حكمت
رائحة السمك المقلي المتأرجحة في الجو وصلت كاسر الأمواج، قادتني واشتد خطاي وصرتُ أمشي بتناغمٍ مع إيقاع قلبي.
اعتاد أبي أن يفضفض حزنه للموج فرحاً باصطياد السمك، على غرار ما كان يصطاد بوفرةٍ قبل سنواتٍ موغلة في البعدِ، جالساً فوقا لصخر الجاثم المرتطم بالموج، باكياً على احتضارهن بين يديه والصنارة، فلا يعود إلا وقد أفرغت صنارته بعمقٍ همومها ولوعتها وامتلأت سلته بالميسور. لكن اصطياده في الآونة الأخيرة لم يكن من أجل السمك فقط .
وحول مائدة العشاء الملوّنة بالخضار والليمون وشراب النعناع البارد، جلسنا جميعًا، المطر يعزفُ على شبابيك الشرفة لحن الذكرى المتكررة سنوياً، يفتحُ الموج مساماته للمطر المنهمر من السحاب ورائحة الأشياء المبلولة كانت عطر بيتنا، بعدما طلب من أمي أن تدعو أعمامي، إخوتي وأخواتي. ومن حيث لا ندري أشعل أبي الموقد، وأطفأ الأضواء، أطفأ سنةً أخرى ذوت ، وأضاء شموعاً كثيرة إحياءً للذكرى بهذا الطقس.
هاج سكونه، واغرورق بالدمع الرزين، أشار إلى صورتها المعلقة في صدر بيتنا المكون من طابقين وست غرف وشرفة تستقبل الفجر الناهض المغتسل بالماء، إلى أن تودع الشمس الغارقة في الموج الخمري. على ضفافها زرعت أمي بيديها الرقيقتين النعناع بين الورود المدلاة كعناقيد العنب، نصغي لراديو قديم ورثه أبي عن جدي حين كان مشرفاً في سوق البرتقال وهو يحمل معه تاريخ القطف وأمنيات التصدير، ليسرد لمحبي الحمضيات قصة الحب بين أصابع القاطفين، اشتهاءً فمداعبةً فقطفاً فعصيراً يتساقط بين الأصابع..
الداخل إلى بيتنا كانت تصطاده عمتي حكمت، رغم أن صورتها كانت مسطحة البعد، لونيها ليلٌ وخيط أبيض، ملامحها نابضة، عيناها تتكلمان بالفصحى والكحل فيهما يسرد بهدوء سيرورة الدموع المالحة المتساقطة من شباك الصيد.. بيد أن أمي لم تعترض على صورتها في صدر بيتها، اعترافٌ واضح بديمومة حضورها...أليس مثيراً للاهتمام !!
لكن هذه الوجبة كانت مختلفة، فيما كان أبي يمخر عباب ذكرياته ويقول:
"كان أبي يصطحب حكمت معه منذ صباها، تمرست في البيارة إلى أن أصبحت مشرفة على كل مسمارٍ يدق في صناديق الخشب، تتابع أصابع القاطفين من لحظة عناق البرتقال إلى لحظة سفره وراء المحيطات لذكائها، وقدرتها الفائقة حتى في استشعار اللقاح قبل أن يلتقي مع أي نوّارة، فلا تضيع قطرة من عصيره سدىً، فتسيل كالدموع على فراق الشجر. رقتها موجٌ يجيء بموج لا نهائي على شاطئ بوابتنا الشرقية في مدينتا الساحلية، يافا.
وذاع صيتها كمدٍ دائم الوصال، إلى أن أعتقد أن مشروع البرتقال إسمه "حكمت". والتجار في توافدهم إلى الميناء أول ما تطأ أقدامهم يسرعون للسؤال عنها، فيندهشون أن حكمت ليست ببيارة ولا ببرتقال!
توقف أبي...سحبنا أيدينا من السمك، تنهد وأخرج من أبد قلبه رنيناً رافق هذه الجملة:
"إنها أبدية ، بداية أبجديتها حياة ونهايتها تاء مفتوحة..."
وصلت حكمت، بعد سنواتٍ من أول سفرٍ لها في معصمها الأيسر حقيبة يد فاخرة صغيرة، لمحها قلبي قبيل عيني في البعيد، تنورتها السوداء توقفت تحت ركبتيها بعشر سنتيمترات ومعطف أقصر بقليل وحذاء أسود متوسط الكعب.
ساقاها المكتنزتان الجميلتان تلمعان من تحت نسيج جوربيها الأسودين الشفافين، خاصرتاها تحميان جسدها الغض بتوازٍ، نهداها حركة تشكيل فوق الجسد المجرد فيحركانه تنوين ضم، تفاصيل وجهها نقش من المرمر لا يمحوه الزبد المتكرر ذهاباً وإيابا، سمكة ممشوقة القوام طويلة وعلى رأسها قبعة سوداء وعيناها مغطاتان بشبكة تحميهما من صيد المعجبين فيزداد بها إعجاب المعجبين، فيما شعرها الخروبي القصير يرفض الحوار مع أشعة الشمس التي هبطت خصيصاً لتتحاور معها.
أحسستُ أنها المرة الأولى التي أراها، تناولتها بين ذراعي كأني أضم حدود الخارطة من رافديها... وشوقي إليها مختزلاً بكفي وأصابعي..
واصطف أصحاب البيارات والعمال لاستقبالها، كأنها كانت توزع اللقاح للأشجار الحزينة فتبرعم مجددًا برتقالات لامحدودة العدد. وبين أشرعة الحديث كنا نكمل تناول السمك المقلي.
في حنايا تجذيف أبي في سرده الآسر تخلقت أمنيتي؛ حين تلد زوجتي الحامل بنتاً سأسميها حكمت.
وأكمل، ورغم ذلك، لم تفكر حكمت بأن تتزوج، بل كانت محصنة أمام أي موجٍ عارم من محيط العاطفة، مهما كانت الموجة عالية قادرة على هزيمة كاسرها وأنذرت نفسها للساحل والميناء.
لم يكن باستطاعة أي رجل أن يحتل قلبها، لكنهم حتماً اشتهوها برتقالة يسيل عصيرها بين أياديهم، على الأقل هكذا كان إحساسهم بها، ولم تعط أحداً فرصة في أن يفاتحها بالأمر.
ولم ندرِ لماذا؟ لا ندري لماذا تركت شبابها قصراً رمليًا سرعان ما يمحوه الموج الذي يلد نفسه غسقا وشفقا؟ فيما قلق أبي عليها وإخوتي كان يلازم اضمحلال الزبد على بر الأمان.
في إحدى السنوات، قدم تاجر غريب ومكث وقتاً طويلاً، تعامل مع حكمت في السوق والميناء من وصول البرتقال إلى تصنيفه ورزمه وتصديره.لم ندرِ ماذا حل بينهما، وما الذي قلب الموازين؟؟؟ لكنها بعد ذلك سافرت معه عروساً..
وعثرنا على رسالة بعد سنوات في حشو وسادتها الأبيض ..
كتب فيها،
"حكمت... أيها الميناء الذي يحرس الحضارات، وقصائد الله المقدسة، أسافر عبر الموج إليك حباً، فأجثو كالزبد على شاطئك الحائر، وصل برتقالك اليّ، فأحسست أن هناك أرضاً وراء البعيد، تلد وتصدر حباً، قطعت مسافات بعيدة لأجل أن يزهر قلبي بحكمتك وقدسيتك وسريان الحضارات فيك..
حياتي، كمن لا حياة له بلا تائك المفتوحة،
أحبك"
التاجر
18.2.1947
ركبت المركب وودعناها ودموعنا المعتصرة تسيل كما الحامض المنكمش بين الأصابع... وكل القاطفين يلوحون بأكفهم وداعًا ... إلى أن غرق المركب في عرض البحر وما عاد منه سوى الزبد الذي أوصل لنا آخر السلامات بتأنٍ وصمتٍ..
سافرت حكمت..
سافر البرتقال معها..
وانغرست مسامير الوداع في صناديق الخشب التي تحمل جهازها وملابسها وفساتينها المحوكة بخيطان الحرير ومراود الكحل والعطور والبخور وقرآناً من جدتي وعشرين ليرة ذهب عصملي، ودعوات أمي المختبئة في دموعها وكفيها..
ثنينا صفحات كثيرة في كتاب غيابها، وسيرورة القطف والتصدير ما عادت كما كانت تشرف حكمت على كل مسمار وكل حبة برتقال، وبيارات الحب التي كان ينجبها رحم الأرض كل موسمٍ توشحت بالضباب وسجى عليها الليل، فيما لم يداوِ لفحُ الزمن الجديد الجروح في أصابع القاطفين مثلما كان، وأصبح دمعنا عصيراً في برتقالنا الحزين الواصل إلى الميناء المصدّر إلى العالم بدمغة أسمها"جافا"...