تحت قوقعة الحلزون
وأخيرًا قرر سعيد زوجي الثاني أن يسافر...
الآن يمكنني أن أرتب فقرات عمودي الفقري على الكنبة، أرفع قدماي في الفراغ ببطء، واتركهما ليسقطا بلا هوادة وأتنفس بعمق حتى مطلع الفجر.. وان أفكر كما يحلو لي!!
سأرتاح من طلباته التي لا تنتهي، التي تلاحقني في ظلي وفي أصل ظلي، تلك التي تتدحرج منه كرة ثلجية تكبر وتكبر لتصب في مستنقع التنفيذ..
سعيد الذي لا يعجبه العجب ولا الصيام في آب أو كانون الثاني.. تزوجني أنا... عشباً لم يتطاول في اخضراره بعد..
رجل منبع تفكيره هو منبع ذكورته التي تحركه في كل اتجاهات الحياة..
إنه لا يحب من الأشياء إلا أصعبها... ويشتهي في إجازاتي أصعب الأكلات وأكثرها تعقيداً .
إذا اشتهى المقلوبة واللبن اشترط ألا تكون مع البصل، وإذا اشتهى الكعك يطلبه ببيض كثير، وإذا اشتهى المفتول يطالبني بزيادة البرغل فيه وعلى هذا المنوال.. إنه كثير الغلبة، والحبل على الجرار..
لا يكل ولا يمل ولا يتعب ولا ينعس ولا يهدأ وأقل تصوير إن لم يكن دقيقاً بأنه برغي يعشق أن يتغمد في الحيطان الصلبة ليخترقها..
والأمر لا يتوقف عند هذا الحد.. إنه سبع في النهار وسبع في الليل!! ولا أجاريه في الطاقة مهما حاولت تناول مشروبات الطاقة المؤكسلة!!
وعلى خاصرة الحقيقة الأخرى، فانا زوجة بليدة لا أحب الحركة الكثيرة، ولا أحب عمل الأشياء الكبيرة، واكتفي باليسير، واقبل الأشياء ببساطة وبلا نقاش كثير، ألبس من القطع ما لا يتناسب كثيراً مع بعضه البعض، وأنام مع دجاجات جارنا أبو عادل!!
وبالكاد أشعر بقدوم سعيد المتأخر ليلاً، وأغلب الليالي لا أتقلب في سريري، وأبقى على ترتيبي المسائي حتى الصباح إذا سلمت من الاستيطان المبرر وغير المبرر، ليصبح اللحاف جداراً للفصل بين المكانين القائمين على ذات الأرض المقدسة تحت سقف واحدٍ!
وحتى وإن قدم سعيد فإني أتماثل للاستغراق في النوم كي أتهرب من الالتزام الجسدي لأجندة الانفعال والدهشة..
وهو لا يتوقف عند هذا اليقين، فهو يصيد الشاردة والواردة بصنارة تعليقاته حين يطالبني بكي القمصان غير المتوفرة صباحاً، وإحضار زوج جديد من الجوارب البيضاء قبل الذهاب إلى العمل بدقائق، وشرب عصير الرمان غير المتوفرة في الأسواق، وتسخين وجبة العشاء حال وصوله، وتنظيف الزوايا من كل العناكب البيضاء وغيرها ..
أصبحت الحياة معه أشبه بدائرة تعود على نفسها وسقف حياتي رضاه!! إنه لا يترك لي مجالاً لأفكر .. لأني مجرد سندانا يطرقني بطلباته.
ذات عشاءٍ كانوني دافئ وفي انهماكنا الصامت كل في ذاته الجوعى، ترك ملعقة الحساء القريبة إلى شفتيه في الفراغ وراح ينظر إلي بالكثير من التمعن، وهو يراقب تفاصيل وجهي بدقة إذا ما كنت بحاجة إلى أناقة زائدة وإضافة بعض الألوان لأبدو أجمل.
أعاد الملعقة إلى مكان بداياتها وقال لي:
– تبدين الليلة أحلى..
ثم أكمل تناول الحساء..
رغم أننا كنا على خصامٍ منذ يومين لأنني لم امتثل لطلبٍ من قائمته التي لا تنتهي، إلا أنها هذه هي الجملة التي افتتح بها الحديث عقب صمتٍ تطاول العشرين ساعةً ...
سأقاومه هذه المرة، ولن يدغدغ إحساسي بكلماته السائلة التي تنساب منه كالحساء.
أراد أن يسترسل في حلاوة الوصف إلا أنني آثرت الصمت شوكاً لا يثمر عنباً.
ما بين عينيه المتسعتين بتفاصيل وجهي كان قلبي موجًا يتكسر على صخور الواقع وأنا أسوح في عيني شوقٍ اسمه مدحت، أين أنت يا مدحت؟؟
"تشرين يبدأ على شفاهي عسلاً، وينتهي تشرين عسلاً وهو يودع الفصول كلها ..
تشرين ينحني إليك متوسلاً رشات من غيث الحب يكمل به المسير نحو أواخر كانون الثاني...
تشرين يناديك فهو لا ينسج على منوال الشوق عباءات صيفية..
حبيبتك...أنا... امرأة من تشرين..."
كأني كنت أوقع نص رسالتي في بريق عيني سعيد !!
بصراحة ما هكذا كانت حياتي مع مدحت!!
لكن الظروف جعلتني سيفاً أدخل في غمدين !! والمسافة بين زوجين كانت اقل من اتخاذ قرار..
حين تزوجت للمرة الأولى مدحت بفستان زفافٍ خيطانه براءة وحبات الكريستال فيه طهارة وطرحته طفولة أزف بقاياها معي.. إلي..
بيد أن حياتي مع سعيد أشبه بدائرية الحلزون..
السنا نحن النساء كالحلزونات!
في مستنقعات مائية متزايدات، في الحركة والنمو بطيئات، رخوات، طريات وبالأرض ملتصقات لا تشدنا رؤيا نحو السماء وما أن تتصاعد مجساتنا نحو الله فإننا ندرك أن المسافة بين مجساتنا في الفراغ لا تبعد كثيراً عن الأرض المخضرة، سقف حياتنا قوقعة سرعان ما تهشم تحت النعال وأي مواجهة لجلودنا مع الآخر المختلف نذووووب!!! وسرعان ما ننتهي برش الملح الذي يقضى على وجودنا..
على مائدة العشاء ... بين أصابع كانون ... وبين صورة تصهل في المخيلة وأخرى أرتطم بها .. بدأت حياتي تتخذ منحىً آخر ... تماماً حدث ذلك!!
كل مرة ينتهي أي موقف بيني وبين سعيد ببعض الكلمات، وعزفُ على خاصرتي وزفير معتق بقبلة، واشتياق على وشاح العنق. هذا ما يعيد المياه إلى مجاريها لأن شيئاً فـّي كان أضعف من المواجهه... حين كنت أمامه أشبه بقطعة الزبدة... ما أن يمسكني حتى أزفر أنين اللوعة.
أريد أن أقف مرة أمامه وأن أناقشه... أريد ألا اطبخ، ألا اكوي، ألا أنظف البيت وألا أتأوه بملذته.. أريد أن أكون.. هذه الأخرى التي لم أعرفها يوماً شرنقة تزأر فوق السياج....
ذات ليلة علّقت بطاقة صغيرة على الثلاجة لسعيد أن يأخذني صباح خروجه إلى العمل إلى بيت والدي لأن المواجهة معه لا تثمر ما أتوخى من توقع في الطريقة التي أتوقع!!
حتى في بيت أهلي لم يكن ليصبح الأمر على أحوال أفضل، لكنه مكان آخر يمكن أن أكون به، أتناسى مسؤولياتي عندهم حتى أنني كنت أخشى من عيني أن تفضحا انكساري أمام أهلي.. لا أعرف كيف تزحلقت الجمل مني بعدم رضائي حين سألتني أمي عن أحوالي، أخبرتها أني وسعيد كباب على النار ...
عضت أمي على شفتها السفلى، وقالت لي "أغرشي وأسكتي .. اللي حصلتي عليه ما حدا حصل عليه!!"
– خير إن شاء الله !!! هل حصلت على مليون دولار؟؟
– "أي قولي الحمد لله!! صح لك زوج قلتي.. أعور!!! لوحت أمي بيدها وأساور الذهب تصفق لتعليقها..
– لماذا؟ هل كسر الله القوالب الرجالية بعد سعيد؟
– آي احمدي ربك !!
– أمي.. أنا لست منقوصة العقل أو الجسد كي اشعر بامتنان للرجل الذي تزوجني!!"
– يا سلام!! لكنك ... كنت أرضًا مهاداً قبله..
– كلا ... بل هو ترتيب قدري.
– ومن أين سأفصل لك عريساً على أطوالك؟؟ وتاريخك مطعون بحزن التجربة؟؟
– وهل يجب أن أتنفس من رئة سعيد؟؟
– هذا نصيبك في الدنيا!!
– أي نصيب هذا الذي لا يترك لبنصري أن يعتاد على خاتم زوج ثم يتلوه خاتم الآخر؟؟
– قولي إن الله اختار لك الأفضل!! "عشان تنسي اللي صارلك من ورا مدحت يا حبيبتي!! "
– مدحت في الذاكرة !! في البنصر !! في القلب!!
– مدحت ليس في أي مكان!! إفهمي!!
– أنت لست أنا .. لتكونيني وتكوني بدلاً مني !!!
– ماذا ينقصك؟؟
– أمي اشعر أني أدور حول نفسي.. حلزونة!!
– أحلى حلزونة!! يا عمري إن شعرت بالبرد بقوقعة تختبئين، تؤويك وتستر عليك. وإن شعرت بالحر تخرجين منها. تتكورين بها وتتكاثرين.. ولا أحد يستطيع أن يقترب منك!!
ازحفي ببطءٍ بجوار الجدار تصلين إلى ما تريدين.. أطلقي مجساتك في الفراغ، واشعري بالدنيا، هناك الكثير من الحلزونات العارية التي تجف قبل أن يلتقطها احد، لتتكاثر بقوقعته.. ليست كل الحلزونات لها قوقعات!!
ابتلعت أمي ما بقي من حزني وهي تلف أوراق العنب وترتبها في قاع الطنجرة بإتقان وهي تنثر قطع اللحم فهي تحب أن تجهز طبخة الدوالي المفضلة لأبي!!
غريبة هذه السيدة التي تدعى أمي، لا أذكر أنها تخلت عن التفنن بالطبخ منذ أن تزوجت، حتى أبي يتقبل أي شيء من تحت يديها!! ولا يرفض لها أي طلب، وأحيانـًا يتشادا أمام الآخرين خوفاً من الحسد، فهي أمام جاراتها تتفاخر أنها وإياه زوج حمام !!
لكن حكم أمي لم تسعف استهجاني أيضا هذه المرة لأن المسائل مع سعيد مفتوحة على دلالات مختلفة!!
تناولت وجبة الغداء وعدت إلى هناك.. إلى قوقعتي..
"يجب ألا التصق بالأرض أكثر.. طالما لي مجسات أستطيع شم رائحة الحرية بها وأتطاول على حجمي الوضيع!! بقيت ساعتان لعودة سعيد من العمل.. سأبدأ الآن في تجهيز الأمور..
وما أن وطئت قدمي الأرض خلعت حذائي عند المدخل، وباشرت بإعداد وجبة العشاء..
انطلقت إلى غرفة النوم، وأمام المرآة بدأت بخلع ملابسي ببطءٍ، ثم دخلت الحمام وأنا أراقب جسدي بتلذذ كبير وإصرارٍ أكبر على القرار... المكان مغمور بالبخار والرؤيا ضبابية للغاية وصوت السكون يعم المكان وينسجم مع خرير المياه..
تنشفت بسرعة وجهزت مائدة العشاء .. لم يبق كثيراً على وصول سعيد..
لبست أفخم الملابس وتناسقت كزهو فساتين أنطوانيت عند الخامسةً مساءً في ساحات فرساي.. ولم أبخل على نفسي برش العطر الفرنسي الباذخ.. وقليل من الماسكارا سأبدو أكثر غوايةً .. وتركت شعري المبلل عند الأطراف يصهل فوق كتفي ببربرية..
– ماذا بعد... ماذا نسيت؟؟ شموع كثيرة.. وجوري بيضاء على حوافي الصحون..
تمام السابعة مساءً... المفتاح يدخل مكانه.. يدير سعيد يد الباب فيدخل..
أغلق الباب وعلّق معطفه عند المدخل.. الضوء الخافت ورائحة الجوري المنبعثة قادته إلى مكان جغرافية اتخاذ القرار..
– مساء الخير
– أهلاً سعيد
– أرى شيئاً
– بل قل أشياء!!!
– وااااااااااو كم تبدين فاتنة!!!
– لكني قصيرة!!
– بل جميلة!! من أعد العشاء؟
* أنا..
– رائع!! وما المناسبة؟
– المناسبة أننا..... ما رأيك أن تتناول وجبة العشاء!!
– لم لا.. إنها استثمار للطاقة! وضحك سعيد بدهاء !! وتمنى لو أنها زغاليل محشوة بالرز والزبيب!!
حدثت ضوء عينيه الشارد في أنوثتي، وقاطعني وسألني لماذا لا تأكلين... بعدما انتبه أنني أحرك الأكل في صحني بتمرير الوقت!!
– سعيد، أتحبني؟؟
– وما مناسبة السؤال؟؟
– أجبني.
– أكيد.. قالها وطفق يشرب الماء.
– لماذا تزوجتني؟
– لأني أحبك؟؟
– هذه أكثر إجابة غير مقنعة في العالم!! وهل يجب أن ينتهي الحب بالزواج؟ سكت ولم يرد، ثم حدقت في عينيه وسألته من جديد:
– لماذا لم تسألني مرة إذا كنت أحبك أم لا؟
– وهل هناك حاجة؟؟ أعرف أنك تحبينني بالطبع، وإلا لما صنعت هذا من أجلي!!
– ليت امتلاء البطون هو مقياس حقيقي للحب! فظيعة إجابتك يا سعيد!! أنت تعرف أني كنت على علاقة مع مدحت!!
– لكن مدحت انتهى!!
– أتعمل مستشار قلبي للشؤون العاطفية حتى تتيقن أن مدحت انتهى!!
سعيد.. آن لهذا الانتداب أن يرحل!! لأني أغمض عيني على حبٍ وافتح عيني على ألمٍ.. يكفي زحفاً.. إلى رضاك.. وحياتي تبدأ وتنتهي عند نقطة الصفر المدوّرة!! يجب أن أخرج من هذه القوقعة!! أنا لم اختر أن يتغمد مدحت في حدود عذرية بداياتي ولم أختر خروجه المفاجئ من حياتي .. وما أن وعيت على ما حدث بعد موته وإلا وخاتم زواجك في بنصري يحاصرني من كل إتجاه!!
لكني سأختار أن ارتطم بشعاع الشمس، وان أرى الدنيا بمجساتي، ولا تحجبني قوقعة من الله..
يجب أن تسافر كي أستطيع أن أكون مع نفسي بعد غياب مدحت !!
كان من الصعب أن أكون معه ومع سعيد، سيفان يدخلان في غمد ..
مدحت لم يرحل من ذاكرتي وسعيد صك الانتداب على أرض مقدسي!!
هذه فرصة أن أرسم الحدود على خارطة الروح، وأحدد المناطق التي يجب أن تكون تحت الحكم العسكري وإلا بقيت هذه الأرض تحت هيمنة الجسد الأقوى..