الأحد ١٠ تموز (يوليو) ٢٠٢٢
بقلم رامز محيي الدين علي

الشّرقُ في فكرِ تولستوي أدبا وفكرا وعقيدةً

مُؤثّراتٌ عربيّةٌ

على الرّغمِ من كثرةِ الدّراساتِ الّتي أفاضَت في تناولِ أدبِ تولستوي، إلّا أنّنا لا نجدُ بحوثاً مُتخصِّصةً قد تناولَت تأثُّرَه بالأدبِ العربيِّ، من ذلكَ ما نجدُه في كتابِ الباحثِ الرّوسيّ شيفمان (تولستوي والشّرق)، فلمْ يتطرّقْ فيهِ إلى تأثُّرِ تولستوي بالأدبِ العربيِّ إلّا بإشاراتٍ عابرةٍ كعلاقةِ تولستوي ببلدانِ الشّرقِ اﻟﻤﺨتلفةِ: الصّينِ، والهندِ، واليابانِ، وإيرانَ، وتركيّا، والدّولِ العربيّة، وأفريقيا. أو تأثُّرِ تولستوي بالحكمةِ العربيّةِ وبقصصِ (ألفِ ليلةٍ وليلة). أمّا تأثُّرُ تولستوي بالفكرِ الإسلاميِّ، فقد تجنّبَ شيفمان الحديثَ عنهُ لأسبابٍ سياسيّةٍ ودينيّةٍ، مع أنَّه المحورُ الأساسيُّ في دراسةِ تأثّرِ تولستوي بالمشرقِ العربيِّ.

ولكي نُلمَّ بالجوانبِ المهمّةِ الّتي برزَت في علاقةِ تولستوي بالأدبِ العربيِّ، فإنّي أوجزُ ما جمعْتُه نُتَفاً متفرّقةً من مصادرَ عديدةٍ في النّقاطِ الآتيةِ:

1- تعودُ علاقةُ تولستوي الأُولى بالأدبِ الشَّعبيِّ العربيِّ إلى عامِ 1882م، فقد نشرَ في ملحقِ مجلَّتِه التّربويّةِ (ياسنايا بوليانا) بعضَ الحكاياتِ العربيَّةِ الشّعبيّةِ، منها حكايةُ (علي بابا والأربعون حرامي)، ومنها تأثُّرُ تولستوي بألفِ ليلةٍ وليلةٍ في روايتِه (لحن كريتسر). فقد أظهرَ تولستوي احتراماً خاصّاً للأدبِ العربيِّ، والثّقافةِ العربيّةِ، والأدبِ الشّعبيِّ العربيِّ، منذُ أن عرفَ الحكاياتِ العربيّةَ في طفولتِه، ومنها حكايةُ (علاءُ الدّينِ والمصباحُ السّحريّ)، وحكايةُ (قمرُ الزّمانِ بنُ الملكِ شهرمان)، وقد ذكرَ تولستوي هاتينِ الحكايتينِ ضمنَ قائمةِ الحكاياتِ الّتي تركَت في نفسهِ أثراً كبيراً، قبلَ أن يبلغَ السّنةَ الرابعةَ عشرةَ من عمرِه.

2- في شهرِ أيلولَ (سبتمبر ) من عامِ 1844، تمَّ قبولُ تولستوي طالباً في قسمِ اللّغتينِ التّركيّةِ والعربيّةِ في كلّيّةِ اللُّغاتِ الشّرقيَّةِ بجامعةِ قازانَ، وقد اختارَ تولستوي هذا الاختِصاصَ لسببينِ: الأوّلُ أنّه كان يطمحُ أن يصبحَ دبلوماسيّاً في الشّرقِ العربيِّ، والثّاني أنّه كان يهتمُّ بآدابِ شعوبِ الشّرقِ. لكنّه تركهَا لظروفٍ خاصّةٍ.

وعلى الرّغمِ من انشغِالِ تولستوي بالفنِّ والدَّعوةِ إلى الإنسانيَّةِ، فإنّه لم يشغلْهُ أدبُه ونتاجاتُه عن مطالعةِ الأدبِ العربيِّ والنِّتاجِ الفكريِّ الإسلاميِّ، فأُعجبَ برجالاتِ العربِ وزهدِهم ووعيِهم، والرّحمةِ الّتي نزلَت على قلوبِهم والتّكافلِ الاجتماعيِّ فيما بينَهم، وحقوقِ المرأةِ واحترامِها في الإسلامِ، وغيرِها من مبادئِ الإسلامِ الاجتماعيَّةِ السّاميةِ.

3- كان تولستوي من الّذينَ اعترفُوا بما في تراثِنا من قيمٍ إنسانيّةٍ نبيلةٍ، ودعوةٍ إلى المحبّةِ والتّسامحِ، والخيرِ والعدلِ، والرّحمةِ والمساواةِ. فلقد أجابَ تولستوي برسالتِه عامَ 1908م من قريتِه (یاسنایا بوليانا) رجلَ الدّينِ (سولوفيوف) الّذي طلبَ منهُ العودةَ إلى رحابِ الكنيسةِ الرّوسيّةِ جواباً مقنعاً من خلالِ حكايةٍ قد أُعجبَ بها كثيراً، وتعبّرُ عن رأيِه في جوهرِ الدّينِ، بقولِه: "في إحدى الحكاياتِ العربيّةِ قرأْتُ حكايةً عربيّةً خلاصتُها أنَّ اللهَ يتقبَّلُ الصّلاةَ الّتي تصدرُ من أعماقِ القلبِ، حتّى وإن كانتْ بالشَّكلِ لا تتطابقُ مع الصّلواتِ التّقليديَّةِ".

4-تحتوي المجموعةُ الكاملةُ لمؤلّفاتِ تولستوي على عددٍ لا بأسَ به من الكتاباتِ الّتي تهتمُّ بالتّراثِ العربيِّ، منها ما يتضمَّنُ عدداً من الآياتِ القرآنيّةِ الكريمةِ والأحاديثِ النّبويّةِ الشّريفةِ، ومنها ما تحتوي على الحِكمِ والأقوالِ المأثورةِ. ويرى بعضُ النُّقّادِ العربِ تأثيرَ الأدبِ العربيِّ بشكلٍ واضحٍ في بعضِ أعمالِه، مثلَ قصّةِ (كرويترز) حينَ يتحدَّثُ بطلُ القصّةِ (بوزدينشف) عن معاناتِه المستوحاةِ من روايةِ (حكايةِ الملكِ شهْرَيار)، كما يَبدو تأثرُّه جليَّاً بتاريخِ وادي الرّافدينِ والأساطيرِ البابليّةِ والآشوريّةِ القديمةِ، كما في حكايتِه المسمَّاةِ (الملكُ الآشوريُّ أسر حدُّون)

5- كتبَ تولستوي قصّةَ (الحاجّ مُراد) ما بينَ عامَي (1896م)، و(1905م). وقد وردَت فيها أسماءٌ عربيّةٌ، مثلَ: مُراد وشامِل، ومحمّد، وأحمد، وسعدو. وعباراتٌ عربيّةً تدلُّ على تأثُّره بالأدبِ العربيِّ ، من مثلِ: السّلامُ عليكُم، ولا إلهَ إلّا اللهُ. وفيها نحسُّ بتعاطفِ تولستوي معَ الحاجِّ مُراد، وتفهُّمِه لشخصيَّتِه.

دوافعُ تولستوي نحوَ الشّرق
إيمانُه الحقيقيّ وموقفُه من رجالِ الدّينِ

الإيمانُ في اللّغةِ: هو مطلقُ التَّصديقِ. وفي الشَّرعِ: هو التّصديقُ باللهِ وملائكتِه وكتبِه ورسلِه واليومِ الآخرِ وبالقدَرِ خيرِه وشرِّه.

ويعرّفُ تولستوي الإيمانَ بقولِه: "الإيمانُ هو الّذي يحْيَا به الإنسانُ، وأنّه رصيدُ الحياة".

وقد تعمّقَ تولستوي في القراءاتِ الدّينيةِ، وقاومَ الكنيسةَ الأرثوذكسيّةَ في روسيا، ودعَا "إلى السّلامِ وعدمِ الاستغلالِ، وعارضَ القوّةَ والعنفَ في شتّى صورِهما" . ولم تقبلِ الكنيسةُ آراءَ تولستوي الّتي انتشرَت في سرعةٍ كبيرةٍ، فكفَّرتْهُ وأبعدَتهُ عنها وأعلَنت حرمانَهُ من رعايتِها. وأُعجبَ بآرائِه عددٌ كبيرٌ من النّاسِ الّذين كانوا يزورونَه في مقرّهِ بعدَ أن عاشَ حياةَ المزارعينَ البسطاءِ تاركاً عائلتَه الثّريّةَ المترفةَ.

وقد أثّرَت دعوةُ تولستوي السّلميَّةُ ونبذُ العنفِ في كتابِه (ملكوتُ اللهِ في داخلِك) في مشاهيرِ القرنِ العشرينَ أمثالِ المهاتْما غانْدي ومارتِن لوثَر كينغ في نضالِهما السِّلميِّ النّابذِ للعنفِ.

وقد اتَّسمَ موقفُ تولستوي بالشَّجاعةِ حينَ كشفَ تحالفَ الكنيسةِ والقيصرِ ضدَّ الشَّعبِ، في قولِه: "لقد استَولى حبُّ السٌّلطةِ على قلوبِ رجالِ الكنيسةِ، كما هو مستَولٍ على نفوسِ رجالِ الحكوماتِ، وصارَ رجالُ الدِّينِ يسعَونَ لتوطيدِ سلطةِ الكنائسِ من جهةٍ ويساعدُون الحكوماتِ على توطيدِ سلطتِها من جهةٍ أخْرى". ، فرأى أنّ مصلحةَ السُّلطتينِ تقتَضي استقرارَ الأوضاعِ الظّالمةِ على حالِها، كما أصبحَت الحالُ عليهِ اليومَ فيمَا لا يَخْفى على عاقلٍ.

ولم تقبلِ الكنيسةُ آراءَ تولستوي، فكفّرتْه وأبعدَتْه عنها، كما أسلفْتُ سابقاً، ونتيجةً لهذا الصِّراعِ أوصَى تولستوي بدفنِه بعدَ موتِه مباشرةً دونَ طقوسٍ، ولا تقاليدَ معتادةٍ، فدُفِنَ كما أوصَى، في قبرٍ متواضعٍ، دونَ صلاةٍ على جثَّتِه، ودونَ وضعِ صليبٍ على قبرِه.

أمّا في المشرقِ العربيِّ، فقدْ وقفَت الأوساطُ المسيحيَّةُ ضدَّ مبادئِ تولستوي وأفكارِه، فكانَ موقفُها مؤيّداً لموقفِ الكنيسةِ الرّوسيّةِ. على الرّغمِ من أنّ تولستوي "كان ناقداً لأغلبِ رجالِ الدّينِ وليس لجميعِهم، فاتّهمُوه بالإلحادِ، وبأنّه شوّهَ الإنجيلَ".

مفهومُ الدّينِ عندَه

يرَى تولستوي أنّ الدّينَ الحقيقيَّ هو "الّذي يتوافقُ مع العقلِ ومعرفةِ الإنسانِ، ويُحدِّدُ علاقتَه بالحياةِ اللّانهائيّةِ من حولِه.. إنّه الدّينُ الّذي يربطُ حياتَه بهذِه اللّانهائيّةِ، ويُرشدُ الإنسانَ في سلوكيّاتِه".

والعقلُ هو القوّةُ الّتي "تمكّنُ البشرَ من تحديدِ علاقتِهم بالعالمِ، وكمَا أنّ البشرَ جميعَهم في مَصفٍّ واحدٍ من ناحيةِ وجودِ علاقةٍ تربطُهم بالعالمِ، فكذلكَ الدّينُ الّذي يُؤسّسُ لهذهِ العلاقةِ يُوحّدُ البشرَ، وتؤدّي هذهِ الوحدةُ إلى رخاءِ البشرِ روحيّاً ومادّيّاً".

ويمكنُ للوحدةِ الكاملةِ "أنْ تتمَّ في العقلِ الكاملِ السّامي، لذلكَ فالخيرُ الأسْمى مثالٌ تسْعى إليهِ الإنسانيّةُ، لذا فكلُّ ديانةٍ تمنحُ سكّانَ مجتمعٍ معيّنٍ إجابةً واحدةً عن سؤالٍ: "ما العالَمُ؟ وما دورُ البشرِ فيهِ؟".

ويتلخَّصُ الدّينُ عندَ تولستوي بمعناهُ الحقيقيِّ في مبادئَ بسيطةٍ: كالمساواةِ بينَ البشرِ جميعاً وأُخوَّتِهم وأُبوّةِ الإلهِ الواحدِ لهُم، ونبذِ الشَّرِّ والعنفِ، وضبطِ الذَّاتِ. وعلى الرّغمِ من بساطةِ أفكارِ تولستوي الّتي طرحَها عنِ الدّينِ، فإنّها لم تتَطابقْ معَ الدّينِ الإنسانيِّ الّذي دعَا إليهِ المفكّرونَ الإنسانيُّون في عصورٍ عديدةٍ؛ ففِكرُ تولستوي الدِّينيُّ يعتمدُ على ثنائيّةِ: (الإلهُ - الإنسانُ)، وعلى الرّغمِ من اعترافِه بمحاولاتِ الإنسانِ المُمكنةِ للسُّلوكِ في طريقِ الكمالِ، فإنّه لن يستطيعَ بلوغَ الكمالِ؛ لأنّه طريقٌ لا يَنْتهي.

والإنسانُ عندَ تولستوي ليسَ بديلاً عنِ الإلهِ، كما زعمَ الإنسانيّون، وإنّما هو كائنٌ بشريٌّ ملزمٌ بتنفيذِ أوامرِ اللهِ، وكلٌّ منهما لهُ مكانةٌ في العلاقةِ، ولا يُمكن تجاوزُه عبرَ محاولاتِ تأليهِ الإنسانِ الّتي سعَى إليها الدِّينُ الإنسانيُّ؛ فالدّينُ الإنسانيُّ ديانةٌ بلا إلهٍ، على نقيضِ تعاليمِ تولستوي الأخلاقيّةِ الّتي تحافظُ على تواضعِ الإنسانِ، ولا تؤلِّهُه على الإطلاقِ، وقدْ رأَى تولستوي أنَّ العداءَ معَ الدّينِ له جذورٌ أخلاقيَّةٌ لا فكريّةٌ.

وقدْ كتبَ تولستوي في كتابِه (في الدّينِ والعقلِ والفلسفةِ) عدّةَ مقالاتٍ تناولَت رؤيتَه إلى الدّينِ، وممّا جاءَ في مقالةٍ له بعنوانِ (ما الدّينُ، وأينَ يكمُنُ جوهرُه؟): "في كلِّ المجتمعاتِ الإنسانيّةِ، وفي فتراتٍ معيَّنةٍ من حياةِ تلكَ المجتمعاتِ، دائماً ما حلّتْ بعضُ الأوقاتِ انحرفَ فيها الدّينُ عن معناهُ الحقيقيِّ، ثمَّ أخذَ هذا الانحرافُ يزيدُ أكثرَ فأكثرَ، حتّى فقدَ الدّينُ معناهُ الرّئيسَ، وحينَ تحوّلَ إلى صيغٍ متحجِّرةٍ أخذَ يذبلُ، ومن ثمَّ أخذَ تأثيرُه على حياةِ النّاسِ يضعفُ أكثرَ فأكثرَ".

ويقولُ أيضاً: "ليسَ الدّينُ إيماناً يتأسّسُ مرّةً واحدةً في العمرِ كاملاً، كالخرافاتِ والصّلواتِ والطُّقوسِ العبثيَّةِ الشّهيرةِ، ولا أيضاً بقايَا الخُرافاتِ الهمجيَّةِ القديمةِ كمَا يعتقدُ العلماءُ، والّتي ليسَ لدَيها أيُّ معنىً في حياتِنا الآنَ، بل يشكّلُ الدّينُ علاقةَ الإنسانِ باللهِ القابلةِ للتّطويرِ بشكلٍ يتَّفقُ مع العقلِ ومعارفِ الإنسانِ، وهذهِ العلاقةُ من شأنِها أنْ تحرّكَ الإنسانيَّةَ للأمامِ صوبَ الهدفِ المنشودِ".

وهذا يشيرُ بوضوحٍ إلى أنّ أفكارَ تولستوي لا يُمكنُ أنْ تجدَ لها صدىً في النّفوسِ؛ لأنّها لا تقومُ على حلولٍ وسطيَّة، وإنّما تدعُو إلى تغييرٍ جذريٍّ في المفاهيمِ الدّينيّة وعصيانٍ على المصالحِ الطبقيّةِ والمادّيّةِ. فهو يدعُو إلى عصيانٍ شاملٍ ضدَّ كلِّ نظامٍ يستخدمُ قواهُ المادّيّةَ من أجلِ ترسيخِ العنفِ والظّلمِ، وهذا ما نلمسُه في قولِه: "أؤمنُ بأنّ تعاليمَ يسوعَ الإنسانِ تعبّرُ عن إرادةِ اللهِ بوضوحٍ، ومن ثمَّ أرفضُ أطروحةَ ألوهيّةِ المسيحِ والصّلاةِ له، وأعتبرُ ذلكَ أعظمَ تجديفٍ".

ومن ثمّ فقدْ بشَّر تولستوي بدينٍ جديدٍ مناسبٍ لتطوُّرِ البشريّةِ الحالي يُحَاكي دينَ المسيحِ، ولكنْ دونَ اللّاهوتِ والتَّصوُّفِ، فهو دينٌ دنيويٌّ؛ لتحقيقِ النَّعيمِ على الأرضِ دونَ إنكارٍ لنعيمِ الآخرةِ، فلذلكَ عمدَ تولستوي إلى إعادةِ كتابتِه للأناجيلِ الأربعةِ، حيثُ يخلُو النّصُّ من الميتافيزيقْيا اللّاهوتيّةِ والخوارقِ الإعجازيّةِ، فجاءَ إنجيلُه الجديدُ عامَ 1902م بعنوانِ (الإنجيلُ المختصرُ) مرشداً للحياةِ الأخلاقيّةِ العمليَّةِ.

ويأتي اعترافُ تولستوي صريحاً في نظرتِه إلى الإيمانِ والحياةِ والدِّينِ بقولِه: "الحياةُ الرُّوحيَّةُ تُعاشُ، لا تُلقّنُ.. وكسبُ الحياةِ يكونُ بخدمةِ النّاسِ، لا باعتزالِهم.. وفهمُ الكتابِ المقدَّسِ هو بحُرّيّةِ العقلِ، ونقاءِ القلبِ، لا بالتَّرديدِ الأعْمى".

الإيمانُ الشّرقيُّ مخرجٌ لأزماتِ عصرِه

أيقنَ تولستوي - منذُ بدايةِ طريقِه الأدبيِّ - أهمّيّةَ التّراثِ الرّوحيِّ للشَّرقِ، فأقبلَ في نهمٍ على دراسةِ فكرِه وفلسفاتِه الّتي كانَ يبحثُ فيها بشكلٍ خاصٍّ عن مفهومِ المفكّرينَ لمغْزى الحياةِ، "غيرَ أنّ الاهتمامَ الرّئيسيَّ بالشّرقِ يرتبطُ عندَ تولستوي بالأديانِ، فقدْ آمنَ تولستوي بأصالةِ الفكرِ الدّينيِّ النّابعِ من الشّرقِ، وهو الفكرُ الّذي كانَ تولستوي يَرى فيهِ حصيلةً جامعةً للقيمِ الأخلاقيّةِ الّتي اختَبرَتْ لقرونٍ تأثيرَ الشّرقِ العربيِّ في فكرِ تولستويَ وإنتاجِه والّتي يجبُ أن تظلَّ الحقيقةَ الرّاسخةَ الوحيدةَ في مسيرةِ الشُّعوبِ".

ولأنّ تولستوي كانَ على ثقةٍ بأنَّ شعوبَ الشّرقِ لم تفقدْ بعدُ جوهرَ الإيمانِ الحقيقيِّ، فقدْ بدَا له الشّرقُ مخرجاً من أزمةِ الواقعِ المعاصرِ له، وهي الأزمةُ الّتي رآهَا تولستوي في ابتعادِ النّاسِ عن القيمِ الأخلاقيّةِ النّابعةِ من الإيمانِ الحقيقيِّ بالدّينِ، وقد سجّلَ تولستوي في كتابِه (الاعتِراف) ذكرياتِ اقترابِه من الأديانِ حينَ بلوغِه العقدَ الخامسَ من عمرِه، وهو بدايةُ معاناتِه الرّوحيّةِ، كما عبّرَ عن ذلك بقولِه: "كان يحدثُ معي شيءٌ ما غريبٌ جدّاً، فقد أخذَت في البدايةِ تنتابُني مشاعرُ الضّياعِ واستغرقَتْني الكآبةُ، ثمَّ بعدَ زوالِ هذا الشُّعورِ كنتُ أستمِرُّ في العيشِ كما مضَى. لكنَّ أوقاتَ الحَيرةِ هذهِ كانتْ تتكرّرُ بشكلٍ أكثرَ وأكثرَ وبنفسِ الطّريقةِ، وهذهِ الوقَفاتُ مع الحياةِ كانتْ تنعكسُ في نفسِ الأسئلةِ. لماذا، وكيفَ بعدَ ذلك؟".

وقد ألحَّتْ على تولستوي في ذلكَ العُمرِ تساؤلاتٌ حولَ الموتِ ومعْنى الحياةِ كادَت أن تقودَه إلى فكرةِ الانتحارِ: "كان السّؤالُ الّذي قادَني في عمرِ الخمسينَ إلى فكرةِ الانتحارِ أبسطَ الأسئلةِ. لماذا أعيشُ، وما مغْزى طمُوحاتي، وما مغْزى ما أصنعُه؟"

أخذَ تولستوي يبحثُ عن إجابةٍ عن تساؤلِه، فبحَثَ في (المعرفةِ العاقلةِ) فلمْ يجِدْ إجابةً، وبحثَ في حياةِ النّاسِ المحيطينَ به من طبقَتِه، فلم يجدْ إجابةً، لكنّه وجدَها عندَ الشّعبِ البسيطِ "عندَ أولئكَ الملايينِ من النّاسِ الّذين عاشُوا ويعيشُون، الّذين يصنعُون الحياةَ ويحملُون على عاتقِهم حياتَهم وحياتَنا".

وكانتِ الإجابةُ تكمُنُ في الإيمانِ الّذي كان يمدُّ هؤلاءِ البسطاءَ بالسّكِينةِ والحكمةِ الإنسانيَّةِ، ففي تلكَ "الإجاباتِ الّتي يقدِّمُها الدّينُ تختزِنُ الحكمةُ الإنسانيّةُ العميقةُ".

ومن هُنا أخذَ تولستوي يقتربُ "منَ المؤمنينَ من الفقراءِ، البسطاءِ، النّاسِ غيرِ العالمِينَ" . فقرّرَ أنْ ينكبَّ على دراسةِ الأديانِ، فاتّجهَ بأنظارِه نحوَ الشّرقِ، وعكفَ على فهمِ الدِّينِ الإسلاميِّ.

تولستوي والإسلام

عُرفَ تولستوي بقراءاتِه الواسعةِ وتبحُّرِه في الأديانِ المختلفةِ بحثاً عن روحِ الأديانِ وجوهرِها، لذلكَ درسَ اليهوديّةَ والمسيحيَّةَ والإسلامَ، والبوذيّةَ والكونفوشيّةَ وغيرَها، وقد احتوَت مكتبتُه الشّخصيَّةُ على العديدِ من المراجعِ الّتي تتناولُ الإسلامَ بالشّرحِ والتّفسيرِ. واستحوذَتْ معانى القرآنِ الكريمِ على اهتمامِه، كما استأثرَت أحاديثُ الرّسولِ بعنايتِه.

وقدْ تصدَّرَ كتاباتِه في هذا المجالِ كُتيِّبٌ بعنوانِ (حِكمُ النّبيِّ محمّدٍ) جمعَ فيه أحاديثَ الرّسولِ الّتي انتقَاها بنفسِه وأشرفَ على ترجمتِها إلى الرّوسيّةِ، ومراجعتِها والتّقديمِ لها، ويشيرُ في مقدِّمةِ هذا الكتابِ إلى عقيدةِ التَّوحيدِ في الإسلامِ وإلى الثّوابِ والعقابِ والدّعوةِ إلى صِلةِ الرَّحمِ.. فيقولُ: "وجوهرُ هذهِ الدّيانةِ يتلخَّصُ في أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ، وهو واحدٌ أحدٌ، ولا يجوزُ عبادةُ أربابٍ كثيرةٍ، وأنّ اللهَ رحيمٌ عادلٌ، ومصيرُ الإنسانِ النّهائيُّ يتوقّفُ على الإنسانِ وحدَه، فإذا سارَ على تعاليمِ اللهِ فسيَحصلُ على الجزاءِ، أمّا إذا خالفَ شريعةَ اللهِ فسينالُ العقابَ".

وقد أشارَ تولستوي في مقدِّمتِه إلى المصدرِ الّذي أخذَ عنهُ أحاديثَ الرّسولِ وهو: كتابٌ وضعَهُ بالإنجليزيّةِ المفكِّرُ الهنديُّ عبدُ اللهِ السّهرورديّ، وقد اختارَ عن هذا الكتابِ بعضَ الأحاديثِ الّتي وجدَ فيها "حقائقَ تتّسمُ بها مختلفُ التّعاليمِ الدّينيَّة..".

كما وصفَ تولستوي محمّداً، قائلاً: "هو مؤسِّسُ دينٍ، ونبيُّ الإسلامِ، وقامَ بعملٍ عظيمٍ بهدايتِه لوثنيّينَ قضَوا حياتَهم في الحروبِ وسفكِ الدِّماءِ، فأنارَ أبصارَهم بنورِ الإيمانِ وأعلنَ أنَّ جميعَ النّاسِ متساوُونَ أمامَ اللهِ".

وقدْ عبّرَ عن تقديرِه الكبيرِ للرّسولِ ورسالتِه بقولِه: " لا ريبَ أنّ هذا النّبيَّ من كبارِ المعلّمينَ الّذينَ خدمُوا الهيئةَ الاجتماعيَّةَ خدمةً جليلةً، ويكفيهِ فخراً أنّه هدَى أمَّتَه برمَّتِها الى نورِ الحقِّ، وجعلَها تجنحَ للسّلامِ، وتكفُّ عن سفكِ الدّماءِ! وفتحَ لها طريقَ الرُّقيِّ والتقدُّمِ، وهذا عملٌ عظيمٌ لا يفوزُ بهِ إلّا شخصٌ أُوتيَ قوَّةً وحكمةً وعلماً. ورجلٌ مثلَه جديرٌ بالإجلالِ والاحترامِ".

ويتحدّثُ تولستوي عن جهادِ الرّسولِ ومعاناتِه في سبيلِ الدّعوةِ، وعمّا تعرّضَ لهُ من اضطِهادِ الكفّارِ له، لكنّ ذلكَ لم يُثنِ من عزيمتِه، ثمّ ينتقلُ إلى توضيحِ فضلِ الرّسولِ وصحابتِه وجهادِهم في سبيلِ الدّعوةِ.

ويَرى تولستوي أنَّ الشّريعةِ الإسلاميَّةِ تنسجمُ معَ العقلِ والحِكمةِ؛ فهيَ لذلكَ ستسُودُ العالمَ: "يَكْفي محمّداً فَخْراً أنّه خَلَّصَ أُمَّةً ذليلةً دمويّةً مِن مخالبِ شياطينِ العاداتِ الذَّميمةِ، وفتحَ أمامَ وجوهِهم طريقَ الرُّقيِّ والتَّقدُّمِ، وأنّ شريعةَ محمَّدٍ ستسودُ العالَمَ لانسجامِها مع العقلِ والحِكمةِ" .

كمَا أوضحَ تولستوي في كتابِه جملةً من الآراءِ المتعلّقةِ بالأمورِ الاجتماعيَّةِ الهامّةِ، فأبْدى رأيَه في الحبِّ والزّواجِ والحقوقِ الملائمةِ للمرأةِ، بمَا يشبهُ الحقوقَ الإسلاميَّةَ المعتدلةَ، وغيرِ ذلكَ من الأمورِ التي تهتمُّ بالإنسانِ والمجتمعِ.

وقد ألَّفَ تولستوي هذا الكتابَ (حكمُ النَّبيِّ محمَّد) حينَ رأى تحاملَ جمعيّاتِ المبشِّرينَ في قازانَ من أعمالِ روسيا على الشّريعةِ الإسلاميّةِ ورسولِها الكريمِ برسمِ صورةٍ مشوَّهةٍ غيرِ صورتِهما الحقيقيَّةِ، فدفعَتْه غَيرتُه على الحقِّ إلى تأليفِ هذا الكتابِ الّذي اختارَ فيهِ مجموعةَ أحاديثَ للنّبيِّ محمَّد ﷺ، وقدَّمَ لها بمقدِّمةٍ جليلةٍ، قالَ فيها: "هذهِ تعاليمُ صاحبِ الشَّريعةِ الإسلاميّةِ وهي عبارةٌ عن حِكمٍ عاليةٍ ومواعظَ ساميةٍ تقودُ الإنسانَ إلى سواءِ السَّبيلِ، ولا تقِلُّ في شيءٍ عن تعاليمِ الدّيانةِ المسيحيَّةِ، ووعدَ بأنّه سيضعُ كتاباً كبيراً يبحثُ فيهِ أبحاثاً إضافيّةً بعنوانِ (محمّد)".

تأثيرُ القرآنِ والحديثِ في فكرِ تولستوي وإنتاجِه:

لم يكنْ اهتمامُ تولستوي بترجمةِ أحاديثِ الرسولِ إلى الروسيّةِ والتَّعريفِ بالفكرِ القرآنيِّ محضَ صدفةٍ، وإنّما هو تعبيرٌ صادقٌ عن رغبتِه في فهمِ جوهرِ الإسلامِ وإعجابِه بسيرةِ الرّسولِ وأحاديثِه، وتقديرِه لأهمّيّةِ المعاملاتِ الإسلاميّةِ والأحكامِ الاجتماعيّةِ الّتي تضمَّنَها القرآنُ الكريمُ والحديثُ الشّريفُ.

وجاءَ اهتمامُ تولستوي بالإسلامِ من خلالِ التّعريفِ بالرّسولِ وأحاديثِه واقتباسِه من المعاني القرآنيّةِ بما ينسجمُ مع آفاقِ فكرِه، ويشهدُ على ذلكَ "اقتباسُه للأحاديثِ والمعاني القرآنيّةِ لتأكيدِ صدقِ أفكارِه الّتي كانَ يدعُو إليها في السَّنواتِ الأخيرةِ من عُمرِه، وهي الأفكارُ الّتي جاءَت بمثابةِ مُحصِّلةٍ وتتويجٍ لتأمُّلاتِ تولستوي في الحياةِ والواقعِ والمستقبلِ".

هذا وقدْ صنّفَ الدُّكتورُ مكارمُ الغمريّ الأحاديثَ النّبويّةَ الشّريفةَ الّتي أوردَها تولستوي في كتابِه (حكمُ النّبيّ محمّد) ضمنَ محاورَ عديدةٍ شكَّلَت في مجملِها الخطوطَ العريضةَ في فكرِه وفلسفتِه. وقد رأيتُ – إيجازاً للبحثِ – أن أقفَ على أهمِّها وأختارَ بعضَ الأمثلةِ من تلكَ الأحاديثِ لكلِّ محورٍ فكريٍّ؛ لأنّني لستُ في صددِ بحثٍ شاملٍ وعميقٍ حولَ تأثيرِ تلكَ المعاني في فكرِ تولستوي، بقدْرِ ما أرميْ إليهِ من تلمُّسِ أوجهِ المقارنةِ والتَّشابهِ بينَ تولستوي الكاتبِ الرُّوسيّ وبينَ فيكتور هوغو الكاتبِ الفرنسيِّ فيمَا يختصُّ بتأثُّرِهما بأدبِ الشّرقِ العربيِّ والإسلاميِّ.

وها أنا أُوجِزُ تلكَ المحاورَ الفكريّةَ الّتي تندرجُ تحتَ مضمونِها أحاديثُ عديدةٌ ممّا استشهدَ به تولستوي في كتابِه على النَّحوِ الآتي:

الإنسانُ والعملُ:

"إنّ اللهَ تَعالى يحِبُّ أنْ يَرى عبدَه ساعياً في طلبِ الحلالِ"

"لأنْ يأخذَ أحدُكُم أحبُلَهُ ثمَّ يأتي الجبلَ، فيَأتي بحُزمةٍ من حطَبٍ على ظهْرِه فيَبيعُها فيَكفُّ اللهُ بها وجهَهُ، خيرٌ لهُ مِن أنْ يسألَ النّاسَ أَعطَوهُ أو منعُوهُ"

القناعةُ والزُّهدُ:

"ارضَ بما قسمَهُ اللهُ تكُنْ أغْنى الأغنياءِ".

"نامَ رسولُ اللهِ، وهو على حصيرٍ، فقامَ وقد أثّرَ في جنبِه، فقلْنا. يا رسولَ اللهِ لو اتّخذْتَ لكَ فِراشاً؟ فقالَ: مالي وللدُّنيا؟ ما أنا في الدُّنيا إلّا كراكبٍ سارَ في يومٍ صائفٍ، فاستظلَّ تحتَ شجرةٍ ثمَّ راحَ وتركَها"

العدالةُ:

"انصُرْ أخاكَ ظالماً أو مظلوماً، فقالَ رجلٌ: يا رسولَ اللهِ أنصرُه إذا كانَ مظلوماً، أرأيْتَ إنْ كانَ ظالماً كيفَ أنصرُه ؟ فقالَ تحجزُه أو تمنعُه من الظّلمِ فذلكَ نصرُك إيّاهُ".

"مَن اقتَطعَ حقَّ امر ئٍ مسلمٍ بيمينِه فقدْ أوجبَ اللهُ لهُ النّارَ وحرّمَ عليهِ الجنّةَ".

المحبّةُ والتّكافلُ الاجتماعيُّ:

"مَن جاءَ بالحسنةِ فلهُ عشْرُ أمثالِها أو أزيَدُ، ومَن جاءَ بالسّيِّئةِ فجزاؤُه سيّئةٌ مثلُها..".

"مَن نفّسَ عن مسلمٍ كُربةً من كُربِ الدّنيا نفّسَ اللهُ عنهُ كربةً من كربِ يومِ القيامةِ، ومَن يسّرَ على مسلمٍ مُعْسرٍ يسّرَ اللهُ عليهِ في الدّنيا والآخرةِ. ومَن سترَ على مسلمٍ سترَ اللهُ عليهِ في الدُّنيا والآخرةِ. واللهُ في عونِ العبدِ ما دامَ العبدُ في عونِ أخيهِ".

السّماحةُ في الإسلامِ:

"المسلمُ إذا كانَ مُخالطاً النّاسَ ويصبرُ على أذاهُم خيرٌ من المسلمِ الّذي لا يخالطُ النّاسَ ولا يصبرُ".
"لا يُؤمنُ أحدُكُم حتّى يُحِبَّ لأخيهِ ما يُحبُّ لنفسِه".
المرأةُ الصّالحةُ:
"الدُّنيا متاعٌ وخيرُ متاعِ الدّنيا المرأةُ الصّالحةُ"
"إنّما النّساءُ شقائقُ الرّجالِ".

خاتمة
ممّا تقدّم رأيْنا أنّ تولستوي قدْ أُعجِبَ بالشّرقِ أدباً وفكراً وعقيدةً، وقد انعكسَ هذا الإعجابُ في قصصِه وحكاياتِه وأساطيرِه، كمَا تجلّى في تأثُّرِه بفكرِ الإسلامِ عقيدةً وجوهراً، من خلالِ منهلِهِ من أحاديثِ الرّسولِ الكريمِ والمعاني القرآنيّةِ العظيمةِ الّتي شكّلَت مبادئَ عامّةً في فكرِه وفلسفتِه، وانعكسَتْ في كتاباتِه الفكريَّةِ، ولا سيَما بعدَ أنْ عاشَ في قلقٍ وحَيرةٍ وشكٍّ، فوجدَ في فكرِ الإسلامِ ما يَشْفي غليلَه ويُريحُ نفسَه، ويُطَمئنُ روحَه وفكرَه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى