت أتمنى في تلك الآونة أن أتزوج منه، الشاب الذي كانت تتمناه كل فتيات المدرسة الثانوية.

 ترى ماذا ستكون ردة فعل أبي؟

قبل أسبوعين، جاء أهل عمار ليجسوا النبض في موعد المصاهرة

وأبي لا يزال عند رفضه للأمر، ولا يفسر الأمر لأحد!!

والسبب... بديعة!!!

نوال

أمسكُ بيد الباب، أفتحه بهدوء وأدخل إلى الغرفة بصمتٍ وأنا أمشي على أطراف أصابعي الحافيتين، أقترب من سرير لطيفة، وأهمس:

 اصحي! اصحي! ...يلا

 ميــــن!!

 أنا، لا تخافي...

 ما الذي أتى بك في هذه الساعة الحالكة؟

 قهري!! قهري يا لطيفة!!! سيجن جنوني!!

عمار سيضيع من بين يدي، شوقي إليه يبعثرني، يفقدني توازني، أحس أنه أقرب إلي من وريدي، بعيد عني كبعد العينين عن جفنيهما، أصابعي المتوترة تئن في اختزالات اللحظة، هل سيبقى حب عمار لي كطموح نابليون لعكا، لم يدخل شيء منه سوى القبعة!!

مّر أكثر من شهر على قدوم أهل عمار وآخر اتصال كان بين شوقنا المجزء قال لي:

 لم يواجهني ابوك بابتسامة تشجعني لتتويج

حبنا زواجاً يا نوال!!!

نوال، الوقت يمضي وانا مشغول كثيراً.......

نتحدث لاحقاً....

ومنذ ذلك لم يرجع لي عمار يا لطيفة!!!

سيضيع التاريخ يا لطيفة!!!

 نوال، يكفي أرجوكِ، اتركيني بحالي...

أنا لا أستطيع أن أتحمل نحيب لوعتك، وفي هذا الوقت المتخر من الليل، والذي خلق عمار يخلق أحسن منو!!

أرجوك يا نوال اخرجي الآن.

انهي الآن... واخرجي..

 إلى متى سأتجرع التوتر بالقطرة!! ...تضيع ساعاتي، عنفواني ، حلاوتي وعماري.

والسبب... بديعة!!!

لطيفة

تخرج نوال من غرفة لطيفة تتسربل من تينك العينين قطرات متألمة من دموعها المتوهجة بحب عمار.. تدخل لطيفة الحمام... تفتح المياه طويلاً، لتتساقط نحو الأرض بإيقاعٍ فوضوي للغاية..

تخلع ملابسها بتأنٍ وتباطؤ، تمسح مرآة الحمام التي اكتست بالبخار تحدق في نفسها،

 ملقط الحواجب يا أعز أصدقائي، يا صديق سنيني الذي رافقني في كل ساعات وعيي ونضوجي وتفتح مسامات جسد البراءة على الحياة، وأنا أبوح لكَ أسراري بثقة كبيرة، يا ملقط الحواجب، يا رفيقي....

تمسكُ بك أصابعُ الإناثِ برقةٍ شديدةٍ كي تهندس حواجبهن بإتقان ونعومة، أنت مفتاح الأنوثة والنضوج، كنت أخبئك تحت كتبي كي لا تراك أمي، فتأخذك مني، وتصرخ في وجهي، وتقول لي:
"تطبيش بحواجبك عشان لما تيجي تتجوزي يطلعك جلوة ".

أتذكر يا ملقطي!!

أتذكر أنني أخذتك معي على حفلة عيد ميلاد صديقتي فردوس، وكل صديقاتي أبدين إعجابهن بك فقد كنت مشحوذا بإتقان، وضحكنا وضحكنا، وكل واحدة منا أخبرت الأخريات بتاريخ أول مرة هندست حواجبها، كأنها تواريخ أعياد ميلادنا!!

كلما لامستكَ أصابعي أتوازن انفعاليًا، وتسري الأنوثة في شراييني...

ياااااه يا ملقطي ، وأنت سفير الأنوثة والجمال

أتسمع مثلي خرير المياه المنسكب على البلاط..

قبل سنوات كنت أقتلع شعيرات دقيقات كي أبدو غاية في الانضباط والأناقة، وأرسم الحواجب ضفتين نهر متوازيتين، واليوم أنا اقتلع سنين بيضاء من رأسي....

أنتزع أي شيء يذكرني أن إيقاع الساعة أسرع من إيقاعي، وعقارب الساعة تنفث السم في شرايين انتظاري... أنت اليوم متخم بأسرار العنفوان والأنوثة العذرية وصرت شبحاً تذكرني أن الانتظار يشيب في رأسي.. وبدلاً من أن تكون الحد الفاصل بين الأنوثة والزمن صرت حارس كواليس العمر المتأخر.

" لا طبيت بحواجبي ولا طلعتلي جلوة"
وانا واياك نعد نجوم الليل كل مساء حتى يغلبنا النعاس فنستسلم للعتمة...
والسبب... بديعة!!!

وأحسست بقذارتي وانا أسند ظهري لباب غرفتها، وأنا أشكو لها تلاشي حب عماروبعده عني، ولم أعرف أنني محظوظة حتى بذكرياتي، واني أشاطر عمار في الحب تاريخاً وذكريات، وأن في لواعج لطيفة ألمًا كبيرًا وفراغًا هائلاً وشعرًا أبيض..

بديعة

الحقيقة ان بديعة أجمل فتيات البلد وأحلاهن، عيناها كستناء عارٍ من الرماد، وجسمها لوز وسنديان، وشفتاها اقحوان.. وشعرها الطويل ليل يتكأ على خصلات تتراقص فوق كتفين عاليين، وأسنانها بلور منقوش، وخداها...نبيذ من الخجل...

يخصها ابي بهداياه عند عودته من العمل كان يخبئ لها الشوكلاته في جيوب معطفه، وفي خزانته كان يشتري لها أثمن الدفاتر وأجملها ورقاً وكل أقلامها سائلة..

هي المحصول الأولى لما ذراه أبي في الأرض العذراء، وسقاها من حبه ماءً بلورياً صافيًا.

القبل الأولى لبديعة، والمصافحة الأولى لبديعة، والعيدية الأولى لبديعة، والحقيبة الجديدة لبديعة، والثياب الجديدة لبديعة.

وحلم أبي العزيز يتجدد كلما توشح الضوء عيني بديعة... أن تتعلم ويغرس كبرياءه وفخره بها أمام كل أهل البلد، حتى أنه كان يسعد عندما يناديه الناس " أبو بديعة" ، وليس أبو البديع!!

أنهت بديعة دراستها الثانوية وقبلت للجامعة، وبدأت تتفتح شهيتها على الدراسة الأكاديمية، والتمحور نحو إثبات الذات الأنثوية، كانت تعود من الجامعة مساء كل خميس، وعلى مائدة يوم الجمعة، وأيادينا سعيدة في أكل المقلوبة واللبن، تحدثنا عن نظرية دور كهايم، وادلر في الترتيب العائلي، وروسو وغيرها الكثير، أبي كان يستمع إليها بكل جوارحه ، وابتسامة رقيقة تتأرجح على شفتيه بشقاوة بين لقيمات المقلوبة . وكانت أغلب الجلسة للست بديعة، ورويدًا رويداً بدأ عودها يصلب وبدأت تتخذ قرارات ومواقف وأعلنت...

 أبي، تقديرًا مني وعرفانًا بكل ما فعلت لأجلي سأحصل على شهادة اللقب الثالث، وفي استلام الشهادة سأقف على المنصة، وسأتحدث باسم الطلاب الجامعيين، وسأهدي نجاحي وتحصيلي إليك...

أريدك أن تسجل في أجندة حضورك أنك أبو الدكتورة!!

والله لو كان مع أبي مال الدنيا لما انتعشت كل مساماته كما انتعشت حين سقت بديعة حقول سنابل وجوده على سطح الكرة الأرضية.

وأردفت بديعة ونحن، أنا وأمي ولطيفة نتجرع المفاجآت.

 أبي، لن أكون طفلة، لأربي طفلاً...

قبل أن أنضج وأصبح قادرة على إدارة بيتي وحياتي، سأختار دروب عمري وأقلمها بتوازني وعقلانيتي، ويا دروس يا عروس!!

بديعة... بديعة... بديعة

اغتنمت فرصةً عقب التصريحات النووية التي أعلنت عنها الست الهانم، وسالت أمي المسالمة على انفراد،

 لماذا ندور في فلك بديعة، وتفاصيل حياتنا بكلتا يديها تحركها لنا، وأصبح مرورنا أو توقفنا مرهون بقراراتها؟؟

حب عمار يا أمي تساقط ماءً من بين اصابعي الخجلة ، وأنا أبكي على أطلال دفتر التاريخ، وشعر لطيفة الذي يتصارع فيه الابيض والاسود على البقاء،

أي سحر يسيطر على أبي منها!!

أمي أين تأثيرك على أبي!! الست زوجته!!

ما ذنبي أن ادفع فواتير جان لوك وزملائه؟

أنوثتي ستتبخر ودلالي سيذوب!!

والانتظار يشيب في راس لطيفة!!!

 لم اعرف امي بهذا الهدوء المتوتر من قبل، مرةً تنظر في عيني ومرة تنظر في عيني الأرض، وتقول:

انها بديعة...السبب بديعة...

(باقة الغربية- فلسطين 48)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى